الشاعر‭ ‬والتأريخ

الخميس 2015/10/01

لم يكن الشعر، في يوم من الأيّام، أداة تأريخ للأحداث وما تنطوي عليه من دراما وتراجيديا‭.‬ بل كان تعبيراً عن تفاعل الشاعر مع هذه الأحداث، وموقفه منها، سلباً أو إيجاباً‭.‬ ذلك أن الشعر، ومهما بلغت درجة الإلغاز والغموض واللعب على المجاز فيه، وكان باعثاً على الالتباس والحيرة لدى القارئ، إلاّ أنه لا يوجد فيه موقف رمادي أو مساحة رماديّة، يكون فيها الشاعر محايداً‭.‬ وعليه، يمكن أن يكون الشعر وجهاً آخر للتاريخ‭.‬ لكن لا يمكن أن يكون أحد أدواته‭.‬ نتيجة اختلاف اللغة، وطريقة التفاعل والتعامل مع الحدث‭.‬

ولكن، يمكن للمؤرّخ الاستفادة من الشعر، باعتباره أحد مصادر فهم أو الالمام بتفاصيل ما جرى من أحداث، عبر تحليل النصّ، وقلقلته بأدوات الناقد، وصولاً لاستخلاص معلومة أو نتيجة، يمكن التعامل معها، باعتبارها تدعم فرضيّةً لقراءةٍ مختلفة لحدث تاريخي معيّن‭.‬

مقصد القول: حين كتب هوميروس «الإلياذة» لم يكن في وراد كتابة تاريخ الإغريق، وسرد تفاصيل حرب طروادة‭.‬ بل كتبها تعبيراً عن موقفه من هذه الحرب‭.‬ وكذلك حين كتب دانتي «الكوميديا الإلهيّة»، لم يكن في وراد تأريخ الرؤية الناقدة للرواية الدينيّة عن الآخرة، وانتقال الكائن بين الجحيم والمطهر والجنّة، باعتبار إيطاليا كانت مركز الكنيسة الكاثوليكيّة، بل أراد دانتي من خلال ملحمته تلك، التعبير عن نفسه، ودرجة أو مستوى تفاعله التخيّلي، الفكري، واللغوي مع السرديّة الدينيّة أو الميثولوجيّة للحياة الآخرة‭.‬

كذلك الشاعر والمتصوّف الكردي أحمد خاني، حين كتب ملحمته الشعريّة «مم وزين» لم يكن في وراد التأريخ لطبيعة المجتمع الكردي، وعاداته وتقاليده، بل أراد التعبير عن تفاعله مع مأساة حدثت بين عاشقين، ساهمت فيها الظروف والفروق الاجتماعيّة، وبالتالي، الشعر في هذه اللحظة، من حيث الوظيفة، لا يختلف عما كان عليه قبل ألفي سنة او ما يزيد‭.‬
ولكن، من المفترض أن يكون مختلفاً على الصعيد الجمالي، والعمق، والتجدد في المبنى والسياقات اللغويّة‭.‬ باعتبار أن العمليّة الإبداعيّة، قوامها الجديد والتجدد، وتجنّب التكرار‭.‬ واعتقد أنه في هذا الإطار، ليس من الجائز طرح سؤال: «ماذا على الشاعر أن يكتب؟‭.‬ أو ماذا عليه أن يقول إزاء لحظة الجريمة العالميّة بحق الإنسان والإنسانيّة»‭.‬ ذلك أن العمليّة الشعريّة، لديها «كيمياؤها» الخاصّة بها، إن جاز التعبير، ولا تتعامل من «الينبغيات» أو «اليجبات» أو «الإملاءات»‭.‬ وأعتقد أن سؤال الشعر، من الأزل وإلى الأبد، سيبقى مفتوحاً ومتوتّراً وقلقاً، قوامه: كيف يتفاعل الشاعر، عبر اللغة، الحسّ، الفكر والخيال، مع ما يجري من حوله من انتهاك كوني سافر لقيم الحب والخير والجمال؟‭.‬ وما هي مستويات تعبيره عن هذا التفاعل، على صعيد اللغة وطاقة التأثير التي تخلقها لدى القارئ، بحيث تدفعه إلى اتخاذ موقف رافض لانهيار القيم والأخلاق في فترات الحروب والأزمات؟‭.‬

صحيحٌ أن الشاعر يروي نفسه، ليس بلغة المؤرّخ أو الروائي، بل بلغة الطير المحلّق فوق هذه المذبحة الكونيّة التي نعيشها، باعتباره الناجي الوحيد منها، والشاهد الأخير عليها‭.‬ ولكن صحيح أيضاً أن الشاعر في حالته هذه، من المفترض أن يكون لسان حال الشجر والحجر أيضاً، حتى يكون صوته مميّزاً ورافضاً لتعويم القبح وتنصيبه سيّداً على العالم‭.‬

بتقديري، ربما نجد في قدرةِ وطاقةِ الشاعر في التعبير عن آلامه وأحزانه باعتبارها جزء أصيل من آلام وأحزان البشريّة، الكثيرَ من النبوءة، لكنه ليس بنبيّ‭.‬ وربما نجد فيها الكثير من بروق وإشارات الإصلاح أو التفلسف، لكنه ليس بمصلح أو فيلسوف‭.‬ وربما نجد في طاقته تلك، الكثير من الرموز والإشارات أو الإحالات التاريخيّة، لكنه ليس بمؤرّخ‭.‬ الشاعر، هو صهوة المجاز والخيال، حين يعبّر عن آلام الحقيقة ومراراتها ومكابداتها، صائغاً من آلامه وآلام الآخر، قيمة جمالية، تقاوم انحدار أو انزلاق العالم إلى أسفل السافلين‭.‬ طبعاً، أقصد الشاعر، وليس شبيهه‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.