الدروب الضيقة للكتابة

الجمعة 2016/01/01
لوحة: بطرس المعري

لا يمكن مقارنة حيوية اللغة العربية اليوم بما كانت عليه قبل ثلاثة عقود فقط، تمكنت خلالها من الخروج من كهوف كثيرة لتخمد جميع الأصوات التي كانت تقول إنها لغة ميتة تسكن المعاجم التي يزيد عمرها على ألف عام.

لكن الكتابة بها لا تزال تعاني من الدروب الضيقة، التي يفرضها الإرث الثقيل للمقدس والابتعاد الطويل عن الحياة وعمّا يقوله الناس في حياتهم اليومية.

حتى سبعينات القرن الماضي، كان هناك متحمسون، وخاصة في لبنان ومصر لتحويل اللهجات الى لغات رسمية. وكنا نتفهّم دوافعهم!

على مدى قرون طويلة كان الناس يعيشون بلهجات تتأقلم وتتطور مع إيقاع حياتهم. كانوا يحبون ويكرهون ويعبّرون عن جميع مشاعرهم بلهجات غنية حياتيا، لكنها فقيرة ثقافيا.

في المقابل كان جميع ما يكتب يجري في جزيرة أخرى وبلغة قاموسية، تكمن مراجعها في ما كانت تقوله العرب قبل ألف عام أو أكثر.

وكان يمكن أن تصبح تلك اللهجات لغات، لو تمّ اعتمادها رسميا، لتكتب بها منجزات الثقافة والتاريخ والمخاطبات الرسمية.

حينها كان حنابلة اللغة العربية ومجمعات اللغة العربية يحتقرون ما يقوله الناس، وما يحتضن حياتهم ومشاعرهم. وكانوا يؤججون نار الأزمة بثباتهم وإصرارهم على عدم التزحزح عن مواقهم المطمئنة في المرجعيات القديمة.

كانت الحياة تجري بلهجات أو “لغات” تنبض بالحياة، لكن جميع ما يكتب كان يحدث في كوكب لغوي آخر.

كل ذلك الجدل انتهى اليوم بعد أن مرّت اللغة العربية بعدة ثورات منذ عام 1991.

نعم استيقظت اللغة العربية في العقدين الماضيين وأصبحت لغة حية، لكن معظم ما يكتب بها لا يزال متخّشبا وبعيدا عن إيقاع الكلام الرشيق والمباشر، الذي تقترب منه جميع اللغات الحية.

ذلك ينطبق على ما أكتبه الآن، رغم أنّي أحاول جاهدا أن أقترب من إيقاع الكلام. أحاول استخدام الجمل القصيرة وإنهاء الجملة متى أشاء والاستجابة لما يفرضه طول النفس. كما أحاول أن أبدأ الجملة بأيّ طريقة أستطيع استخدامها عندما أتحدث!

قبل 30 عاما، كان بعض الأشخاص المتحمسين أو المتطرفين، مثل بعض معلمي اللغة العربية ورجال الدين، يصرون على استخدام اللغة الفصحى في حياتهم اليومية، أو في بعضها.

كانوا يبدون وكأنهم خارجون من كهوف التاريخ. كان كلامهم بالفصحى يغيّر استقامة أجسادهم وحركة رقابهم وأصواتهم. وكانت الحياة تعود إليهم بمجرد تحولهم إلى اللهجة العامية.

كل ذلك تغير الآن بعد ثورتين رئيسيتين. أصبح كثيرون يتحدثون اليوم بلغة فصحى، لكنها لغة شخصية ومرنة وغير متشددة، تروّض الفصحى لتكون قريبة من الكلام الشخصي والمباشر.

لو تحدثت باللغة الفصحى قبل ثلاثين عاما لاعتبرني الجميع مجنونا، لكنني اليوم أستطيع أن أتحدث بها مع الناس البسطاء في جميع البلدان العربية، دون أن يثير ذلك استغرابهم، بل ودون أن ينتبهوا إلى أنني أتحدث اللغة الفصحى.

تلك هي المسافة الفلكية الشاسعة التي قطعتها اللغة العربية خلال ثلاثة عقود، من لغة بعيدة عن الحياة، إن لم نقل ميتة، إلى لغة حية تماما.

لكن ذلك لا ينطبق على ما يكتب وما أكتبه الآن، والذي لا يستطيع الإفلات من وطأة ألف عام من العزلة الثقيلة.

أما الثورتان الرئيسيتان اللتان أنقذتا اللغة العربية من “موتها الطويل” فهما أولا؛ ضيوف القنوات التلفزيونية الفضائية، وليس الأخبار المكتوبة للمذيعين بموجب دروب الكتابة، التي لا تزال ضيقة وتدور في بعض كهوف التاريخ.

الضيوف تعلموا تدريجيا أن يتحدثوا بلغة فصحى، لكنها مرنة ومفتوحة على كافة الاحتمالات والكلمات دون الالتزام بسياقات تعبير متحجرة. وقد اعتاد الناس على هذه اللغة فأصبحت مألوفة للجميع.

تلك الثورة حررت الكلام، وقربت اللغة الفصحى مما يقوله الناس.

الثورة الثانية هي الكتابة في مواقع التواصل الاجتماعي، التي بدأت تحرر ما يكتب من دروب الكتابة الضيقة. فالأشخاص الذين يكتبون في تلك الواقع يريدون التعبير عن أفكارهم بأقصر الطرق دون التزام متشدد بالسياقات القاسية.

أصبحت تلك الكتابة تحرّر اللغة العربية وتبثّ فيها الحياة، لتقترب يوما بعد يوم ممّا يقوله الناس، دون كسر فادح لقواعد اللغة. وسوف تتمكن تدريجيا من تحرير الكتابة من دروبها الضيقة.

لكن ما يكتب للصحف والمجلات “الرصينة” لا يزال خاضعا لقيود السياقات المتحجرة. ولو نظرنا لما يكتبه كاتب محدد في مواقع التواصل الاجتماعي، وما يكتبه لصحيفة مطبوعة فسوف نلاحظ الفارق الشاسع!

هل يعلم الكتّاب أن القارئ والمشاهد يمكن أن ينقطع نَفسه إذا كانت جملة المذيع والكاتب أطول مما تحتمله عملية التنفس؟ وأنها ينبغي أن تراعي قدرة الذاكرة القصيرة على الإمساك بالمضمون؟.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.