مراد وهبة والتعميم المخل بالحقيقة

الثلاثاء 2015/12/01
لوحة: صفوان داحول

ينطلق مراد وهبة من توصيف للراهن يتبدّى من خلاله الوضع العربي مأزوما في شتّى أوجهه، ففكره ماضوي ومنظومته التعليمية تقليدية ولغته عاجزة عن مواكبة التطور ونخبته متعالية على العامة ومثقفوه متواطئون مع الحركات الأصولية، ولا مخرج في نظره إلا بامتلاك ما يسميه العقل الناقد والتحلي برؤية مستقبلية “تخلّص الذهنية العربية من الالتزام بالماضي والحياة فيه”. وأحكامه يطلقها في نوع من الحسم الذي لا يقبل مراجعة والتعميم الذي لا يستثني أحدا. وهذا في حدّ ذاته مأخذ كبير سنفصّل القول فيه أدناه.

العربية ومعضلة التلقين

من المسلَّمات حديثُه عن أسلوب التلقين والحفظ كسبب أساس من أسباب فشل المؤسسات التربوية العربية في تخريج أجيال واعية لا تواجه الواقع باسترجاع ما خزّنته الذاكرة، بقدر ما تستهدي بفكر نيّر ناقد لفهم تجليات ذلك الواقع ومستجداته، فقد وقع التنويه به مرارا وتكرارا في تقارير سائر الخبراء العرب، سواء على مستوى الوزارات المعنية أو في إطار الأليكسو، دون أن تعدل تلك المؤسسات عن أسلوبها المعتاد. والسبب، فيما يرى الأستاذ وهبة، “هيمنة جماعة الإخوان المسلمين على المؤسسات التعليمية والثقافية”، فيقول “فرغم وجودهم خارج السلطات، إلا أن تغلغل فكرهم يجعلهم متحكمين فكريًا في كل ما يتم إنتاجه”.

قد يصح ذلك على مصر، ربما، ولكن كيف نفسر حدوث الفشل نفسه في أقطار عربية أخرى لم تعرف الإخوان، أو كانت الإصلاحات التربوية فيها سابقة لتغول الحركات الإسلامية.

ففي تونس مثلا، بدأ الاستئناس بالمناهج الغربية، الفرنسية بخاصة، منذ الاستقلال، ووقع التركيز على تنمية الفكر النقدي لدى المتعلمين في شتّى مراحل الدراسة، ولا يمكن بحال، رغم ذلك، أن نزعم أن المنظومة التربوية التونسية نجحت في تخريج أجيال ذات تعليم جيد، فإن استطاعت أن توجِد نخبة متميزة في شتى حقول المعرفة، فإن السواد الأعظم نصف أميّ، لا يتقن العربية ولا الفرنسية، وأعداد المنقطعين عن الدراسة سنويا بالآلاف.

هذا الفشل لا علاقة للإخوان به، فسببه خيارات سياسية متهافتة، خصوصا في عهد بن علي، حين صارت القرابة تنوب عن الجدارة، وصارت الشهائد، كذمم بعض النفوس، تباع وتشترى. عهد من سماته حصول الأمّييْن بن علي وزوجته على شهادة الدكتوراه من جامعتي بادوفا الإيطالية وتولوز الفرنسية بتدبير ممّن لهم في ذلك منفعة. هذه الأجيال الضائعة، هي التي تستغلها الحركات الأصولية لنسف كل قائم. يقول فيكتور شيا، الخبير الكوري الجنوبي في جودة التعليم “لا توجد دولة تتحمل إنتاج جيل كامل دون تعليم جيد. هذا الجيل سيدمر الدولة داخليا لتتفتّت وتفقد وجودها. الشرق الأوسط أهمل التعليم والآن يدفع الثمن”.

من المسلّمات أيضا حديثه عن تدهور اللغة العربية، والمقصود هنا تدهور استعمالها لدى الناطقين بها، من هلهلة في الأسلوب، وأخطاء في نحوها وصرفها ورسمها وحتى في معاني مفرداتها، وهذا يلمسه كل متابع لصحفنا ومجلاتنا وحتى كتبنا الفكرية والأدبية، وزادته المواقع الاجتماعية فظاعة. والعناية باللغة أمر ضروري، لأن اللغة حمالة للفكر، فإن اختلّت اختل الفكر وانعدم التواصل، ولكن لا نحسب أن تطويرها يكون “بتقليل كميّة قواعد اللغة إلى ما لا يزيد عن سبع قواعد”، كما قال، دون أن ندري ما هي تلك القواعد، ولا سبب حصرها في الرقم سبعة.

يخلط بين العلمانية بما هي فصل الدين عن الدولة مع ما يتبع ذلك من مبادئ حرية الضمير والمعتقد واحترام كل الخيارات الروحية والدينية لأفراد المجتمع، وبين الفكر العلماني الذي يعالج الظواهر المجتمعية

وأعجب منه دعوته إلى “إتقان اختيار الألفاظ المعبّرة عن المعنى المقصود بوضوح، فضلًا عن ضرورة الربط بين اللفظ والمعنى، وعدم استخدام لفظ دون وعي بمعناه، ففصل الألفاظ عن المعاني يؤدي إلى مزيد من التدهور”. ولا ندري هل أن هذا الكلام موجّه إلى المتعلمين أم إلى الكتّاب والصحافيين أم إلى المجامع اللغوية التي يرجع إليها وحدها أمر وضع الأسس الكفيلة بتطوير لغتنا على نطاق عربي شامل، وإلا انصرف كل قطر لتطوير اللغة على هواه، وربما تخيّر لهجته لتكون لغة رسمية شأن لهجة الغواراني في براغواي.

ولا نوافق ما ورد في السؤال من أن “جمود اللغة العربية بات يشكل عائقا أمام تطور العرب”، فالعكس هو الصحيح، إذ أن جمود العرب هو الذي شكم تطورها وعقل انطلاقها. هذه اللغة التي استطاعت أن تستوعب روحانية الفرس وعقلانية الإغريق لا يمكن أن تعجز عن مواكبة العصر ومستحدثاته، لما لها من طاقة لا تضاهى على النحت والاشتقاق وتطويع المصطلحات. فالذنب فينا وليس فيها.

أزمة الفكر العربي

من المسائل الأخرى التي باتت في عداد المسلمات حديثه عن أزمة الفكر العربي، وليس أحبّ إلى العرب من الحديث عن الأزمات منذ عقود، حتى لا يكاد يمرّ يوم دون أن تطالعنا عناوين من نوع “أزمة الفكر السياسي”، “أزمة الفكر القومي”، “أزمة الفكر الديني”، “أزمة العالم العربي والإسلامي”، “أزمة الفكر والسياسة”، “أزمة العقل العربي”.. في غمط واضح لجهود مفكرين أمثال محمد أركون وطيب تيزيني وحسين مروة وعبد الله العروي وهشام جعيط وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا وجلال صادق العظم وآخرين.

والأستاذ وهبة يعزو تلك الأزمة إلى سببين: أوّلهما انشداد العقل العربي إلى الماضي، وثانيهما هيمنة “المحرمات الثقافية” على الذهنية العربية، وفي رأيه أن العقل العربي يرفض التعرّض لمثل تلك المحرمات، أي الدين والجنس والسياسة، وتناولها بعقل ناقد لأنه ملتزم بالماضي، وأن “الماضوية” التي يعاني منها تجعله عاجزًا عن التفكير في المستقبل. ومن ثَمَّة يدعو إلى تكوين رؤية مستقبلية، تقوم على استشراف “الوضع القادم” لمواجهة “الوضع القائم”، حيث يقول “عندما يكون ‘الوضع القائم’ في أزمة يجب استدعاء ‘الوضع القادم’ للتفكير في حلول لهذه الأزمة. وبغياب الوضع القادم أو الرؤية المستقبلية يظل الوضع القائم في حالة أزمة، وإن تمرّد على الأزمة لن يستطيع تجاوز الوضع القائم”.

وفي رأينا أنه يخلط بين فكرين: فكر أصولي يعيش في الماضي لاستعادة زمن نقاء وصفاء مزعوم، لا يعترف بسنن التطور والتقدم ولا بتاريخية النص الديني، وفكر عقلاني حداثي لا يلتزم بحرفية النص الديني، بل يطرح له تأويلا جديدا وقراءة مستنيرة، مستفيدا من المناهج النقدية الحديثة للخروج من العهد الفقهي، على غرار اجتهادات نصر حامد أبو زيد ومحمد الطالبي ومحمد عابد الجابري وعبدالمجيد الشرفي وهشام جعيّط ويوسف الصدّيق. فالتراث، وإن لم يكن خيرا كله، ليس شرا كله أيضا، ففيه نجد أعلاما أثروا الفكر الإنساني كابن سينا وابن خلدون والمعري (نعم، المعري، ملهم دانتي ألغييري) مثلما نجد ابن تيمية وابن قيم الجوزية ومحمد بن عبدالوهاب ونعمان الألوسي.


لوحة: صفوان داحول

والفرق أن من عوّاد الماضي من يستمسك به بعلاته لغايات صارت الآن معلومة، ومنهم من يدرسه ويغربله مما ترسّب فيه من شوائب، ويستلهم منه ما يساعد على فهم الحاضر وتجاوز مشكلاته. ولا نحسب أن إحياء الأستاذ وهبة لفكر ابن رشد، أكبر رموز تراثنا العقلاني، يخرج عن هذا الإطار.

إن الرؤية المستقبلية التي يدعو إليها المفكر المصري محمودة في المطلق، ولكن لا يمكن بحال أن تستغني عن التخطيط المسبق انطلاقا من الحاضر، عن طريق علاج الوضع القائم حتى يكون قاعدة لارتياد المستقبل وليس العكس، فمن لا يملك ثروة مادية ولا ثروة بشرية متعلمة بإتقان لا يمكن أن يحلم بغزو الفضاء، لمجرّد أنه يتوق إلى تحقيقه.

ثم إن المستقبل زمن لم يحدث، وقد لا يحدث، وليس من الحكمة أن نتوسّل بما لا نثق في حدوثه لحلّ أزمات الوضع القائم، الآن وهنا. فكم من خطط تنموية في هذا القطر أو ذاك باءت بالفشل الذريع، لأسباب ذاتية (سوء تقدير، سياسة مرتجلة) أو موضوعية (حروب، أزمات إقليمية، كوارث طبيعية)، ولا سبيل لنا حينئذ إلا الحفر في الماضي دونما تقديس، لتخيّر ما ينفع.

تقول الفيلسوفة الفرنسية سيمون وايل (1909-1934) “من العبث أن ندير الظهر للماضي فلا نفكر إلا في المستقبل. فالمستقبل لا يقدّم لنا شيئا ولا يعطينا شيئا؛ نحن الذين نعطيه كل شيء من أجل بنائه، نعطيه حتى حياتنا. ولكن لكي نعطي، ينبغي أن نمتلك، ونحن لا نملك من الحياة والحلم والنسغ سوى كنوز ورثناها من الماضي وهضمناها وتمثّلناها وأعدنا خلقها”.

أما المحرمات الثقافية (التابوهات)، وإن كانت إجماعا يقينيا متوارثا تَشكّل على مر الأحقاب في هيئة سلطة قامعة، فإنها تختلف باختلاف الأنظمة السياسية في البلاد العربية، وتبدّل أمزجة حكامها، فهي التي تمنع وتجيز بحسب الظروف والأهواء كما حدث في تونس في عهدي بورقيبة وبن علي، مثلما تختلف ردود الناس إزاءها بحسب طبيعة المجتمع وثقافته وانفتاحه، ولا يمكن بالتالي أن نحكم بأن العقل العربي، برمته، يفكر في إطارها. فإذا كان بعض المفكرين قد تجنب الوقوع في “المحظور” لتلافي الرقابة وجرائرها، فإن بعضهم الآخر لم يتوان عن إبداء رأيه بجرأة حتى في أوج سطوة الإسلاميين، على غرار محمد الطالبي الذي صرّح على الهواء مباشرة أن “الشريعة ركام من التعاليق على حواشي الإسلام، أُنتجت خلال القرن الثاني الهجري، وما هي سوى قانون أسِّس لفائدة الطغاة الراغبين قبل كل شيء في التحكم والقتل بشكل قانوني”. وما زال يخوض معركته ضد الأصوليين السلفيين وفهمهم القاصر للإسلام رغم إباحتهم دمه، ويعتبر أن القرآن هو مرجعه الوحيد.

المثقفون والعلمانية

إضافة إلى الرؤية المستقبلية، يدعو الأستاذ وهبة إلى تبني العلمانية كضامن وحيد للخروج من المشهد المأزوم، ولكن يبدو من قوله “وهو ما يحتاج جرأة ومغامرة من المثقفين لتبنّي الفكر العلماني المنبوذ والمحارب” أنه يخلط بين العلمانية بما هي فصل الدين عن الدولة مع ما يتبع ذلك من مبادئ حرية الضمير والمعتقد واحترام كل الخيارات الروحية والدينية لأفراد المجتمع، وبين الفكر العلماني الذي يعالج الظواهر المجتمعية، حتى الدينية منها، بفكر عقلاني يؤمن بالنسبية وينبذ الدغمائية، وهو ما يُفهم من توجيهه دعوته إلى المثقفين أساسا، والحال أن تطبيق العلمانية موكول للدولة عبر مؤسساتها النيابية، كما وقع في فرنسا عند التصويت على قانون 1905، مثلما يُفهم من تعريفه العلمانية بكونها “التفكير في النّسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق، وبالتالي البحث في الظاهرة تحت مظلّة العقل الناقد وليس تحت مظلة الفتوى الدينية”. ومن قوله أيضا “الفكر العلماني يدعو إلى إعمال العقل الناقد في شتّى جوانب الحياة، والنبش في المعتقدات اليقينية للوقوف على مدى صحتها، ولا يدّعي امتلاك أيّ حقائق مطلقة”.

وليس أحبّ إلى العرب من الحديث عن الأزمات منذ عقود، حتى لا يكاد يمرّ يوم دون أن تطالعنا عناوين من نوع “أزمة الفكر السياسي”، “أزمة الفكر القومي”، “أزمة الفكر الديني”، “أزمة العالم العربي والإسلامي”، “أزمة الفكر والسياسة”، “أزمة العقل العربي”

ولا نفهم كيف يطالب المثقفين بالوقوف وراء فكر العلمانية، وهم في رأيه رأس البلاء، في نوع من التعميم المخلّ بالحقيقة، جوهر المبحث الفلسفي إلى جانب الحكمة، حيث يقول “المثقفون يقفون ضد الفكر التنويري وضد العلمانية، بسبب تلاحمهم مع الجماعات الدينية، وعلى رأسها جماعة الإخوان، وذلك على مستوى العالم، وليس العرب فقط”.

بل إنه يجيز لنفسه استعمال هذا المصطلح الحديث لوصف فقهاء القرن الثاني عشر الذين ألّبوا الحاكم على صاحب “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتّصال” في قوله “المثقفون هم الذين كفّروا الفيلسوف ابن رشد، وفرضوا على الحاكم أن يكفّره”، ولم يلتزم الدقة في ذكر اسم الحاكم حيث اكتفى بـ”المنصور”، وهو في الذاكرة الجمعية الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، فيما المقصود هنا هو الخليفة ابن أبي يعقوب الموحّدي الذي أمر بحرق كتب ابن رشد ونفيه إلى قرية أليسانة ذات الأغلبية اليهودية. مثلما جاوز الدقة في جعله ابن تيمية (1263-1328) مؤسسا للوهابية ولو أن محمد بن عبدالوهاب (1703-1798) استقى كل فكره الداعي إلى النقل بدل العقل ممن يسمّيه أتباعه “شيخ الإسلام”. ولم تسلم من ذلك حتى الثقافة العربية، فهي بطمّ طميمها، بشعرها ونثرها، متأثرة في رأيه بفكر الجماعات الأصولية وجماعات الإسلام السياسي التي تستند إلى فكر ابن تيمية.

المثقف والسياسة

وتحامله على المثقف لا يقف عند هذا الحدّ، فهو يحمّله مسؤولية تغييب الوعي النقدي، ويتهمه بالسكوت عن نقد السلطة “ما سمح للآخرين، ومنهم الحكام، أن يفرضوا على المجتمع معتقدات مطلقة”، مثلما يحمّله وزر فشل ثورات الربيع العربي في تحقيق أهدافها، لأنه “كان مشغولا بتحالفاته مع جماعات الإسلام السياسي، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين” ولذلك “استولت الجماعات الإسلامية على الحكم في عدد من البلدان العربية”.

وهذا أيضا تعميم يحيد به عن الصواب، فالمثقفون ليسوا نسخا متماثلة مرصوصة في قوالب، حتى نصدر في حقّهم مثل هذه الأحكام، فإذا كان صحيحا أنهم في الغالب لم يتنبؤوا بالثورة ولم يمهّدوا لها، فإن منهم من رفع صوته بعد سقوط الطغاة، على الأقل، لفضح المشروع الأصولي والتحذير منه، ومنهم أيضا انتهازيون لا تعدمهم مرحلة، نشدوا في التقرب من الإخوان امتيازات ممكنة شأن أبي يعرب المرزوقي في تونس.

وفي رأينا أن استيلاء الحركات الأصولية على الحكم في تونس ومصر يعود إلى سببين أساسيين، أولهما أن الثورة لم يكن لها من يقودها للبلوغ بها إلى غايتها، ما سمح بظهور عشرات الأحزاب الطامعة في السلطة، فركب “زعماؤها” الموجة واستأثروا بالمنابر يبثون خطابا علمانيا لنقد الإسلام السياسي، واستغله الإخوان لتخويف العامة من “كفرة” و”ملاحدة” يعادون الإسلام.

وثانيهما أن تلك الأحزاب لا تملك ما لحركة النهضة وحركة الإخوان المسلمين من قواعد جماهيرية وهيكلية تنظيمية محكمة وأرصدة مالية ضخمة، فضلا عن الرصيد الأخلاقي الذي كانتا تتحليان به لدى الناس كحزبين لم تلوّثهما السلطة بأدرانها. وحسبنا أن نذكّر بأنّ ما من انتخابات حرة ونزيهة جرت في الوطن العربي منذ انتخابات الجزائر عام 1991 إلا وكان الفوز فيها للإسلاميين، للأسباب نفسها.

قد يصح القول إن من المثقفين من شكّل نخبة متعالية تجترّ منجز الغرب أو تعيد إنتاجه في لغة مخصوصة بعيدة عن الواقع، لتلبّي أفق انتظار البورجوازيات الصغرى، فتماهوا مع سلوكها وثقافتها وخطابها، واتخذوا وجه المدافعين عن تلك الثقافة وناقليها، ولكن لا نشاطر الأستاذ وهبة في ما ذهب إليه بخصوص دورهم في مساعدة الحكام على فرض معتقدات مطلقة. لأن الحكام هم الذين مهّدوا لانتشار الفكر الخرافي في هذه المرحلة أو تلك من مراحل حكمهم لضرب اليسار وكسر كل مطمح في تغيير الأوضاع السياسية والاقتصادية، كما حدث في عهدي بورقيبة والسادات.

ومن عجب أن ينفي الأستاذ وهبة هيمنة السلطات السياسية على المؤسسات الثقافية في البلاد العربية، فتحت شعار “لا سياسة من دون ثقافة، ولا ثقافة من دون سياسة” الذي يوحي بوجود نوع من التداخل، يقع إخضاع الثقافة للسياسة لتمرير مجموعة من الخطابات السياسية، وتوظيف المثقفين الموالين أو العضويين المخبرين المنضوين في الحزب الحاكم (على رأي المفكر السوري جاد الكريم الجباعي) لتحقيق غايات مرسومة.

الفلسفة ورجل الشارع

بعد فشل مشروع “الإبداع والتعليم” الذي أراد الأستاذ وهبة من خلاله تجريب منهجية لا تقيّد الطالب بمقررات رسمية، بل تفسح له المجال لتلقّي المعرفة من مصادر متنوعة يشكّل من خلالها فهمه ويشحذ ذهنه ويتمرّس بالفكر النقدي أو ما يسمّيه المفكر المصري العقل الناقد، انتقل إلى مشروع آخر هو تبسيط الفلسفة لرجل الشارع، ومحاورته على طريقة سقراط، لإيمانه بأن الفلسفة قادرة على تغيير أذهان العوام، وبأن انعزالها عن الشارع جريمة، كما يقول. وهي تجربة غايتها تبسيط الفلسفة ولا ندري لِمَ قابلها المفكرون بالاستنكار وصادروا حقه في خوضها. ففي فرنسا مثلا، خرجت الفلسفة إلى الفضاء العام بعد أن كانت حكرا على الأوساط الجامعية، بفضل جيل جديد من الفلاسفة كالبلجيكي بيير أنساي والسويسري ألكسندر جوليان وخاصة الفرنسي ميشيل أونفري الذي يرى ضرورة أن تكون الفلسفة كحالها في اليونان القديمة “لباعة السمك والعتّالين والعبيد. فقبل أن تكون حقلا معرفيا يُدرس، ينبغي أن تساعد المرء على أن يحيا حياة فلسفية”. هذه الحياة الفلسفية هي التي عناها الأستاذ وهبة بقوله “رجل الشارع له فلسفته الخاصة التي يحيا بها، من الممكن أن تكون متخلّفة، ولكن يمكن مع الحوار أن تتطور، كل إنسان له عقل ناقد يمكن تطويره. “فالفلسفة لا تؤثر في البشر في الحال، ولا بدّ لها، كي تجد منهم أذنا صاغية، من تغيير شكلها ولغتها”، وهذا ما حرص عليه أونفري منذ إنشائه الجامعة الشعبية بمدينة كان. وهي، وإن كانت عادة ما تتوجّه لعدد قليل ممن تمرّسوا بأنساقها، تستطيع أن تؤثر في المعتقدات تأثيرها في الأدب والتعليم والأحاديث اليومية. لأنها تدخل الأذهان دون استئذان، وغالبا ما تدعم آراء الفئات المجتمعية التي انطلقت منها، ثم تقوم بدورها بترويج تلك الآراء. وتكمن الصعوبة في مثل هذه التجربة على المستوى العربي في مدى قدرة الفيلسوف على تبسيط المفاهيم والمصطلحات لجعلها مفهومة لدى رجل الشارع البسيط، ذي التعليم المحدود، وربما الأميّ أصلا، خصوصا وأن الغاية هنا هي تعويد الناس على الفكر النقدي وتزويدهم بما يدفع عنهم الدجل الأصولي.

الآلة بديلا عن الخيال

يعرّف مراد وهبة الإبداع بكونه “قدرة العقل على تكوين علاقات جديدة من أجل تغيير الواقع″، و”إن أيّ إنتاج من المفترض أن يكون هدفه تغيير الواقع″، ففي رأيه أن ما لا يغير الواقع، كالفنون مثلا، لا جدوى من ورائه. بل إنه يذهب أبعد من ذلك ويقول إن “تحليل الفنون عن طريق الثورة العلمية الإلكترونية يغني عن الخيال ويثبت عدم جدواه”، ويضرب مثلا على ذلك بإنسان آلي استطاع أن يكتب الشعر، فيما حوّلت آلات أخرى العاطفة إلى معادلة رياضية، ليستخلص أن الخيال والعاطفة غير موجودين. وهذا أعجب ما قرأنا من مفكّر يفترض أنه قرأ نيتشه الذي يعتبر الفلسفة سرديات متخيلة (fictions) شأنها شأن الروايات والأشعار، فكل عمل فني أو أدبي أو فكري هو من وحي الخيال، وإن توسّل بالعلم، فهو يغيّر الواقع على طريقته.

ويتهم المثقف بالسكوت عن نقد السلطة “ما سمح للآخرين، ومنهم الحكام، أن يفرضوا على المجتمع معتقدات مطلقة”، مثلما يحمّله وزر فشل ثورات الربيع العربي في تحقيق أهدافها

فهذا مثلا الإيطالي جوطّو دي بوندوني (1267-1337) الشهير بـ”جوطّو” الذي أحدثت لوحاته ثورة في فن التصوير لم يسبق لها مثيل منذ العصر القديم، ليس في الأسلوب فحسب، وإنما أيضا في النظرة الجديدة إلى العالم الحسّي الذي يروم الفنان إمساكه في تنوعه وواقعيّته الثلاثية الأبعاد. أثنى عليه معاصروه من دانتي ودا فينشي إلى بتراركا وبوكاتشو، وجنح مايكل أنجلو إلى تقليده، وكانت أعماله منطلقا لتجديد الفن الأوروبي، وعاملا فاعلا في بزوغ عصر النهضة في مطلع القرن الموالي.

في كتابه “جدوى ما لا جدوى له”، يستعرض إيطالي آخر هو نوتشو أوردين حصيلة قرن كامل من المقولات والأفكار والنظريات، ليستخلص كثرة المعارف الإنسانية عديمة الفائدة، بالمفهوم المادي، القائم على الربح كالشعر والأدب والفن والموسيقى والفلسفة وعدة علوم لا يستهان بحجمها، ولكن تلك الأنشطة -غير المجدية في الظاهر- هي التي تثير الشغف والحماس في عالم يسوده الإرهاق والكآبة. وفي رأيه أن مجتمعا يعجز عن تصوّر أنشطة خالية من أيّ غاية نفعية هو مجتمع يُحتضَر. فتغيير الواقع الذي يلحّ عليه الأستاذ وهبة لا قيمة له إذا انعدم فيه الخيال والعاطفة والجمال، لأنها قادرة على تغيير وجه الحياة في ذلك الواقع على نحو أجمل.

الحكم العسكري وترسيخ العلمانية

يبدو مراد وهبة مفكرا ثائرا على الأصولية، متشبعا بالفكر العلماني، معليا قيم العقل، ولكنه يفاجئنا برأي صادم حول دور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية، بل إنه يدعو المثقفين إلى تأييدها، بدعوى أن البلاد أمام ثنائية الجيش أو الإخوان، وكأنه يستجير من الرمضاء بالنار.

وهذا غريب من مفكر في مثل تجربته، عاش تحت حكم مؤسسة عسكرية فشلت في إنشاء دولة ديمقراطية منذ 1952، وأباحت لنفسها الاستئثار بما يفوق ربع الاقتصاد المصري. صحيح أن الجيش المصري ليس عدوّا، ولكنه لم يتورّع عن قمع المتظاهرين بوحشية، حتى بعد الثورة، ومكانه الطبيعي في الثكنات، كما هي الحال في الأنظمة الديمقراطية، تمثلا لشعار كان يرفع في فرنسا عند إعلان الفصل بين الكنيسة والدولة “المعلّم في المدرسة، والراهب في الكنيسة، ورئيس البلدية في قصر البلدية”. ولا شك أن الأستاذ وهبة يعرف من موقع المحلل الخبير بشؤون بلاده أن الجيش الذي “أنقذ البلاد من براثن جماعة الإخوان المسلمين” لم يثر عليهم إلا عندما تجاوزوا الخطوط الحمر المتّفق عليها وجعلوا مصالحه مهددة. ثم إن وجود عسكري على رأس السلطة سيرجئ قيام نظام ديمقراطي إلى أجل غير مسمّى. فكيف يمكن أن يساهم الحكم العسكري في ترسيخ الفكر العلماني وهو يضيق بأهم عنصر فيه أي حرية التعبير، وآخر الأخبار تفيد أن الرئيس السيسي يطلب تفويضا من الشعب لكبح الإعلام مثلما طلبه سابقا لإزاحة الإخوان. وفي رأينا أن التلويح بالخطر الأصولي ليس حجة للقبول بالحكم العسكري والدعوة إلى تأييده، وإلا فما الفرق عندئذ بين المفكر الواعي الذي يخضع أحكامه للعقل الناقد ورجل الشارع الذي يتحسّر على رحيل الطغاة بعد استشراء الفوضى ويتمنى عودتهم؟

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.