الرواية‭ ‬والقصة‭ ‬القصيرة‭ ‬والحيرة‭ ‬بينهما

الاثنين 2016/02/01
لوحة: فادي يازجي

سأعترف بداية بأن انشغالاتي في الأعوام الماضية بدراسة تاريخ منطقتنا في كافة حِقَبه، والإغراءات اللامتناهية التي قدّمها البحث التاريخي لمخيّلتي المولعة أساساً بفن القص، لا تمكنّني الآن من إطلاق أحكام قاطعة فيما يتعلق بحركة الإبداع العربي المعاصر‭.‬ فقد فاتني الاطلاع على الكثير من الانجازات، وبعضها، كما قرأت في كثيرٍ من الدراسات، على غاية من الأهمية‭.‬

وبعضها الآخر، وهو الأغلب، لا يستحق أن نضيع الوقت في قراءته‭.‬ وبالإجمال فمن المؤكد أن الرواية كجنس أدبي هي المهيمنة الآن على حركة الإبداع الثقافي، ليس في منطقتنا العربية فحسب بل وعلى مستوى العالم‭.‬ وهي لم تتمكّن من تهميش القصة القصيرة فحسب، بل وباتت تشكل تهديداً جَدّياً لفن الشعر، الذي يتّجه لأن يكون إشكالية بأكثر منه ملاذاً‭.‬

ولو قصرنا حديثنا عن القصة القصيرة فحسب فستُفاجئنا الحقيقة الأساسية المرّة بأن هجران ذلك الفن نشأ، وقبل كل شيء من هجران الكتّاب أنفسهم لذلك الفن، بعد أن كنا شهدنا فورةً رائعة له في خمسينات وستينات وسبعينات القرن العشرين‭.‬ وقد تَولّد لدى الكثيرين انطباعٌ مخادع بأن الرواية أكثر مهابةً، وأن ناشرها متوفِّرٌ دوماً، بأسهل مما يتوفّر ناشرٌ لمجموعة قصصية، حتى لو كانت متميّزة‭.‬ وأن الرواية، إن حصدت نجاحاً، فهي أكثر مردوداً من الناحية المادية والمعنوية‭.‬

إن تحصيل الشهرة في كتابة القصة القصيرة يحتاج إلى مراكمات طويلة لإنجازات قد تبدو للوهلة الأولى صغيرة، ومبثوثة في المجلاّت والجرائد، المتباعدة زمنياّ وجغرافياً‭.‬ القصة القصيرة أكثر إنهاكاً للكاتب، والإغراء الموحي بأنها برهة قصيرة يجري انتزاعها من الحياة، وتسليط أضواء قوية عليها، تغري كل مبتدئ بالكتابة بتجربتها بدايةً ليكتشف أنها أعقد بكثير مما يتخيّل‭.‬ أو هي أكثر تطلُّباً على حد تعبير الروائي الأمريكي فولكنر‭.‬

وفي حين أن طول الرواية زمنيّاً، وزحمة التفاصيل وتنوعها، ووفرة الشخصيات واختلاف أمزجتها، كلها مزايا تمكِّن الروائي من إخفاء متاعب الكتابة، والعيوب المصاحبة لها، فإن القصة القصيرة إن جرى النظر إليها باعتبارها تشبه رمية سهم، على حدِّ وصف الروائية التشيلية إيزابيل اللندي لها، فلا مجال فيها عندئذٍ للخطأ‭.‬ فهي إما أن تصيب هدفها أو لا تصيبه وما من خيار ثالث‭.‬ أو بكلماتٍ أوضح: إما أن تكون قصة قصيرة أو لا تكون‭.‬

وهنالك عوامل كثيرة تدفع بالمبدعين إلى هجر القصة القصيرة‭.‬ وكثيراً ما يميل الكتّاب للاستعانة ببعض من السيرة الذاتية كأنساغ لرواياتهم، في حين أن مثل تلك المادة تخيف كاتب القصة القصيرة لأنها تورث الندم وتشكل قوة سالبة ومعيقة لاكتمال فضاء النص القصصي القصير‭.‬ ويلعبُ تشتت الكتاب عن مجتمعاتهم الأصلية دوراً في فقدانهم للبوصلة التي توجّههم إلى حيث توجد المادّة الخام التي يستقون منها تلك البرهات القاسية في الوجود الإنساني، وهي برهات ستعذبهم في أرواحهم قبل أن تعذبهم في الطريقة المضنية التي سيحوّلون فيه ما يرونه إلى أدب إنساني، يرفع من قيمة البشري، في وقتٍ يرينا إياه في أبأس أحواله‭.‬

وفي الحقيقة فإنه وبسببٍ من الحضور المتأخر لأدبنا العربي إلى ركب الإبداع العالمي المعاصر، وهو حضورٌ ابتدأ عملياً مع عصر النهضة أواخر القرن التاسع عشر، فإن المدارس الفنية والأدبية في ثقافتنا العربية المعاصرة تولد وتتطور سريعاً، وقد تصل إلى موتها دون أن يكون لذلك كله ارتباطٌ مسيّس بالتغيرات المجتمعية، وما يرافقها عادةً من صعود فئات اجتماعية، وانزياح أو انسحاق فئات مجتمعية أخرى‭.‬

ويمكن تلمّس التغيرات في الأشكال، وفي سرعة التنقل بينها، عبر مقارنة مجموعة قصصية لكاتب معيّن بمجموعته التالية‭.‬ وأحيانا تجد في المجموعة الواحدة انتقالات مفاجئة من القصة التقليدية إلى الحديثة وما بعد الحديثة وصولاً إلى القصة القصيرة جداً‭.‬ وهكذا فقد جاء التجديد في ثقافتنا العربية وفي كثير من حالاته استجابة لإلحاحات جمالية أفرزتها ثقافة الكاتب وموقفه الفكري بل وحتى السياسي من مجمل ما يدور من حوله، وليس نتاجاً لتفاقم حالة فكرية لحضارةٍ أوصلتها تجربتها المديدة والمضنية إلى استحالة المضيّ إلى الغد عبر البُنى الفكرية والجمالية للماضي‭.‬

ورغم الجهود الحداثوية كلها ما يزال حنيننا كله متجهٌ إلى القصص التي كتبها الرواد الأوائل: بو وموباسان وتشيخوف‭.‬ لا بل إن نقد القصّة القصيرة كفنّ كان وما يزال يدور في فضاءات ما كتبه بو عن طول القصة والأثر الذي ينبغي أن تتركه، وما كتبه هيمنغواي عن رأس جبل الجليد، والنصيب المتروك من عملية القص لمخيلة القارئ‭.‬ وأذكر من خلال تجربتي الشخصية أوائل السبعينات من القرن الماضي‭.‬ وفي تجربةٍ تتمازج فيها الدهشة والألق اللذان تخلّفهما مهابة القديم، ورغبة عارمة باقتناص كل جديد، نحجز من خلاله مواقع لأنفسنا لم يجرِ احتلالها من الآخرين، أذكرُ حرصنا على الدوام على أن تحتوي قراءاتنا على النماذج الكلاسيكية لفن القصة القصيرة جنباً إلى جنب مع أحدث الإصدارات الحداثوية، بحدود ما كانت مكتبات دمشق تستطيع تأمينه يومذاك‭.‬

وعلينا هاهنا أن نميّز بين الحداثة والتجريب‭.‬ ففي حين أن الحداثة قد تغدو مع الأيام ذائقة عامة، ومعبراً لا بد منه للأجناس الأدبية كافة، فإن التجريب يظل في كثير من نماذجه، عندنا وعند غيرنا رغبة فردية طموحة للّعب بالأشكال وأخذها إلى أمدائها القصوى‭.‬ ولسوفُ يُقرأ ذلك التجريب لاحقاً باعتباره شاهداً على عبثية اقتحام المجهول، وعلى جمالية ذلك العبث في آنٍ معاً، وسنتذكر دوماً بأن التوازن المدهش بين العناصر المكونة لما ننتجُهُ هو ما يخلق الحياة، ويجعلها جميلة ومرغوبة، في حين أن رؤية الأجساد على مشرحة التجريب وإن كانت توفّر لنا معرفةً أكبر إلاّ أنها تسلب منا البهجة اللازمة كي نقبل شرطنا الوجودي، ونعيش معه جنباً إلى جنب‭.‬

وكل ما قلناه عن تراجعٍ لشعبية القصة القصيرة وابتعاد الكثيرين من الكتاب عن مزاولتها لا يعني بأيّ حالٍ من الأحوال أنها انتهت كفنّ قائم بذاته إلى غير رجعة‭.‬ وعلى العكس تماماً فإننا نجدُ، وبشكل خاص في أدب أميركا اللاتينية،و في الولايات المتحدة منذ عقد التسعينات، عودة قوية للتعبير من خلال القصة القصيرة عن هموم الناس ومتاعب عيشهم‭.‬ وما ينقص عندنا وعند غيرنا من الشعوب، هو الحضور القوي لأسماء يرتبط إبداعها ووجودها بفنّ القصة القصيرة‭.‬ وهذا الأمر قد يتطلب مرور بعضٍ من الوقت‭.‬

وكما أشرتُ سابقاً فإنّه يمكن لرواية واحدة ناجحة أن تصنع لكاتبٍ ما شهرةً لا تستطيعها مجموعة قصصية ناجحة ومبهرة‭.‬ وستبقى القصة القصيرة لغزاً وتحدّياً ليس سهلاً حتى لكبار الكتاب‭.‬ إنها، وبكل تأكيد، ليست شكلاً ثانوياً مهملاً نصوغ من خلاله كل ما لا يمكن أن يمتد ليغدو رواية‭.‬ إنها الفن الأقدر على اصطياد البشر في أشد حالات بؤسهم، ومعها، وفيها لا أبطال ينعشون الوجدان الجمعي، بل مهمّشون يذكّروننا دوماً بمشكلاتنا الوجودية التي تقف حائلاً بيننا وبين أبسط مقومات الحياة‭.‬ إنه ومنذ معطف غوغول أكثر الفنون تجولاً في دواخل المهمشين في هذا الكون القاسي‭.‬

والفنون لا تدفع، بالعادة، غيرها إلى العتمة، فالبشر واهتماماتهم هي ما يدفع فنّاً إلى الصدارة، ويقصي آخر إلى البرهة المعتمة، ومع ذلك فإن الأفق المعرفي والمجتمعي الذي أفرز القصة القصيرة، وأفرز أبطالها وعناصرها، وشكّل تناولها لكل ذلك ما يزال قائماً، وهو وليد العقلانية الأوروبية وعلاقتها بأزمة الوجود البشري‭.‬

وفيما يتعلق بالمقدرة على عكس مجتمعٍ كاملٍ، وفي حقبة تاريخية محددة، بكل ما يرافق تلك الحقبة من إنجازات وعذابات فإن القصة ستخسر السباق أمام الرواية بما تنطوي عليه من إمكانات موسوعية، وملحمية، ومقدرة على الإفادة من التاريخ والعلوم الإنسانية، وضمُّ ذلك كله تحت جناحيها، فإنها الأقدر، إن كان هذا بالضبط هو المقصود‭.‬ ومثل ما قلناه عن القصّة القصيرة يمكن أن يقال عن الشعر أيضاً‭.‬ فبحكم التكثيف والرغبة في التقاط الجوهريّ، ونبذ كل ما ليس له لزوم، يصبح الطلب من القصة القصيرة، والشعر أن يتّسعا لما تتّسعُ له الرواية ضرباً من المحال‭.‬ فكل الفنون تؤدي وظائفها من خلال ما تتيحه عناصرها المكونة لها، وبهذا المعنى تتماثل من حيث الأهمية والتأثير قصيدة “الأرض اليباب” لإليوت مع رواية “يوليسس″ لجيمس جويس‭.‬

وأخيراً فإنني أعتقد أنه لا خوف على فن القص إجمالاً، وإن كانت هنالك، كما أتخيّل، مخاوف جديّة تطاول الشعر‭.‬ فالفنون الجديدة التي عرفتها البشرية ابتداءً من أوائل القرن الماضي كالسينما والدراما التلفزيونية ستجعل الحاجة ماسةً دوماً لمن يبتدع قصصاً جديدة، وإن ذلك الأمر، مضافاً له ما تقدمه الثورة الرقمية الافتراضية من آفاق معرفية، وآفاق أسهل من أجل نشر الإبداعات، ستتيح إمكانات أكبر لفن القص، وإن كانت ستمحو، كما يقول الروائي البيروفي ماريو فارغاس لوسا في حوار له مؤخراً مع التلغراف البريطانية، الفواصل بين مبدع وآخر، وستمنحنا نصوصا مسليةُ، وقوية، ولكنها شيء آخر غير الأدب الحقّ‭.‬

وعلى العموم فالحياة نفسها، قبل البشر، هي من يحكم على فنّ ما بالموت أو بالاستمرار‭.‬ وستظل بنا رغبة دائمة أن نشترك، نحن والقارئ، في لعبة استكشاف ما قاله المبدعون في أعمالهم، وسنظل ننظر إلى قمة الجبل الجليدي وشيءٌ من أرواحنا يبحث هناك عن الذي لم، وربما، لن يُرى، ولا يعرفه سوى الأبطال الذين فتحوا نوافذ لمخيّلاتنا لا لنفضح حياتهم وأسرارهم التي قد يراها البعضُ غير ذات مغزى،لاولكن كي نفضح الشرط الإنساني، الذي جعلهم منبوذين، وهامشيين، وغير جديرين بالحياة في نظر مَنْ حولهم.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.