إرهابية في تل كلخ

الجمعة 2016/01/01
لوحة: عمرو وهيبية

كم كانت دهشته كبيرة حين قال له الضابط المسؤول عنه “ستكون من أوائل الهاربين عندما نذهب لتحرير الجولان”.

فكّر في كلامه كثيراً. لماذا يقول له ذلك؟ لأنّه لا يملك قلباً كالحجر؟ لأنّه لا يستطيع سرقة أحلام الفقراء..؟ لأنّه لم يتحوّل إلى وحش بشريّ بعد ينفّذ ما يقال له من دون تفكير؛ كألة حرب وقودها المزيد من دماء الأبرياء؟

كلّ ذلك لأنّه قال له عندما سأله زميله الضابط، المسؤول عن السرّية الأخرى، عن الغنائم التي جلبها له عناصره في الأيام التي قضوها في تل كلخ، وكان جوابه بأنّهم لم يجلبوا له شيئاً ذا قيمة، على عكس صديقه الذي جلب له جنوده قطعاً ذهبيّة.

كانا يتكلمان مع بعضهما بعضاً وكأنّ ذاك الذهب كان ملكهما في السابق، وهما استرجعاه من دون أيّ إحساس بالذنب.

عندما قال له بعد أن وجّه إليه التهمة بأنّه لم يجلب له أيّ شيء، ردّ عليه بأنّه لا يستطيع سرقة ذكريات أولئك الناس كي لا يلوّث ذاكرته. فكانت تهمة الخيانة العظمى جاهزة له.إمّا أن تمتهن العبودية للقائد أو أن تكون منفياً في عوالمك الخاصة.

***

يهجس لنفسه قائلاً: هي لعبة المظلوم الذي يتحوّل إلى ظالم. خدعة الحرب، لعبة الموت، كرة النار التي تظلّ متدحرجة.

استيقظ مرة أخرى على كابوسه الدائم. ذلك المشهد المؤلم للطفلتين، وهو يراقبهما تركضان، وفجأة تقفز إحداهما إلى الأعلى. تطمئن نفسها بأنها قد تنجو بنفسها بعد تلك القفزة، لكنها كانت قفزتها الأخيرة وصرختها المدوّية التي وصلت إلى أذن أختها، برغم أزيز الرصاص، فعادت لتسحبها، لكن الرصاصة لا تعرف الرحمة، فأردتها شهيدة.

رجع الجنود إلى حمص ليحتفلوا بنصرهم التاريخيّ في تل كلخ، وليمجّدوا من جديد قائدهم الخالد. كانت تلك المرة الأولى والأخيرة التي يخرج فيها معهم إلى غزواتهم. استطاع أن يدفع رشوة ليتمّ تعيينه في مركز إداريّ، لكن في كل يوم، وبعد كل مداهمة، كان يرى المزيد والمزيد من المسروقات في القطعة العسكرية، حتى أنّهم كانوا يجلبون معهم بعض الأغنام أحياناً لتبقى مع الجنود لأيام حتى يتمّ بيعها لاحقاً. بعد انشقاقه بخمسة أشهر تلقّى نبأ أسر جميع عناصر سريته في كمين نصب لهم في حمص.

يحاول جاهداً نسيان تلك الجريمة المؤلمة. أن يقتل الجنود وردتين لم تبلغا من العمر أربعة عشر ربيعاً. كيف له أن ينسى. كانتا تهربان من موتهما المحتوم في أرض زراعية مفتوحة، من غير سواتر، وفوّهات بنادق المئات من الجنود ورشاشات عربات الدوشكا كلها موجّهة إليهما، وكأنهما كانتا تعرفان مصيرهما. فقد حضّرت لهما أمهما ملابس بيضاء، كانتا ترتديانها وهما تهربان إلى جنتهما خائفتين.

كم تمنّى في تلك اللحظات ألّا تكون أمهما تراقبهما، كما يفعل هو، هما ذاهبتان إلى فردوسهما. لكنه لم يكن فردوساً اختيارياً..!لم يختر أن يكون جندياً يوماً من الأيام، لكن القدر قد اختار له الخدمة الإلزامية في ذاك التوقيت، وشاءت الأقدار أن تكون نهاية خدمته مع بداية الثورة. وبعد صدور مرسوم الاحتفاظ بالجنود الذين انتهت مدّة خدمتهم، انتقل من دمشق إلى حمص حيث كانت خدمته في أحد أفواج القوات الخاصة.

بعد الوصول إلى حمص بدأت حملة التجييش للجنود بأنهم يقاتلون الإرهابيين والمتطرفين والخونة وعملاء الخارج. وبعد كل جملة أو جملتين من أيّ خطاب كان يبدأ القطيع بالتصفيق الحاد، والهتاف بحياة القائد الخالد.

كانت البداية ببعض المداهمات على أحياء حمص الداخلية. كان يتجنبها بداعي المرض تارة، أو بدفع بعض من المال كرشوة تارة أخرى، لكن الطامة الكبرى أنّ الجنود كانوا متحمّسين للخروج أكثر من القادة أنفسهم. وهو يعدّ الدقائق والساعات والأيام بانتظار قرار التسريح، قبل أن تتلوّث يده بدماء أحدهم، أو العكس.

لم تكن الحرب يوماً من الأيام حلاً بالنسبة إليه، لأنّ غالبية هذه الحروب لا تكون من اختيار المشاركين فيها، فقط يتمّ استخدامهم كوقود لجشع مؤجّجيها.

***

ناقوس الخطر دقّ أخيراً. صدرت الأوامر بخروج مجموعتهم كاملة إلى تل كلخ القريبة من حمص، حيث كان أغلب الجنود متحمّسين، يقومون بتنظيف أسلحتهم الصدئة كأدمغتهم وقلوبهم السوداء. تمّ تسيير سبعمِئة مقاتل إلى تلك البلدة مع شتّى صنوف الأسلحة الثقيلة.

بعد الوصول إلى مشارف المدينة، وقبل الدخول إليها بدأ القصف العشوائيّ المنظم. دويّ المدافع والهاون من طرف واحد. المدينة خالية من الرجال. جميعهم خرجوا بعد وصول تسريبات مقصودة إليهم بأنّ الجيش قادم خشية أن يلقوا حتفهم.

عقب يومين من القصف ستبدأ الوحدات المقاتلة بالدخول لحصد ما تبقى من الأرواح، التي ظنت بأنها ستنجو من براثن تلك الوحوش البشرية. بدأت عمليات الاقتحام للبيوت التي كانت خالية بمعظمها. مكثت كل مجموعة مؤلفة من عشرة عناصر تقريباً في بيت من البيوت للاختباء والاحتماء. لكن ممّن؟

كانت الأولوية هي البحث عن المجوهرات الثمينة في البيوت قبل الإرهابيين المزعومين، وسرقتها وبيعها. جاءت الأوامر من السلطات العليا بعد مكوثهم يومين في أحد المنازل بتهديم البيت من الداخل قبل الخروج منه. لكنهم لم يستطيعوا الانتظار حتى الخروج من المنزل، وبدأوا بتحطيم وتكسير كلّ شيء.

حاول أن يعيد بعض الأثاث إلى مكانه، لكن العيون كانت متوّجهة صوبه، لأنّه سبق أن تكلم مع الجنود قائلاً لهم بأنّ عليهم أن يراعوا حرمة هذه البيوت، فقد يتعرض بيت أحدهم يوماً من الأيام لنفس الشيء. لكن حتّى أسلاك الكهرباء وأنابيب الماء في الحمامات لم تسلم من أذاهم، وبذلك باتوا يقضون حاجتهم خارجاً بقية المدة التي قضوها في المنزل.

***

لكم أحبّ أن يترك رسالة لصاحب البيت، بأنّه كان أضعف من أن يقف في وجه هؤلاء القتلة.

أعجبته أيقونة كتب عليها “الكفر يدوم لكن الظلم لا يدوم”. احتفظ بها. وعند صدور الأوامر بالخروج من المنزل أرجعها إلى مكانها، لعلها تكون بارقة أمل فوق كل ذاك الدمار.

أخيراً كسر حاجز الصمت الذي كان يفتك به ببطء. سأل الضابط:

- لماذا أعطيت الأوامر بتهديم البيت؟”.

أجابه دون تردّد “ليكون هذا الإرهابي عبرة لمن لم يعتبر”.

- وكيف عرفت بأنّ المنزل لإرهابيّ؟

لأنّه لم يكن لديه أيّ إجابة مقنعة، أنهى الحديث معه بتوجيه الشتائم إليه، وتذكيره بالمقولة العسكرية الشهيرة في الجيش “نفّذ ثم اعترض”.

بعد مضي خمسة أيام كانت هي الأطول والأقسى في حياته، وبينما يدخّن على الشرفة، جاءت عجوز في الستين من عمرها تقريباً، واقتربت من الجنود الذين يقفون أمام بوابة المنزل السفلية، وسألتهم بعد السلام عليهم:

يا أولادي أنا صاحبة هذا البيت أعيش هنا مع حفيدي الصغير، فقط أودّ أن أخبركم بأن هناك الكثير من الطعام والمؤونة في البيت، كلوا ما شئتم، تعاملوا مع البيت كما لو أنّه بيتكم، فقط تركت بعض الزهور على الدرج، وهي بحاجة إلى السقاية.

هنا لم يتمالك نفسه. أجهش بالبكاء. كما أنّ الجنود في الأسفل أدركوا بأنّ هناك خللاً ما، لكن الطمع والجشع ككرة النار تكبر كلما تدحرجت أكثر فأكثر، وبحركة لا إرادية كادت تكلفه حياته، قال لضابطه “سيدي إنّ أصحاب البيت الإرهابييّن في الخارج ينتظرونك”.

بحركة متفاجئة سريعة، انتفض الضابط من مكانه باحثاً عن سلاحه. خرج إلى الشرفة ليرى تلك المرأة العجوز، ونزل إليها لتخبره بما أخبرته للجنود سابقاً. بعد صعوده إلى الطابق العلويّ لم يستطع النظر في عيونه. يبدو أنّه حتى القتلة أيضاً لديهم بعض الرحمة، لكن كرة النار لا ترحم أحداً، فقد ابتلعتهم تماماً.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.