تحية‭ ‬كبيرة‭ ‬للإنسان

الخميس 2015/10/01
لوحة: حسين جمعان

طالما اعتقدت أن كتابة شعر عن الحرية، عن الثورة، عن المحنة، والعذاب، هي أصعب شيء، أو بالأحرى هي التحدي الأكبر في الكتابة، تحتاج أكثر من أيّ مجال آخر للدقة، لعين بصيرة، وروح طليقة، ولبراعة في الكتابة، أتمنى دائما لو كنت أمتلكها‭.‬ لا أظن أن واحدا منا لا يتألم بعد مشاهدة ما يحدث الآن في العالم، لا سيما في منطقتنا بمصيرها الدموي الدائم؛ مئات من صور القتلى والجرحى (وقد أضيفت لها صور الغرقى مؤخرا)، والتي تتدفق لحظة تلو الأخرى من شاشات التلفزيون، والأجهزة الإلكترونية، والصحف، تجعل الإنسان يتألم، يبكي، ويشعر بالضعف والحيرة، الإنسان بالمفهوم العام أيّا كان عمله واهتمامه‭.‬ نحن كأناس مشتركون في الآلام، والأفكار، والكوابيس‭.‬ الكثير منا يفكر ماذا بوسعه أن يفعل؟ ليس كخدمة بل كواجب إزاء آلام الآخرين كإخوة في الجنس البشري‭.‬

يمكن لأيّ شاعر أن يكتب كثيرا من النصوص في مثل هذه الحالة‭.‬ ليس من الصعب أن يكتب الشاعر عن الحرية، وضد السجون، والقتل، والكبت، فالكلمات متاحة، ولا أفضل منه لصياغتها، ولكنني كالمعتاد أفكر أن المهم هو أن يكتب الشاعر ما هو حقيقي (وليس المقصود واقعيا)، وألا ينزلق في هذه الكتابة إلى مستوى الخطاب السياسي، فذلك ما يستطيع أيّ صحفي أن يفعله أفضل منه، ولا حتى كنصوص رومنطيقية على غرار الشكاوي والتعبير الساذج عن الألم، وتأوهات شاعرية (أيضا بالمعنى العام) وليست شعرية، فذلك ما هو بارع فيه كثير من الأشخاص مرهفي المشاعر غيره، وقد تكون تعابيرهم أفضل من نصوصهم‭.‬

برأيي على الشاعر أن يكتب عمّا يرى حوله ويلمس، أن يكون تلك الصرخة التي يسمعها ضمير العالم إزاء أيّ ظلم، ولكن إن وجد في نفسه تلك المقدرة العالية، وبشرط ألا يقع في فخ السذاجة الشاعرية‭.‬ وإن لم يكن يمتلك تلك المقدرة فمن الأفضل أن يكتب عن أشياء أخرى، وينخرط في مجالات أخرى قد تخدم هذه القضية أكثر‭.‬ فهناك منابر أخرى غير الشعر يمكنه أن يعتليها لإيصال صوته الحرّ، ولتلبية ما يطلبه منه ضميره الذي من المفترض أن يكون حيّا في كل الأوقات‭.‬

سطور وقصائد كثيرة كتبت للحرية وللإنسان، في أزمنة مختلفة، وبقيت خالدة، نقرأها اليوم ونستعذبها، سواء كنص بحد ذاته، أو كشهادة عمّا جرى بحق الإنسان‭.‬ هناك من الشعراء الكبار من مزج حبه بنضاله، وأبدع، وهناك من كتب للحب في زمن الظلم، فكان الزهرة الزاهية النابتة في ساحة القتال؛ ولا مبالغة إن اعتبرنا نصوص الحب الرفيعة في زمن الحرب، نصوصا ثورية، فهي التي تعترض على وجود الموت وطغيانه، وتنتصر للحياة‭.‬

في مثل هذا الزمن، أتمنى دائما (كشاعرة أو كقارئة) أن يكتب الشعراء نصوصا شعرية حقيقية، سواء عن الحرب أو عن الحب، فتلك هي تحية كبيرة للإنسان، ولا أظن بمقدور الشاعر أن يفعل أكثر من ذلك، وهو ليس بالشيء الصغير، أن تحيّي الإنسان، وتبعث في قلبه ذلك البريق الإلهي الذي هو مزيج من الأمل، والطمأنينة‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.