الشاعر‭ ‬فاتح‭ ‬آفاق

الخميس 2015/10/01

ربما يعتقد البعض أن الرواية كجنس أدبي هي الأقدر اليوم على حمل هواجس الإنسان العربي، وعلى إضاءة الطريق أمام خطاه المضطربة من تسارع الحركة من حولها، ومن تراكم الأحداث السريع، سرعة تجعل من ينتظرون استيعاب الأمر أو اختماره، يجدون انفسهم خارج دائرة التاريخ التي باتت تتحرك بسرعة مضطربة‭.‬

لا اختلاف على أن الشعر تراجع دوره، عربياً، من مقدمة الطريق الأدبي إلى مكان لا يمكن تحديده، حتى أن البعض اعتبره ذاهبا إلى موت وزوال، متخليا عن عرشه كلسان الذوات والجموع في وجه العالم‭.‬ طبعا لا مجال هنا للحديث عن تطور بنية القصيدة العربية، بناء وأسلوباً، لتصبح نصا شعريا، لكننا نقر، هنا، أن النص الشعري هو أكثر الاجناس الأدبية قدرة على مجاراة سرعة الأشياء في العالم، وسرعة أحداثه التي يلتهب جنونها‭.‬

الشعر لم يخلع عنه ثوب الانفعال النفسي والعاطفي، لكن هذا لا يعني أبدا تخليه عن ماهو فكري‭.‬ عموما أرى أن النص الشعري العربي اليوم هو الأكثر قدرة على مواجهة العالم وعلى استيعابه وكتابته‭.‬ فالشاعر يتجول حاملا عدة قصيدته قادراً على اقتناص كل لحظة أو حركة يأتيها عالمه، وهو، هنا، لا يشبه الروائي الذي يذهب إلى قصته ويأخذ وقته في تركيز عناصرها‭.‬

إنما، أي قصيدة وأي نص على الشاعر أن يكتب اليوم؟

لا شك أن حركة الترجمة أثرت كثيرا في الشعر العربي وخاصة في قصيدة النثر التي تعد حاضر الشعر وهناك من ير ى أنها مستقبله أيضاً‭.‬ وهذا التأثير تجاوز حدود الأسلوب واللغة وحيز الجمالية ليطال الرؤية الفكرية والحضارية، ما أدى إلى ظهور جيل بأكمله يمتهن جلد الذات في نصوصه، مغيبا المكان والزمن وكل بعد حضاري مخصوص، ذائبا في الآخر فكريا ونفسيا وحتى مكانيا وغيره، في ذوبان كلي‭.‬

الشعر هو الأقدر على كتابة الراهن اليوم، لكن ذلك بشروط أن يكون هو ذاته ابن الراهن، الراهن الحضاري والمكاني والزماني‭.‬ فمثلا، ماذا يعني أن يعيش شاعر في بيئة لها خصوصياتها ويكتب عن بيئة أخرى يستقيها من نصوص أخرى، معربة أو غيره‭.‬

على الشاعر ان يكتب بيئته الخاصة، وتخفف من تلك الغنائية والنظرة المثقلة بالانفعال واللصيقة بالذات ى الضيقة المنغلقة على دون سواها‭.‬

على النص الشعري ان يكون له عقل أيضا، عقل طيع مفتوح على المطلق، ولكنه أيضا ابن بيئته الخاصة‭.‬ على النص الشعري ان يكون له أيضا قلب ينبض، كي لا نقع في عقلنة الشعر الذي بات بإمكان حتى الروبوتات كتابته اليوم، فالشعر ليس عملية منطقية جافة‭.‬

في ظل ما يشهده العالم العربي اليوم من اشتداد وتيرة التطرف التي تصل حد التوحش، ومن اضطرابات، ومن حراك طامح إلى الحرية وقع بين سندان الديكتاتورية ومطرقة التطرف والمغالاة الدينية بالخصوص، حتى بتنا اليوم مهجرين ولاجئين خهاربين من موتين، موت تنشره الدكتاتوريات وموت يهب علينا من صنائعها المتلبسة لبوس الدين‭.‬ نموت في البحر طمعا بأرض وهوية أخرى، هاربين من ذواتنا‭.‬ ومن اكتشاف ذواتنا والإيمان بها يكون الطريق الحقيقي للدفاع عن الذات، للتأسيس لها، لفتح آفاق أخرى أمامها‭.‬ من هنا يبدأ الفعل الشعري، والفعل الثقافي بالأساس‭.‬

النص الشعري كفعل ثقافي يبقى منوطا به أن يعيد لهذه الذوات العربية التي تكاد تنتهي خارج رقعة التاريخ ذاتيتها وتاريخيتها، منوط به أن يلتصق بهموم بيئته وإنسانه، منوط به أن ينتبه إلى التفاصيل الصغيرة ويدافع عن خصوصية الذات، فاتحا لها بجمالياته المتعددة طريقا إلى ذاتها وطريقا إلى الآخر‭.‬ منوط بالنص الشعري أن يكون الأكثر صدقا، أن يكون حالما ساعيا إلى حلمه لا أن يكون مجرد حلم تبدده شمس الحقيقة‭.‬

هناك ظاهرة ربما يراها بعض النقاد والشعراء العرب ضررا للشعر، ويسمونها تطاولا على الشعر، من قبل الجميع‭.‬ لما فتحت مواقع التواصل الاجتماعي الباب على مصراعيه للجميع كي يكتب ما يريد، وضمنا ما يراه قصيدة وينشرها‭.‬ لهذه الظاهرة، رغم بعض مساوئها، ما يمكن استغلاله لصالح الشعر والوعي الجمالي‭.‬ كثيرون باتوا يحاولون كتابة نصوص شعرية تواكب حالة نفسية ما أو فكرة ما، وهذا ما يؤكد ان للشعر جمهوره أيضا، وأن النص الشعري بذرة مغروسة داخل كل عربي‭.‬ من هنا نستشف أيضا قدرة الشعر الكبرى على التأثير الجمالي والفكري في نفوس العرب‭.‬ وفي النهاية لا أحد يستطيع، أو يحق له أن يحتكر الأدب‭.‬ وعلى الكتاب العرب، اليوم، أن يعوا أن ما يهم هو النص لا تلميع أسمائهم بشدة حتى تنكسر نصوصهم‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.