الترحال وراء الرواية

الكاتب والأدب كسيرة وجودية
الخميس 2022/09/01
لوحة: أحمد الوعري

“يذكر الكثيرون عند كتابة ذكرياتهم عن الكتابة أنهم بدأوا كتابتهم بالشعر، ولكني لم أبدأ الكتابة بالشعر، ولا بالقصة القصيرة، بل بدأتها بكتابة الرواية، وكانت روايتي الأولى وقد كتبتها في الثامنة عشرة من عمري ثم تلتها كتابة عدد من الروايات التي لم أنشرها وربما لن أنشرها إلى أن كتبت روايتي ملكوت البسطاء” [1].

لم ينشر خيري الذهبي عملاً أدبياً إلا بعد اكتمال رؤيته الفكرية ونظريته الفنية في الأساليب السردية، فالفقرة السابقة التي كرّرها بوضوح، وكذلك المرويات التي يحيكها عن كيفية التخطيط والتفكير والتنفيذ لأعماله الروائية داخل كتاب “محاضرات في البحث عن الرواية”، الصادر عام 2016، تؤكد على اعتباره روائياً صاحب نظرية فكرية وجمالية في الأدب “الرواية الحديثة هي خلاصة ورحيق ثقافة عميقة متعمقة، وهي نتاج لبحث جاد، إنها دراسة أكاديمية تتحول إلى فن، إلى رواية”. ولهذا تكتسب قراءة محاضراته أهمية خاصة وخصوصاً حين التطرق إلى موضوعات أدبية شغلت ذهن الروائي وحفّزته بالإبداع بين مرحلة وأخرى، موضوعات مثل: الرواية والتاريخ، الرواية واليوتوبيا، الأدب الجنسي العربي، والرواية وأصول الفانتازيا العربية.

يتضمن الكتاب 10 محاضرات ألقاها الروائي بين عامي 2003 و2014، في مناسبات أدبية واحتفالية في مدن عدة منها: دمشق، القاهرة، الإسكندرية، الجزائر، باريس ومدريد. وتجمع نصوص المحاضرات بين جانب السيرة الذاتية والقراءات التاريخية والنظريات الأدبية والسردية. فينشغل الروائي في محاضراته في محاور أساسية مثل: التاريخ المتعلق بالهوية السورية، المدينة دمشق والواقع الثقافي والسياسي، المنتج الأدبي العالمي والعربي في التعبير عن الموضوعات التي تندرج في قائمة قاموسه الإبداعي مثل السلطة القمعية، التسامح الديني، الفن والثقافة في حضارة المنطقة، الفانتازيا القادرة على تأويل المقول وإعطائه جمالية ومعنى. أما فيما يتعلق بالأدب، فهو يقدم قراءة تاريخية ينتقى عبرها الأفكار الملهمة التي تشغله، الأدباء الذين تشارك الأسئلة معهم، والأعمال الأدبية التي تشكل مرجعياته عند الكتابة والتنظير الأدبي.

أدب اليوتوبيا والديستوبيا

الوفرة والحرية، الجنس والخيال

في المحاضرة المعنونة “بين اليوتوبيا العريق والكابوس العميق” [2]، يجعل من موضوعة اليوتوبيا محوراً لقراءة تاريخ الرواية، ويتوقف باستطراد عند تحليل ثلاث روايات مرجعية في تجارب أدب اليوتوبيا – الديستوبي/المكان الفاضل والاستشراف الكابوسي. الأولى رواية “نحن” (الصادرة في عام 1924) لإيفيغيني زمياتين التي تجسد كيف تحول الحلم اليوتيوبي في الثورة البلشفية بإقامة مجتمع اشتراكي مثالي إلى نظام من القمع والخوف. بطل الرواية يعيش في غرفة صغيرة في بيت ضيق، في دولة عالمية يحكمها “المحسن الكبير” ويعيش على هذا الشكل سكان المدينة المغطاة بقبة زجاجية عملاقة تمنع عنها الاتصال أو التواصل مع العالم الخارجي، وبطل الرواية المواطن 503، فلقد ألغيت الأسماء وحلت محلها أرقام للتمييز بين الناس ويعلن “المحسن الكبير” وهو الزعيم، أن هذه القبة ما قامت إلا لتحميهم من العدو الغيور الذي يحسدهم على جنتهم، ويريد تدميرها ليعيدهم إلى زمن الجوع إلى الطعام، وإلى شهوة النساء قبل الثورة، ويكون هدف العلماء في هذه المدينة هو إنتاج “التكامل” وهو مركبة فضائية ستكون مهمتها نقل تجربة اليوتوبيا والمحسن الكبير إلى سكان الفضاء. ومع هذه الحبكة تبدأ سلسلة من الروايات القادرة في التعبير عن الاحتمالات الكابوسية للأنظمة الشمولية، كما هو الحال مع “عالم جديد شجاع” لألدوس هكسلي (الصادرة في عام 1932)، وتالياً رواية “1984” لجورج أورويل (الصادرة في عام 1949).

 لكن الذهبي يتوقف عند محور شديد الخصوصية في قراءته لهذه المحاولات الأدبية الاستشرافية الثلاث وهو عند دور الجنس، وكذلك المرأة والحب في الطروحات الروائية الثلاث. في يوتوبيا زمياتين “نحن” الجنس هو حق ومتعة للجميع، فلا زواج، ولا عقود دينية أو مدنية، بل الحب والمضاجعة الحرة لكلا الطرفين، أما الأولاد والإخصاب فيقدم الروائي اقتراحه للحل باعتبارها من مهام الدولة. أما في رواية “عالم جديد شجاع” فإننا نجد هكسلي يقدم الحل العلمي، فبنظره الجنس سبب الحروب والصراعات البشرية منذ فجر الخليقة (قابيل وهابيل)، هذا الجنس هو حق للجميع، وكلا الجنسين، ولا يشير هكسلي إلى كيفية منع الجنس عن التخصيب والولادة وبداية المأساة الزوجية “البشرية” فلكل شاب وشابة تعاطي المنشط الجنسي الذي يسميه لنا المؤلف هكسلي باللبان فقط “وهو لبان يتعاطاه الراغب في الجنس” ولا أهمية للسن بل للشهوة المتبادلة فقط، أما الجنس في مجتمع الوفرة، فهو كالجنس في الجنة، للمتعة فقط، ولا يترتب عليه إخصاب وإنجاب، لكن هكسلي ينوّه إلى خطورة إخصاب المعامل التي تصنع الأطفال وتتحكم بشخصياتهم من خلال كمية الأوكسجين المقدمة لأدمغتهم في مرحلة الحضانة. أما في رواية “1984” سنرى تحدي القمع الطغياني لتحريم الجنس على أعضاء الحزب إلا في زواج للاستيلاد فقط، ولا طلاق إلا بصعوبة خارقة، وهكذا نرى بطل الرواية ونستون وقد هجرته زوجه منذ سنوات طويلة لعجزه أو عجزها عن الحمل.

 في رواية “1984” لأورويل سنرى المرأة، رغم كل التحذيرات، والكاميرات المراقبة وأجهزة التنصت هي المبادرة، والخارقة للقانون، والمتحدية للظروف، والمخططة للعلاقة، وهو “كالعادة” ليس إلا المطيع.

تتشارك الروايات الثلاث النهاية التشاؤمية، ففي رواية أورويل يحكم بالموت على المرأة المتمردة، ويتابع الذهبي “يعلن النظام الحاكم أن العلماء في المدينة قد اكتشفوا أن العامل الأساسي المسبب لهذه الثورة التي كادت تحرق فرح البشرية بتحقق الجنة على الأرض هو الخيال، الخيال الذي أخرج آدم من الجنة، والخيال الذي يجعل البريء يرتكب الجريمة، ولذا قررت الهيئة الإدارية تعريض كل سكان المدينة طوعاً لعملية جراحية صغيرة جداً ستكون نتيجتها إزالة العضو الفاسد من الإنسان، مركز الخيال، مركز الجريمة، ومركز الخطايا والسقوط”. ومن هنا يظهر أن التأويلات التي يقدمها الذهبي للروايات الثلاث مبنية على محاور يراها جدلية في أيّ تخيل أدبي أو فلسفي يوتيوبي: 1. بين الوفرة أم الحرية (نموذج آدم)، 2. بين الجنس والإنجاب، 3. بين الخيال واستمرارية البقاء.

الأدب والتاريخ والهوية الوطنية

بين نشأة الرواية المصرية والرواية السورية

يتابع الذهبي في محاضرة بعنوان “بين الأمبوبايا والنهايات” في تأويل الأدب لطرح تساؤلاته الثقافية والسياسية، وذلك عندما يقارن بين نشأة الرواية المصرية مع “زينب”، محمد حسين هيكل، ونشأة الرواية السورية مع رواية “سيد قريش”، لمعروف أرناؤوط “كان السؤال الملح دائماً هو: لماذا كانت الرواية الأولى التي تحوز الشروط الفنية المعقولة في مصر هي رواية زينب وهي رواية ريفية، عن علاقات ريفية، وفي بيئة ريفية، وشخصيات ريفية معاصرة أو تكاد، ولماذا كانت الرواية الأولى التي تحوز الشروط الفنية الأولى في سوريا رواية تاريخية، رغم أنها كتبت في عشرينات القرن العشرين، إلا أننا سنلاحظ أن الأرناؤوط قد قفز في التاريخ إلى الوراء أربعة عشر قرناً ليقدم لنا سوريا تحت الاحتلال البيزنطي والخارجة من الاحتلال الفارسي من بضع عشرة سنة، سوريا المائجة بالقبائل العربية من غسان وكلب وكونفدرالية قضاعة والتي حازت أو تكاد استقلالها الذاتي عن بيزنطة، ولكن درس تدمر وزنوبيا، ومحاولاتهما الاستقلال لصنع دولة شامية مستقلة وإخفاق المحاولة وانتهائها بتدمير كل شيء، إلا أن يأتي الخلاص من مكان آخر، من الجزيرة العربية، فتعد الرواية بظهور المنقذ “إنه نبي عظيم وارث لكل نبوات الأرض. نبي ستخرجه الجزيرة العربية”.

يذكر المحاضر الذهبي أن نجيب محفوظ بدوره قد بدأ مع الرواية التاريخية في “رادوبيس” و”كفاح طيبة”، إلا أنه ما لبث أن انتقل بعدها إلى الرواية الواقعية، قارئاً حركة المجتمع فيما بين “زقاق المدق” و”خان الخليلي”، أما الروائي السوري الأرناؤوط فلقد أكمل مشروعه، ولكن في مكان بعيد في الحجاز عمر بن الخطاب، فاطمة البتول… وفي شمال أفريقيا طارق بن زياد، وهي كلها شخصيات بعيدة تاريخيّاً، بعيدة جغرافياً، وبعيدة بيئيّاً، واجتماعياً. حتى أتى بعض المحاولات في الكتابة عن المدينة، كما كتب عبدالسلام العجيلي عن دمشق، لكنه أنثها وجعلها متلهفة بانتظار الريفي الفحل، أما هاني الراهب فكتب عن المدينة من منظور الهامشي لم يستطع الوصول إلى نسغ المدينة، أو من منظور الريفي الفحل تفسده المدينة الدنسة، أما في تجربة نبيل سليمان في رباعيته المطولة والتي قدم فيها منمنمة كاملة عن سوريا، فحضرت المدينة دمشق، لكنها لم تكن الغاية الأساسية، فالغاية الأساسية في الرباعية كانت كان تقديم صورة ملحمية عن نشوء دولة مدن وشعب.

المدينة – المكان

في تحولات الشخصيات الروائية

في شهادة – سيرة ذاتية بعنوان “الخجة” يكتب الذهبي عن حضور المكان في أعماله الأدبية “مع رواية ‘ملكوت البسطاء’ بدأ اهتمامي بالمكان وجمالياته بوصفه عاملاً فاعلاً، وليس ديكوراً أو جمالياً مضافاً، بل عنصراً يقوم بدور لا يقل أهمية عن الشخوص والحدث. وبعد عدة سنوات من التأمل والقراءة المكثفة وخاصة في تاريخ المنطقة وأديانها، بدأت كتابة ثلاثية “التحولات: حسيبة، فياض، وهشام، أو الدوران في المكان” التي بدأت فيها غزو المكان، كنت قد تعمدت فتح نوافذ الذاكرة كاملة. كنت قد تعمدت فتح عينيَّ حتى أقصاهما أرى وأرقب وأقارن وأذكر. كنت أعيد صوغ ذاكرتي الشخصية، وذاكرتي الأدبية والورقية في آنٍ. أخذت دمشق تتكشف أمام عينيَّ: مدينة واحة واقعة على طريق الحضارات الكبرى. وبدأ المكان يفرض تأثيره على الشخصيات الروائية الثلاث بشكل جلي” [3]. وعن هذا الحضور للذاكرة والمكان في الثلاثية الروائية كتب الباحث والناقد د. جمال شحيد في العام 2000 بحثاً خاصاً بعنوان “تقنية التذكر في رواية هشام أو الدوران في المكان” لخيري الذهبي، يبين فيه أن الذاكرة والمكان يؤثران في الشخصيات إلى درجة التحولات العضوية.

الزمان الروائي

بين ألف ليلة وليلة وتيار الوعي

كما يخصص الروائي الذهبي أيضاً في نصه المذكور مساحةً أخيرة لتأمل حضور الزمان في أعماله الروائية، فبينما يميز الذهبي بدايةً، بين الزمان السردي في “ألف ليلة وليلة” وبين الزمان السردي في فن الرواية الأوروبية، فإنه ما يلبث أن يذكر تأثره بالزمان الدائري عند تيار الوعي مع فولكنر، جيمس جويس، وفرجيينا وولف، فيكتب “أتساءل ما الذي جعلني عند كتابة رواية ‘ملكوت البسطاء’ ألجأ إلى لعبة الزمان الحلزوني أو الدوار، ثم لا أتراجع عنها في ‘طائر الأيام العجيبة’ و’المدينة الأخرى’ و’ليال عربية’، ثم لتتضح بشكلها الجلي في ‘التحولات’، حين أذكر ذلك تقفز مباشرة رواية العرب الأولى ‘ألف ليلة وليلة’ حيث الزمان الدوار والقفز عبر الأزمنة، واعتبار الزمن الداخلي للكتاب هو الزمن، وليس الزمان الخارجي الزمن السائر إلى الأمام من النقطة واحد حتى نقطة نهاية الرواية. أتساءل الآن أترى هذه المقولة هي ما جعلني أهتم بالزمن على هذه الطريقة، أم التأثر المباشر بألف ليلة وليلة، أم التأثر بإنجازات الرواية الغربية الحديثة فولكنر، جويس، وولف” [4].

إن الكتابات التنظيرية للروائي خيري الذهبي ومحاضراته مكثفة بالمراجع الأدبية والفكرية التي تأثر فيها على طول مسيرته الإبداعية، بدءاً من خيالات الطفولة الأولى مع مجلة “سندباد”، وصولاً إلى “ألف ليلة وليلة” والسير العربية، انتقالاً إلى أكثر التجارب طليعية في الأدب المعاصر، دون أن ينسى ذكر دور السينما في تشكيل وعيه عند احتكاكه الأول بها في المرحلة الإعدادية. من المعروف، أن هذا الطيف الواسع من التراث الأدبي والفني، المحلي والعالمي، الذي تطوف فيه معرفة الكاتب واستلهاماته، يميز أدب خيري الذهبي بكثافة العوالم الفنية، والمعرفة الثقافية، والرؤى الجمالية التي يوظفها الأديب في رواياته. لكن ما تضيفه لنا محاضراته عن الرواية هو أننا بإزاء مبدع مدرك بدقة لخياراته، قادر في التنظير عنها، باحث عن أسلوبيتها وجمالياتها على طول سيرته الذاتية “رحلة حياة في البحث عن الرواية”.

الهوامش:

[1] – من محاضرة بعنوان “بين الأمبوبايا والنهايات”، ألقيت في معهد العالم العربي، باريس، 2010.

[2]“ – بين اليوتوبيا العريق، والكابوس العميق”، ص18-44. ألقيت هذه المحاضرة في الجزائر، مؤتمر الرواية 2006.

[3] – الذهبي، خيري، الخجة، الرواية السورية المعاصرة، ندوة وكتاب المعهد الفرنسي للدراسات العربية، دمشق، أيار 2000.

[4] – المصدر السابق، ص117.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.