تداخل‭ ‬الأجناس

الاثنين 2016/02/01
لوحة: ربيع كيوان

يشاع اليوم في العالم العربي أنه لم يعد الشعر هو لسان العرب، وأن الرواية راجت في الآونة الأخيرة، انتشرت بعض الروايات لبعض الكتاب الجدد التفّ حولها كثير من القراء الشبان لدرجة أن بعض الشعراء كتبوا الرواية أمثال بهاءالدين رمضان الشاعر الذي كتب رواية “فانديتا” والشاعر عبدالعزيز موافي كتب رواية “رأس العش” والشاعر مأمون الحجاجي وغيرهم كثر وكثير من كتاب القصة القصيرة كتبوا الرواية، لكن ليس لدينا مؤشر حقيقي عن مكانة القصة القصيرة، أنا أرى انتشارها بين الكتاب بكثرة وتزايد عدد كتابها لكن هذا ليس دليل انتشارها، عندئذ نستطيع القول إن لكل جنس قراءة‭.‬

بالطبع جددت القصة القصيرة كثيرًا من نفسها مثل أي شكل أدبي آخر، تتنوع تبعًا للفترة التي كتبت فيها، وقد تداخلت أجناس أخرى معها مثل الدراما والمشاهد السينمائية، والقصة القصيرة بطبيعتها نوعًا هجينيًا فهي تدين بأشياء مختلفة في مراحل نموها وتطورها لكل أنواع الأدب الأخرى، فحينًا تتشابه مع موعظة القرون الوسطى وتتشابه أحيانًا مع المقال، وحينا مع (السونيت)، ويضيف كل عنصر إمكانيات أكبر، والقصة القصيرة فن أكثر مراوغة تتفاعل بروح جديدة مع الأنواع والفنون الأخرى مع التيارات الحديثة في الأدب والفن بصفة عامة‭.‬

لم يعد القاص مجرد ملتقط لأحداث يومية بل أصبح اليوم منافسًا جسورًا للشاعر في شطحاته وأحلامه، وبدت القصة الحديثة كقصيدة نثرية اختلطت فيها أنفاس الشاعر والقاص، وقد اتحدت مقاصدهما بعد أن انبهمت الفواصل بين فنون الأدب، بل بين الأدب والفنون الأخرى، وزيد في القصة القصيرة التفتيت والتشظي والشجن وتحميلها بجرعات من الفنون الأخرى الشعر والمسرح والسينما وأنواع الأدب الشعبي‭.‬

وأعتقد أنه إذا تمسّك كاتب القصة القصيرة بالاحتفاظ بجذورها المتشعبة في الخرافة والنوادر وحكايات الجان وأشكال أخرى مثل الكتابة عن الشخصيات العادية والمهمّشة وجعلها هي الأبطال، وإلى الآن ليس هناك نظرية واحدة مهيمنة لشكل القصة القصيرة، والقصة القصيرة توفيق بين المتناقضات، تفاعل بين التوترات والمقولات المتضادة‭.‬ قصيرة لكنها رنانة مكتوبة نثرًا لكنها بها كثافة الشعر‭.‬ تومض باللون والحركة‭..‬ مكتوبة لكنها تحاكى الكلام الإنساني أي أن القصة القصيرة تبدو جامعة للنقيضين في وقت واحد، لا ننسى أن القصة القصيرة كانت دائما منذ نشأتها تربة صالحة للتجريب‭.‬

القصّة القصيرة لم ولن تفقد مكانتها طالما تعكس تلك الصيغ الاجتماعية التي أثقلتنا، والتي عانينا منها والتي آمنا دائما أن صنوف الكتابة الشائعة والغالبة رغم تبدّياتها المختلفة كانت تعمل على تثبيت صنوف أخرى لا حصر لها من ألوان القهر: المعرفي، والسياسي، والاجتماعي والقصّة القصيرة نفسها تعدّدت أشكالها وشملت أجناس مختلفة تداخلت معها مثل الدرامي والغنائي والمشهد السينمائي والملحمي أي أنها لم تتنازل عن مكانتها لفائدة أشكال أخرى، بل هي شملت واحتوت أجناسا أخرى وتظل على صلة لا تنقطع بالنزوع الروائي نحو (مشابهة الواقع)‭.‬

وما زال لكل فنّ مكانته تختلف الذائقة تبعا لثقافة القارئ ووقته واهتمامه، وإن كان الشباب في الآونة الأخيرة اتجه إلى الرواية، ولأن البنية الهيكلية للقصة القصيرة انتقادية وتعني بالمهمّشين وهي أقرب للصيغ التيمية حيث تطغى العلاقة المباشرة بين القارئ والكاتب على العلاقة بين القارئ والتجربة الإنسانية التي يقدّمها العمل، فالرواية هي تقدم حالة من بدايتها إلى نهايتها بتحولها وصراعها وتفاعلها‭.‬

بعض النقاد اعتبر القصة القصيرة هي الفن الذي كان أكثر تعبيرًا عن حالة هذا العصر الحديث، إنّ كل قصة قصيرة تقدم قسما مختلفا ودون عناية بالكل الذي يقف وراء مجمل القصص‭.‬ وربما لهذا السبب تناسب القصة القصيرة الوعي الحديث حيث يبدو أفضل تعبير عنه أن نعتبره ومضات للبصيرة تتغير مع حالات اللامبالاة التي تقترب من التنويم وأعتقد هذه هي الحالة هي الراهن العربي الإنساني فقد اختار معظم كتابها أن يكتبوا عن حالة القلق المحيطة بهم من خلال التفتيت، وإذا كانت القصة القصيرة ازدهرت في الستينات لأنها تلائم حالة انعدام الفهم أو العجز عنه وهي الحالة التي لا لازمت كتاب الستينات بعد الهزيمة وفى ذلك الوقت كما يقول (عبد المحسن بدر) قد حدثت فترة من التوقف أو شبه التوقف عن كتابة الرواية، وأنا أرى أن واقع العالم العربي الآن يمر بلحظات أقسى من الالتباس وعدم الفهم وحيث تصبح الرؤية أشد ضبابية بل عدم الفهم ومع ذلك بالفعل نجد الإقبال على الرواية، ربما لأنها تقدم عالما كاملا لشخصيات وعلاقاتهم ببعض وعلاقتهم بالكون وتأثيرهم في المكان والزمان الذي يعيشون فيه‭.‬

في الرواية تعيش أكثر من حياة بواقعها وشخوصها بلغاتهم وانقسامهم وتوحّدهم وتأثير الواقع الاجتماعي والسياسي عليهم وتحليل نفسياتهم، الرواية تعطيه قماشة أوسع ليسترسل في الحكي ولأنها تعتبر أيسر من التكثيف والانتقاء، ونرى الكتاب الذين كتبوا القصة القصيرة ثم اتجهوا للرواية يكتبون رواياتهم بطريقة قصص قصيرة كتيمات متراصة لتكون الرواية‭.‬

أرى أنه لا يمكن التنبؤ بمستقبل القصة، فالشباب دائما يفاجئونا باهتماماتهم الغريبة التي لا تخضع لأيّ تفسير فحين كنّا نتوقع لإيقاع الزمن السريع وعدم إمكانية الوقت التي تتيح لهم قراءة رواية كبيرة أن تزدهر القصة القصيرة لكن ما حدث هو العكس وإن كنت أنا مازلت أفضل كتابة القصة القصيرة لكنى لا أميل للقصة القصيرة جدا ولا الرواية.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.