عمر تيمول: الهوية العائمة

الثلاثاء 2015/12/01

بداية، نود أن نتلمس الطريق معك إلى الأسباب والظروف التي حملتك على أن تصبح شاعراً؟

تيمول: لقد وجدتُ موهبتي الفنية في وقت متأخر جداً من حياتي، في سنّ الثلاثين تقريباً. أعتقد أن هذه الحساسية الشعرية لاحقتني على الدوام، في أعماق أعماقي، ولكنها استغرقت وقتاً حتى تتجسَّد وتعبِّر عن نفسها. ويرجع ذلك في الأساس إلى خلوّ بيئتي المباشرة من شخص بمثابة مرشد أو مصدر وحي، عامل محفِّز لي. فأنت في حاجة إلى مرآة، في صورة شخص آخر، لكي تبصر حقاً نفسك كما هي.

اتّسمت أول كتاباتي الشعرية بطبيعة عفوية خالصة، تتدفق تدفقاً. لم أفكر حينذاك قطّ في تهذيب نصوصي؛ فقد كنتُ أكتب من أجل الكتابة. ولم أع أنها قد تثير بالفعل مشاعر القراء أو أنها بذور نداء فني أصيل، إلا بعد نشر القصائد الأولى، إنها الكتابة كحاجة باطنية صادقة، وبوصلة هادية إلى المغزى والحقيقة.

ومذاك لم أستطع الكف عن الكتابة. صار الشعر يستهلك المزيد والمزيد من حياتي اليومية، واليوم، بالرّغم من كل ما ينتابني من شكوك ذاتية وارتياب متواصل، أودّ أن أمارس هذه المهنة طيلة حياتي، وما زلت غير قادر على تحديد ماهية هذه الرغبة في الكتابة، ولكنّها عنصر جوهري في حياتي، يستحوذ عليّ تمام الاستحواذ.

من هم الشعراء (أو الحركات الأدبية) الذين أثروا في نشأتك الأدبية؟

تيمول: كانت قراءة “زهور الشرّ” للشاعر الفرنسي شارل بودلير في التاسعة عشرة صدمة لي، وبمثابة إلهام. أولاً، ثمة شذا استثنائي يعبق به كل بيت من أبيات الديوان: هذه الصور المنمّقة، وسبْر الذات في أشد الزوايا حميميةً من جسدها. ولكنّ الأكثر من ذلك أني رأيت فيما يبدو -مع كل سذاجة الشباب ولا ريب- انعكاس صورتي في هذه القصائد. فقد تمكّن بودلير من خلال سحر قاتم لا عهد لي به، من تجسيد كياني.

بودلير هو الذي أغواني إلى الشعر ومهَّد إليّ سبيله. وهبني مذاقه والجوع إليه، جعلني أدرك أن في باطني معنى ما يمكن ترجمته إلى كلمات. أعشق أيضاً سيزير، وأعتقد أنه قد يكون شاعراً أعظم من بودلير أو رامبو. في كتابه “مفكِّرة العودة إلى الوطن الأم” يتصف أسلوبه بالانصهار والتمزق، ويعيد ابتكار اللغة ذاتها. أعود إلى هذا الديوان مراراً وتكراراً، وفي كل مرّة يجرفني اتقاد الكلمات وجمالها. لمس نفسي كذلك العديد من الشعراء الآخرين، من بينهم لوتريامون ونيرودا وباس وطاغور والموريشسي إدوارد مونيك.

وهناك شعراء يتخفّون في رداء روائيين. والآن يخطر في بالي كامو ولوكليزيو تحديداً. اشتريت مؤخراً “الأعمال الكاملة” لكامو، وبعض فقراته، ولا سيما في “صيف”، خلفت في نفسي صدى عميقاً. يحقق كامو أحياناً شِبه الكمال هذا في كتاباته، اقتران النثر المهيب بالتأملات الفلسفية الكثيفة.

ومع لوكليزيو تعجبني موسيقية الكلمات في أسلوب يدهشنا أحياناً ببساطته وتجرُده من أيّ زخرفة، ولكنه يتمتع بموهبة شعرية بارزة. بالإضافة إلى أني أشعر برباط حميم بعمل الروائية والشاعرة الموريشسية أناندا ديفي، فكتابتها مشرَّبة بشعر غاضب معذَّب، وهي في اعتقادي جديرة بجائزة نوبل.

الهويات المفتتة

ما هي الصفات المميزة للشعر الموريشسي؟ كيف يمكن للقصيدة أن تميز نفسها باعتبارها “موريشسية”، أم أنك تعدها قضية أقل أهمية في العالم الحديث المعولم بظاهرة الهويات المفتَتة؟

تيمول: يجب علينا وضع الأمور في إطارها قليلًا قبل أن نتناول هذا السؤال. لا أقصد المبالغة، ولكن موريشيوس جزيرة صغيرة للغاية في المحيط الهندي؛ الواقع أنها غاية في الصغر لدرجة أنك تستطيع السفر في جميع أنحائها في غضون ساعتين! يبلغ عدد السكان نحو 1.2 مليون نسمة، أي أنها مكتظة بالسكان.

تنعم الجزيرة بتاريخ أدبي غنيّ إلا أن الثقافة الأدبية تظل مهمشة إلى حد كبير، ويتعامل معها معظم السكان تعاملهم مع شيء دخيل أو حتى عديم الفائدة. لا تضم أكثر من مائة كاتب، بكل لغات التعبير الإبداعي مجتمعةً (الفرنسية، الإنكليزية، الكْرِيْيُوليّة، الهندية إلى آخره). والحقل الأدبي في موريشيوس منقسم ومبعثر.

بوسعك إدراك بعض خيوط المواضيع المشتركة بين أعمال الروائيين لدينا، ولكن عندما يتعلق الأمر بشعرائنا، سوف يصعب علينا إدراك هذه الخيوط. لا يسعنا الحديث عن المدارس أو الحركات الأدبية المحلية، ليس لدينا إلا كتَّاب شديدو الفردية، يفصحون عن أنفسهم بأنماط تامة الاختلاف.

ولكن أفضل الشعراء والروائيين لدينا يشتركون في مستوى الإلحاح الجوهري نفسه عندما يدنون من اللغة. وهناك حالة تأمل رائدة للغة نفسها، تنزع إلى تشجيع إنتاج نصوص معقدة للغاية في مناهجها. يستعصي علينا فهمها غير أنها بالغة الجودة.

هل هناك نوع من الكتابة يمْكن أن نطلق على جوهره أنه “موريشسي”؟ أصدقك القول إني لا أعرف. لو لي أن أتحدث عن نفسي فحسب، سوف أقول إن لهويتي الموريشسية تأثيراً أكيداً على طريقة كتابتي، ولكن بطرق كثيرة غير مباشرة، وكواحد فقط من العديد من المقوِّمات الأخرى. إننا نعيش، كما قلتَ عن حق، في عصر العولمة، والعالم الوهمي للكاتب يصبح بالضرورة متشظياً. بوسعنا، لو بالغنا قليلاً، مقارنة عقل الكاتب هنا بصهريج تنسكب فيه تعددية العالَم. وبينما أكتبُ في سياق مكان واحد محدَّد ولا شك (من هنا في موريشيوس)، تعد كتاباتي، أولاً وأخيراً، تعبيراً عن تلك التعددية.

منفى داخلي

كيف تتشكل فكرة ‘الجزيرة’، فكرة العزلة أو الاكتفاء الذاتي في أشعارك؟

تيمول: هناك مستويان لعلاقتي الشعرية مع فكرة “الجزيرة”. الأول هو رغبة في جعلها يوتوبيا، بغرض إعادة خلق مجتمعها وتحويله إلى مجتمع هجين ثقافياً. والرغبة الثانية هي نقيض الأولى بكل ما في الكلمة من معنى. إنها رغبة في الهروب من عزلة الجزيرة الخانقة، فتجربة العيش على جزيرة تُعرَّف هنا في الغالب بأنها “منفى من الداخل”، باعتبارها حبساً واستحالة.

قد يتعذر بالقطع على أولئك القاطنين في قارات استيعاب ذلك التقلقل الانعزالي المميز لحياة الجزيرة، والانحصار ضمن قطعة أرض، بالكاد تبلغ 720 ميل مربع، تطفو في منتصف اللامكان، وتمتلئ بأشباح لأناس يؤمنون بامتلاكهم لقوى كونية، وهي قوى بالطّبع وهمية. قد تكون الجزيرة مسرحاً للأشباح على الصعيد العالمي. وقد صرت اليوم ضجراً من رومانسية انعزالية يعتنقها بعض الفنانين بكل بسهولة، معتقدين أن الجزيرة “فردوسا” أو “ملتجأ”.

إنني أعيش هنا حقاً، والأرجح أني سأقضي بقية حياتي هنا، ولكنّي مدرك أن لهذا ثمناً: وحدة حادة، شعور لا ينقطع بأني على هامش كل شيء. وقد اتضح لي أكثر فأكثر أن الطبيعة الانعزالية الساحقة للروح والمدمِّرة للأنا تعزّز بالفعل دافعي إلى الإبداع الشعري.

اللغة والهوية

تكتب غالباً باللغة الفرنسية أو الكْرِيْيُوليّة، ولكنك تتحدث أيضاً اللغة الإنكليزية فيما يتعلم أطفالك المَنْدَرينيّة والأردية. ولأنك مسلم تدْرس أيضاً اللغة العربية. ما هي القيمة المضافة إلى الشعر من مثل تلك القدرة على “الارتحال” بين اللغات؟

تيمول: تضمر هذه التعددية اللغوية طبيعة متناقضة. قد نعتقد أنها تثري المرء غير أن الحياة تغدو أبسط كثيراً عندما تولَد بلغة واحدة وتنتمي إليها بالكامل، أبسط من الاضطرار الدائم إلى الإبحار في المياه بين لغة وأخرى. إن هذا الارتحال اللانهائي موجع. أجد أحد أوصالي في عالم إحدى اللغات بيد أن جسمي كله لا يتجذّر البتة في أيّ أرض لغوية.

لو أن الكتابة هي، قبل كل شيء، أن يكون المرء مسكوناً باللغة، كيف بمقدورك أن تكتب وأنت في الواقع على هامش لغة تتوهم أنك “تتقنها”، أياً كانت هذه اللغة؟ وفي الوقت نفسه، قد تفيد هذه الصدوع والتوترات بين اللغات المختلفة إبداعَك الشعري: إذ تجعل الشعر ممكناً من خلال ترجمة الفراغ القابع في صميم الذات. كان كافكا قد كتب ذات مرة أن “كل لغة ما هي إلا ترجمة رديئة.” وبهذا المعنى تستحيل الكتابة بحثاً دائماً عمّا لا يمْكن أن تعبِّر عنه أيّ لغة تعبيراً تاماً. هناك دائما شيء مفقود.

المسلم هو الآخر

باعتبارك مسلماً، كيف تشعر حيال المناخ الحالي المعبأ بالكراهية في الغرب ضد الإسلام؟

تيمول: أجده وضعاً مقلقاً. لقد حلّ المسلمون اليوم محل اليهود في اللاوعي الجماعي الغربي. صار المسلم ذلك “الآخر” الذي تنعكس عليه حزمة كاملة من المخاوف. والمفارقة هي أن نقاشاً عن المسلمين يدور دائماً دون التحدث بصدق عن المسلمين “الحقيقيين”.

إن المسلمين في كل منفذ في وسائل الإعلام، ولكنهم مجرّد رسوم كاريكاتورية، المسلم كأصولي ملتح أو امرأة مذعنة محجبة أو حتى المسلم “المندمج كما ينبغي” الذي “يتحدث” مثلنا، و”يتصرف” مثلنا. إن لم نتوخّ الحرص، قد تحيي الإسلاموفوبيا أسوأ “الشياطين الباطنية” في العالم الغربي.

ولكن برغم قولي هذا، لا تعفي الإسلاموفوبيا العالم الإسلامي من القيام بتحليل لفشله، تحليل ينتقد الذات بحق. من السهل أن ننعم بنظريات المؤامرة، وهي في النهاية تبوح بصفات عمّن يتوصّلون إليها أكثر مما تبوح به عمن تدعي إدانتهم. ونحن ندين لأنفسنا، قبل كل شيء، باتخاذ موقف صافي الذهن. لأننا لا نستطيع لوم الغرب على كل مشاكل العالم الإسلامي.

حتى وإن لم أكن خبيراً في هذه المسألة كما هو واضح، أعتقد أنه من المهم الانخراط في تفكير ذكيّ وصادق في السبب الأساسي أو الأسباب الأساسية في انهيار حضارتنا. يجب علينا أيضا أن نحاول بعد ذاك اكتساب موارد تؤهلنا للخلاص من هذا الركود الحضاري.

موريشيوس بمثابة بوتقة انصهار، فيها يتقاسم القادمون من الهند وأفريقيا والصين وفرنسا وطناً واحداً. وقد استعمر الجزيرة الهولنديون والفرنسيون والبريطانيون. كيف يسهم تاريخ البلاد في تشكيل عملك؟

تيمول: يسهم بشكل غير مباشر تماماً. أحب القراءة عن تاريخ بلدي، فهو حقل رائع، ولكنه ليس هماً رئيسياً من هموم كتابتي الإبداعية.

الهوية والمعنى


تصوير: سارة ماريان آمارليس Sara Marin Amariles

تحدثت مرة عن أنك أردت يوماً “التخلص من نير التقليد الشعري الغربي والبحث عن آفاق أخرى”، ولكنك تعترف الآن “بعدم قدرتك على تجنب تاريخك الشخصي والمرتبط بالجماعة. كيف تتعاطى في شعرك مع قضايا السرد التاريخي والسياقات الاجتماعية/السياسية؟ هل من المهم رؤية مثل تلك الأمور من منظور خارجي (أو من منظور خارجي ما أمكنك)؟

تيمول: شعري مظهر من مظاهر السعي إلى الهوية، فهويتي ملتقى عدد من التأثيرات. أعتبر هذه الحقيقة مصدر ثراء ثقافي بقدر ما أعتبرها جرحاً عميقاً. هناك بعض القضايا لا تنفك تظهر على السطح، وهي تستحوذ على المرء في الصميم. على سبيل المثال، ماذا عن اختيار لغة الكتابة: الكْرِيْيُوليّة لغتي الأم، أم الفرنسية، لغة تعلمتها في التعليم الرسمي، ولا “تنتمي” إليّ بالكامل؟ ما معنى أو أهمية هويتي الإسلامية؟

كيف باستطاعتي تحديد موقفي تجاه الغرب، وثقافته مغرية وكذلك مثيرة للاشمئزاز؟ كيف أرسّخ نفسي في هذا العالم وكلّ هوياتي عائمة مثل الأخشاب الطافية؟ هل هناك أيّ فرصة لوضع حدّ لكل هذا النفي الذاتي، كلاّ من النفي الحرفي والنفي المجازي؟ ليست لديّ إجابات واثقة لأيّ من هذه الأسئلة. ومجرد وجود كل هذه الانشقاقات والتصدعات في إجاباتي الهشة هو ما يحثني على كتابة الشعر. فالشعر فضاءٌ مميز لسعي لا يلين إلى المعنى والهوية.

النور الهارب

وصفتَ عملية الكتابة التي تنتهجها بأنها “محاولة لبلوغ نور يهرب على الدوام”. هل هناك في رأيك مكان للأيديولوجيا، أو حتى للمعتقَد، في الشعر؟

تيمول: أعتقد أن الأمر يتوقف على السياق الاجتماعي، ولا سيما على حساسية الشاعر. فمن الواضح أن محاولة تحويل القصيدة إلى أداة لنقل فكرة أيديولوجية أو ثورية في سياق جزيرة معزولة مغامرةٌ لا جدوى منها، نظراً لأن الشعر هنا يفتقر إلى رأس المال الاجتماعي، ولا يطالعه في الواقع إلى حفنة من رفيعي الثقافة.

ولكن في سياقات أخرى، بمقدور الشعر ولا جدال أن يلعب دوراً مدمراً. أمَّا بالنسبة إليّ كشاعر، فأنا أتأرجح بين قصائد تعبِّر عن قناعات قوية حتى إنها قد توصف “بالأدب الملتزِم” لو توسعنا في تفسيرها قليلاً، وقصائد أخرى أشد حميمية في موضوعاتها ونبراتها وأهدافها.

تقول “في حياتي اليومية غالباً ما أشعر بأن عالماً خفياً يزدهر فينا، وأن القصيدة تخرج إلى النور عندما يتراجع أحد الحواجز بين الحين والآخر”. كيف بمقدور الشاعر الوصول إلى هذا العالم الخفي؟ هل يستطيع أن يزيل كل تلك الحواجز دون هدفه؟

تيمول: قد تجده غريباً بعض الشيء، ولكنّي عاجز عن تفسير الآلية الدقيقة التي تتحكم في الإبداع الشعري. لن أقَدِر مثلاً على استضافة دورة للكتابة الإبداعية. يمكننا بالتأكيد، ومع مرور الوقت، أن نتعلم إتقان تقنيات معينة، ولكن الكتابة عمل يقع في الغالب أسفل القبضة الحديدية للجانب اللاعقلاني من أنفسنا.

والكتابة ما هي إلا تحرير للكامن في أعمق أعماق نفوسنا، أيّا يكن هذا الخفي. لا أدري إن كان “أيّا كان” ذلك هو العالم الخفي، لا أعلم سوى أنه كَوْنٌ محفور في أحشائي. يتحدث الشاعر الأميركي كريستيان وينمان في كتابه “إلى الهاوية المشرقة” عن “إخلاص رهباني للشعر”. أتفق معه في أن عمل الشاعر يماثل عمل الراهب الذي يحصر نفسه في الصمت والعزلة كي يبلغ النور النابع من ذاته، نور الإله أو نور الشعر.

نزوع صوفي

ديوانك الثاني “دمٌ” عبارة عن “أغنية حب صوفية طويلة كتبتها وفقاً للتقليد الصوفي”. كيف ترى أبرز صفات التقليد الشعري الصوفي الطويل؟

تيمول: أحبّ هذا النوع من الشعر لأكثر من سبب. أشعر بانجذاب طاغ إلى التصوف الإسلامي مع أني لست صوفياً على الإطلاق. أظنه طريقاً يفضي بالمرء في اتجاه التحرر الروحي. تروق لي أيضاً طبيعته المتناقضة حين يخلط المقدَّس بالمدنَّس. لا يمكننا دائماً العثور على وجهتنا فيه، إذ أنه شعرٌ يطمس الفرق بين الرغبة في الله والرغبة في النساء والنبيذ.

وتعزيز هذا الغموض واضح تماماً في ديوان ابن عربي المشهور “ترجمان الأشواق” على سبيل المثال. ولكن التصوفَ يتخذ صحوةَ الإلهي في الإنسان كأساس فلسفي، وفيه تعني “يقظة” المرء أن “يمسي مرآة للإله”، ليعكس مدى كاملاً من الحب والحنان.

لو بإمكانك العودة إلى الماضي واقتراح قصيدتين (واحدة من تأليفك) على الشاعر الصوفي جلال الدين الرومي، ماذا تختار؟

تيمول: جيفة” لبودلير. وقصيدتي “دمٌ” المستوحاة من الفكر الصوفي.

ولو بإمكانك اقتراح قصيدتين (واحدة من تأليفك) على الدكتاتور الدموي، ماذا تختار؟

تيمول: “ضحايا الحرب” و”جنين”.

حج شعري

حضرتَ مهرجان ميديجين في كولومبيا. بصفتك شاعراً ومواطناً من موريشيوس، بلد تقدِّر التقاطعات بين الشعوب والثقافات المختلفة، هل تقدِّر الفرص المتاحة للقاء شعراء من بلدان أخرى واستكشاف شعر بلغات مختلفة، كما حدَث وأعطاك مهرجان ميديجين هذه الفرصة؟

تيمول: لا بد أن أستخدم لوصف رحلتي إلى هذا المهرجان كلمة قد تبدو في البداية مبالغاً فيها: الحج. ولكنها كلمة دقيقة تماماً. عندما شاركتُ في هذا المهرجان، شعرت أني تمكنت بعد كل هذه السنوات من البحث الدؤوب والعمل في عزلة وغموض من الإفلات من أغلال حالة المنفى الدائمة.

إن الحج ما هو إلا المضي إلى بقعة تتمكن من إيقاظ النائم على الدوام في دواخلنا. وهكذا كان هذا المهرجان تجربة شبه روحية. ومثل هذه اللقاءات حيوية للحياة الشعرية: إذ نعثر على أنفسنا بين أقراننا، بين المتمتعين بالحساسية الأدبية نفسها. يمكننا أيضا أن نكوِّن علاقات تساعدنا على التطور في رحلاتنا الشخصية في سبيل الأدب.

ضم المهرجان العديد من الثقافات والجنسيات. بعد انتهاء المهرجان، ما هو رأيك في حالة الشعر حول العالم اليوم؟

تيمول: لا يمكننا فصل كتابة الشعر عن السياق المكتوب فيه. ألفيت الشعر في بعض المجتمعات متقِّداً ومزدهراً، وله تأثير حقيقي بعيداً عن البرج العاجي والقراء المتفرقين هنا وهناك، فهو لا يزال يمتلك قوته النافذة، قوته المدمِّرة والثورية. وفي مجتمعات أخرى يكافح، للأسف، من أجل البقاء، وبالكاد له أيّ أهمية من أيّ نوع، وأغانيه ونبوءاته لا تتناهى إلى مسمع أحد.

ولكن شعوري هو أن الشعر سيظل -بالرغم من كل الصعاب – صوتاً وجوده بالغ الأهمية، وسوف يجبر الآخرين على الاستماع إليه بطريقة أو بأخرى. وجميع الشعراء الحاضرين في مهرجان ميديجين هم شهود أمناء على نضال الشعر العنيد من أجل البقاء.

نقطة على السطر

أنت عضو مؤسس في “نقطة على السطر”، وهي مجلة شعرية متعددة التخصصات في موريشيوس، وتنشر للشعراء من جميع أنحاء العالم. هل تجد أن ممارستك الشعرية شهدت تحسناً عبر انهماكك في التحرير والنشر؟

تيمول: لا بد أن تظل مدركاً أن هذا المسعى الأدبي، أي نشر مجلة للشعر (وقد اتفق أنها الوحيدة من نوعها المخصصة حصراً للشعر في تاريخ موريشيوس كله!) بدأ منذ عشر سنوات كاملة. وبفضل دعم المركز الثقافي الفرنسي، من بين مؤسسات أخرى، تمكنّا حتى الآن من إصدار أربعة عشر عدداً. ونطمح في جمع شعراء موريشيوس، سواء المكرّسين أو الصاعدين، بنظرائهم الأجانب حول موضوع محدد في كل عدد.

ولأننا نريد للمجلة أن تمثِّل فضاء للتعددية، نقوم بنشر هذه النصوص بلغات الجزيرة الرئيسية الثلاث (الفرنسية والإنكليزية والكْرِيْيُوليّة)، فضلاً عن غيرها من اللغات الأجنبية المترجَمة إلى اللغتين الإنكليزية أو الفرنسية. وتجربة تحرير هذه المجلة أثرتني بأكثر من طريقة. فقد سمح لنا هذا العمل بالتواصل مع العديد من الأشخاص المثيرين للاهتمام، محلياً، وكذلك دولياً.

ولا بد لنا من تسليط الضوء على أهمية الإنترنت في هذا السياق بأكمله، لأنه دون أداة الاتصال الحيوية هذه، ما كان مشروعنا ليصمد ويفرد جناحيه. لم يبدل هذا المسعى الأدبي كتاباتي بيد أنه أتاح لي بالتأكيد أن أصبح أشدّ وعياً واطّلاعاً على أنواع مختلفة من الكتابة الفعَّالة اليوم في عالم الشعر.

ما هو مقياس النجاح بالنسبة إليك كشاعر؟

تيمول: حتى لو بدت الكلمة في غير موضعها وفي منتهى الغرابة، فالنجاح هو ذلك التشارك أو الكيمياء بين القوة في داخلي أيّا كانت والآخر، عندما يصبح جوهر روحي، للحظات عابرة للغاية، هو ما يستحوذ على الآخر ويحوِّله. وقد لخص فرانز كافكا الفكرة تماماً حين كتب أن “الكتاب يجب أن يكون فأساً للبحر المتجمد في باطننا”. وفي رأيي المتواضع لا يوجد تعريف أعظم “للنجاح” من القدرة على تحطيم ذلك البحر الجليدي في روح القارئ.

ترجم الحوار والقصائد: هالة صلاح الدين

تابع:
مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.