حوافز‭ ‬التواجد

الاثنين 2016/02/01
لوحة: عمرو وهبة

القصة القصيرة لها مكانتها بين الأجناس⊇الأدبية الأخرى، سواء على مستوي التأريخ المتمثل في الماضي، أو الحاضر، أو على المستوي الجغرافي، حتى أنها تعاود الظهور بقوة مرة أخرى، وذلك من خلال فكرة التشبع‭.‬ تشبع السوق بسلعة معينة‭.‬ هذه الفكرة البسيطة التي تجعلنا نقاوم المألوف، والموجود بكثرة، للبحث عن أشياء أخرى من ذات الصنف، لكنّها مختلفة‭.‬

استطاعت القصة القصيرة أن تجدد من أساليب كتابتها، حتى أنها اكتظت بالتجريب بكثرة أساليبها المتنوعة، وفقدت لبعض الوقت رونقها، وأبعدها عن صدارة المشهد، والتجريب هي فكرة غريبة جدًا في الأساس، حيث أنها تحمل في طياتها- مثل الحياة- النقيضين، الحياة والموت، والليل والنهار‭.‬ ومن خلال هذه التوطئة التي تحمل الحقيقة، تكون فكرة التجريب، حينما تنحسر موجة الازدهار والانتشار عن جنس أدبي معين، لكن التجريب المخرّب أفقد القصة القصيرة حضورها الطاغي، مثلها مثل الشعر‭.‬

وفي فترة معينة من التجريب، تحوّلت القصة القصيرة إلي الشعر، وفضائه، لكن اللحظة الراهنة فيما تملّكه من حوافز التواجد، والتطور في وسائل الاتصال الحديثة، ساهمت بشكل كبير جدًا في حضور النثر، وخصوصًا السرد على حساب الشعر، والشعرية مرة أخرى‭.‬

ورغم كل التحديات، لم تفقد القصة القصيرة مكانتها، ولم تتنازل أبدا، لكنّ الواقع هو ما يفرض حاجته لفنّ ونوع معين، ولو برز على سطح الواقع الثقافي مشاريع جوائز، وترجمات مثل الرواية، ستكون أسعد حظًا من الرواية في انتشارها، لأنها ببساطة تمسك الواقع المتسارع، وتستطيع التعبير عن اللحظات الآنية بكل تفاصيلها، والأنماط الأخرى لا تستطيع ذلك‭.‬

تستطيع الرواية أن تمسك النقيضين معا، وتعدد أنواع السرد، إنها ببساطة تمسك تأريخ البشر، أو مجموعة بشرية، وتجمّل القبيح، وتقبح الجميل، إنها مفتاح الواقع الذي نعيشه، ونكتشف أنفسنا من خلال أيديولوجية الصراع، والبقاء‭.‬ إن الرواية تستطيع أن تشكل الحياة مرة أخرى على حسب تطلعاتنا، ورؤيتنا، إنها ترمّم ما نقص منا جميعا، وإن استطاعت أن تذيب الفوارق الجغرافية، وتجريدنا من الانتماءات الضيقة، ساعتها نستطيع أن نقول نحن نتشارك مع العالم إنسانيته، ونصبح من نسيج الثقافة العالمية‭.‬ فالرواية فنّ له خصوصيته، مثله مثل القصة، نحتاج كليهما في نفس الوقت، ولا بديل عن الآخر‭.‬

من جهة أخرى، تستطيع القصة القصيرة بطبيعتها، بشكل جزئي، التعبير عن الراهن العربي والإنساني، في لحظة معينة، هي لحظة الكتابة‭.‬ هذه لحظة، أو فكرة، أو حالة، لا يمكن تعويضها إلا بالكتابة، وهي لحظة تسليط الضوء علي هامش بسيط من الحياة، قد لا نلاحظه، أو يتكرر مرة أخرى‭.‬

ويأتي تحوّل أغلب القصاصين إلي كتابة الرواية، لرحابة عالمها، وانتشارها إعلاميا، وتسليط الضوء عليها‭.‬ والرواية تستطيع تحمّل القصور الفني بها‭.‬ أمّا القصة القصيرة فتكشف بسهولة موهبة الكاتب من عدمه، وأيضا لا تتحمل القصة القصيرة أي زوائد بها، حيث أنها تعتمد على التكثيف والإيجاز، والوصول بسرعة، وبإثارة، وتشويق إلى الفكرة التي يريد الكاتب التعبير عنها‭.‬

وستظل القصة القصيرة موجودة طالما أن لدينا كتابا، رغم طغيان الرواية الآن، وهناك كتّاب يعشقون الكتابة القصصية، ومخلصون لها، ويدفعون ثمنا باهظا لوجودها على الساحة، رغم انحسار الهالة الإعلامية عنهم‭.‬ هذا الإخلاص هو ما يجعلنا نؤمن بمستقبل القصة القصيرة، ثم إن الكتابة القصصية تعيد إلى الكاتب الإنسانية التي افتقدها في لحظة معينة‭.‬ وهذه لحظة شديدة الخطورة على كيان الكاتب وإنسانيته، فيحاول أن يتخلص من هذا الإحساس -الذي يدركه الكاتب وحده- بعدم تواصله الإنساني مع الآخر، فيحاول الخلاص والتطهر من أزمته الخاصة بالكتابة عن هذه اللحظة التي تعذبه، ليعود مرة أخرى للعالم الذي فقده تواً.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.