في البدء كان زيطة

الجروتيسك في الرواية
الخميس 2022/09/01
لوحة: مروة عادل

يظل الجسد غفلا من المعنى، حتى يراوح مكانه، ويمتح من الثقافة والبيئة المحيطة ما يجعله يتجاوز كونه وحدة معجمية إلى وحدة دلالية مضمخة المعاني والتآويل، بحيث أن حركة واحدة أو إشارة ما تفتح الفضاء واسعا لعمليات القراءة والتفسير. وهنا يجمع الجسد بين كونه دالا ومدلولا، فهو كموضوع لا يدرك إلا من خلاله، فحضورنا في أجسادنا يمنحها المعنى “فالجسد علامة من نوع ما” [1]. وللجسد لغات عديدة، تستطيع أن تسمعها من أعضائه المختلفة، لكل عضو لحنه وصوته المميز، ولكل عضو حضوره الذي يتميز به، بحيث يجعل منه علامة قائمة بذاته، وخصوصية ثقافية عالقة به، فالجسد يتحدث من خلال حركته وتمايله وتراقصه، ويتحدث في مرضه وصحته، في لونه وتفاصيله أعضائه في صمته وغضبه… إلخ.

في رواية نجيب محفوظ (زقاق المدق - 1947) تبرز شخصية زيطة صانع العاهات من خلال خصوصية جسدية تلقي بظلالها على المكان وعلى ردود أفعال الشخصيات حياله، فهو شخص خاص بجسد خاص في مكان خاص ولدور خاص، وإذا كان البطل في الرواية هو المكان الضيق الذي يترك آثاره ويمارس فاعليته في الشخصيات التي تضج به، فإن زيطة من خلال خرابته هو المعادل الموضوعي للمكان فهو الخراب ذاته، أو التخريب الذي يمارس على الشخصيات التي تعاني من الفقر والعوز، وصار كل طموحها أن تكون في زمرة الشحاذين، وإذا كان الزقاق هو البعد المكاني والحرب هي البعد الزمني، فإن الجسد هو الساحة الزمكانية التي تتمظهر من خلالها آثار كليهما معا، فالأجساد عموما في الرواية يعتورها التبدل والتغير المستمر المواز للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية الضاغطة.

يمارس السرد عملية قلب كرنفالية في شخصية زيطة، وصفا وفعلا وحوارا، حيث تتآزر تلك العناصر لتقدم لنا الجانب المظلم من النفس البشرية، حين توغل في الشر والظلام، فمسار شخصية زيطة لا يقوم على الفعل أو التأثير في المجرى الرئيس لأحداث الرواية، بقدر ما يقوم بعملية توازن، وامتداد لجوانب النفس البشرية وما تمور به من تناقضات، ومن ثم يتمركز السرد مع أول ظهور لزيطة على الجسد باعتباره الساحة الرئيسة لتكشف ملامح هذا التشوه الموازي للتشوه الداخلي، وبدءا من التسمية (زيطة) التي تعني الجلبة واختلاف الأَصوات” [2]، ندرك هذه الروح الكرنفالية للشخصية في حضورها داخل الرواية بما يتضمن الاسم من تداخل وضجيج دال على طبيعتها ومحنتها.

لم ينفصل زيطة عن إنسانيته جسدا فقط بل روحا ونفسا، يصفه لنا الراوي انطلاقا من رصد الأمكنة وتجاورها داخل الزقاق، حيث يفضي مدخل الفرن إلى باب خشبي بالجدار المواجه يفتح على خرابة، فيرسم السرد جسدا جروتسكيا بمختلف أبعاده من خلال عمليات قلب ومحو مستمرة تشمل الجسد والمكان كليهما، فقد هيأ السرد الركح الذي تتحرك فيه الشخصية بما يتناسب مع رمزيتها فشارك في التمثيل الرمزي للشخصية، وفي المنطق الجروتسكي لا يتوقف الأمر عند تضخيم الجسد أو تغريب هيئته، “بل إن الموضوع يتجاوز حدوده الكيفية، ويتوقف عن كونه كما هو. إن الحدود تمّحي بين الجسد والعالم ونشهد انصهارا بين العالم الخارجي والأشياء”[3] ، بل أضاف إليه ثنائية الضوء والظلام وكأنه يقف ببقعة الضوء عند السطح بما يعج به من ألوان القاذورات، حيث يتم تعتيم المكان في البدء ثم يسلط السرد بكاميراه على بقعة بعينها لتركيز الانتباه عليها، ثم يتبع ذلك بالاستنفار اللغوي لكل حواس المتلقي ليغوص في عميق المكان وأبعاده، وهو في الوقت ذاته غوص في طبيعة الشخصية ودلالتها الرمزية، فهذه الخرابة التي يعيش فيها زيطة “تسطع فيها رائحة تراب وقذارة، إذ ليس بها إلا كوة في الجدار المواجه، للمدخل تطل على فناء بيت قديم. وعلى بعد ذراع من الكوة، وعلى رف ممتد مصباح يشتعل، يلقي على المكان ضوءا خفيفا يفضح أرضه المغطاة بأنواع لا يحصيها العد من القاذورات المتنوعة، كأنها مزبلة. أما الرف الذي يحمل المصباح فطويل ممتد بطول الجدار وقد رصت عليه زجاجات كبيرة وصغيرة وأدوات مختلفة وأربطة كثيرة كأنه رف صيدلي لولا قذارته النادرة. وعلى الأرض –  تحت الكوة مباشرة – كان يوجد شيء مكوم لا يفترق عن أرض المكان قذارة ولونا ورائحة لولا أعضاء ولحم ودم تهبه الحق – على رغم كل شيء – في لقب إنسان؟.. ذلك هو زيطة مستأجر هذه الخرابة من المعلمة حسنية الفرانة”  [4].

لوحة: مروة عادل
لوحة: مروة عادل

ثم ينتقل السرد إلى الجسد الذي يمارس عليه القلب ليصبح جسدا كرنفاليا من خلال تضخيم قذارته وسواده المتراكم، باعتباره ظاهرة دالة على الجانب السلبي في أبرز صوره، ويلجأ إلى التغريب ليظهر في صورة جسد جروتسكي مسخي على كل مستوياته الشخصية وصفا وفعلا:

” فهو جسد نحيل أسود وجلباب أسود، سواد فوقه سواد، لولا فرجتان يلمع فيهما بياض مخيف هما العينان، ولم يكن زيطة – على ذلك – زنجيا، بل إنه مصري أسمر اللون في الأصل، ولكن القذارة الملبدة بعرق العمر كونت على جثته طبقة سوداء. كذلك جلبابه لم يكن في البدء أسود، ولكن السواد مصير كل شيء في هذه الخرابة” [5].

كذا يمارس السرد عمليات القلب في تجسيد الشخصية ومظهرها، إذ لا يأتي الرعب من السواد، بل من بياض عينيه، كما يستعين بصورته الآباء لتخويف الأبناء ثم العزلة التي فرضها على نفسه وانصراف الناس عنه لنتانته وقذارته فلم يعرف الماء إلى وجهه سبيلا، كذا قلب للزمان حيث يخرج بالليل ويمارس صناعته، مثلما تمثل الخرابة مقلوبا مكانيا لكل مكان يصلح للحياة الآدمية، فالخرابة ساحة كرنفالية بما تتضمنه من روائح وقذارات مضادة للبيئة الإنسانية الطبيعية، كذا نجد القلب في استخدامه اللغة الحيوانية في وصفه لامرأة جعدة إذ يصفها بالمرأة البقري، ولزوجها بالحيوان، ولمن طلب عاهة بالبغل، أو نزعاته السوداوية الداخلية التي تضمر ذاتا سادية تتلذذ بعذاب الآخرين وتبالغ في تعذيب ضحاياها، بل إن أمر تقطيع الأجساد وتشويهها سيطر على فكره ومخيلته فصار لا يعبأ بالموت بل يسرّ به، وصارت نفسه المريضة تستحضر عمليات تقطيع وهرس كرنفالية لأهل الزقاق:

” كان يرقص طربا إذا قرع مسمعيه صوات على ميت… وربما قطع وقت فراغه الطويل في تخيل صنوف التعذيب التي يتمناها للناس واجدا في ذلك لذة لا تعادلها لذة، يتصور جعدة الفران هدفا لعشرات الفؤوس تضربه حتى تتركه كتلة مهشمة كلها ثقوب… أو يتخيل السيد سليم علوان وقد استلقى على الأرض ووابور الزلط يروح ويجيء ودمه يجري نحو الصناديقية.. أو يتمثل له السيد رضوان الحسيني تجره الأيدي من لحيته الصهباء نحو الفرن الملتهبة ثم يستخرجونه منها زكيبة من الفحم.. أو يرى المعلم كرشة مطروحا تحت عجلات الترام يمزق أوصاله ثم يلمون أشلاءه في معطف قذر يبيعونه لهواة الكلاب” [6].

فهذا الخيال المشوه يبرز في عمله القائم على التقطيع والدهس والهرس، يجعل حضور الجسد فعلا وتخيلا حضورا جروتسكيا بفعل التشويه الذي طال ذاته، وهو وإن كان لا يتم في الواقع أو في جو من المرح الكرنفالي إلا أنه يحيل إلى كرنفالية رؤيته الشخصية للجسد وعدم الاكتراث بحضوره أو غيابه موته أو حياته، جماله أو تشوهه، ومن ثم ظهرت تخيلاته كرنفالية الطابع في تشكيلها وتقطيعها للأجساد الحانق عليها، كما ارتقت تلك الرؤية المعضودة بالفعل في دنيا الخرابة بالشخصية دلاليا إلى مصاف الرمز الذي يقترب بها من المعارك والحروب في عملية إسقاط للظرف التاريخي الفاعل والمؤثر في حياة الشخصيات وتحولاتها إبان الحرب العالمية الثانية وما تتركه الحرب من تشوهات مادية ومعنوية، نجم عنها جروتسك الشخصية القائم على التجاوز وكسر القوانين والتحلل من كل المحرمات والتابوهات بمختلف أشكالها، فلا يراعي للموت حرمة ويخلع بدم بارد طقم الأسنان الذهبي من فم الجثة، ويمارس حرفته في تشويه الأجساد بتلذذ ومتعة تكشف خبيئة نفسه الشيطانية، ويكسر التابو الاجتماعي، فيمارس التلصص على جعدة وزوجه ويتعرى أمام زوجة جعدة دون حياء، ومتى ترك الإنسان الحياء سقط عن رتبة الإنسانية، ولا تخفى الصلة بين صفات زيطة الشيطانية وفعل التعري، الذي يمثل خروجا من الآدمية إلى الإبليسية. “وقد تلبسته حالة جنونية جعلته ينتفض انتفاضا، وثبتت عيناه على عيني المرأة في ذهول وبهيمية. ثم مد يديه بغتة إلى طرف جلبابه وخلعه بسرعة فائقة، وتجرد عاريا. وبهتت المعلمة لحظات ثم امتدت يدها إلى كوز غير بعيد وقذفته به بسرعة وقوة فأصاب بطنه، وندت عنه آهة كالخوار، وسقط يتلوى” [7]. تجسدت من خلال السرد والوصف الطبيعية البهائمية التي تردى إليها زيطة، ليمثل النمط الأساس في تأثير البيئة في الإنسان وكينونته، وما هذا التعري إلا تأكيد  لتلك الطبيعة وجاء الوصف وفعل التعري ليؤكدا تلك الطبيعة، حيث خرج الجسد من حالته الثقافية بما تتضمنه من لباس وكساء إلى حالة أخرى مغايرة لا تكتنز من المعاني سوى معنى واحد  يتضمن تحلله من كل معنى سوى غريزته.

وتتأكد تلك الطبيعة المنحرفة لزيطة من خلال استرجاعه لطفولته وبدايات تلذذه بالقذارة واندماغه في وحُولها حتى ليبدو أن البيئة شكلته وأسهم المكان في عملية حيونة لذاته:

“كنت أزحف على أربع حتى أبلغ حافة الطوار المطلة على الطريق، وكانت توجد تحت المكان المختار ثغرة في الأرض يركد فيها ماء من مطر أو رش أو دابة، يتكتل الطين في قعرها، وعلى سطحها يغني الذباب، وعلى شطآنها تتجمع نفاضة الطريق. منظر ساحر يأخذ بالألباب. ماؤها مطين، وساحلها زبالة متعددة ألوانها. قشر طماطم ونفاية مقدونس وتراب وطين، والذباب يحوم حولها ويقع عليها، فكنت أرفع جفني المثقلين بالذباب، وأسرح طرفي في ذاك المصيف الطروب، والدنيا لا تسعني فرحا” [8].

هنا يتضح الطابع الكرنفالي للمفارقة في ازدواجية المعنى من ناحية، وتضاد تلك الازدواجية التي تجمع بين الجد والهزل، ولذا يقول شيلغل “كل شيء في المفارقة يجب أن يكون نكتة، وكل شيء يجب أن يكون جديا، أي بسيطا صريحا ومفرط التصنع في آن” [9]، وفي المفارقة تجتمع التناقضات فهي أيضا بطبيعتها ازدواجية محفزة للضحك والسخرية، حيث تمارس تأثيرا على القارئ بما تحمله من مفاجأة له، ولعل هذا هو سر جمال المفارقة إذ أنها ترتبط بالسياق الذي يعلي من دور القارئ وتلقيه لها، وإدراكه لأبعادها، بما تحمله من طبقات المعنى، فهي تتطلب من القارئ ذهنا متوقدا يرفض قبول المعنى الحرفي أو السطحي ولكن هذا يرتبط بقوة المفارقة وقدرتها على شحذ الذهن، لذلك “تعد عند بعض الكتاب اختبارًا لمهارة القراء في قراءة ما بين السطور” [10]، وتظهر مرارة الضحك الكرنفالي من قدرة الشخصية على التعبير الصادق عن مكنون نفسه وأمله الذي توارى أو انطمس بفعل بيئته ومجتمعه، ومن خلال المفارقة يبرز الطابع الكرنفالي القائم الذي يتأسس على الإزاحة والكسر وخرق القوانين السائدة أو الرسمية، والخروج عن العرف الاجتماعي بأكمله دون شعور بندم أو مرارة، فزيطة يستمتع بالقذارة والروائح النتنة كأنه من ديدان الأرض التي تتلون ببيئتها، وفي الوقت ذاته يبرز خافتا شاحبا أثرا لإنسانية باهتة تم طمسها.

ولا شك أن المبالغة في التغريب في الأفعال الصادرة عنه زيطة وفي حواراتها هي التي أسهمت في بروز ذلك البعد الجروتسكي لشخصية زيطة، كما تسمح له بالتمدد والامتلاء دالا ومدلولا حتى ليتحول هو ذاته صورة للمكان فينطبق على كليهما اسم “خرابة”، فهي خرابة مكانية وخرابة ذاتية، وفي الوقت ذاته يقف بها هذا البعد على الطرف النقيض من شخصية حميدة أبرز شخصيات الرواية، وإذا كان التحول والانحدار من نصيبها، فإن التحول في شخصية زيطة لا يلامس  فقط عمق شخصيته، إنما هو توسع أيضا في مدارج هبوطه وسقوطه البشري، وصولا إلى لحظة خلع لطقم أسنان جثة عبدالحميد الطالبي، لكن يظل زيطة جزءا من كلٍّ في عملية الانقلاب تلك، حيث ألقت الحرب بظلالها فأخرجت أقبح ما في الإنسان من أنانية ورغبة ولهاث بحثا عن الخروج من حال إلى حال، ولعب الفقر دورا رئيسا في هذا التحول، ففقر زيطة الأصيل المتوارث حيث كان ابنا لشحاذين، وتزايد هذا الفقر بعد ضيق العيش حوله إلى صانع عاهات، لص قرافات، هذا الانقلاب يطول جل شخصيات الرواية، حيث يتحول الناظر إلى قواد والتمرجي إلى لص. وجعدة هائل الجرم ذو الطابع الجروتسكي إلى ذليل مهان يضرب كل ليلة من زوجته، ناهيك عن شذوذ المعلم كرشة. ورغم أن المكان يتمرغ في الفقر فإنه كان سياجا بكل نقائضه يحتفظ لهذه الذوات بتماسكها الظاهري على الأقل، أما الخروج منه فيؤذن بالسقوط على نحو ما رأينا من خروج حميدة وخروج زيطة ذاته إلى القرافة لسرقة طقم الأسنان.

لوحة: مروة عادل
لوحة: مروة عادل

وإلى جوار القلب نجد التناوب حاضرا، حيث يتأسس الكرنفال الواقعي على طقس الخلع/التتويج، لكسر التراتبية الهرمية بين الأعلى والأسفل، وفي هذا الطقس يتضمن الخلع عملية تتويج آخر ضد (زعيم ظل) وهو هنا زيطة سيد الشحاذين الذي يتمنى أن يكونوا أكثرية في هذا العالم، فمن خلال التناوب بين التسفيل والازدراء من أهل الزقاق المشوب الخوف، نجد التبجيل والتعظيم ممن يطلبون صنع عاهة ليشحذوا بها، فنحن أمام تبادل المواقع في إطار عملية قلب للعالم، والكرنفال هو مقلوب العالم، فمن خلال تبئير شخصية زيطة ذاته وغوص السارد في دخليتها نجده يقول عن جعدة:

“فأين هذا الحيوان الأعجم من شخص مقتدر مثله، يعد بحق ملكا على دنيا برمتها أيا كانت هذه الدنيا؟” [11].

وكما أشرنا إلى فكرة الشيطنة من قبل، فإننا نجدها حاضرة في عملية التناوب باعتبار الشيطان مكنزا للأفكار الجروتسكية بحكم غموضه من جهة، وحضوره الفذ كأصل للشر من جهة أخرى؛ وارتباطه بنزع اللباس وكشف العورة في المعتقد الديني، لذا كان تلذذ زيطة بضحاياها (منقذهم في الوقت ذاته) يستحضر هذه الطبيعة الشيطانية الشريرة:

“وتصور ما سوف يكابده هذا الجسم الهزيل من هرس يديه القاسيتين، فارتسمت على شفتيه الباهتتين ابتسامة شيطانية” [12].

كما تصفه زوجة جعدة بوجه العفريت وتارة تصف رغبته بالشيطانية:

”يالك من شيطان!..لسان شيطان،  وصورة شيطان” [13].

ومن خلال شيطنة زيطة يظهر لنا جانب كرنفالي في بنية الشخصية وطبيعتها التدميرية، حيث يقوض السلطة لبناء بديلها المشوه أو الجروتسكي بما يقطعه أو يدهسه من أعضاء، أو يصطنع سلطته الخاصة على مجتمع الشحاذين، ومن ثم تتلبسه شخصية الراعي لشعبه والمهتم بشأن عاهاتهم في مفارقة لاذعة، ليقدم لنا صورة مقلوبة للعالم ويتحول هو إلى مسيح مقلوب، يردّ الصحيح مشوها:

” ولم يكن إنكبابه على تحصيل يوميته لينسيه واجب رعاية العاهات التي صنعها، وربما سأل هذا أوذاك” كيف عماك يا فلان؟” أو” كيف كساحك يا فلان؟” فيجيبونه” الحمد لله.. الحمد لله” [14].

لقد تركت عمليات التشويه المستمرة لأجساد ضحاياه آثارها في نفسه، فشوهته تشويها داخليا امّحت معه الهوية الإنسانية، وظهرت هوية أخرى شيطانية تعشق الدم وتقطيع الأجساد وتفرح بالموتى وتحركها نزعات منحرفة، ويبقى أن الجسد الجروتسكي الذي يمثله زيطة وما يتركه من تشوهات في طالبي العاهات يتمدد ويتسع دليلا، فهو غير منغلق على حدوده وغير منفصل عن العالم المحيط في إطار ازدواجية فاعلية لا تفصل بين الموت والحياة، إذ لا تعارض بينهما “حيث لا يمثل الموت البتة نفيا للحياة في معناها الجروتيسكي” [15]، ويكفي أن ندرك ذلك في المقارنة بين كل من البوشي وزيطة عند دخولهما قبر عبدالرحمن الطالبي لسرقة طاقم أسنانه.

ويمكن القول إن نجيب محفوظ تفنن في إضفاء كل نقيصة بالشخصية وإجلاء طبيعتها الكرنفالية الغرائبية من خلال تشخصيه بصورة مباشرة تارة وغير مباشرة تارة أخرى، فيتعاون في بناء هويته السردية كل من السرد والحوار والوصف. يضاف إلى ذلك التصاق هذه الشخصية رغم انعزالها وعدم تفاعلها مع معظم شخصيات الزقاق – باستثناء البوشي وزوجة جعدة – نظرا لطبيعة شخصيته التي لا تألف إلا تابيعها من الشحاذين ومريديها ممن يطلبون العاهات بقصد الحياة، في إطار علاقة تسوياتية بين الحياة والموت؛ رغم ذلك نلحظ أنه يأخذ طابعا رمزيا ويضيف دلالة إلى مواقف مختلف الشخصيات في تقلباتها وتحولاتها عبر المسار السردي، إذ الأمر خاص بسقوط عام بفعل زمكاني ضاغط جعل من المكان بطلا ومن الحرب فاعلا يمارس دوره في تشويه النفس البشرية خارجيا وداخليا وفي الذروة منه زيطة الذي يمثل أكثر شخصيات الرواية قدرة على الانفلات من أسر الواقعية وتجاوزها إلى الترميز الأكثر رحابة.

هوامش

[1] تيري ايغلتون، ص47. [2] المعجم الوسيط، مادة زاط. [3] ميخائيل باختين، أعمال فرانسوا رابلية والثقافية الشعبية، في العصر والوسيط وإبان عصر النهضة، ت شكير نصر الدين، منشورات الجمل، بيروت 2015، ص 399. [4] نجيب محفوظ، زقاق المدق، دار الشروق، ط 5 القاهرة2014، ص 60. [5] زقاق المدق ص 61. [6] زقاق المدق، ص 62. [7] زقاق المدق، ص 142. [8] زقاق المدق، ص 141. [9] غورغي غاتشف، الوعي والفن، تر. نوفل نيوف، عالم المعرفة، الكويت 1990، ص 238. [10] محمد العبد، المفارقة القرآنية، م س، ص 22. [11] زقاق المدق، ص 138. [12] زقاق المدق، ص 67. [13] زقاق المدق، ص 140. [14] زقاق المدق، ص 64. [15] باختين، السابق، ص 75.

 

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.