عزيز العظمة وأطروحته الأصولية.. اضطراب الواقع وتشوش التفكير
ربما كان هذا الحوار الخصيب قد لامس الجرح النازف وفتّح أفاقاً مغايرة للرؤية المتبصرة لما آل إليه وضعنا هنا والآن. وهذا ما حفزني لقراءة الحوار بحماسة واهتمام ووجدت في نفسي الرغبة للتداخل مع ما طرحه الأستاذ عزيز العظمة من قضايا إشكالية بالغة الحساسية تحفز إلى المزيد من القراءة والنقاش والنقد والتقييم الذي تستحقه. فما الذي قاله الأستاذ عزيز في حواره؟
المشكلة المحورية التي استدعت هذا الحوار هي:
كيف يمكن قراءة وتفسير المشهد العربي الراهن بما يعيشه من أحداث دامية وحروب مستعرة وما الذي يفسر انبعاث هذه الموجة الكاسحة من خطابات الهويات الأصولية التي أخذت تشيع في المجتمعات العربية الإسلامية اليوم على نحو خطير ومثير للحيرة والفزع؟ حروب دينية طائفية عشائرية جهوية سياسية مستعرة في كل مكان (مسيحية، قبطية، إسلامية في مصر. وشيعية، سنيه مسيحية، عربية كردية، في العراق وسوريا. ومسيحية، شيعية، سنية، درزية، في لبنان. وزيديه، حوثية، اثنا عشرية، سنية، سلفية، عشائرية، جهوية في اليمن، ولغوية أثنية عربية، أمازيغية بربرية إسلامية في الجزائر، ومسيحية إسلامية، جهوية في السودان، وعشائرية طائفية مناطقية في ليبيا.. الخ) يحتدم كل هذا في فضاء ثقافي نفسي مشحون بعنف مادي ورمزي، وهستيريا عصابية جماعية عدائية شديدة التحريض والانفجار( دواعش روافض، نواصب خوارج، مجوسية، صفوية، قاعدة، أنصار الشريعة، شيعية، حزب الله، أنصار الله، داعش والنصرة.. إلخ). والسؤال الملح هنا والآن هو ما الذي جعل هذا التنوع الهوياتي في المجتمع العربي الإسلامي يتحول إلى شر مستطير، بينما هو في مجتمعات كثيرة أخرى مصدر قوة ودليل صحة وعافية كما هو الحال في الهند والصين وروسيا وأميركا وأثيوبيا وغيرها من الدول التي تضم طيفا واسعا من الهويات (ديانات، أقليات، أعراق، إثنيات، لغات، طوائف، ملل، نحل، ومذاهب وما لا يعد ولا يحصى من الجماعات الثقافية المتنوعة).
تضمّن الحوار (15) سؤالا مبتدئاً بسؤال عن “الصعود الأصولي” ومنتهياً بسؤال عن “اليمين الديني الأميركي” ولمقتضيات هذه المقاربة سوف نحاول النظر إلى الحوار في بعديه النظري المنهجي والوصفي الواقعي.
أولا: على الصعيد النظري المنهجي:
ربما كانت المشكلة المنهجية في صميم العلوم الاجتماعية والإنسانية تكمن في ذلك الالتباس القائم بين الرائي وما يراه، بين الذات التي ترى وموضوع الرؤية، إذ أنه من الصعب الفصل بين الذات الراصدة والهابتوس الخاص بها. والسؤال هو “كيف يمكننا إنجاز خطاب إبستيمولوجي في موضوع سيوسولوجي دائم الحركة والتحول والتغير والتبدل، شأن جميع الظواهر الاجتماعية؟” إذ أن الباحث في هذا الحال يكون جزءا من الظاهرة المراد بحثها، بما تمارسه من تأثير مباشر أو غير مباشر في حياته وحياة جميع أفراد مجتمعه، “تلك الحياة التي نمنحها تسعة أعشار من وقتنا الذي نعيشه في عالمنا الواقعي المعيشي الفوري، بلا ماض ولا مستقبل، والتي تشكل فعلاً عصب الجسد الاجتماعي برمته أي “الحياة بلا مزايا” التي يسميها عالم الاجتماع جلبر دوران “بالجو الخانق”.
لم يلتفت إلى الفروق التاريخية في نشأة الحركات الإسلامية الجهادية في الأقطار العربية المختلفة، فضلا عن أنه أغفل الحديث عن العوامل الخارجية وعلاقات قوى الهيمنة العالمية في هذا العالم المعولم ودورها في تأجيج المشكلة
في هذا السياق يمكن النظر إلى مقاربة الأستاذ عزيز العظمة إذ جاءت إجاباته على أسئلة المجلة تحت ضغط الأحداث المشتعلة في سوريا والعراق ولم يستطع التحرر من آثارها الحسية وآثارها الانفعالية، وبقدر ما يتعاظم الجزع الذي تحدثه ظاهرة من الظواهر يبدو معها المرء أقل قدرة على ملاحظتها بشكل صحيح والتفكير فيها بشكل موضوعي وإعداد الطرق الملائمة لوصفها ومراقبتها وتفسيرها وفهمها وتوقع مآلاتها بقدر من التجرد والموضوعية بما يؤمّن حدّا أدنى من الصدق والأمانة والنزاهة والإنصاف في معرفة الحقيقة وفهمها.
وهذا ما بدا واضحاً من تفسيره لظاهرة صعود الأصولية الدينية والتنظيمات الإرهابية مثل داعش وأخواتها مستخدما جملة من المصطلحات والأفكار التي تعمي ولا تضيء منها مصطلح (اللامكان) الذي حاول استعماله أداة منهجية في تفسير ظاهرة الحركات الأصولية بقوله “ليست هذه الحركة مجرد جيوب متّصلة فحسب، أُخذت غالباً بالعنوة، بل هي تنشأ من اللامكان وتصدر عنه، هذا رغم أنها حينما تتشكل تقوم ببناء علاقات محلية، وهي علاقات، بحكم طبيعة الأشياء، هشة وغير مستقرة؛ وهذا يعود، ليس أقله، بسبب أنّ هؤلاء الدواعش آتون من اللامكان” غير أنه لم يقل لنا ماذا يعني بهذا (اللامكان) وعلى الأغلب أنه يقصد به من خارج التاريخ كما أظن! أو من خارج الحياة بمعنى أن الفكرة الآتية من خارج الحياة لا تستطيع أن تنتج حتى فكرة موتها وفي هذا تكمن خطورتها. بحسب روجيس دوبريه.
لكنه ما يلبث أن يتناقض مع نفسه حينما يذهب إلى القول “وجود المنظمات ذات البنى التحتية الكبيرة التي تساعدها وتقويها وتشدّ من أزرها مجموعات متنوعة من الجهات الفاعلة، المحلية والعربية والدولية” وفي هذا تأكيد قاطع لتجذر المنظمات الأصولية في البني التقليدية للمجتمعات العربية الإسلامية أليس هذا هو المعنى المقصود بـ(البنى التحتية الكبيرة)؟ وهذا يتناقض تناقضاً صارخاً مع فكرة اللامكان التي يرددها الأستاذ عزيز كثيراً حتى وهو في السياق المقارن من ذلك زعمه الآنف “بالرغم من قدوم هذه الجيوش الخاصة من اللامكان، في العالم العربي كما أيضاً في لاوس أو الكونغو أو كولومبيا، فإنها قد نجحت بدرجات متفاوتة في الاستمرار والدفاع عن الجيوب والمناطق التي استقطعتها” أليست هذه الإحداثيات التي يذكرها أماكن تحمل أسماء محددة ؟ فضلا عن أن المقارنة التي عقدها هنا بين الحركات الإرهابية الإسلامية وغيرها في بلدان أخرى ليست ممكنة البتة بسبب اختلاف السياقات التاريخية التي لم يعرها اهتماما للأسف الشديد.
وهو إذ يخلط بين كلمات (الأصولية والتطرف والجهاد والإرهاب والحركات الإسلامية أو ما أسماه بـ(الإسلامية) القادمة من اللامكان سرعان ما يتناقض مع هذا القول في مكان آخر بقوله “ارتبطت الإسلامية بشكل عام مع أشكال معينة من العمليات التربوية وهذه، كما قلت سابقاً، من منتجات التحديث” ولا أعلم عن أي تحديث يتحدث الأستاذ هنا؟!
ويمكن تتبع الكم الهائل من التناقضات المنهجية والشكلية التي حفلت بها إجابات الأستاذ عزيز من ذلك قوله “تعتزل الجماعات الجهادية البشر وتعزل نفسها، حاوية خليطاً كبيراً من ‘المهاجرين والغرباء’، من القفقاس وبريطانيا وماليزيا جنباً إلى جنب مع المال من الخارج” ص10. كيف يكن أن يستقيم هذا القول المتناقض في ذاته الذي يقول (تعتزل الجماعات الجهادية البشر وتعزل نفسها) وينتهي بأن هذه الجماعات تحوي (خليطاً كبيراً من ‘المهاجرين والغرباء’، من القفقاس وبريطانيا وماليزيا..) أليس هذا (الخليط الكبير) الذي تحويه الجماعات هم من البشر أيضا يا أستاذنا الجليل وهذا ينفي القول بالعزلة والاعتزال منطقياً؟!
وفي سبيل تأصيل وتبرير الرؤية المنهجية والأفق النظري الذي اعتمده السيد عزيز العظمة في تفسير موضوعات الحوار ذهب إلى أنه ينتهج لغة جديدة بقوله “إننا بحاجة إلى لغة جديدة طالما أننا نتعامل الآن مع ظواهر جديدة، ظواهر اعتبرت وكأنها لا تستحق النظر، وكأنها مجرّد انحرافات عن السويّة، مثل فشل الدولة، والفاعلين السياسيين والاجتماعيين خارج نطاق الدولة.. وبالتالي استعصاؤها على المسارات التحليليّة المعتادة والمبتناة على افتراض التنظيم والتمأسس الرسميّين: ظواهر مثل عصابات المخدرات في كولومبيا أو الجيوش الميليشياويّة في وسط أفريقيا” وهذا قول لا يتّسق مع حقائق المعرفة والخبرة المتراكمة في الدراسات الاجتماعية والإنسانية التي دأبت على معالجة تلك المشكلات منذ زمن طويل وأنتجت سلسلة غنية من الكتب والبحوث والدراسات منها على سبيل المثال لا الحصر كتابات روجيس دوبريه “نقد العقل السياسي” وكتابات الفرنسي “الدولة والمجتمع في الغرب والإسلام والدولة المستوردة” وروجيه كايوا “الإنسان والمقدس″، وداريو ششايغان “أوهام الهوية”، بارت آلان “الهوية والتمثيل”، وفريد بارت “بناء الهوية”، وجان فرانسو بايار “أوهام الهوية”، وجون جوزيف “اللغة والهوية”، وهابرمانس “الهوية التواصلية”، وأمارتيا صن “الهوية والعنف”، ورينيه جيرار “العنف المقدس″، وتيد روبرت غير “لماذا يتمرد البشر؟”، وجون إهنبرغ “المجتمع المدني، التاريخ النقدي للفكرة”، ودانيال هيرفيه ليجية وجان بول ويلام “سوسيولوجيا الدين”، هاوارد ج. وياردا “المجتمع المدني “النموذج الأميركي والتنمية في العالم الثالث”، ودنيس كوش “مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية”، وبينديكت أندرسون “الجماعات المتخيلة”، وجون هيلز واخرون “الاستبعاد الاجتماعي: محاولة للفهم”، وكلود دوبار “أزمة الهويات”، وجيل دولوز “الاختلاف والتكرار”، وآدم كوبر “الثقافة: التفسير الأنثروبولوجي”، ومحمد عابد الجابري “مسألة الهوية: العروبة والإسلام والغرب”، وصالح الطائي “نحن والآخر والهوية”، وكتابات أحمد نسيم برقاوي في “الدولة وفي العرب والأيديولوجيا والتاريخ”، وجورج طرابيشي “هرطقات”، وتوفيق مديني “المجتمع المدني والدولة السياسية في الوطن العربي”، وحسن حنفي “الهوية: مفاهيم ثقافية”، وفتحي التريكي “استراتيجيات الهوية”، وأدونيس “الهوية غير المكتملة”، وعلي حمدان “إشكالية الهوية والانتماء”، “سلسلة الأستراليون العرب”، وشريف يونس “سؤال الهوي: الهوية العربية في ظل العولمة”، وحسن الصفار “الطائفية بين الدين والسياسة”، وكتاب “الطائفية والتسامح والعدالة الانتقالية”، وفالح عبد الجبار”في المشكلة الطائفية”، ومايكل أنجلوياكوبوتشي “أعداء الحوار أسباب اللاتسامح ومظاهره”، وسكوت هيبارد في كتاب “السياسة الدينية والدول العلمانية: مصر والهند والولايات المتحدة الأميركية”،وغير ذلك من سلسلة الدراسات والإصدارات المتصلة بقضايا الهوية المجتمع والسياسة.
غير أن ما لفت انتباهي في أطروحات السيد عزيز العظمة هو خلوها من الأدوات المنهجية الجديدة التي طورها علماء السوسيولوجيا والإنسانيات في السنوات القليلة الماضية في الدراسات الثقافية والنقد الثقافي ومنها مفاهيم: التاريخ والحضارة والمدنية والهيمنة وعلاقات القوة والتقليد والحداثة والبطريركية والهوية واستراتيجيات الهيمنة والعدالة والإنصاف والاعتراف والسياق والعولمة وما بعد الكولنيالية والهابتوس .وغير ذلك من مفاهيم مفتاحية أثبتت جدارتها المنهجية في فهم وتفسير كثير من المشكلات الاجتماعية كتلك التي يعالجها هذا الحوار.
إن غياب المنهج النقدي العقلاني في رؤية السيد عزيز ربما يفسر عدم قدرته تفسير الشروط والعوامل التاريخية والثقافية والسياسية التي كمنت وراء هذا النتائج الفاجعة في لحظة المجتمعات العربية الراهنة إذ جهد إلى ردها إلى ما يسمى بـ(ثورات الربيع العربي) 2011 م، وفسر بروز ظاهرة التطرف والإرهاب في سوريا على نحو خاصة بتعثر ثورة التغيير السورية.
كما أنه لم يلتفت إلى الفروق التاريخية في نشأة الحركات الإسلامية الجهادية في الأقطار العربية المختلفة، فضلا عن أنه أغفل الحديث عن العوامل الخارجية وعلاقات قوى الهيمنة العالمية في هذا العالم المعولم ودورها في تأجيج المشكلة وأقصد الولايات المتحدة وإسرائيل وروسيا ودول أوروبا الغربية وغيرها، وأنه لأمر مثير للعجب أن يخلو هذا الحوار الطويل من ذكر أو إشارة لإسرائيل! ولا كيف يمكن تفسير اختفاء إسرائيل من هذا النص المثير في حين أن حضورها الفاحش في الواقع والمشهد يفقأ العين؟! وهكذا هو الحال دائما حينما يكون الواقع شديد الاضطراب والتشوش تكون الأفكار مشوشة!
ثانيا: في تشخيص وتوصيف الواقع
في مستهل تشخيصه لصعود الجماعات الأصولية يقول المفكر العربي السوري عزيز العظمة “إنّ العديد من هذه الجماعات (وربما كلها)، بما في ذلك الجماعات الإسلامية، لها أو كان لها اتصال مع الـ”سي آي إيه”، أو على الأقل بعض الأجهزة السرية الأخرى التي عملت بمثابة داعم أساسي ولوجيستي لها. لكل فاعليات هذه الجماعات أسس اقتصاديّة واضحة وأساسية” ويضيف بعبارة أخرى، لدينا ظواهر نتجت عن وضع حيث «اللارسمي» (الاقتصاد غير الرسمي أو “الأسود”، من خلال شبكات المافيات، أو السياسات اللا-دستورية ذات الوزن الغالب للأجهزة الأمنية). بهذه اللغة شديدة التبسيط يوصف ويشخص الظاهرة شديدة التعقيد وجوهر المشكلة عنده هو ظهور جماعات خارج الأطر (الرسمية القانونية للدولة) وهو بذلك يقر منذ البدء بوجود الدولة بوصفها كياناً ومعياراً رسمياً للسويّ والشاذ ولم افهم عن أيّ دولة يتكلم هنا لا سيما وهو يخلط بين الشرق والغرب ويقارن بين حالات منتقاة من مجتمعات لا رابط ولا شبه بينها أبدا. وهو إذ حاول الجمع بين الحركات الأصولية وغير الأصولية في العالم أكد أن جميعها مبعثها اقتصادي في قوله “دعنا نؤكد أيضاً على أن كل هذه الحركات هي كذلك مشاريع اقتصادية وأرباب عمل على نطاق واسع. كل أولئك، من حركات خلاصية وغيرها ممن نتكلم عنه، يعملون على السيطرة على الموارد الاقتصادية الضخمة: النفط والآثار والصوافي والغنائم والرسوم على البضائع والأفراد (ما يسمّى بالجزية والزكاة) في سوريا، والمخدرات في كولومبيا ولاوس، الذهب والماس والمعادن النادرة الثمينة (التي تعتمد عليها الهواتف المحمولة) في الكونغو ورواندا، هذا إضافة إلى الخوّة والغنيمة والفدية، وبالطبع الدعم المالي الخارجي ذا الدوافع السياسية”.
وهذا يناقض القول السابق الذي أكد فيه أنها من صناعة الدوائر الاستخبارية الغربية، وبدلا من بحث دور وأثر ثورة الفقيه الإيرانية في استنفار وبعث وتفعيل وتأجيج الهويات الطائفية القاتلة في الأقطار العربية من منطق جدلية النقيض الذي يخلق نقيضه اكتفى الأستاذ عزيز العظمة بإشارة وصفية تقريرية للعلاقة بين إيران والأسد إذ قال “لعل الإيرانيين راغبون في استكمال ما بدأه حافظ الأسد عندما التمس موسى الصدر لاعتبار العلويين شيعة اثنا عشرية، وتعميم ذلك على قطاعات أوسع من الشعب السوري باسم تصدير الثورة الإسلامية، وربما رغبوا أن يشهدوا يوماً ما زوجة الرئيس الأسد مرتدية التشادور”.
على كل حال إنني إذ أعرب عن وجهة نظري في بعض ما تضمنه هذا الحوار من قضايا إشكالية إنما انطلق من الرغبة في المزيد من المعرفة والفهم والخلاف في الرأي يجب أن لا يفسد للود قضية فقد أكون أنا على خطأ وقد تكون أنت على صواب، ولكن بالحوار والنقاش سوف تنكشف أوجه الحقيقة المحتملة على الدوام، إذ أن الحقيقة مستقلة دائما في آخر المطاف. وفي طلب الحقيقة لا يهمّني أن أعارض بقدر ما يهمّني أن أكون على صواب ولو نسبيا.
في معضلة الهويات القاتلة
وفي الختام أود الإسهام بوجهة نظري الخاصة في معضلة الهويات القاتلة التي تستعر اليوم في مجتمعاتنا العربية بضراوة مروّعة إذ شهدت بنفسي تجربة انزياحات الهوية واستراتيجياتها الصراعية المدمّرة في اليمن والعراق، فعلى مدى نصف قرن فقط غيّر الناس هوياتهم في اليمن شمالا وجنوبا مرات عدة، وها نحن اليوم نشهد جدلا صاخبا وصراعا متّقدا بشأن الهوية اليمنية، وهوية الجنوب: أهي جغرافية أم سياسية؟ فضلا عن احتدام أوار الهويات الطائفية، الزيدية والشافعية والحوثية والسلفية وغير ذلك من خطابات الهويات التقليدية الفرعية الكثيرة وهي خطابات أخذت تستقطب جموع واسعة ومتزايدة من الناس في الجنوب والشمال وذلك بعد مرور أكثر من نصف قرن على قيام (الجمهورية الثورية) في الشمال وإحراز الاستقلال الوطني من الاستعمار البريطاني في الجنوب. ليس لأن الناس يرغبون في ذلك بل بسبب الممارسات السياسية التي دفعتهم إليه. وقد أذهلني ما شهدته في بغداد من تبدّل سريع وعنيف في صراع الهويات الطائفية قبل الاجتياح الأميركي وبعده، إذ سنحت لي فرصة الدراسة العليا في جامعة بغداد في تلك المدة الفاصلة، التعرف على حقيقة المعضلة الطائفية في العراق التي نشهد اليوم أهوالها، ففي عام 2004 وجدت العراق بصورة مختلفة كليا عن تلك التي عرفتها في الثلاث السنوات السابقة، وكانت حمى الطائفية هي أبرز ملامح العهد الجديد، على الرغم من أنها مازالت حينذاك في طور التفقيس البريمري (نسبة إلى الأميركي بريمر) الذي حكم العراق بعد احتلالها. وكما دفعت حرب صيف 1994 م التي شنتها القوى التقليدية المهيمنة في الشمال اليمني ضد الجنوب المدني، تحت رايات دينية وأيديولوجية وسياسية مختلقة وما تلاها من ممارسات تعسفية تدميرية لكل مؤسسات دولة مواطني الجنوب (السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والقانونية.. الخ) نقول كما دفعت تلك الغزوة التكفيرية الظالمة الجنوبيين إلى التعرف على ذاتهم الجنوبية المهزومة، وجعلتهم يتشبثون ويضحون بحياتهم في سبيلها، على نحو لم يشهد له التاريخ مثيل، فكذلك فعلت غزوة أميركا للعراق في إيقاد نار الهويات الطائفية التي كانت هامدة تحت رماد الطغيان السياسي الجمهوري البعثي، وزادتها اشتعالا بمنحها المزيد من الزيت الأميركي شديد الاشتعال، في سبيل تحقيق إستراتيجية (الشرق الأوسط الجديد) التي ستكون فيها دولة الاحتلال الإسرائيلي أنطاكيا الجديدة، (جنة الله في بلاد العرب الخراب) (الشرق الأوسط الجديد)! ألا تلاحظون اليوم كيف تبدو صورة دولة إسرائيل بالمقارنة مع دول الجوار العربي؟!
اكتفى الأستاذ عزيز العظمة بإشارة وصفية تقريرية للعلاقة بين إيران والأسد إذ قال “لعل الإيرانيين راغبون في استكمال ما بدأه حافظ الأسد عندما التمس موسى الصدر لاعتبار العلويين شيعة اثنا عشرية، وتعميم ذلك على قطاعات أوسع من الشعب السوري باسم تصدير الثورة الإسلامية
فما الذي يدفع الناس إلى تبديل هوياتهم وإنشاب مخالبهم في بعضهم بعضا تحت راياتها وبتحفيز منها كسراطين البحر حتى الموت؟! وهنا يلزمنا النظر إلى العنف حينما يكون مقدسا، إذ أن الصراع حينما يكسب صفة مقدسة، (دينية أو أيديولوجية) يتحول إلى ثأر مزدوج جاهلي وعصبوي ديني، وربما كان الثأر من بين جميع مظاهر العنف هو أخطرها على الإطلاق، ذلك لأن (الثار الحر) يشكل حلقة مفرغة وعملية لامتناهية ولا محدودة، ففي كل مرة ينبثق منها من أيّ نقطة ما من الجماعة مهما تكن صغيرة، يميل إلى الاتساع والانتشار (كالنار في الهشيم) إلى أن يعم مجمل الجسد الاجتماعي، ويهدد وجوده بالخطر. وهذا ما نراه ماثلا اليوم في العراق، حيث يصف (المالكي حربه مع داعش بثارات الحسين) ومن المعروف في مثل هذه الحالات كيف أن أقل عنف يمكن أن يدفع إلى تصاعد كإرثي، ومشهد العنف له شيء من (العدوى) ويكاد يستحيل أحيانا الهروب من هذه العدوى، “فاتجاه العنف يمكن بعد التمحيص يظهر التعصب مدمرا كالتسامح، وعندما يصبح العنف ظاهرا، يوجد أناس ينساقون إليه بحرية وحماس، ويوجد آخرون منهم يعارضون نجاحاته ولكنهم أنفسهم، غالبا الذين يتيحون له النصر” وفي ظل غياب مؤسسة محايدة للعدالة، أقصد الدولة الحديثة القائمة على الفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية) واستقلال المجالات، (السياسي والديني والمدني والاقتصادي والثقافي والعلمي.. الخ) فيستحيل إيجاد وسيلة ناجعة يمكنها السيطرة على ظاهرة الحروب الطائفية المشتعلة، وكل المحاولات الراهنة المعتمدة على المدخل الأمني في ضبط ظاهرة العنف في المجتمعات العربية بالقوة العسكرية العارية المحلية أو الخارجية، من المؤكد أنها تزيده اشتعالاً مثل (اللهب الذي يلتهم كل ما يمكن أن يلقى عليه بقصد إطفائه).
ختاما
لا بديل من إعادة التفكير بالعلمانية بعيدا عن المنظور الأيديولوجي الذي يشوّش معناه التقني الحقيقي، بوصفها تقنية سياسية ناجعة مجربة ومختبرة عبر ثلاثة قرون من التاريخ السياسي للدولة الحديثة ليس في أوروبا وأميركا فحسب بل في كثير من دول أسيا وأفريقيا وفي مجتمعات إسلامية مماثلة لمجتمعاتنا العربية الإسلامية، ومنها ماليزيا وأندونيسيا وتركيا وباكستان وغيرها. إذ أن الفصل بين المجال السياسي والمجال المدني يستلزم بالنتيجة استقلال المجال الديني عن هيمنة السياسي، وبهذا تكون العلمانية ليس كما جرى ويجرى تصويرها بوصفها ضد الدين والتدين بل هي في حقيقة الأمر تحرير المقدس من تبعيته للمدنّس واستعادت روح الدين الإسلامي الحقة الذي جاء رحمة للعالمين ومتتماً مكارم الأخلاق بما حمله من تعاليم وقيم إنسانية سامية كما قال سبحانه وتعالى “يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا” (الحجرات الآية 13) أو “أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن” (سورة النحل الآية 125)، “ولا تجادلوا أهل الكتب إلا بالتي هي أحسن” (العنكبوت الآية 46)، أو ما جاء في السنة الشريفة “لا يرحم الله من لا يرحم الناس″، “لا يحل لمسلم أن يروّع مسلماً” وغير ذلك مما احتواه الدين الإسلامي الحنيف من قيم تحث على الرحمة واللطف والصفح والرفق والإنصاف والعدل والاعتراف والتسامح والتصالح والعفو والإيثار والتعاون والتضامن والشفقة والمودة والعطف والمحبة والصبر والحلم والحكمة والتفكير والتبصر والتواضع والبشر وإفشاء السلام وعدم الغضب ونهى عن الغيبة والنميمة وسوء الظن والكذب والخداع والسب والتنابز بالألقاب والكبر والغرور والتطرف والتعصب والجهل والعنف والغدر والتعذيب والتمثيل.. الخ.
(في ص10 يقول في سياق القرية أو القبيلة فإنّ المرأة التي تخطئ جنسياً في كثير من أرجاء سوريا تُعتبر مصدراً للعيب والعار باعتبار اجتماعي وليس قانونياً)