عام أول من المحاولة

الثلاثاء 2015/12/01

تكشف جردة الأحداث التي رسمت معالم العام الأول من عمر مجلة "الجديد" صعوبة المهمة. تكشف قائمة الموضوعات المنشورة في "الجديد" مدى الآمال التي نعقدها على الثقافة كجزء من الحلول لأزمات عالمنا اليوم.

المنطقة العربية تعوم على بحيرة من مشاكل كبرى تبدو عصية على القراءة، دع عنك ايجاد الحلول. كلما حاولنا الوصول إلى استنتاجات مهما كانت أولية لطبيعة المشكلات، كلما دخلت عوامل اضافية تجعل من الصعب ايجاد قراءة صحيحة للوضع.

المشكلة صميمية وعميقة، اعمق مما كان اغلبنا يعتقد. وهذا يتطلب جهدا فكريا وثقافيا حقيقيا وليس فقط مساهمات تبدو من باب الاستطراق أكثر منها نظرة لسبر طلاسم المشكلة.

تساعدنا القراءة الثقافية للمشكلة بعض الشيء حتى وان كانت لا تقدم حلولا شاملة. القراءات التي حفلت بها المجلة على مدى العام تصب في هذا الاطار.

لعل من المفيد الاشارة إلى طبيعة المصاعب.

لنبدأ من عصر الاستعمار أولا. كانت الثقافة تعيش عصرا ذهبيا لأن الخطوط الفاصلة بين القضايا المختلفة كانت واضحة المعالم. كان الاستعمار حالة سهلة التشخيص ومسألة لا تحتمل الأخذ والرد كثيرا. الفعل الثقافي كان واعيا بمسألة التحرر الوطني والاستقلال وكان من السهل عليه ان يقف ويقول كلمته. كان الاستعمار نفسه يقف عاجزا عن التدخل في هذا الأمر لأنه إن تدخل فأنه يكون قد انتهك منظومته الثقافية والفكرية نفسها، وهي التي تدعو إلى الحرية والمسؤولية. المثقف كان يقول كلمته ويجد تجاوبا فعالا لا يكون محصورا في النخبة، بل يجد اصداء عند الطبقة الصاعدة التي افرزها الحراك الاقتصادي والاجتماعي في فترة ما بين الحربين العالميتين. كان المثقف العربي يجد من يصفق له حتى في بلد الاستعمار.

نهل عصر الاستقلال الأولي من تركة عهد الاستعمار. مثقفو صدر الاستقلال كانوا هم أنفسهم مثقفو نهايات عصر الاستعمار. حملوا معهم الكثير من انفتاح الغرب المستعمر واستطاعوا بشكل لافت الإتيان بتوليفة حيوية للانجاز الثقافي. الشاهد، تلك الأدبيات من رواية وشعر وفكر وتلك الانجازات السينمائية والغنائية والمسرحية. انظر إلى تركة المشهد التشكيلي لذلك العصر لتعرف كم كان الأوائل مبدعين.

في مرحلة الاستقلال، وهي المرحلة الثقافية الثانية، تعثر المشروع مع تقدم السياسي على الثقافي. سيطرت النخب السياسية، وخصوصا التي وصلت السياسة من بوابات وزارات الدفاع وثكنات الجيش، على كل مفاصل الحياة. دخلنا عصر "الثقافة" العضوية التي يجب ان تقوم بمهمة واضحة المعالم في دعم النظام السياسي. صار يمكن أن تشاهد لوحة لرسام تذكّر بفاشية لوحة "مواطن يستمع إلى خطاب الزعيم من الراديو". انه النفاق بلا حدود لسلطة وجدت نفسها تغير كل شيء بلا حدود. جاء التلفزيون ليصبح الأداة الجديدة والمبتكرة لتحويل الفكر والثقافة إلى منهج للسيطرة وحسم الجدل وتوجيه العقول.

الأوجه القومية واليسارية والعسكرية للحكم في العالم العربي كانت مكشوفة حتى لدى الذين يسبّحون بحمدها. كان اصحاب المديح يدركون في قرارة انفسهم أن ما يقولونه فيه الكثير من الافتعال. بتقادم السلطة العربية وتراخي قبضتها، صار الخطاب المفتعل "للنخبة" المثقفة اعجز من أن يقنع أي صغير. اكتشفت السلطة بدورها أن ما عاد من احد يصدق ما تقوله، مهما حاولت من افتعال وتجميل. المواطن العادي، الذي اصبح اكثر وعيا واطلاعا، يعرف تماما أن سنوات التطبيل لم تترك أي أثر في نفسه، وسرعان ما تزعزع ما تبقى من مهابة للسلطة مع تراجع امكانات الدولة المالية والأمنية. كنا قد دخلنا ما صار يعرف بـ"الربيع العربي".

الشكل الثالث لواقع الثقافة في عالمنا العربي مختلف تماما. أعيد تأسيس الوعي على معطيات دينية. هذا التأسيس أعمق كثيرا من تأثير المستعمر أو المثقف المنفتح أو المثقف العضوي الذي تحركه السلطة. الانطلاقة الدينية الاجتماعية لإعادة التأسيس، تحولت بمرور الوقت إلى وجهة الإسلام السياسي بأشكال أخوانية أو سلفية أو خمينية. ولأنها مرتبطة بالدين، فأنها غارت عميقا في نفوس الناس وصار من الصعب على كثيرين ممن تثقفوا في المساجد والأركان والحسينيات ولاحقا من على شاشات الفضائيات الدعوية، أن يتمكنوا من تمييز الفرق بين السياسي والديني. هذه ثقافة تتقصد اذابة الحدود لتصبح نمطا حياتيا وليست مجرد توجهات فكرية.

هذا ما يحيلنا الى اللحظة الراهنة وصعوبة الشأن الثقافي. كنت كمثقف، تستطيع تشخيص مشكلة الاستعمار او الايدلوجية أو الطغيان بسهولة وأن تحث الناس على النظر إليها كشيء منفصل. الآن قد يصبح ابسط خوض في المسلمات الثقافية هو موقف يفهم أو يفسر على أنه موقف من الدين.

لا يزال من المبكر لمطبوعة مثل "الجديد" أن تقول انها في مسار النجاح في الخوض في الشأن الثقافي الراهن. هذا ما يدعونا إلى الاستمرار في المحاولة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.