هذه المملكة البشرية

الثلاثاء 2015/12/01

أذهله ما طغى على هذا الاستعراض من طبيعة مسرفة تتسم بالقَصَف، بدا له إعلاناً يجاهر به مجتمعٌ فخور بنفسه، فخور بعدم اعترافه بأيّ حدود، بتأهبه لتجاوز كل الحدود تحت اسم مَثَل الحرية الأعلى. إنها عربدة ولا شك، ولكن لا شيء جنسياً يداخلها لو كنتَ على استعداد للتغاضي عن بعض الأجساد شبه العارية. إنها عربدة لإثبات أن أيّ شيء ممكن، وأن هذا العالم هو عالمنا، وبوسعنا تشكيله وإجباره على الانبطاح أمام رغباتنا.

وذلك الإنسان هو مَلِك الأرض إلى الأبد، وهذه المملكة البشرية، هذه السيادة، هذا التفوق على النفس، راسخ الجذور الآن في الأرض، وليس في أيّ آخرة. وهذا المكان، سان فرانسيسكو، محل العربدة الأبدية. وعليه في هذه المساحات المترامية إلى ما لا نهاية، في هذا الموكب من الأجساد المسكونة بإرادة واحدة فقط لا غير، في أحرام الجامعات العظيمة، في حماسة الابتكار التكنولوجي، في الهواء ذاته الذي تستنشقه، نخمِّن وجود قدرة غريزية على الإسراف والتغلب على الذات.

تتقدم الأجساد إلى الأمام، تزيّنها الألوان والأقنعة، محمَّلة بهويات أعادوا انتحالها وابتداعها. تتقدم الأجساد على أنغام موسيقى أشبه برُقْية تكاد تكون صلاة، ثم تتحوّل الشوارع إلى موسيقى، إلى إيقاع لا يختلف عن إيقاع أجساد تملأ الفراغ، تطفح به حتى الحافة، لتُحوّله إلى سعار لا ينضب.

ما ساوره أبداً هذا الشعور في أيّ مكان آخر. أهو من نسج خياله؟ هل تذوب هذه الأسطورة لتستحيل واقعاً؟ بلا أدنى شك. لا للإيحاء بأنه ينسب إلى هذا البلد أيّ صفات مثالية، إذ يدرك تمام الإدراك ما يشوبه من خدوش عديدة.

ليس بمقدوره اختزال المشهد في مجرد مدينة تخفي في طيّاتها عدة جوانب متناقضة، فهو قبل كل شيء ليس سائحاً يسعى إلى الغريب والعجيب، ولكنّه لا يزال مقتنعاً بأن هناك شيئاً غريباً هنا، لا يسعه القبض عليه بالكامل بالكلمات، شيئاً ينتمي إلى قوة عظمى.

وهو المسْلم لا يتمالك أن يقارنه بالعالم الإسلامي. وهنا لا تصبح المسألة مرة أخرى مجرد شرح للكليشيهات. فالواقع معقد ودقيق الزوايا. ولكن من الواضح، في الوقت نفسه، أن الحضارة الإسلامية تمرّغت في الانحطاط لعدة قرون، والمشهد الوحيد الذي قد تعْرضه هو مشهد هزيمتها. يحدِّث نفسه بأنه يتوخّى الحذر من خطابات إسلاموفوبيين تُفرغ الشرق من جوهره وتحوِّله إلى صورة كاريكاتورية.

ومع ذلك، ثمة دعوة مشروعة وصحية للنقد من الداخل. كيف وصلنا إلى هذا الحال؟ ذبول الفكر العقلي؟ فساد النخب؟ أهوال الحكم الاستعماري؟ لها جذورها الكثيرة غير أنه يظل، في نهاية تأملاته، وضعاً عصياً على الإنكار، وهو أن العالم الإسلامي راكع حقاً على ركبتيه أمام الغرب. وطبيعة هذا التفوق ليست اقتصادية أو سياسية أو عسكرية طفيفة، بل ترتكز على رؤية متطرفة من المجتمع نفسه، وهي بديل عن المثل الأعلى الإسلامي، رؤية برهنت على نجاحها إلى حد كبير.

يهيمن الغرب على العالم الإسلامي، ويسخر منه. ولا تكفي هذه المعلومة لتحقيق النجاح، هناك أيضاً الشهوة لدفع هذا الحلم إلى الأمام وجعله يغوي الجميع دون استثناء. والعالم الإسلامي، الواقع في أشراك الأساليب المهجورة، يلوح عاجزاً عن تقديم حلم آخر إلينا، ولا يبدر منه إلا الخضوع لمنطق من الرفض التام أو التقليد الخنوع. محكوم عليه بالبقاء في المنفى على تخوم هذا الحلم المهيمن، غير قادر على تجديد نفسه، غير قادر على الوجود.

هناك بالتأكيد بعض التفسيرات لهذه العربدة المتواصلة، ولكنها تفسيرات يتعذر عليها الفوز بالقلوب عدا قلوب أولئك المقتنعين بها بالفعل اقتناعاً متعصباً. يعتقد أنه لمح هذا الحلم، حلم الغرب، في سان فرانسيسكو. على الأقل بعض وجوهه. حلم شعب خبِر ثَمَل السلطة.

تأبى هذه الومضات أن تتركه. هذا المنظر الغاص بالأجساد، هذه الصبغة النيتشوية التي تُميّز هذا العرض وتجمِّل الرغبة في الحياة بكل ما في الكلمة من معني، بكل حماسة في اللحظة الراهنة، عربدة أرواح تنفخ في أبواق حيويّتها، عربدة فرص ممكنة لا نهاية لها في المستقبل.

لقد ألبس الغربُ العالم وجهاً إنسانياً، وجعَل ذلك الوجه وسيلته وغايته. وألبس الإسلامُ البشر وجهاً أخروياً دون إهمال الدنيا، ولكنه اعتبرها في النهاية ذات أهمية زائلة فحسب. والآن يواجه هذان الوجهان كلاهما الآخر. وقد يتضح أن أحدهما لا يختلف كثيراً عن الآخر. يبقى أن نرى أيهما سوف يجتاح التاريخ في مجراه. وجه الدنيوية العربيد أم وجه الآخرة.

ترجمة: هالة صلاح الدين

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.