دعوة إلى عقد اجتماعي للوفاق مع الإسلام

الثلاثاء 2015/12/01

تعيش فرنسا منذ أحداث يناير 2015 سجالا حاميا تباينت فيه المواقف من الإسلام، بين داعٍ إلى تحييده عن الفضاء العام، عبر تطبيق العلمانية بحذافيرها، وبين منادٍ بضرورة تنظيم تعايش علني بين الأديان وتشريكها في حوار مدني. وقد بلغ تنافر الفريقين حدّ تبادل التهم بشكل هستيري، كوصم الأول خصومه بالانبطاح أمام دين غازٍ، وتقديم البلاد لعدوّ داخلي. أو نعت الثاني معارضيه بالعنصرية وكره الأجانب ومعاداة الإسلام والمسلمين. ولم تصدر دراسات عميقة تهتم بهذه الظاهرة التي صارت تهدّد بالانقسام لتقترح لها الحلول. حتى كتاب إمانويل تود “من هو شارلي؟ في سوسيولوجيا الأزمة الدينية” اكتفى بتعقب أصول المتظاهرين يوم 11 يناير 2015 في سائر فرنسا، ليبين أن أغلبيتهم أبعد ما تكون عن قيم الجمهورية والديمقراطية، وأن غايتها هي وضع غالبية المسلمين في خانة واحدة. لذلك كان كتاب بيير مانان حدثا بارزا، لأن واضعه فيلسوف له سمعة طيبة في المحافل العلمية، فهو من أتباع ريمون آرون وليو ستروس، ومؤسس مجلة “حاشية”، ومدير البحوث بمعهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية.

ينطلق مانان من تقديم صورة عن الوضع الراهن في فرنسا من جهة موقع الدين في المجتمع، ليؤكد الخلاف القائم بين وجهة النظر الغربية التي ترى في المجتمع منظم الحقوق الفردية وضامنها، وبين وجهة النظر الإسلامية التي تعتقد أن ذلك موكول إلى مجمل الأعراف المبنية على أسس دينية، توفر وحدها القاعدة الملموسة للحياة القويمة. وفي رأيه أن التوفيق بين الموقفين لا يكون من خلال العلمانية، وأن الأمل المعقود على تحول ممكن للإسلام عبرها هو محض وهم، وأن من الخطأ القول إن ما توصلت إليه مع الكاثوليكية يمكن تحقيقه مع الديانة الإسلامية. ذلك أن العلمانية، كما يقول، هي في الأصل فصل الدين عن الدولة، وترك المجتمع لتعبيراته الدينية التلقائية، فالجمهورية الثالثة التي أقرت قانون 1905 لم تمنع فرنسا من أن تظل كاثوليكية. ومن ثَمّة فالعلمانية المقترحة على المسلمين لا هدف لها سوى تغييب الدين عن الفضاء العام، وهذا ليس من العلمانية في شيء، بل هو أمر مستجد مشكوك في صوابه وجدواه حسب رأيه. أي أن العلمانية قامت بتحييد البعد الديني للدولة، ولكنها لم تحيّد دينيا المجتمع الفرنسي. وبما أن المسلمين ظلوا حتى وقت قريب مستبعدين عن تلك المغامرة، لكونهم لم يشاركوا في تاريخ فرنسا إلا كعَملة تابعين، فقد فات أوان مطالبتهم بالشيء نفسه.

وبناء على ذلك يقترح مانان عقدا اجتماعيا مع المواطنين المسلمين يسمح لهم بدخول المدينة، بالمفهوم الأفلاطوني. هذا العقد في رأيه يقوم على توافق يقبل بمقتضاه أهل البلاد الإسلامَ كحقيقة مجتمعية مشتركة داخل الأمّة الفرنسية، ويلخصه في قوله “نتخلى عن تغيير أعرافكم، من جهة الحجاب والأكل الحلال والعلاقات بين الجنسين، باستثناء البرقع وتعدد الزوجات اللذين من شأنهما أن يهددا أسس العلائق المدنية السليمة، ونفتح فضاءنا العام لمساجدكم باعتباركم مواطنينا”. في المقابل “ينبغي عليكم أن تقبلوا بنقد دينكم والخوض في تفاصيله بحريّة تامة، وأن تعلنوا استقلالكم سياسيا واقتصاديا وثقافيا عن البلدان الإسلامية، وتقطعوا نهائيا مع الحلم الإمبريالي للأمة الذي يسكن الوعي الإسلامي بعامة”. وفي رأيه أن خير وسيلة للخروج من الخلاف القائم هي مساهمة المسلمين في الحياة السياسية، ولمَ لا تأسيس حزب إسلامي كخطوة أولى لسردية وطنية مشتركة.

هذه الدعوة إلى التصالح مع الإسلام وقبول المسلمين “كما هم” والعيش إلى جوارهم وليس معهم بالضرورة، بقلم مفكر كاثوليكي ليبرالي، أثارت ردود أفعال كثيرة، بعضهم اعتبرها إعلان استسلام، وبعضهم الآخر انتقد قلة معرفة صاحبها بالإسلام لحشره المسلمين كافة في “الأمّة”، والحال أن جانبا كبيرا منهم يمارس عقيدته دون أن يكون بينه وبين ربه وساطة. ففيليب راينو، أستاذ الفلسفة السياسية، وإن اعتبر الدعوة جريئة وجديرة بالاهتمام، يتساءل ما إذا كان ترك المسلمين ينظّمون حياتهم كما يهوون، مع فرض عدد محدود من القواعد كمنع تعدد الزوجات والنقاب الشامل، أمرا واقعيا. ويذكر بأن ذلك كان ممكنا في وضع كولونيالي، كما حدث في المغرب عندما فرض الماريشال ليوتي داخل الإمبراطورية الفرنسية مجتمعا مسلما ينعم بنوع من الاستقلال الذاتي في ممارسة أعرافه وتقاليده ويحترم السيادة الفرنسية في الوقت ذاته، ولكنه غير قابل للتحقق في إطار دولة ديمقراطية، سمحت المساواةُ في الحقوق داخلَها بتماثل في الأعراف، خصوصا في ما يتعلق بوضع المرأة.

يتكلمون باسم الجالية المسلمة لا يمثّلون في الواقع غير أتباعهم في المساجد التي يؤمّونها أو في الجمعيات التي يرأسونها، وهم في عمومهم يتلقّون الدعم من جهات أجنبية ينفذون أجنداتها. وعدد أنصارهم في كلتا الحالتين ضئيل

أما المفكر اليساري الثوري ريجيس دوبريه الذي كانت المسألة الدينية من أولى اهتماماته منذ أطروحته “حياة الصورة وموتها، قصة النظرة في الغرب”، فقد رأى أن هذا التوافق ممكن، لأن الجمهورية تقبل وتحترم كل الديانات، وليس من مهمّتها غير تطبيق القانون والحرص على عدم تخطي هذه الديانة أو تلك الفضاءَ العام أو ترهيب رعاياها، ولكنه -في حالة الإسلام- حدده بشروط تتجاوز منع تعدد الزوجات والنقاب لتشمل حرية تغيير المرء دينه، أو حقه في أن يعدل عن الدين أصلا، وحق المرأة في الزواج من غير المسلم إن شاءت، وإلغاء مؤذن يصدّع الأسماع بمكبرات الصوت خمس مرات في اليوم.. وفي رأيه أن قبول الأصوليين الكاثوليكيين بقواعد العلمانية بعد عام 1905 يشكّل سابقة مشجعة. وهو ما كان عبّر عنه من قبل بقوله “ما ينقصنا هو منهجية متوازنة توفّق بين المتناقضات، فنحن لا نريد عقلانية جافة تقصي الدين كليا بدعوى أنه ظلامي، ولا أصولية متعصبة تكفّر الآخرين وتستبيح دماءهم”. بعكس طارق أوبرو، إمام مسجد بوردو، الذي لا يرى الحل في التخلي عن قانون 1905، لأن ذلك سيفتح الباب لفوضى دينية عارمة تعمق حيرة المسلمين إزاء شتى المذاهب والطوائف السائدة، بل الحل في توخي المسلمين حضورا إيجابيا يحافظ على التوازن العلماني للمجتمع، ويضع المصلحة العامة فوق كل اعتبار. وفي رأيه أن مانان صادق في مسعاه، ولكن لو قدّر لفكرته أن تطبّق فسوف تكون لها نتائج عكسية. والخير، في ما يرى أوبرو، أن يساهم المثقفون والساسة ورجال الإعلام في توعية الناس بسردية وطنية مشتركة يجد فيها كل فرد نفسه. سردية تعترف بأن جذور فرنسا ليست يهودية مسيحية فقط، بل عربية إسلامية أيضا. فالوعي الجمعي في نظره هو الذي ينبغي أن يتغيّر وليس القانون.

هذه المواقف عبّرت عن اختلافها مع مانان، ولكنها لم تذهب إلى الاستهانة به حد تشبيهه بأحد أبطال “خضوع″ رواية ميشيل هويلبيك الأخيرة، على غرار ما كتب الفيلسوف باسكال بروكنر، فقد وصف أطروحة مانان بكونها درسا كبيرا في الانهزامية، ولاحظ أن الاستنتاج الوحيد الذي نخرج به من قراءة كتابه هي: فات الأوان، لقد انتهينا. تخلصنا من الرب منذ قرنين وها نحن مغزوّون، مهزومون بثقافة مهيمنة سوف تعيد صياغة وجه قارتنا. “لم يعد لأوروبا مستقبل آخر غير الدخول في الإسلام اضطراريا” ما دامت “الأمة” تغطي الأرض كلها، وتتخذ لها موقعا على أنقاضنا. وفي رأيه أن مانان، بدعوته إلى قبول المسلمين كما هم، وجعل الشريعة قاعدة قانونية للإسلام الفرنسي، إنما يقترح فصلا apartheid قانونيا وثقافيا كحل للقلق الفرنسي، أي التعايش دون أن يكون هناك شيء مشترك يمكن اقتسامه غير الحيز الجغرافي.


الفيلسوف الفرنسي بيير ماناز

وبروكنر، إذ يوافق الكاتب على أن العلمانية وحدها لا تحل مشاكل جالية كبيرة، خصوصا أن ثمة خلطا بين علمانية الدولة والعلمانية الاجتماعية التي يفسرها الناس خطأ بانتصار عدم الإيمان، مثلما يوافقه على حتمية إبرام عقد جديد مع الإسلام -كما سبق أن أوصى بذلك عدد من السياسيين الأعمق وعيا، والأئمة الأكثر انفتاحا وتسامحا- فإنه يعتقد أن الحلول التي يقترحها مانان تبدو وهمية في أكثر من وجه، فكأنه يدعو العديد من المسلمين الفرنسيين الذين ذاقوا طعم الحرية إلى التخلي عنها، مثلما يطالب النساء الفرنسيات بارتداء الحجاب وملازمة البيت، ويدعو الجنسين إلى اتباع الأعراف والتقاليد الإسلامية والانصياع إلى تعاليم الجماعة. أي أنه يشرح للمسلمين الفرنسيين ألا خلاص لهم من جذورهم، وأن حلمهم بالخروج من الفضاء الديني وَهْمٌ. ويستخلص بروكنر أن مانان يخطئ في فهم الإسلام، وما كتابه إلا ذريعة لإدانة ثقافة غربية خائبة، يحدوها اللهو ومتع الحياة. وفي رأيه أن مانان يستغل أحداث يناير الماضي ليصفّي حساباته مع أوروبا التي تركت المسيحية وغاصت في النزعة الاستهلاكية وصارت تعيش وضع تفتت روحي، ويقوم، تحت ستار الدعوة إلى التهدئة، بإدانة المرحلة إدانة مطلقة على غرار ما فعل الأيرلندي إدموند بورك في القرن الثامن عشر والفرنسي جوزيف دو ميستر في القرن التاسع عشر ضد الحداثة وتهويماتها. وما غاية دعوته إلى التوافق بين ديانات التوحيد الثلاث سوى إعادة العلمانيين والحداثيين الضالين إلى الصراط المستقيم، على أمل أن تستعيد الكنيسة موقعها، ويستعيد الناس التفافهم حولها.

هذا الجدل، الذي لا يزال في بدايته، يطرح قضية هامة: هل ينبغي أن يتأقلم المسلمون في فرنسا مع قوانين الجمهورية، أم يجب تعديل تلك القوانين للتكيف مع شعائر المسلمين وأعرافهم؟ وهي قضية لم تكن مطروحة حتى مطلع التسعينات، حينما ظهر الحجاب في الفضاء العام ثم في المدارس والمؤسسات، قبل أن تتحول إلى قضية رأي عام بعد تعاقب محاولات فرض النقاب والفصل بين الذكور والإناث في المعاهد ورفض عرض النساء على أطباء ذكور، عملا بتعاليم صادرة عن أقليات أصولية سلفية، استطاعت أن تفرض حضورها وقراءتها المخصوصة للإسلام في ضواحي المدن الفرنسية الكبرى. فالمسلمون الأوائل لم تكن مطالبهم تتعدى توفير دور عبادة يمارسون فيها شعائرهم بحرية في ظل احترام قوانين البلاد، ومجازر للحم الحلال.

وفي اعتقادنا أن بيير مانان يخطئ في أمرين، أولهما تعميم الحديث عن جالية مسلمة وكأنها كلٌّ متماثل في الأصول والمشارب والأعراف والمطالب. فالذين يتكلمون باسم الجالية المسلمة لا يمثّلون في الواقع غير أتباعهم في المساجد التي يؤمّونها أو في الجمعيات التي يرأسونها، وهم في عمومهم يتلقّون الدعم من جهات أجنبية ينفذون أجنداتها. وعدد أنصارهم في كلتا الحالتين ضئيل، قياسا بالعدد الجملي للجاليات المسلمة. أما السواد الأعظم، فهو خليط هجين لا يؤلف بين أفراده غير الانتماء الحضاري، يتوزّع بين مؤمن متسامح منفتح على الآخر ولاهث خلف اللقمة لا يتذكر الدين إلا في الأعياد، ومؤمن بالوراثة ليس له من الإسلام غير الاسم والملمح، وبين متماه مع حياة الغرب في التفكير والسلوك والعادات، وحتى عَلماني وملحد ولاغنوصي وماسوني.. والسبب قلة درايته بالإسلام بعامة، والإسلام الفرنسي بخاصة. وثانيهما جهله بالتيارات السلفية المتشددة التي لا تقنع بالعيش جنب الفرنسيين ولا بينهم، بل تريد فرض نمط مجتمعي معين يقوم على النقاء والطهر كما تبين دراسات باحثين متخصصين في الإسلام الفرنسي مثل جيل كيبل وأوليفيه روا. وفي اعتقادنا أنه إذا كان لا بدّ من عقد اجتماعي فليكن في إطار احترام قيم الجمهورية التي يجب أن يتمثلها المسلمون كسائر المواطنين، لأن التنازل سوف يغري حتما تلك التيارات بالمزيد ويؤجج كراهية الفرنسيين ضد المسلمين كافة ويضع وجودهم نفسه موضع تهديد.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.