الشاعر والهوية الحضارية

في الشعر والجغرافيا وسفر الكلمات
الخميس 2023/06/01
◙ رسمة (ريم يسوف)

الشاعر والهوية

بصدد سؤال الهوية، هل يتناقض كوني سوريا مع حقيقة أنني متوسطي أيضا، وأيهما يسبق إلى تعريفي ثقافيا وحضاريا؟ أن أكون ابن المتوسط الذي يحتضن سوريا؟ أم ابن سوريا التي تقع في المتوسط؟ أرجو ألاّ أبدو سفسطائيا.

الحقيقة البسيطة والمركبة معا تفيد بأن لغتي العربية الراهنة التي أكتب بها قصيدتي إنما تنتمي إلى أرومة اللغة التي سادت في سوريا وما ترامى من الجغرافيا في محيطها الأوسع الممتد شرقاً من الضفة الشرقية للمتوسط حتى ضفاف دجلة والفرات ومن بادية الشام حتى ميناء حضرموت، وكانت قد سبقت إلى الشيوع والازدهار في الجغرافيا نفسها عشرات اللغات واللهجات أبرزها الآرامية بأطوارها المتعاقبة وفروعها المتعددة وهي اللغة التي اتسعت جغرافية حضورها انطلاقا من ميتسوبوتاميا حتى بلغت الهند.

هذه نقطة، النقطة الأخرى، تتعلق بالسؤال عما إذا كانت اللغة كافية وحدها في تعريف الهوية الحضارية. في ظني أن ابن مصر، على رغم من الثقل اللغوي/الديني البارز على هويته “العربية”، لا يستطيع أن يفتكّ نفسه من جاذبية فكرة أنه فرعوني أيضا، ولا أستطيع أن أجزم، ولكنني أتخيل أن أول من شرع في الاعتقاد بهذه الفكرة وروج لها لدى المصريين هم المثقفون الأقباط، ومعهم بعض المثقفين الليبراليين المصريين. لكن ماذا عن عموم الناس الذين ما أن تحدثهم عن مصريتهم حتى يجأر بك جمهور غفير في ملاعب كرة القدم: “نحن الفراعنة”… أما يعني هذا أن الهوية هي (حتى في التداول العام: وذلك بفعل ثراء الأوابد والمكتشفات الآثارية التي لم تنقطع انبعاثاً) إنما تتجلى للعيان بوصفها أكثر من طبقة واحدة، طبقات ثقافية لغوية فكرية وأدبية وفنية تعبّر عن نفسها في شبكة من التجليات المتراكبة والمتداخلة عبر الزمن والصانعة بالضرورة للشخصية الحضارية.

من هنا أجد أن الانتماء المعبّر عن نفسه في هوية عربية للمصري والسوري والعراقي، واليمني، لا يتناقض أبدا مع الآرامي، الكنعاني والفينيقي، (في سوريا) أو الفرعوني (في مصر) أو الآشوري – البابلي (في العراق)، أو الأمازيغي/البونيقي والنوميدي (في الشمال الأفريقي)، بشرط ألاّ يتحول هذا الانتماء إلى أيديولوجيا، كما فعل القوميون السوريون، أو القوميون العرب، أو أنصار النزعة الفرعونية، أو “البربرية” في مراحل مبكرة من نشوء الدول التي أطلقت على نفسها صفة (العربية) في أعقاب انهيار الإمبراطورية العثمانية، وإلا فإن الغنى الحضاري يتحول إلى استنساب عنصري يناهض الهوية الحضارية للذات متعددة الطبقات بينما هو يتخيل أنه يناهض الحاضر السياسي القمعي والمخاتل تحت يافطة العروبة.

ما سلف يتصل بالبعد المعرفي/التاريخي للشعر.

***

شعرياً، في ميول الشاعر ورؤى الشعر، نلحظ مزاجا يشترك فيه شعراء المتوسط على اختلاف لغاتهم، وإذ أضيف اختلاف ثقافاتهم، إنما أستدرك وأستدل على ما أسمّيه بهامش واسع لمزاج متوسطي مشترك نسبة إلى الانتماء الجغرافي، والتعارف الحضاري بين أبناء ضفاف المتوسط. فلا تكفي اللغة الخاصة بقوم من أقوام المتوسط لتحبط التفاعل بين أصحاب الألسنة المختلفة هؤلاء ماداموا ملزمين بقدر جغرافي وبدرجات من التعايش والتواصل والتفاعل والتنافس وصولا حتى إلى الاحترابفي ما بينهم، أو انطلاقاً منه. فهم يقتسمون، إلى جانب التراب والهواء والماء والزرقة، الأسماك والحيتان وأشجار الزيتون وكروم العنب وشيّ الفخار في النار وصناعة الخمور والزيوت والشموع والأجبان، ويتبادلون الأرباب والربات والحكايات الخرافية وسير الأبطال وصولا إلى الركوع والسجود لإله مشترك يتنافسون في تلقي تعاليمه وتقليبه على أوجهٍ. قبل أن يشطروه وينشطروا معه إلى دينين أو ثلاثة، ويواصلون اللقاء بالسيف حيناً، وبالأزهار أحيانا. بمراكب الحرب ومراكب التجارات.

فبوسيدون وباخوس وقدموس وأوروب ولدتهم مخيلات السوريين وتحولوا إلى تراث إغريقي.

والشعراء والفلاسفة والفنانون لوقيانوس، وميلياغروس، وإيرينا، ولنجينيوس، وداماسكيوس، وأيسوبوس، وعشرات آخرون من كبار الشخصيات الأدبية سوريون ولدوا في مدن وجزر سورية، وصاروا إلى التراث الإغريقي. أما المرحلة الهيلنستية لسوريا، فأعلامها أكثر من أن يحصوا وبينهم أباطرة: جوليا دومنا، كاركلا، فيليبوس العربي، إيل جبل، سيبتموسسيفيروس. ناهيك عن المعماري العظيم أبولودوروس الدمشقي، والحقوقي الحمصي الذي لا نظير له في التاريخ إميليو بابنيان الذي كتب الجملة الحقوقية الخالدة: “إن ارتكاب الجريمة لأهون من تبرير الجريمة”، ويمكن أن نقرأ الجملة بطريقة أخرى: “إن تبرير الجريمة لأشد جرما من ارتكاب الجريمة”. لاحظ أن هذه الجملة التي تسمع اليوم في كل قاعات محاكم العالم، لا أحد يريد أن ينصت إليها عندما تتعلق بالمصائر التراجيدية للسوريين المتحدرين من نسل الحقوقي بابنيان.

***

مما يؤسف له أن الترجمة المعاصرة بين لغات المتوسط لم تتح معرفة تبادلية بالشعر الذي أبدعه شعراء البحيرة على اختلاف لغاتهم. ليس لدينا من الترجمات بين لغات المتوسط ما يكفي وبالتالي ما يتيح لنا البرهان بصورة أجلى على الفرضية التي أتحدث عنها، إن المزاج المتوسطي المشترك، رغم اعتقادي الكبير بما أقول به وهو ثمرة سفر ولقاء وتعارف وحوار مع شعراء ومبدعين متوسطيين، فضلا عن قراءة المتاح من الترجمات.

في الخلاصة ما نشترك فيه كأبناء للبحيرة من أمّ واحدة وآباء متعددين شيء لا نظير لثرائه وجماله وخصوصيته.

◙ رسمة (ريم يسوف) 
◙ رسمة (ريم يسوف) 

***

المؤسف أن بحيرة المتوسط التي سبق لها أن صنعت فصولا متعاقبة من أزهى ما عرفه تاريخ العالم، عادت لتتحول في الألفية الثالثة إلى مقبرة للأجساد والأحلام. فما كنا نظن أنه بات من الماضي، أو هو تحول إلى أساطير تنتجها السينما في أعمال تغذي المخيلة الإنسانية بما هو حكائي وخرافي، وتتعامل معها الذائقة الحديثة بوصفها مجرد موضوعات ممتعة تحتشد فيها المراكب وتزخر بصور البطولة، وتتراءى لنا بوصفها مجرد سلسلة من التجليات الفنية لصراع الآلهة والبشر، وصراع الشعوب والإمبراطوريات، والأبطال أنصاف الآلهة مع أقدارهم المأساوية، كل هذا الذي تجسد في قصص دارت وقائعها في جزر المتوسط وعلى صفحات مياهه المصطخبة تارة والهادئة السلسلة تحت سماوات شديدة الزرقة في أوقات أخرى، ها هو يتحول إلى مقبرة كبرى للهاربين من جحيم الدكتاتوريات وقوى الظلام في تحالفها مع الاحتلالات الأجنبية لتمكين أنظمة طغيانية تسود عن طريق أسر الناس في كهوف الماضي وقمع قوى المستقبل.

هناك الأمل، أخيراً، الأمل في أن يفعم الحب روح الإنسان، لتكون للإرادة عضلة قوية تحمي السجية العميقة، ليتكلم البشر كعشاق لا كقتلة، وليحرسوا بخفق قلوبهم العاشقة زرقة البحر وصفاء السماء.

إن جرحاً في قدم طفل تتسبب به الحرب، في أيّ أرض من كوكبنا الجميل المعذب، لهو جريمتنا جميعاً. لأننا لم نقم بتلك الخطوة الصغيرة المنتظرة… عندما كان لا بد من النهوض إلى الواجب.

إن صمت الشعراء، ولا أقصد الشعراء العرب وحدهم، عما جرى ويجري في هذه البحيرة الدامية التي صنعت التاريخ، هو في نظري سقوط أخلاقي مريع ودليل مرعب على موت الحقيقة وانتصار الجريمة على الإنسان.

عندما يصمت الشعر يصمت كل شيء.

***

عن الشعر والترجمة والجائزة

لم أعول يوما على جائزة في الشعر. لطالما كانت جائزتي كشاعر هي القصيدة. تلك “الهبة الرائعة”، التي أرجع بها من مغامرة الكتابة، ولا مكافأة عندي تعادل هذه الأعطية. “جائزة ماكس جاكوب” إذ قدمت لمكافأة شعري من خلال مختارات فرنسية، أفضل أن أنظر إليها على أنها اعتراف بشعر تدبره مترجم ومحرر ودار نشر بالفرنسية. وهذه التفاتة لا تقصدني وحدي. لم يسبق لشعري المكتوب بلغتي الأمّ أن منح جائزة عربية. على كل حال لست أعرف بجائزة في العالم العربي مخصصة للشعر.. وهذه مفارقة في ثقافةٍ للشعر مكان مركزي فيها، بل هي في جوهرها ثقافة شعرية.

هل أبتهج إذن بأن تكون أول جائزة ينالها شعري هي هذه الجائزة الأوروبية للشعر، وليست أيّ جائزة عربية، هل أقول لنفسي: ها إنني أخطو على أرض أخرى فأنا شاعر في العالم، في اعتراف غير مشروط بقوة الشعر وكونيته وبالتالي قدرته على ردم المسافة بين الأنا والآخر، من دون أن أتأمل في حقيقة أن الشعر والشاعر في ثقافتنا العربية هما تجربة في اليتم.

أسعدني أن أنال جائزة لم أترقبها، ويغبطني أن يحظى شعري بهذا التقدير. فالجائزة التي أشير إليها هي إلى قيمتها الرمزية العالية، لكونها تحمل اسم شاعر فرنسي قضى في المعتقل النازي، إنما تحتفي بالضرورة بالمعنى الذي تقاتل قصيدتي دفاعا عنه، حرية الشعر وحرية الابتكار وهما بالضرورة الأفق والعلامة على حرية الإنسان.

أنظر إلى الجائزة على أنها تتويج لرحلة مع الترجمة إلى الفرنسية حظي بها شعري بجهود عديدة. ولا يمكنني أن أحدس ما الذي يمكن أن تضيفه الجائزة إلى شعري في مداره العربي وفي دنيا القراءة العربية للشعر.

***

هناك فكرة شائعة ومعمول بها ترى في الترجمة من العربية إلى اللغات الأوروبية ضرباً من الاستقواء الثقافي على ثقافة النص الأصل بوهم انتزاع اعتراف بالحضور من ثقافة مهيمنة. لا أستطيع أن أتجنب نقد هذا التصور وهذا المعنى المتهافت، معتبراً أن كرامة النص في جدارة انتمائه إلى اللغة التي كتب فيها، وفي النهاية فإن ابتكارية النص الشعري وقوة تعبيره عن الوجدان العميق للإنسان، بأيّ لغة كتب وإلى أي حيز جغرافي من العالم انتمى مهما بدا هذا الحيز بعيدا عن “المركز المهيمن”، هما ما يجعل منه منجزاً جمالياً إنسانيا وطرفاً في فكرة العالم والعالمية، مادام نصاً يساهم في الخلق والابتكار والتعبير عن التوق الإنساني إلى الحرية والكرامة والسمو الجمالي. إن الكيفية التي يكتب بها الشاعر هي ما يمكن أن يجعل من نصه عالميا، أو كونياً، مادام شعره يحمل الشيفرة الخاصة المائزة التي يمكن أن تقرأ بكل اللغات وتجعله بالتالي مقبولا في التداول بين مختلف الثقافات الشعرية.

***

كلمة في بيت الكتاب الفرنسي

أتوجه بالشكر إلى من اختارني لهذه الجائزة الرفيعة وإلى “جمعية ماكس جاكوب”. بوصفي شاعرا سوريا في المنفى استقبلته ذات يوم خيمة فلسطينية في بيروت أهدي الجائزة برمزيتها الاستثنائية لطفلين لاجئين تنكر لهما العالم: طفل فلسطيني أقام الاحتلال كيانه الملفق في غرفة نومه وعلى أنقاض كيانه الوجودي وشرّده في أربع جهات الأرض، وطفل سوري حطم الطغيان عالمه وأرسله ليسكن القبور والمعتقلات وخيام العالم.

يمكن أن نتفق وأن نختلف في صنيع الشاعر وتعريف الشعر، لكننا أبدا لن نختلف في حقيقة أن الشعر هو الحب، وأن الشعراء يبتكرون الشعر ليصونوا العالم من الشر ويوسعوا الأفق، تلك هي المقاومة بالكلمات.

في الشعر أكتب نفسي وأكتب آلام السوريين المتروكين لقدرهم الدموي وقد دفنهم الطغيان في المراكب الغريقة وحولتهم المأساة إلى طرواديي العصر.

قصيدتي مدينة أصوات في عالم تهدمت مدنه. وهي مدينتهم المجازية ومدينة جميع المنفيين.

عندما تنسج القصيدة الشال للمرأة والوسادة للطفل والكرسي للشيخ عند باب البيت، عندما ترمي القصيدة فتات الخبر للطائر، وتبني المحطة للقطار الذي سيصل غدا بالعائد من الغياب. عندما يرتب الشعر الأشياء اليومية الصغيرة بكلمات لم تسمع من قبل، عندما يصنع الشعر الدهشة وعندما يخز الضمير ويوقظ الحواس ويلهب الخيال؛ إنما هو يصنع المعنى الذي من أجله ذهب الشجعان إلى الموت دفاعا عن الحياة، ولأجل فكرة أو موقف.

في البواكير الدمشقية عندما بدأت أكتب في دفتر صغير بخط طفولي كلماتي الأولى المضطربة حسبت أنني أقلد الشعراء.

واليوم، بعد عقود من العيش بعيداً عن مسقط الرأس، دمشق، والمغامرة الشرسة مع الكلمات في أمكنة شتى أقف هنا بينكم ليقال لي: أنت شاعر.

شكرا للكلمات التي صدّقتني أكثر مما صدّقت نفسي.

المجد لمن آمن بقوة الكلمات.

نوري الجراح

باريس في 31 أيار/مايو 2023

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.