وَطْء

الخميس 2023/06/01
رسمة لعامر العبيدي

المدينة

من نافذة المكتب بإدارة عمومية في ميناء أكادير، في انتظار الموظف الموقَّر، أنظر إلى الوطن وهو مستلق على جبل “أكادير أفلا”، حروف مرسومة بحجارة منضدة مصبوغة بالأبيض، ألف لام واو طاء نون، قبالتها مصابيح ضخمة مسلطة على الكلمة ليلا، كي يسهر الوطن مع الساهرين.. يثمل مع الندامى.. يرقص.. يغني.. كي ينسى.. أو يتناسى.. ومع إشراقة الفجر، تنطفئ الأضواء، فيخلد الوطن إلى النوم.. بعد ليلة صاخبة، مجهدا، وتستيقظ المدينة.. زعيق السيارات وزمجرة الباخرات المتعبة تبحث عن رصيف في الميناء.

في الأفق الشرقي تظهر كبسولات ”التيليفريك ” الملونة بالأخضر والأحمر، متدلية على سلكين متوازيين، وهي تغدو وتروح إلى القصبة كنزق الأطفال يلعبون على حبال. وفي الشمال الغربي يرقد ضريح “سيدي بولقنادل” موشحا ببياض الجير الفاقع، كملَك كريم يحرس مرسى سانتاكروز من مدافع قرصان “البرتقيز/البرتغال”، الولي لا يبالي بلعبة الزمن، القراصنة الجدد يا أخي، لا يأتون على متن السفن، وليسوا بالضرورة غرباء، قد يُحلقون مع النوارس.. يغوصون مع القروش.. يدِبُّون مع البشر.. داخل الوطن.

المكتب

على مكتب المسؤول ملفات ملونة، وثائق عقارية، منظمة، وأخرى مبعثرة، أسترق النظر إلى بعضها: رسم مخلف، إراثة، عقد تسليم، قسمة رضائية، تنازل، الفريضة،… فضوليٌّ كالعادة، أليست الوثائق العقارية أحسن من هذا الأدب اللعين، إنه يبيعك الوهم والسهر والعذاب، والعقار، الأرض، يكفي منها هكتار لتعيش بطلا في رواية واقعية، وتعاشر قصيدة غزلية، وتلعب دور شهريار، وتُسكت شهرزاد عن كلامها المباح، وتصعد الخشبة مع جولييت… لكن الأرض كالوطن لا تباع كما قال أبي، الرجل يموت من أجل أرضه وعرضه وأولاده.

مِن على مقعدي قرب المكتب أحدج وثيقة عقارية: “يشهد العدلان بمكتب إنزكان كسيمة مسكينة بحضور الشهود… أن فلان توفي وترك فدانا، تحده قبلة…”. الورثة لا يبالون، يدفعون وثائق الأرض للإدارة، يأخذون المال، يشترون سيارة، وشقة في عمارات المدينة جوار العاهرات، يغادرون قُراهم والأشجار والحقول والبيادر، يبيعون العرض والأرض.. وعندما يمرون على الطريق السيار، يشيحون بأبصارهم لكي لا يروا مراتع الطفولة ودفء التربة ورائحة الأجداد، وطيور القبرة التي عادت إلى أعشاشها قبيل الربيع.

الوطن 

دخل الموظف في عجالة من أمره، وكأنه لم يبصرني، أو تظاهر بذلك.. أخذ ملفا وغادر من جديد، لم أستسغ عدم مبالاته، فأنا في ورطة، فالجرافات تقترب من ضيعتنا القديمة، ومنذ أن بُلَّغنا مقرر المحكمة بنزع الملكية، والوالد في كَرَب، لكنني طردت انزعاجي أتملى حجارة “الوطن” وكأنها تهدهد كطفل على منكب جبل الأطلس المستلقي على شاطئ المحيط الأطلسي، بدا لي وكأن نون الوطن المعقوفة همزة، أحدهم حوّل النون همزن، وطء…

بعد مدة دخل الموظف… ألقى التحية هذه المرة، وأخيرا اكتشف وجودي، لكنه مستعجل، أصابعه تفرك الملفات بعجلة وكأنه يبحث عن شيء مفقود، أخبرته بأنني جئت لتسجيل تعرُّض على تمرير طريق سيار وسط حقلنا، ومد لي مطبوع التعرض، وقال في صرامة ارتسمت بسرعة على صفحة وجهه:

ـ الطريق يا أخي، ستمر شئتم أم أبيتم.. التعرض سيحرمك التعويض ولن يوقف طريق المطار السيار، وربما تدفعون للدولة إذا أخرتم الأشغال.

وأضاف بنبرة حازمة حاسمة: مصلحة الوطن فوق كل اعتبار.

في دواخلي يتردد صدى صوت الوالد: الرجل يا بني يموت على أرضه وعرضه وأولاده. كتمت الصدى وكأنني أستر بين جوانحي قنبلة على وشك الانفجار، وبنبرة من وجد مخرجا بعد كتم وإجهاد قلت: هناك ضيعات شاسعة بجوارنا تسع الطرقات السريعة والسكك الحديدية، ومحطات الطرق، وحتى المطارات، والأسواق… وهي في ملكية أيت علال، وأيت موسى… تعرفونهم، إنهم يملكون كذلك باخرات الصيد هنا “أشرت إلى الميناء”.. مصلحة الوطن فوق الجميع.

الجرافة

أمرني وكأنه يريد الخلاص من مآلات هذا الحوار العقيم: اذهب وسجل تعرضك في المحكمة الإدارية، أنا هنا مسؤول فقط عن ملفات التعويض. واستدركت: وكم قدر التعويض؟ أجاب بعد أن أرشدته إلى رقم القطعة 49 ومكوناتها في مقرر نزع الملكية، وهو يحسب بسرعة على حاسبة: ستة دراهم للمتر.. بحقلكم تسع وثمانون شجرة زيتون.. نخلة واحدة.. دالية عنب… سقيفة وثلاث عشرة شجرة من التين… قصب جاف تسعمئة متر، الثمن الإجمالي قُدِّر بسبعة آلاف درهم، هذا يوافق ما ورد في عقد نزع الملكية من أجل المنفعة العامة الذي توصلتم به، مفهوم، هذا ما لديّ.

فهمت من نبرة سي الموظف، أن وقتي قد انتهى، ألقيت على كراكير الوطن نظرة سريعة، نزلت أدراج إدارة أملاك الدولة، خففت الوطء وأنا أسرّح عينيّ ورجليّ في المرسى، لا أدري كيف صنعت مخيلتي تهيؤات لمشهد جرافات تجتث أشجار الزيتون والتين، والنخلة السامقة ستمرغ جبهتها في التراب، السقيفة الظليلة التي تتشابك بها فروع دوالي العنب منذ زمن، أحواض النعناع والبصل واليقطين، لا أستطيع التنبؤ بردة فعل الوالد حينما يرى الخراب يحل بأوصال ضيعته، لكن مصلحة الوطء فوق الجميع.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.