هل هذه لغتك أيها الشاعر أم لغة مدينة الشعر؟

أجنحة القصيدة والمنفى المزدوج.
الخميس 2022/12/01
رسم: حسين جمعان

يشغلني منذ فترة بعيدة السؤال التالي: بأيّ لغة نكتب الشعر؟ من أين نأتي بلغة القصيدة؟ لمن هذه اللغة التي تنكتب في قصائد الشعراء اليوم؟ هل هي لغة الشاعر الصادرة عن تجربته؟ أم هي لغة مدينة الشعر؟

عندما يتمكن المعنيون بالشعر من الإجابة عن هذه الأسئلة، بحيث يمكننا معرفة مدى ابتكارية القصيدة، ومدى نسبتها إلى شاعرها، وما إذا كانت ثمرة التجربة العميقة للشاعر، أم هي صادرة عن تثاقف لغوي مع شعر شعراء آخرين، الشعر الشائع في مدينة الشعراء، إذّاك  يمكننا أن نبدأ في تقييم حال الشعر العربي اليوم.

أتحدث عن لغة الشعر لأُجْمِلَ، ما دامت اللغة هي أول شيء وكل شيء في الشعر، قَبل الذهاب للخوض في ما يتشكل منه الشعر من موضوعات وتراكيب لغوية، وإيقاعات، وتصورات، وأفكار، ومواقف.. إلخ.

للأسف لا أملك إجابة، ولا حتى نسبية، عن هذه الأسئلة وغيرها مما يحيط بالتجربة الشعرية العربية اليوم. لذلك سألجأ إلى المراوغة بالقول: الشعر العربي متعدد التيارات، والتوجهات، والأسماء والتجارب، فيه مبدعون ومقلدون وفيه استثناءات.. إلخ، من هذه الهرطقات الشائعة في حوارات الشعراء.

يمكنني القول إن الشعر لديّ هو، في جانب منه على الأقل، ثمرة لتجربتي في البحث الأنثروبولوجي عن الحقيقة. كتابي الأخير، “الأفعوان الحجري” مثلاً على الرغم من كونه يهدم الجدران بين الأزمنة ليستلهم وقائع من العصر الإمبراطوري القديم هو عملياً حصيلة الخوض في المركزية الغربية التي مازالت مسيطرة على الحداثة العربية. إدوارد سعيد رفض المركزية الغربية، وأقول بتواضع إن جمالية تجربتي لا تكمن في النقض بل في النقد الباحث عن الحقيقة. وهي في المآل الأخير تطبيق شعري لما هجس به إدوارد سعيد في الموقف من المركزية الغربية في الثقافة.

طبعا نتحدث هنا عن العصب الفكري للشعر، وموقف الشاعر من قضايا عصره، أما شعرية الشعر فهذه حكاية أخرى.

الشعر والمنفى

كل ما أستطيع قوله حيال السؤال في علاقة الشاعر بالجغرافيا هو إبدال مصطلح (مهجر) إلى (منفى). ولا أقصد بالمنفى إقامة خارج المكان كما عبّر إدوارد سعيد، ولكنه انتقال من مكان إلى مكان في أرض كل حيز فيها هو منفى بامتياز لمن حملته التجارب والمعارف والخبرات على الشعور بالاغتراب بالمعنى الوجودي الشامل.

وإذا كان الاحتلال سطا على المكان الأول لإدوارد سعيد (القدس) وطرده خارج ذلك المكان. فقد سطا الطغيان على المكان الأول الذي ولدت فيه (دمشق) بوصفه قوة احتلال وجعلني خارج ذلك المكان. لجأ إدوارد سعيد إلى نيويورك، ولجات إلى لندن. كلانا مشردان من مكان إلى آخر بفعل جريمة جماعية. وعلى الأرجح كان كل منّا مغتربا في العالم بفعل السقوط من الرحم. الاستعمار والاستبداد وجهان لعملة القهر والاغتصاب. ولا فرق عندي على الإطلاق بين هذين الوجهين، مادام جوهر القهر واحد وبالتالي لا بد للشعر والفكر أن يقاتلا الاثنين معا بوصفهما وجهي عملة الجريمة ضد الإنسان. وكل مهادنة يقوم بها مثقفون متحذلقون من باب خلق تمايزات بين الوجهين هي عمل لا أخلاقي.

من أولى واجبات الشاعر في القصيدة خلق اللغة وابتكار الجمال، وعندما يقتضي الأمر مواجهة الطغيان لا بد لموقفه أن يخلق المعنى ويصنع الأمل. وليس هناك معنى أبلغ من الدفاع عن حرية الإنسان وكرامته.

نحن نكتب الشعر في الأمكنة والأزمنة وبين الناس، نكتب في العالم، الشاعر، بداهة، ابن العالم، الكوكب عالمه. لا بد أن نبدأ من غرفة في الأرض، على أننا نكتب أنفسنا وقد انتمينا الأرض كلها، إلى الإنسان بكل ألوانه وأعراقه وثقافاته. هل أدركت هذا في دمشق أم في لندن أم على الطريق المديدة بينهما؟

ولكي لا يبقى مفهوم المنفى في حديثي عائماً، لا بد أن أتحدث في المتعيّن، فالخروج من دمشق في مطلع الثمانينات شكل بالنسبة إليّ بداية الطريق إلى منفى سيدوم عقوداً، تاركاً ورائي المعتقل الدمشقي الكبير المسوّر بالدبابات والفروع الأمنية والصور الشاهقة البذيئة للحاكم العسكري، لتستقبلني في بيروت خيمة فلسطينية، وقد دامت إقامتي فيها سنوات قليلة قبل أن تلجئني إلى البحر دبابات الإسرائيليين بعد حرب وحصار ومجازر شتى كنت جريحها وشاهدها. عبر البحر، في جزر المتوسط أولا، وسأبقى مشدودا إلى بيروت المنهكة، بلبنانييها وفلسطينييها، فأغامر وأحاول، العودة مراراً قبل أن أفشل وأنصرف عن المتوسط، وليس في حوزتي، وقد جمعت في كينونتي سوريا القديمة كلها من عسقلان إلى دمشق ومن أنطاكية إلى صور، سوى جواز سفر فلسطيني، ولئن كنت اللاجئ السوري في خيمة فلسطين، فلسوف أكتب لاحقاً خلال رحلة خروجي من شرق المتوسط إلى بحر الظلمات قصيدتي الأكثر تمثيلا لكينونتي المنفية (رسائل أوديسيوس) في هذه القصيدة سيتبين للشاعر أن لن يمكن للمنفي الطالع من الحرب بندبة في الوجه وأخرى في الروح أن يعود إلى إيثاكا، ولكنه سيموت ويدفن في القارب.

واليوم، وقد دام بي المنفى المزدوج لأربعين عاماً، وبدلا من أن ييمم قاربي شواطئ سوريا، ها إن السوريين جميعهم وفي ركابهم الفلسطينيون، يخرجون من كل فج عميق في تلك الأرض ويهيمون في إثر منشدهم في أربع جهات الأرض وقد تيقنوا أخيراً أنهم شعب الأوديسا المعاصرة والأمثولة الطروادية وقد تخلى عنهم العالم وأسلمتهم مصائرهم إلى بحار التراجيديا وعراء الوجود.

بأيّ لغة، إذن، سأكتب قصيدتي وقد أسكنني قدري المنفى، وسكن شعبي في قدره الأسطوري؟

تجربة في الخسارة

رسم: حسين جمعان
رسم: حسين جمعان

الشاعر في نظر نفسه مخفق كبير. هذا إذا كان الشاعر يبصر موقع قدميه، كل قصيدة جديدة له تحمل في دوافعها العميقة شيئاً من البرهان على فشل أسبق. فكرة النجاح عندي تشبه سكرة مسمومة. كل ما أعرفه عن نفسي أنني مشدود إلى الكتابة بوصفها قدرا لا فكاك منه. لا أملك لغة أخرى لأتعرف وجودي في العالم غير لغة الشعر، ولست متأكدا من أن ما كتبته هو حقاً ما كنت أسعى إليه. أكتب حيرتي وأوهامي وترددي وهجسي بالأشياء في عالم يزداد قسوة وبطشاً واحتقاراً لإنسانية الإنسان، عالم ينزع أكثر فأكثر نحو الشيئية بدلا من القيمة، والصورة السطحية بدلا من المعنى، والبلادة بدلاً من رهافة الشعور.

وإن بدا هذا الذي أكتبه جديداً لقارئ الشعر، فليكن اكتشافاً يخص القارئ، بالنسبة إليّ هذا الاعتقاد ورطة جمالية أفضل أن أترك مسافة بيني وبينها، مسافة لتنفس هواء آخر بعيداً عن سذاجة فكرة التميز والتفرد أو النجاح.

أقرأ تعبيرات مثيرة للسخرية يتبادلها سكان فيسبوك تبدو معها الكتابة كما لو كانت نجاحاً في الأعمال يتبادل أخبارها صيارفة ومشتغلون في الحياكة والطبخ وصناعة الحلوى.

ما من ربح في الشعر، فهو، أولا وأخيراً، تجربة في الخسارة.

الشعر والسفر

لطالما وُوجهت بأسئلة تطلب مني تظهير أو تقييم ملامح وموضوعات في صنيعي الشعري، مثلاً تقديم تصور عن أثر الأساطير في قصائدي. أو تتبع أثر السفر في شعري، وهي أسئلة جدير بصاحبها أن يوجهها إلى مؤرخي الشعر ونقاده وليس إلى الشاعر. يستحيل على الشاعر أن يتحوّل إلى ناقد، كيف يمكن للسبّاح أن يصف حركة عضلات ظهره بينما هو في عرض البحر؟ ليس لدى الشاعر مجهر يفحص القصيدة أو مختبر يحلل خلائطها وعناصرها للكشف عن شفرتها الوراثية، لا يمكننا أن ننبش الكريات البيض والحمر والزرق والأرجوانية للقصيدة بحثاً عمّا يسكن فيها من أحلام وحكايات وأساطير وأوهام وذكريات. كل ما يعرفه الشاعر عن صنيعه الشعري أنه يسافر مع الكلمات في رحلة عبر طرق لم يسبق لغيره أن طرقها، رحلة ما ورائية غالباً، تقود إلى مغامرة غير مأمونة في العالم ومع الذات بكل ما تجرعته وتشبعت به هذه الذات من تجليات للوجود جامحة ومؤثرة في عالم شاهق ومعقد ومفعم باللطائف والغرائب هو واقع وخيالات معاً أنّى كانت مصادرهما في الطبيعة والمعرفة.

ربما كانت قوة الشعر في كونه يضمر لغزه في جماله المحير، لا يمكننا تحليل قصيدة على طريقة تحليل قوس قزح علميا من دون أن نخسر جمال الشعر. شخصياً، لدى شغف مبكر، بكل ما هو أسطوري، بل وبكل ما هو لا مرئي وله صور تبتدعها المخيلة، إلى جانب شغف لا نهاية له بجمال الوجود. الأسطوري بالنسبة إلى الشاعر أقرب إلى أن يكون عالما موازيا يقف في جوار عالمه الواقعي. نحتاج الأسطوري بشدة لنثري خيالنا ونتحرر من سطوة العالم الواقعي. والخلاصة بالنسبة إليّ أنه لا يمكن استقبال شعري، وتذوقه والنفاذ إليه من دون أخذ هذه المسألة بعين الاعتبار. تداخل الأسطوري بالواقعي في ميولي واهتماماتي وفي عمل المخيلة هو ما يصنع قصيدتي. أما كيف يحدث هذا فهو ما لا أستطيع أن أشغل نفسي به. ولا أشعر بالحاجة إلى ذلك.

ارتباط الشعر العربي بالرحلة والسفر يعود ربما إلى أول نشأته. والشعر غالباً ما يصدر عن سفرين، سفر في المخيلة وسفر في الأرض. تجربة الشعر الإنساني كله تبرهن على هذا المعنى من معلقة أمرئ القيس إلى قصيدة محمود درويش عربياً. ومن أبيغرامات الشاعر السوري باليونانية ميليا غروس الجداري إلى ملحمة دانتي العابرة للثقافات، فلطالما كتب الشعر بفعل مغامرة المخيلة المسافرة، وخفق أجنحة السفر في الأرض.

الشعر وترجمته

ما من شاعر يستطيع أن يكون حكما على نتائج ترجمة شعره إلى لغات أخرى، لأن ما من شاعر يمكن أن يدرك أسرار صنعة الشعر في لغات وثقافات عدة. ربما يمكنه ذلك نسبياً مع لغة واحدة أخرى غير لغته الأم، لذلك لا بد أن نحتكم إلى معرفة أهل تلك اللغات. القليل الذي أعرفه عن ترجمة شعري أستمده أحياناً من قراءات وانطباعات قدمت لبعض الترجمات، وهو لا يسمح غالباً ببناء تصور عام دقيق. على أنني أشعر بالكثير من الراحة لما وقع من إقبال على ترجمة شعري إلى جانب شعر شعراء عرب آخرين يعتد بتجاربهم. اعتبر الترجمة فرصة جيدة للشعر، أن يُتداول الشعر في لغات غير لغته إنما يسهم في بناء جسر للذائقة الجمالية بين ثقافة شعرية وأخرى. ثمة رسائل جمالية وأخرى حضارية يحملها الشعر.

والسؤال الآن، هل أنصفت الترجمة الشعر العربي؟ ما أظن أن شعرنا العربي نقل أفضله إلى لغات أخرى، ترجم القليل من الشعر الجيد وهذا ينسحب على الكلاسيكي منه والحديث، وما ترجم من الشعر الحديث غالبا لا يعكس تنوع المدونة الشعرية العربية. محاولات قليلة لمترجمين أكفاء اشتغلت على نقل نماذج ممتازة من الشعر العربي. لكن حقل ترجمة الأدب العربي عموما محكوم باعتبارات ليست كلها إبداعية، وقليل منها رفيع المستوى، وغالباً لا يمكن الحديث عن حركة ترجمة منتظمة تسير وفق خطط ومعايير واضحة في الاختيار، ما دامت الترجمة محكومة باعتبارات فردية ذات طبيعة آنية ومرتجلة.

ومن تجربتي مع الترجمة، وعلى رغم أن شعري حظي بمترجمين ممتازين، إلا أنني ما أزال لا أعرف طبيعة استقبال هذا الشعر في لغة أخرى. ولأعترف أن ما يشغلني أكثر هو معرفة طبيعة استقبال القارئ العربي لقصيدتي. أقول هذا لأن لديّ تصوراً يرى أن الشعر في المجتمعات العربية رائج كفكرة أكثر منه حقيقة قرائية. والمشكلة أن ذائقة تلقي الشعر لم تستدرك التحولات الجمالية الثورية التي وقعت فيه على مدار القرن العشرين. تبدل الشعر ولم تتبدل الذائقة، أما وقد عبرنا إلى الألفية الثالثة، فما زال العمود الشعري قائما في مخيلة العربي، ولا تستطيع سوى الندرة من القراء تذوق الشعر الحديث، والتمتع بجمالياته الجديدة.

كارثة مزدوجة!

نظريا لا توجد ترجمة ترقى بمستواها إلى مستوى الأصل، إذا كان هذا الأصل مبتكراً ورفيع المستوى. هذه مسألة يمكن الاتفاق عليها والاختلاف معها. مترجمو الشعر الرصينون غالباً ما يعترفون بمشاق الترجمة، بل وباستحالة مكافأة الأصل في لغة أخرى. بالمقابل نسمع من البعض أن ترجماتهم جاءت أفضل من الأصل، ويمكن أن نجد بينهم من يشكو من اضطراره إلى بذل جهد مضاعف ليكون للقصيدة معنى أو حتى تكون مجرد قصيدة مقبولة في لغة أخرى لكون الأصل ركيكاً! وهذا شيء يدعو إلى الاستغراب حقاً، فلماذا نترجم قصيدة لا قيمة حقيقية لها في لغتها؟ الجواب غالبا أكثر غرابة، فثمة تكليف من جهة ما: مهرجان شعري، أنطولوجيا، أمسية شعرية.. إلخ، ومادام صاحب القصيدة وجد، بطريقة ما، في مقعد الشاعر، فسوف يفرض وجوده على هذا المقعد في محل شاعر غائب، وهو ما يفرض علينا أن نتعامل معه على هذا الأساس!

هذه كارثة مزدوجة.

والآن، ماذا يوجد في النصف الملآن من الكأس؟ لا بد أنه مشعٌّ ورائق.

نوري الجراح

في أوائل ديسمبر/كانون الأول 2022

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.