هذا‭ ‬الفن‭ ‬المحبوب

الاثنين 2016/02/01
لوحة: رندا مداح

لعل الإجابة عن السؤال المتعلق بمكانة القصة القصيرة لدى قراء الأدب العربي اليوم تحتاج إلى تدقيق وعمل إحصائية، ولكن ولو نظرنا بشكل عام فإن القصة القصيرة ما تزال تحتل مكانة في قلوب واهتمام القراء فماتزال المجاميع القصصية تصدر باستمرار وتقام لها الدراسات والملتقيات الثقافية وإن حصل هناك تراجع في عدد قرائها وفي فنياتها بسبب دخول بعض القاصين الذين أخطأوا فهمهم لفن القصة ولم يعوا آلياته وعناصره وأدواته ظنا منهم أنه فن سهل الكتابة، ولعل القارئ يشترك في الإجابة على هذا السؤال: هل مازالت توجد أعمال قصصية تستحق القراءة والدراسة في الوقت الحالي‭.‬

***

لقد أدخلت فنيات عديدة على الفن الأدبي بعد أن كانت كلاسيكية تميل إلى الإخبار فقد أدخلت عناصر كالحلم أو اللعب بعنصر الزمن كالانتقال بالحدث من الحاضر إلى الماضي أو من الحاضر إلى المستقبل والمنولوج الداخلي وغيرها من الفنيات ويقع على عاتق الكاتب كيفية استخدامها بما يمتلك من أساليب خاصة‭.‬

***

حين تأسس فن القصة القصيرة جدا بات كل من لا يملك أدوات الكتابة وأبجدياتها يكتبها مستهلا كتابتها غير مدرك أن هذا الفن أصعب بكثير من القصة القصيرة، وحين لجأ كتاب أو أشخاص لا علاقة لهم بفن القصة القصيرة جعلوا هذا الفن يقف عند حد معين وأفقدوها الكثير من عناصرها الهامة‭.‬

***

حين حاول كتاب القصة القصيرة شعرنة لغتهم القصصية أفقدوها جوهرها كفن يحتوي على شخصيات وحدث متنام وصراع ونهاية‭.‬

فصارت الشخصيات تذكر سريعا دون التطرق بشكل كاف إلى أحاسيسها محاولين تكثيف اللغة وضغط العدد، بل رأيتُ ما هو أعظم من ذلك إذ حاول بعض الكتاب صف كلمات النص القصي بشكل عمودي لتشبه الشعر تماما في شكله، وفي المقابل هناك محاولات مماثلة من قبل الشعراء وأعني بكتّاب شعر التفعيلة خاصة إذ أنهم أضافوا العنصر القصصي والدرامي والحواري إلى قصائدهم ولكنها محاولة أثرت القصيدة العربية وأعطتها أبعادا جماليا أكثر حين اتخذوا من القصة وسيلة لبناء القصيدة، فدخلت الدراما إلى الشعر فمثلا هذا ما نجده عند السياب في أنشودة المطر ونازك الملائكة في الكوليرا وهذا أدى إلى إحداث تطور جميل للقصيدة العربية‭.‬

***

في الآونة الأخيرة قرأت كثيرا من النصوص القصصية التي تنشر في مواقع التواصل الاجتماعي على أنها نصوص قصصية بينما هي أقرب إلى روح الخاطرة من القصة إذ تفتقر إلى عناصرها الأساسية من عقدة وتصاعد درامي للحدث وتطوره وتفاعل شخوص القصة مع الحدث فأصبح النص منولوجا داخليا كاملا لا حركة فيه، فقد آن للنقاد أن يركزوا في دراساتهم للقصة على توافر أساسياتها بدلا من الجانب الجمالي والمضموني فقط‭.‬

***

القصة القصيرة فن أدبي يقتنص اللحظة ويقدمها في قالب أدبي وبلاغي في أقصر الكلمات بشكل مدهش ولافت وهنا تكمن خطورته كفن أدبي‭.‬ وهنا تبرز مسؤولية القاص في توظيف أفكاره وهموم الشارع العربي بكل براعة ودقة‭.‬ والقصة القصيرة تفوق الرواية صعوبة في تقديم الفكرة وشخوص القصة في عنصر زمني أقصر وحدث واحد أو اثنين وشخوص قد تكون أقل، ولا يعني هذا أنها تتفوق على الرواية، فالرواية تظل الجنس الأدبي الأكثر حضورا في الساحة الأدبية وهي تعبر عن حالة كونية وحياة كاملة اجتماعية أو سياسية أو رمزية‭.‬ يقول روجرب‭.‬ هينكل “بالرغم من قيمة ما تزودنا به العلوم الاجتماعية من الرؤى والمنظورات الخاصة بمن يشبهنا من الرجال‭..‬ فإن خبراتنا الفعلية تظل أشد التصاقاً بهؤلاء الذين نجدهم في الرواية والدراما”‭.‬

***

تصدرت الرواية الأدب العربي في السنين الأخيرة والرواية لم تغر القاصين فقط وإنما أغرت الشعراء أيضا، فبات كثير من الشعراء يكتبون الرواية، ولا يعد مستغربا أن يتحول القاص من كتاب القصة إلى الرواية إذ أنهما يصبان في نفس الجنس وهو السرد وإن اختلافا في الطول وعدد الكلمات فهو لا يعد انتقالة نوعية كبيرة ولكن الغريب أن يتحول الشعراء إلى كتّاب رواية وهذا يقودنا إلى تغيير السؤال: هل بات الشعر قاصرا عن حمل هموم الشعراء؟ وليس هذا إلا دليل هيمنة الرواية على الساحة الثقافية ونظرا لما تحويه من أبعاد ولقربها منها ونحن نقرأ شخصيات قد تشبهنا أو تشبه أشخاصا نعرفهم أو لأن الرواية تعبّر عن واقعنا، بل الرواية بسطت كافة العلوم الاجتماعية والنفسية والسلوكية والسياسة والتاريخ وقدمتها في قالب روائي أدبي جميل قريب من النفس ممزوج بمتعة القراءة ومتابعة الأحداث وتناميها‭.‬

***

تظل القصة الجنس الأدبي المحبب للقارئ، فمنذ وجد الإنسان على خارطة الوجود هو مرتبط بها وجدانا وثقافة، فالإنسان منذ القدم يحب أن يقص أو يستمع، فالتراث السردي العربي كبير جدا وضخم كمقامات بديع الزمان للهمذاني ومقامات الحريري وألف ليلة وليلة، وظل السرد العربي يتطور إلى أن جاءتنا القصة بشكلها الحديث، من هنا أقول حتى يبقى مستقبل القصة القصيرة مشرقا فعلى المؤسسات الثقافية الرسمية والأهلية أن تعطي جزءا من برامجها لهذا الفن القصصي، فلماذا لا تخصص جائزة للقصة القصيرة في الوطن العربي كما هو الحال لجائزة البوكر للرواية وجائزة أمير الشعراء للشعر، فهذه الجوائز لها أبعاد معنوية قبل جوانبها المادية إذ تدفع بالشعراء والروائيين نحو طريق الإبداع.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.