خمس أقاصيص

الجمعة 2016/01/01
لوحة: إبراهيم الصلحي

أقـنعة

ذَاتَ صَيْفٍ التقيَا صُدْفَةً فِي حَدِيقَةٍ عَامَّةٍ، تَحَوَّلَ اللقَاءُ العَابِرُ إلى صَدَاقةٍ، تَطَوَّرَتِ العِلاَقَةُ بِسُرْعَةٍ مُـذهِلَةٍ، بَاعَ لَهَا كَلِمَاتٍ مَعْسُولَةٍ فاشترت بأبخَسِ الأثمَانِ، تَوَغّـَل في قلبها الخَالِي دُون أنْ يَمْنَعَهُ أحَدٌ، فكَّر في مَاضيهِ المُؤلِمِ، عَادَت لذاكِرَتِهِ سَنَوَاتُ الغُربَةِ والضَّياعِ والحِرْمَان، وتذكَّرت هي والدها المَريض، ولحظاتِ عُمْرِهَا التي مضت سَرِيعاً، رسمت لهُ خُطةً مُحكمةً، وَمَضَتْ فِي تنفيذ مَرَاحِلِهَا حتى النهاية، علَّهُ ينتشلُها من مُستنقع الرَّتابة القاتل، وفي اليوم التالي انتظرتهُ طويلاً في ذات المكان الذي التقيا فيه لأوَّلِ مرَّةٍ، لكنَّهُ لمْ يـأتِ، عادت إلى شُقتها فوجدتها خاليةً تماماً، وزهرةُ الياسمين التي أهدتها لهُ مُلقاةً على الأرض، دخلت غُرفة والدها مُسْرِعَةً، فأدركتهُ يلفظُ أنفـاسَهُ الأَخِيرَةَ، ويُتَمْتِمُ بكلماتٍ لم تفهمها. خَلَعَتْ قِنَاعَهَا الرَّخِيصَ، وَقَرَّرتْ أَنْ تفترس أوَّلَ رَجُـلٍ يُقابلَها في الطَّــريق!

حُلُـمٌ

فِي تلك الليلَةِ حَالِكَةِ الظَّلاَم كَقِطْعَةِ فَحْمٍ مُتَحَجِّرَةٍ، بَـدَا الحُبُّ المُنْهَكُ مُنْتَحِباً عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيق، يَسْتَجْدِي عَطْفاً مِنْ رُوَّادِ الزَّيْفِ المُزَرْكَشِ بخَوَاءِ الذَّاكِرَةِ، يَشْتَكِي العُزْلَةَ القاتِلةَ بَيْنَ جَنَبَاتِ النِّسْيَانِ، يُحَاوِلُ الإبْحَارَ بِلاَ زَادٍ إِلىَ الضِّفَّةِ الأُخْرَى، حَيْثُ لاَ يَخْتَبِئ السَّرَابُ فِي قُلُوبٍ مَيِّتَةٍ، وَلاَ يَتَدَثَّرُ الهَذَيَانُ بِثَوْبِ النَّزَاهَةِ. فَجْأَةً، استيقظ الحُبُّ فَزِعاً، مِنْ هَذَا المَشْهَدِ المُزْعِجِ، وَحَاوَلَ أَنْ يَغْـفُـو قَـلِيلاً، لِيَحْجِـزَ مـَكَـاناً فِي حُلـُمٍ جَـدِيدٍ.

انتظـار

القَمَرُ يُشِعُّ بِنُورِهِ عَلَى الكَـوْنِ، ويَمْنَعُ الغُيُومَ قَاتِمَةَ السَّوَادِ أَنْ تَحْجُبَ ضَوْءَهُ عَنْ عُيُونِ الحَالِمِينَ والبَائِسِينَ والعَاشِقِينَ، الحَدِيقَةُ تَخْلُدُ إِلَى النَّوْمِ، وَاللَّيْلُ يَجْلِسُ عَلَى نَاصِيَةِ الطَّرِيقِ فِي انتظَارِ الرِّحْلَةِ القَادِمَةِ، بَعْدَ لَحَظَاتٍ قليلةٍ سيفرحُ الجَمِيعُ، القَمَرُ والغُيُومُ والحَدِيقَة وحَتَّى الليلُ؛ لأنَّ الحَدِيقَة نامت قَبْلَ أن تُخبر القَمَـرَ بِقِصَّةِ انتظارِ الليلِ لمَـوْكِبِ شَــوْقٍ لَنْ يَأتِيَ أَبَـداً.

نَـدَمٌ

سَأَلتْ نَبْتَةُ الزَّعْتَرِ شَجَرَةَ الكَرَزِ بِعَفَوِيَّةٍ: هَلْ يُرِيدُ هَؤُلاَءِ لَنَا الخَيْرَ أو السَّلاَمَ؟ أَمْ أَنَّ نَوْمَنَا فِي هُدُوءٍ يُزْعِجُهُمْ؟ أجَابَتْ شَجَرَةُ الكَرَزِ بِصَوْتٍ خَافِتٍ: اسْأَلِي تلك الدَّبَّابَةَ القَابِعَةَ هُنَاكَ عِنْدَ سَفْحِ الجَبَلِ.. حَمْلَقَتِ الدَّبَّابَةُ فِي شَجَرَةِ الكَرَزِ بِشَزَرٍ وَاضِحٍ، ثُمَّ أَطْلَقَتْ قَذِيفَتَهَا المُثَرْثِرَةَ لِتُجِيبَ عَنِ السُّؤَالِ بِطَرِيقَتِهَا الخّاصَّةِ، تحَوَّلَ الحَقْلُ إلى أشلاءَ مُمَزَّقَةٍ مِنَ الفُرُوعِ وَالأَغْصَانِ المَحْرُومَةِ مِنَ الحَيَاةِ وَالأَمَلِ وَالتُّرَابِ، عَرَفَتْ نَبْتَةُ الزَّعْتَرِ الإِجَابَةَ لَكِنَّهَا حَتْماً نَدِمَتْ عَلَى ذَاكَ السُّؤَالِ اللعِينِ!

نهاية الحكاية

فِي دَارِ المُسِنِّينَ أَخْرَجَ صُوَرَ أَوْلاَدِهِ، تَأمَّلَهَا بِعِنَايَةٍ وَلَمَسَهَا بِيَدِهِ، انهَمَرَتْ دُمُوعُهُ بِغَزَارَةٍ، اختلَطَتْ مَشَاعِـرُهُ، لَمْ يَعُدْ قَادِراً عَلَى التَّحَكُّمِ فِيهَا، ذِكْرَيَاتٌ وَدُمُوعٌ وَوِحْدَةٌ.. مَحَبَّةٌ وَشَقَاءٌ وَغُــرْبَةٌ، وَقَـفَ بِصُعُـوبَةٍ مُتـَوَجِّهاً صَــوْبَ النافِـذَةِ، نَـظَـرَ إلى الصُّـوَرِ للمَــرَّةِ الأخِيرَةِ، (تحَـسَّسَ قـلبَهُ) ثمَّ مَـزَّقَـهَا ورمَى بِهَا بعيـداً، أكمـلتِ الرِّيـحُ البَـاقِي، سَقَـطَ عُكَّازُهُ الخَشَبِيُّ الهَـــرِمُ، تَوَقَّـفَ قَـلْبُهُ المُتْعـَبُ عَنِ النَّبـْضِ، خَــرَّ عَلَى وَجْـهِـهِ صَـرِيـعاً. انتَهـَتِ الحِكَـايَةُ، أُسْـدِلَ السّـِتـاَرُ، صَفّـَقَ الجُمْهُـورُ بِحَـرَارَةٍ بَـارِدَةٍ، ثُمَّ ذَهـَبَ كُــلُّ فِي طَــرِيـقِـهِ.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.