ميترو‭ ‬الأنفاق

الأحد 2015/11/01
لوحة: صفوات داحول

لطالما كان يتخيل أن هناك ميترو أنفاق تحت مدينة طرابلس، وأن الصراصير والجرذان والقطط عبارة عن كائنات مضيئة جميلة تتخفى في أجساد صراصير وجرذان وقطط‭.‬ لكنه لم يكن يحب الكلاب‭.‬ عندما كان في الرابعة من عمره، طاردته مجموعة كلاب متشردة، وحاصرته في إحدى زوايا الشارع، ما بين سيارة قديمة وحائط مبنى قديم‭.‬ كادوا يعضوه، لكن رجل عجوز يحمل هراوة أنقذه في آخر لحظة‭.‬

حمله الرجل العجوز إلى البيت، كان يبكي، وكان الرجل العجوز يبتسم له، أراحته الابتسامة، جعلته يشعر بالطمأنينة وأن الكلاب المتوحشة لن تأكله أبداً ما دام هذا العجوز معه‭.‬ عندما وصل إلى البيت، خرج أبوه وشكر الرجل العجوز ورحل‭.‬ بعد أن دخل البيت، بدأ والده يضربه بحزام سرواله، كان ذلك مؤلماً، شعر بالألم في البداية، لكن مع استمرار الضرب لم يشعر بشيء، كان يحدّق للحائط أمامه من بين فتحات أصابع يديه التي كانت تغطّي وجهه بينما يسقط الحزام على مختلف أماكن جسده‭.‬

المدينة لا تملك ميترو أنفاق‭.‬ وكان دائماً يتمنى لو أنه يوجد ميترو أنفاق ليريح والدته التي تشتكي دائماً من المواصلات والزحام، لم يكن عندهم إلا سيارة واحدة، كان والده يستعملها في غالب الوقت‭.‬ في يوم ما عندما كانت أمه تشكو إلى والده أزمة المواصلات والزحام وأنها لا تصل إلى مكان عملها في الوقت المناسب، أخذ يشتمها، ويصفعها، حاول أن يتدخل ليحمي والدته، لكنه أصبح هدفاً لحزام والده هو الآخر، والدته أخذت تصرخ وهو بقي صامتاً يحدق إلى الحائط ما بين أصابع يديه، تمنى تلك اللحظة لو أن الرجل العجوز كان معه، كان سيحميه كما حماه من الكلاب‭.‬ تلك اللحظة فهم شيئا سيغير حياته كلها: إن الإنسان يمكنه أن يكون مثل الكلاب‭.‬

“لا يبدو أنهم سيقومون ببناء ميترو أنفاق” كان يقول لنفسه‭.‬ سمع يوماً في أحد المقاهي أنهم سيبنون ميترو أنفاق، لكن ذلك كان من مدة طويلة، “ولو كانوا حقاً يريدون بناء ميترو أنفاق لبدأوا في بنائه منذ فترة” قال لنفسه‭.‬ بعد فترة اقتنى قطة، لكن والده رماها في الشارع، فأكلتها الكلاب‭.‬ في المدينة يوجد ثلاثة أنواع من الكلاب: كلاب تأكل القطط، وكلاب تأكل كل شيء‭.‬ كره كلا النوعين‭.‬ لكنّ كرهه للنوع الثالث كان الأكبر، الكلاب من النوع البشري كانوا الأسوأ‭.‬

ماتت والدته وهو في الثالثة عشرة من عمره، كان لا يزال في المدرسة الإعدادية، وكان قد علم لتوه في يوم موت والدته، أن الله لا يصنع الأطفال، وأن أمه لم تنتظر تحت المسجد أن تجلبه الملائكة من السماء لها، وأن والده كان يدخل قضيب التبوّل في حفرة في أمه، كان ذلك بشعاً، فكره والده أكثر، وبعد أن ماتت والدته كره والده أكثر وأكثر‭.‬

بعد العزاء بأسبوعين، حاول أن يقتل والده، كان يحضر الطعام لوالده في المطبخ‭.‬ عندما فتح الدولاب ليأخذ صينية، وجد سم الفئران وراءها‭.‬ لم يفكر في الأمر، يداه تحركت من تلقاء نفسها، دون إرادته، كأن هناك شيئا أقوى منه يحركها‭.‬ أخذ السم‭.‬ وضعه في الحساء‭.‬ حمل الغذاء لوالده‭.‬

مزاج والده كان جيداً ذاك اليوم، كان يبتسم، وكان يريد أن يقول شيئا لابنه‭.‬ فدعاه أن يجلس ويأكل معه‭.‬ رفض‭.‬ دعاه مرة ثانية‭.‬ رفض‭.‬ صرخ عليه، فجلس‭.‬ “الله يرحم والدتك، كان تطبخ أفضل!” ضحك والده‭.‬ “هيا أمسك الملعقة وكل!” صرخ فيه والده‭.‬ توترَ‭.‬ أمسك الملعقة‭.‬ كانت يده تهتز‭.‬ ملأ ملعقته برشفة حساء‭.‬ يده مازالت تهتز‭.‬ قرّب الملعقة من فمه‭.‬ لم يستطع فعلها‭.‬ كان يخاف الموت، كان طفلاً وكان يخاف ما لا يفهمه‭.‬ وضع الملعقة بقوة في الصينية، حملها، سار إلى المطبخ وأفرغها في الحوض‭.‬ ضربه والده بالحزام، كان حزاماً مختلفاً، والده اشترى حزاماً أعرض من السابق‭.‬ كانت أعنف هذه المرة‭.‬ “ترمي النعمة في الحوض يا ولد الحرام!” صاح والده‭.‬ لم يعرف والده أنه كان على مقربة من الموت، وأن هذا الولد المسكين أنقذ حياته بعد أن حاول أن يقتله‭.‬ “الكلاب لا تُقدر نعمة الحياة” قال في نفسه‭.‬

تزوج والده‭.‬ كانت امرأة حقيرة قصيرة‭.‬ هناك علاقة بين زوجة الأب والحقارة، وعلاقة بين قصر الشخص والحقارة، وهذه المرأة كانت زوجة والده وقصيرة أيضاً، كانت حقيرة بشكل مضاعف‭.‬ كانت دائماً ما تقول لوالده إن ابنك ولد سيّئ ويحب إهانتي‭.‬ والده كان دائماً يصدّق كلامها، ودائماً ما كان يضربه بالحزام أو يشتمه‭.‬ لكنه كبر، ثمانية عشر عاماً في مدينة لا يوجد فيها ميترو أنفاق ووالد أحمق وزوجته الحقيرة‭.‬⊇ لكن لم يستطع والده الاعتداء عليه مجدداً‭.‬ ذات يوم كان والده ينزع الحزام ليضربه والمرأة القصيرة الحقيرة واقفة بجانبه تنظر إليه بازدراء وشماتة، ثم قاوم، أمسك بحزام والده وبدأ يضربه به، صرخت الزوجة القصيرة الحقيرة، وصرخ الوالد، وصاح الولد الذي أصبح رجلاً “أنت كلب! كلب! كلب!” ثم خرج من المنزل وترك والده ممدداً على الأرض وبجانبه زوجته القصيرة الحقيرة‭.‬

هام في الشوارع لأكثر من يوم، نام في الحدائق العامة، وفي محطة الحافلات شبه المهجورة في منطقة الظهرة وسط طرابلس، الكلاب كانت تخاف منه، القطط لا، الصراصير كانت تبدو جميلة عندما تسقط عليها أشعة الشمس كل فجر، والجرذان كانت شجاعة، هكذا كان يظن، تمنّى لو أن الرجل العجوز يظهر الآن، تمنّى لو أن الرجل العجوز يمسكه ويبتسم له، أراد أن يشعر بالطمأنينة وأن لا أحد ولا أيّ شيء يمكن أن يأكله أبداً‭.‬

بعد عشر سنوات، أصبح يعيش في المجاري فعليا، لديه منزل صغير به فراش قديم، وراديو، وثلاجة صغيرة قديمة لا تعمل‭.‬ أحياناً يبقى في بيته الصغير هذا لعدة أيام، دون أن يتحرك من الفراش، اعتاد على الرائحة الكريهة بعد فترة، لقد أصبحت جزءا منه، لم يعد للمنزل، لكنه حاول‭.‬ ذات مرة قبل 5 سنوات، أخبرته المرأة القصيرة الحقيرة التي أصبحت أكثر حقارة وأكثر قصراً أن والده مريض وعلى فراش الموت، أحس بالحزن بالرغم من كونه يكره والده، كره نفسه لأنه أحس بالحزن من أجل كلب، لكن الحزن لم يدم، هذا ما أراحه، “عدم دوام شيء يعني أنه غير حقيقي” قال لنفسه‭.‬

ظن الناس أنه مجنون، شعره أسود في الأصل لكنه مع القذارة أصبح لونه بنيّا، كان يرتدي مجموعة ملابس على جسده، سروالان، معطف وقميصان ووشاح نسائي أصفر وجده في القمامة في أحد الأيام‭.‬ الشرطة حاولت أن تقبض عليه أكثر من مرة لكنها لم تنجح، كان يتملص منها في كل مرة، لكنهم في النهاية قبضوا عليه، كانت حملة على كل المجانين في المدينة، أتذكر ذلك اليوم، لم يعد يوجد أيّ مجنون أو متشرد في الشارع، قال الناس إن الدولة تقبض على المتشردين والمجانين لحمايتهم من أنفسهم ولعلاجهم وتوفير مساكن ولقمة عيش لهم‭.‬ لكن تلك كانت كذبة كبيرة، والناس صدّقوها، لأنهم كانوا يغارون من المجانين ويكرهون المتشردين‭.‬

“اتركوني، اتركوني،” كان يصرخ في وجه الشرطة بينما كانوا يضعونه في قفص سيارة الشرطة القذر‭.‬ وضعوهم في مستشفى ابن رازي للأمراض العقلية، “لكنني لست مجنونا” أخذ يقول للأطباء، لم يصدقه أحد، “كيف تكون غير مجنون وأنت متشرد؟ المتشردون كلهم مجانين!” قال له الطبيب المكلف باستقبالهم‭.‬

خلال شهر نسي اسمه، ونسي شكله حتى، لا توجد مرآة في القسم الذي كان يقبع فيه مع رفاقه المتشردين والمجانين، كانوا يخافون أن يقومَ المجانين بكسر المرأة والهجوم عليهم‭.‬ كانوا يخافون الثورة المطلقة‭.‬ حلقوا له شعره، ذقنه، غسلوه بالماء البارد والصابون، جعلوه يرتدي ثيابا رمادية كئيبة، كان في أيامه سعيدا، كان قد بدأ في بناء ميترو الأنفاق، بيته كان البداية، النهاية لم يقرر أين بعد، لكن الفكرة كانت جاهزة، “النهاية هي أين يقع المكان السعيد الخالي من كل أنواع الكلاب”‭.‬

والمخدر، الأدوية، الطعام السيّئ، كل ذلك جعله يفقد كل اتصال له بالواقع‭.‬ في نهاية ذلك الشهر كان اللعاب يسيل من فمه، لم ير صرصوراً منذ فترة، لم ير جرذاً منذ فترة، لم ير قطة منذ فترة، كان يرى الكلاب فقط، كلاب ترتدي أردية بيضاء، كلاب يحملون هراوات، كلاب يعطونه فضلات كلاب ليبلعها، طعام كلاب، سرير كلاب، غرفة كلاب، رفاقه كانوا كائنات رمادية دون رؤوس، ميترو الأنفاق ضاع منه، الرجل العجوز رحل أيضاً، الولد الذي أصبح رجلاً، الذي أصبح متشرداً، الذي أصبح حالماً أصبح مجنوناً، مجنوناً للأبد‭.‬

كانت زيارة من قبل أطباء زوار من مستشفى في إيطاليا، مروا على القسم، كان يرافقهم مدير المستشفى والطبيب المسؤول عن القسم، وقفوا أمام غرفته، كان اللعاب يسيل منه، وكان جالساً على أربعة، ولسانه خارج فمه‭.‬ أخذ يحدق فيهم‭.‬ سأل الطبيب الإيطالي الزائر “ماذا به؟”، صمت الطبيب المسؤول قليلاً ثم قال “كان يظن أن هنالك ميترو أنفاق تحت المدينة، وكان يعيش في أحد حفر المجاري، إنه يعاني من حالة ذهان مزمنة”‭.‬ هز الطبيب الإيطالي رأسه بينما كان يكتب في مذكرته وسأل “وهل هو أفضل الآن؟”‭.‬

ابتسم الطبيب المسؤول، “إنه يظن أنه كلب الآن،” قال، “وهذا يعني أنه أصبح يعود إلى الواقع ولو ببطء”‭.‬ بعدها استمر الجميع في السير لرؤية المرضى الآخرين، ما عدا الطبيب الإيطالي الذي بقي ينظر إليه وهو جالس على أربعٍ كالكلب “أنت لست كلباً، أنت إنسان،” قال الطبيب الإيطالي‭.‬ انتظر الطبيب الإيطالي أن يردّ عليه، لكن لا فائدة‭.‬ وبينما كان يلحق الطبيب الإيطالي بالمجموعة، سمعه ينبح: “هاو، هاو، هاو، هاو، هاو…”‭.‬

“إنه نباح حزين جداً،” قال الطبيب الإيطالي لنفسه‭..‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.