إن نظرة سريعة إلى الخارطة الجيوسياسية للشرق الأوسط تجعلنا ندرك أن القوى الكبرى في المنطقة -من حيث الإمكانات العسكرية والاقتصادية- هي إسرائيل وتركيا وإيران، وأنها ساعية، كل من جهته، إلى الهيمنة على شعوب المنطقة ومقدراتها، وإعادة رسم حدودها. فإيران، بما لها من كثافة سكانية (79 مليون نسمة) وثروات جوفية (ثاني احتياطي للغاز في العالم، وثالث احتياطي للبترول) فضلا عن نسيجها الاقتصادي وزراعتها المتنوعة ونخبتها التقنية والثقافية المتميزة، تعتبر نفسها القوة الأعظم في المنطقة، ولا تدع فرصة لاستعراض عضلاتها على غرار ما قامت به عند إقرار يوم 30 أبريل -الذي يوافق طرد البرتغاليين من منطقة شاه عباس- يوما قوميا للخليج الفارسي منذ عام 2004، فهي تلح على هذا التسمية وتقف من كل من يصف الخليج بـ”العربي” وحتى بـ”العربي الفارسي” موقف استنكار، لأنها تنظر منذ القدم إلى الضفة العربية المقابلة كمنطقة نفوذ طبيعية، لم يزاحمها عليها سابقا سوى شركة جزر الهند والسياسات الاستعمارية للتاج البريطاني.
ومنذ سقوط الشاه عام 1979 وقيام الجمهورية الإسلامية سعت إلى استقطاب العالم الإسلامي، وقامت بعدة محاولات لزعزعة أنظمة المنطقة، وإثارة الطائفة الشيعية في عدة بلدان مجاورة كالعراق والسعودية والبحرين، ذلك أن الإيرانيين يعتبرون أنفسهم فُرسًا قبل كل شيء، بمعنى أنهم أعداء تاريخيون للعرب. وكان من أثر الحرب الأميركية على العراق وسقوط صدام أنهم استطاعوا أن يطردوا السنّة من الحكم وينصّبوا الشيعة بدلا منهم، مثلما استطاعوا أن يفتحوا طريقا إلى سوريا التي يحكمها أحد حرفائهم، وإلى لبنان حيث يتصدّر المشهد السياسي صنيعتهم حزب الله، وأن يصلوا إلى البحر المتوسط لأول مرة من عهد داريوش الأكبر أو دارا الأول حسب التسمية العربية.
ولأول مرة، استخدمت الخارجية الأميركية بمناسبة عيد النوروز في ربيع هذا العام مصطلح “الخليج الفارسي” بدل “الخليج العربي” أو “الخليج”مثلما اعتادت عليه الحكومات السابقة.وفي ذلك اعتراف صريح من الإدارة الأميركية الحالية بدور إيران، التي تمارس نفوذا قويا في بيروت ودمشق وبغداد وفي صنعاء بعد سيطرة الحوثيين على العاصمة اليمنية، حتى أن محمد علي الجعفري، أحد قادة الحرس الثوري صرح في اعتداد أن “بلاده تسيطر على أربع عواصم عربية، وأن السؤال مَن سيقود الأمة الإسلامية لم يعد مطروحا”.
فإيران تفرض حضورها كوريثة للإمبراطورية الفارسية، بالاستناد إلى مشروع متكامل قوامه قوة عسكرية وكثافة سكانية واقتصاد سيزداد قوة بعد رفع العقوبات واسترجاع الأرصدة المجمدة في البنوك الغربية. وبرنامجها النووي يندرج ضمن استراتيجية الهيمنة، وإن قيل في البداية إنه لغرض دفاعي من أجل إيجاد توازن استراتيجي مع باكستان -التي التحقت بالنادي النووي عام 1987- وإسرائيل -التي لم تعترف حتى الآن بامتلاك السلاح النووي-، وإقامة جدار صدّ واقٍ ضد الأسلحة الكيميائية لعراق صدام، ولكنها تدرك أن السلاح النووي هو أداتها لفرض نفسها كقوة إقليمية.
يقول أوزي رابي مدير مركز موشي ديان للشرق الأوسط بتل أبيب إن إيران، برغم التنديد بسياسة إسرائيل والدعوات المتكررة إلى تحرير القدس، لن تهاجم الكيان الصهيوني، وإن كانت ستضعه في موقف دفاعي، لأن الغاية من السلاح النووي ليس سوى وسيلة لبسط هيمنتها على العرب”.
أما تركيا، التي عاشت تحت نظام علماني متشدد فرضه مصطفى كمال أتاتورك، ثم على وقع انقلابات عسكرية أردتها إلى وضع بلدان العالم الثالث المتخلفة سياسيا واقتصاديا، وكانت حتى مطلع هذا القرن تحت وصاية صندوق النقد الدولي، تعاني من أزمة مالية واقتصادية خانقة، وتشرف على الإفلاس كحال اليونان اليوم، فإنها استطاعت في العشرية الأخيرة، بفضل رجلين هما كمال درويش وزير الاقتصاد والمالية الأسبق، ورجب طيب أردوغان زعيم حزب العدالة والتنمية الإسلامي، والوزير الأول في تلك الفترة، أن تنتقل من بلاد ذات اقتصاد هشّ ضعيف القدرة التنافسية، إلى قوة اقتصادية يقدّر نموها برقمين وتتقدم دولا غنية مثل جنوب أفريقيا والنرويج وهولندا، وأن تكون لها قاعدة صلبة في آسيا الوسطى والشرق الأوسط وأفريقيا، وصارت قاطرة للبلدان الناهضة. وبفضل هذا النمو الاقتصادي المذهل، استطاع أردوغان أن يعزل المؤسسة العسكرية عن السياسة، ويمنح الأكراد حقوقا غير مسبوقة، ويسوّي العلاقات مع اليونان وخاصة أرمينيا بالاعتراف بدور تركيا في ما سماه “مأساة” الأرمن (وليست الإبادة) ويضع بلاده في مسار البلدان الغربية من حيث الممارسة الديمقراطية. ولأول مرة منذ قرن، عادت تركيا إلى المشهد العالمي كوريثة للإمبراطورية العثمانية، معتدة بهويتها، مباهية بتاريخها حيث أقامت احتفالات ضخمة منذ خمسة أعوام لإحياء ذكرى فتح القسطنطينية في 29 مايو 1453، والإعلان عن نفسها كقوة يحسب لها حساب في المنطقة.
ومنذ بضعة أشهر وجّه أردوغان، بعد أن صار رئيسا للجمهورية، رسالة إلى الشعب التركي والأمة الإسلامية في الذكرى الـ562 لفتح إسطنبول، مؤكّدا على أن فتح المدينة كان منعطفا في تاريخ البشرية، من الناحية السياسية والاجتماعية والثقافية، وركّز على إحياء روح الفتح.
ومن البدَهي أن الفتح المقصود ليس موجها إلى أوروبا بقدر ما هو موجه إلى الولايات القديمة للإمبراطورية العثمانية، وقد رأينا في الأعوام القليلة الماضية محاولات تغلغل تركيا في أقطار الربيع العربي كتونس ومصر وليبيا ثم سوريا، من خلال التأثير على خيارات الإخوان الاقتصادية والسياسية وحتى التربوية (كدعوة راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة إلى التخلي عن تعلم الفرنسية لكونها تلوث عقول أبناء المسلمين على حدّ قوله، والاستعاضة عنها باللغة التركية)، أو عبر فرض مشاريع استثمارية لشركاتها، وكذلك بتغذية الحروب الطائفية في ليبيا وسوريا والعراق، فتركيا هي الحليف الأول لتنظيم داعش الذي تزعم مقاومته، إذ فتحت حدودها لأفواج الراغبين في الجهاد من شتى الملل والنحل، وخاصة من تونس زمن حكم إخوان النهضة، وساهمت في تعزيز نفوذه بتسهيل مرور النفط المهرّب والتحف النفيسة المنهوبة من شتى المواقع الأثرية التي يسيطر عليها، ونافست إيران في تدمير سوريا وتفتيت نسيجها الاجتماعي بالفتك بشعبها أو تهجيره.
أنتجنا بعد الجهد مِسْخا يقود الأمة إلى ردة حضارية. ونعني بالجهد مشروع النهضة في وجهيه: التنويري الذي جاء عقب صدمة الحملة الفرنسية على مصر، وحمل لواءه مصلحون مستنيرون
وبرغم المحاولات التي بذلها أردوغان للظهور بمظهر الإسلامي المعتدل والإيهام بأن الإسلام لا يتعارض مع الديمقراطية، فإنّ فشل حزبه في الحصول على أغلبية مطلقة في انتخابات 7 يونيو المنصرم دفعه إلى نقض الهدنة مع الأكراد في الداخل والخارج لإثارة النعرات القومية، دفعا لاستعداء الأتراك لحزب الشعوب الديمقراطي في الانتخابات التشريعية القادمة، حتى يحصل حزبه على أغلبية مطلقة تمكّنه من تحوير الدستور وإعادة صياغته على مقاسه، مقاس سلطان يبسط هيمنته على الشعب التركي سيرا على منهاج السالفين، ويكشف عن وجهه الحقيقي، وجه إسلامي تائق إلى استعادة المجد العثماني، على حساب العرب.
وأما القوة الثالثة، أي إسرائيل، فهي لم تتخلّ منذ وعد بلفور عن مشروعها الاستيطاني، ولا تزال تنتهك الأرض الفلسطينية، وتقضمها شبرا شبرا، وتخوض ضد شعبها شتى أنواع الحروب، لعل أخبثها حرب المصطلحات التي دأبت عليها لتزييف الواقع وتزوير التاريخ وسرقة الموروثات، بغرض تهويد كل ما هو فلسطيني، مستعينة بما للصهيونية العالمية من آلة إعلامية جبارة لفرض واقع مستجد.
من ذلك مثلا استعمال مصطلح “الدولة العبرية” الذي جرى تداوله في وسائل الإعلام العالمية كمرادف للكيان الصهيوني، للإيهام بأن فلسطين المحتلة هي دولة اليهود منذ غابر الأزمنة، دون أن تتنبه إلى ما تنطوي عليه من نيّة جعل إسرائيل دولة خاصة باليهود وحدهم دون سواهم. ومن عجبٍ أن وسائل الإعلام العربية تبنّته دون تمحيص، وأن بعض الكتاب ردّدوه دون تروّ، والحال أن كلمة “عبرية”، كما يبين الباحث الفلسطيني فايز رشيد، هي كلمة عامة تطلق على طائفة كبيرة من القبائل الرّحل في صحراء الشام، وردت بهذا المعنى في الكتابات المسمارية والفرعونية، ولم يكن لليهود آنذاك وجود، ولمّا وجدوا وانتسبوا إلى إسرائيل كانوا يقولون عن العبرية إنها لغة كنعان، في محاولة لربط تاريخهم بأقدم العصور، حتى يكون تاريخ فلسطين تاريخاً واحداً، متّصلاً منذ أقدم العصور بـالشعب اليهودي، وجعلوا العبرية مرادفا لليهودية، وزادوا على ذلك فأطلقوا عليها اسم “العبرانية التوراتية” بدعوى أنها أقدم لغة سامية معروفة. وبالرغم من أن فلاسفة ومؤرخين يهودا، من كارل ماركس إلى شلومو ساند مرورا بأبراهام ليون وإسرائيل شاحاك، قد نفوا وجود أيّ روابط بين اليهود القدامى واليهود الحاليين، ما انفك منظّرو الصهيونية، قدامى وجددا، يصرون على نعت الكيان الصهيوني بالدولة العبرية، تمهيدا للاعتراف بها كدولة خاصة باليهود وحدهم.
وليس غريبا أن تتزامن دعوة نتنياهو السلطة الفلسطينية إلى الاعتراف بإسرائيل دولةً يهودية كشرط لاستئناف مفاوضات السلام مع اتفاقه الأخير مع حماس من أجل هدنة بعشر سنوات تخفف إسرائيل أثناءها الحصار على غزة، وتفتح لها منافذ إلى البحر، ففي ذهنه أن غاية ما يمكن أن يتنازل عنه الكيان الصهيوني للفلسطينيين هو قطاع غزة.
في لجة الانكسارات والهزائم والانغلاق السياسي والتشدد الديني والتراجع الفكري والحرائق الملتهبة في شتى أنحاء الوطن العربي، قد يغدو الحديث عن مشروع ثقافي عربي جديد أشبه بسفسطة بيزنطية
الأطراف الثلاثة تلتقي في عدائها للعرب، واحتلالها أجزاء من ترابهم، ونزوعها إلى بسط هيمنتها عليهم بالارتكاز على سرديات تاريخية أو أساطير مؤسسة، ولكنّها تلتقي أيضا في استناد كل منها إلى مشروع محكم يسير بها نحو غاية مرسومة، يتوسل بنهضة ثقافية وعلمية واقتصادية ويستقوي بقوة عسكرية عتيدة. بخلاف العرب الذين فشلوا في صياغة مشروع حضاري يأخذ بأسباب التقدم والحداثة، وينخرط في مجتمع المعرفة.
حتى التجمعات الإقليمية لم تحقق أهدافها المنشودة، فاتحاد المغرب العربي ولد ميتا، مختنقا بمشكلة الصحراء والخلاف المزمن بين المغرب والجزائر. ومجلس التعاون الخليجي الذي أنشئ للتصدي للأطماع الإيرانية اقتصاديا وعسكريا لم يحقق غاياته، فعُمان القريبة من طهران لا تزال تتحفظ على كثير من قراراته، وتوحيد العُملة وبعث أركان جيش مشتركة ظلا حبرا على ورق. بل إن بعض الأقطار كالسعودية والمغرب وتونس أقامت جدرانا عازلة على حدودها لاتقاء جيرانها. ومن المفارقة أن الطرف العربي الوحيد الذي يملك اليوم مشروعا واضحا يعمل على إنجاحه بكل وسائل الدمار الممكنة هو الدولة الإسلامية.
إن وجود تنظيم الدولة الإسلامية، بفكره الغيبي وأعماله الوحشية وعدائه لكل ما يمت إلى الحضارة الإنسانية من قيم ومعالم وثقافة وفنون في عصر شهد فيه العالم ثورة تكنولوجية مذهلة شكلت ثالث قطيعة أنثروبولوجية في تاريخ البشرية بعد ابتكار الكتابة واختراع المطبعة، يقيم وحده الدليل على فشل مشروع النهضة العربية فشلا ذريعا، فقد أنتجنا بعد الجهد مِسْخا يقود الأمة إلى ردة حضارية.
ونعني بالجهد مشروع النهضة في وجهيه: التنويري الذي جاء عقب صدمة الحملة الفرنسية على مصر، وحمل لواءه مصلحون مستنيرون كرفاعة الطهطاوي وخيرالدين التونسي والطاهر الحداد ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وعلي عبدالرازق وقاسم أمين وسلامة موسى وشبلي شميل وفرح أنطون وطه حسين، والقومي الناصري الذي التفت حوله مختلف قوى اليسار التقدمي. هذا الإخفاق أسهب في تحليله مفكّرون ومؤرخون ومحللون سياسيون وعزوا أسبابه إلى عوامل خارجية وأخرى داخلية. فأما العوامل الخارجية فيردّونها إلى تبعات الحكم العثماني ثم إلى المؤامرة الإمبريالية الغربية التي عاقت التطور العربي سواء عبر خلق كيانات سياسية متناحرة أو زرع مشروع صهيوني استيطاني، أو هيمنة مباشرة على موارد المنطقة العربية وثرواتها. وأما العوامل الداخلية فيفسرونها بالبنى الموروثة من مرحلة ما قبل نشوء الدول العربية، علاوة على شخصية الإنسان العربي التي تسكنها الغيبيات والخرافات والتواكل.
هذه القراءة قد تنطبق على المحاولة التنويرية الأولى التي جرت في مرحلة لم تتخلص فيها الأقطار العربية بعد من الاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي، وفي بيئة محافظة لم تنفتح بعد على ما يجدّ فيما وراء البحار، ولم يتسنّ لها الأخذ بأسباب التطور والترقي، وقابلت محاولات التجديد بالريبة والاستياء والرفض، لأنّ أسباب الفشل فيما يخص المحاولة الثانية لا تلقى تبعاتها على الغرب وحده، فللعرب فيها نصيب من المسؤولية كبير. أولا، لأن الغرب ما كان ليتغلغل في الوطن العربي ويرهن قراره لو لم يجد قنوات تسهل له ذلك التغلغل.
ثانيا، لأن العرب فشلوا بعد الاستقلال في بناء دولة ديمقراطية، وجعلوا الاستبداد شرعة، ورهنوا مصيرهم للقوى الإمبريالية الغربية، بعد أن مُنوا بهزيمة عسكرية منكرة ضد العدو الصهيوني. والهزيمة لم تكن عسكرية فحسب، بل كانت هزيمة للمشروع النهضوي القومي العربي الذي راهن على تحرير العرب من هيمنة الأجنبي، وتحرير فلسطين، وتحقيق نمو اقتصادي، ورفاهية اجتماعية، وحياة سياسية تقوم على الديمقراطية والشفافية والمساواة أمام القانون.
فقد عصفت الهزيمة بكل تلك المطامح، ووضعت المنطقة العربية وشعوبها في مسار تراجعت فيه آمال التحديث، ونابت عن الدولة العصرية عصبيات ما قبل الدولة، وما تحمله من استبداد وحروب أهلية ونزاعات مع الأجوار. كما تراجعت الثقافة العقلانية أمام المدّ السلفي الأصولي وفكره الغيبي، الذي وجد رموزه في هزيمة المشروع النهضوي فرصة لطرح مشروع عابر للقارات يقوم على شعار “الإسلام هو الحل”، دون أن يبينوا كيف يمكن للإسلام كعقيدة أن يحل مشاكلنا الاقتصادية والمعرفية والعلمية والاجتماعية والبيئية والإنتاجية.
والحق أن سؤال النهضة، في وجهه الثاني على الأقل، طرح في إطار شامل لم يراع خصوصية كل بلد وتاريخه وثقافته ونسيجه الاجتماعي ومشروعه التحديثي الخاص، وتواصله مع المستعمر القديم أو انقطاعه عنه، ومدى إيمانه أو كفره بمشروع نهضوي قومي، فبورقيبة مثلا كان مناهضا للقومية العربية، يطارد كل منتسب إليها، وكان في فكره واختياراته وإصلاحاته يستهدي بالغرب كنموذج ينبغي الاقتداء به “للحاق بركب الحضارة” كما يقول، وفي عهده طرحت مسألة “التَّوْنسة” و”الأمة التونسية”، حتى فرق الكرة كان يطلق عليها “المنتخبات القومية”.
لذلك استراح بعض العرب كثيرا لهزيمة 1967، لأنها خلّصتهم من “خطر” القوميين، ناصريين وبعثييين. ولا غرابة عندئذ أن يمنى المشروع القومي بالفشل ويتشظى إلى مشاريع قطرية مطبوعة بخيارات هذا البلد أو ذاك، باستثناء بعض الأقطار، كالعراق وسوريا وليبيا، التي ظلّت تلهج بالقومية قولا وتنظيرا وتخالفها في الممارسة، سواء بالتآمر على الأجوار والتواطؤ مع الأجنبي أو بفرض منظومة استبداد في الداخل، تبدأ بالاستحقاق وتمرّ إلى الامتياز وتنتهي إلى التجاوز والفساد على رأي ميشيل أونفري. ومن المفارقة أن الذين استولوا على فكرة العروبة هم الذين أحالوا أرضها جحيما، وأن الذين استحوذوا على الدين جعلوا شعوبها كعَصف مأكول.
ولا ينكر سوى متزمت فشل العالم العربي الإسلامي في مجالات الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة بين الرجل والمرأة والتعليم والنمو الاقتصادي، خصوصا إذا ما قارنّاه ببعض البلدان الآسيوية التي كانت في مستواه قبل نصف قرن، مثل سنغافورة وماليزيا وكوريا الجنوبية. كما لا ينكر سوى مكابر أن أغلب النزاعات المسلحة تدور اليوم في العالم العربي الإسلامي. وحسبنا أن نشهد خارطة هذا العالم اليوم لنرى ما آلت إليه ثورات الربيع العربي: عودة المؤسسة العسكرية إلى الحكم في مصر، تدمير كلّي وفوضى قبلية في ليبيا، حروب أهلية في سوريا والعراق واليمن، انتشار التعصب الديني المتوحش ممثلا في داعش، عمليات إرهابية في تونس والجزائر..
حتى صرنا في عيون العالم شعوبا متخلفة تسكن أذهانها ثقافة عهود بائدة، قوامها العصبية القبلية والتزمت الديني والاستبداد السياسي المقرونة جميعها بالعنف الدموي؛ وأمما لم تدخل الحداثة، والمعلوم أن الحداثة ليست مجرد اقتصاد مزدهر وبنية تحتية عصرية ووسائل تكنولوجية منتشرة، فذلك تحديث، بل هي في جوهرها منظومة فكرية وعلمية تشمل قضايا حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية والروح العقلانية والوعي النقدي، ولا يتسنى ذلك إلا في وجود الدولة ورسوخ مؤسساتها وانتماء الفرد إلى وطن لا إلى قبيلة أو عشيرة، إضافة طبعًا إلى النمو الاقتصادي والتقدم العلمي الذي لا حداثة من دونهما.
لوحة: محمد الوهيبي
في لجة الانكسارات والهزائم والانغلاق السياسي والتشدد الديني والتراجع الفكري والحرائق الملتهبة في شتى أنحاء الوطن العربي، قد يغدو الحديث عن مشروع ثقافي عربي جديد أشبه بسفسطة بيزنطية، ولكنه في رأينا ضروري حتى نكون قادرين على مجابهة التطورات المتسارعة في السياسة الدولية والإقليمية، لأن الخطر القادم أعظم. ولا مناص عندئذ من نقد تشريحي لواقعنا العربي الراهن، ومراجعة التجارب السابقة مراجعة جادة، من أجل إعادة التأسيس الفكري واستئناف البناء الحضاري في حياة العرب.
ولكن تفكيك أسباب الفشل، والبحث عن صيغ تنظيرية وعملية يتطلبان تضافر الجهود بين صناع القرار والنخب السياسية والفكرية، لوضع الأسس النظرية والمعرفية لنهضة تستفيد من الآخرين، دون الوقوع في التنظيرات الأيديولوجية السابقة، التي لم تفرّخ سوى الاستبداد والأصولية والقصور المعرفي.
وفي رأينا أن أيّ مشروع لن يحقق مبتغاه ما لم يضع الأسس القويمة التي تنبني عليها المجتمعات الحديثة، ونعني بها الديمقراطية والعَلمانية والتعليم. فلا عدالة ولا حرية ولا كرامة في ظلّ حكم شمولي جائر، ولا أمانَ في وجود تيارات دينية تؤوّل النص الديني حسب مشيئتها وتنوب عن الدولة في محاسبة الفرد، ولا تقدّم مع تعليم تقليدي يشحن الذهن عوض شحذه.
فالأصولية لا تقرأ في جانبها السياسي بمعزل عن فشل عام يشمل سائر برامجنا الاقتصادية والثقافية والتربوية. في تقرير لمشروع الأمم المتحدة الإنمائي UNDP صاغه مجموعة من المثقفين المسلمين لتحديد أسباب الفشل الاقتصادي في العالم العربي، وردّ أن مؤشر التنمية البشرية HDI (الذي يشمل متوسط العمر المتوقع والتربية ومعرفة القراءة والكتابة والناتج المحلي الخام للفرد الواحد والمقدرة الشرائية) ومؤشر التنمية البشرية البديلة AHDI (الذي يتضمن مؤشرات الحرية السياسية والانتفاع بالإنترنت وانبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون) هما دون ما هما عليه في شتى أصقاع المعمورة، باستثناء البلدان الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى. فالقطاع الصناعي الخاص مهمش وغير حيوي، والبحث العلمي جنيني، ورؤوس الأموال مهربة إلى البلدان المتقدمة أو إلى الملاذات الضريبية، والقوى العاملة الماهرة، المكوّنة عادة في الخارج، تفضّل البقاء حيث هي.
وكان من أثر ذلك تكوّن حلقة مفرغة من عدم الثقة تحد من الاستثمار ومواطن الشغل والإنتاجية. ويفسّر واضعو التقرير تلك النقائص بالفجوات الكبرى في مجالات الحرية السياسية والمعرفة وخصوصا وضع المرأة، أي أن نصف طاقة الإنتاج معطل، إما لكون المرأة مستبعدة من سوق الشغل، وإما لكونها أميّة، وإما لكون المهن والوظائف لا تسند بالكفاءة بل بالوساطة والمحسوبية، يستوي في ذلك الرجال والنساء.
وفي تقرير ثانٍ عن العالم العربي صدر عام 2004، تبين أن الوضع لم يتغيّر، حيث لاحظ واضعوه استمرار الأدواء التي تنهش جسد الوطن العربي كهزال التراكم المعرفي، وضعف طاقات التحليل والفكر الخلاق والانفتاح على العالم والبحث الجاد. فالبرامج التعليمية في بلداننا لا تناسب حاجات المجتمع العربي ولا تستجيب لشروط التنمية، ولا تفضي إلى تكوين فكر نقدي وعلمي وديمقراطي.
ولا يزال التعليم في أوطاننا يقوم على التلقين والحفظ عن ظهر قلب، ما يجعل المستوى ضعيفا في مجمله، ويسهّل عمليات غسل الأدمغة التي تمارسها الحركات الأصولية لاستقطاب الشباب.
وتبقى المسألة الدينية عقدة المنشار التي تتكسر عليها كل المحاولات التحديثية، فالذين دعوا إلى قراءة علمية للتراث العربي الإسلامي تستفيد مما يستجيب للراهن، وتستبعد ما تقادم بمرور الزمن، ومراجعة النص الديني للتمييز بين ما يمثله من قيم أخلاقية وروحية وإنسانية، وهي قيم متواصلة في الزمان والمكان، وبين الفقه أو التشريعات التي جرى وضعها على امتداد التاريخ الإسلامي، للتعاطي معها كأجوبة لمسائل متصلة بزمنها، ولا يمكن إسقاطها على زمننا الحالي، نُعتوا بكونهم أقلام “عمالة حضارية” بتعبير محمد عابد الجابري، واتّهموا بكونهم يتبنون “أطروحات خطاب الوصاية على العقل الإسلامي المعاصر”، لمجرد إقامتهم في الخارج، والحال أن تحرير العقل من كلّ سلطة لاهوتية وقراءة النص الديني في سياقه التاريخي هما من القضايا التي سبق أن تناولها أيضا المفكرون العرب المقيمون في أوطانهم.
ولا غرابة عندئذ أن يَعُدّ العرب العَلمانيةَ صنوًا للكفر والإلحاد، في حين أنها مذهب فكري ينتصر لتحييد مؤسسات الدولة، ويدافع عن منظومة تكون فيها المؤسسات الدينية مستبعدة من ممارسة السلطة السياسية والإدارية. أي أنها تشرّع للفصل بين الدين والدولة، دون أن تلغي الدين من حياة الناس، وحتى من شعائر الدولة أحيانا.
ذلك أنه من الصعب أن تتغاضى السلطة السياسية عن الإرث الديني لأمّة من الأمم، فقد ظلّ الدين والسياسة متلازمين، يعاشر أحدهما الآخر على رأس الدولة منذ قرون. والمعلوم أن أول شكل من أشكال السلطة السياسية كان تيوقراطيا أي حكومة دينية، سواء بتأليه العاهل أو بعاهل يزعم أنه مكلف من الرب.
ففرعون، المعيّن من قبل الآلهة، كان يحكم مصر باسمها ويضع نفسه في مقام أعلى من عامة البشر. وإمبراطور الصين كان ينظر إليه كوسيط بين السماء والإنسان والأرض، ويدّعي أنه لا يقدر على شيء دون تكليف من السماء. والملوك الذين تعاقبوا على فرنسا من 987 إلى 1789 تاريخ اندلاع الثورة الفرنسية كانوا يزعمون أنّهم يحكمون باسم الرب، والعرب منذ الأمويين والعباسيين ساروا على الجبر الديني وقالوا إن الخلافة قضاء من القضاء.
حتى في الأنظمة العلمانية، يترسّب لدى البشر أثر المعتقدات، فتتبدى في سلوكهم عن وعي أو غير وعي. ذلك أن الأساطير الثقافية والسرديات العقدية، تحافظ على استمراريتها في اللاوعي الجمعي، وتحمل في طيّاتها فكرة الله، ومهما كان تمثلنا للسلطة السياسية فإنها تحتفظ دائما بدلالة دينية.
وإذا كانت فرنسا قد استطاعت فصل الدين عن الدولة بداية من الجمهورية الثالثة التي شنّت حربا لا هوادة فيها على المؤسسة الدينية، حتى صدور قانون 1905 -الذي حصر الدين في الكنيسة لا يتعداها، ومنع عنه المجال السياسي، وأقصى ما منحه إياه سلطة روحية- فإن دولا غربية أخرى لم تعرف مثل هذا الفصل، ففي ألمانيا يسود نظام الميثاق أو المعاهدة البابوية، بينما جعلت دول أخرى الدين ديانة رسمية كالكاثوليكية في أيرلندا والأرثوذكسية في اليونان واللوثرية في الدانمارك والأنغليكانية في إنكلترا. ولكن دون أن تتدخل المؤسسة الدينية في الأمور الدنيوية لأن “الأديان شرّعت لتدبير الآخرة لا لتدبير الدنيا” كما يقول فرح أنطون.
لقد كانت المجتمعات الأوروبية خاضعة للدين خضوع المجتمعات الإسلامية لدينها، ولم تكن الكاثوليكية أكثر ترحيبا بالتقدم العلمي والنمو الاقتصادي من الإسلام. ولكن أوروبا لم تحقق نهضتها إلا بـ”الخروج من الديني”، بأن يكون لقيصر ما لقيصر، ولله ما لله.
والخروج هنا ليس بمعنى إلغاء الديني بل حصره في موقعه الذي جُعل له، حتى يكف عن التصادم مع السلطة السياسية، لأن “نزوع السلطتين السياسية والدينية إلى الهيمنة، كما بيّن ماكس فيبر، هو مبعث نزاع كامن، ظاهر أو باطن، بين قوى سياسية علمانية وقوى تيوقراطية، سواء في شكل صراع على السلطة، أو في شكل أزمة ثقافية تضع الطرفين وجها لوجه، أو في هيئة تصادم بين القيم الدينية والقيم السياسية”.
ولا يعني الفصل بين الدين والسياسة أن تتخلّى الدولة عن دورها في جعل القانون ساريا على جميع المؤسسات، بما فيها المؤسسة الدينية. يقول سبينوزا في هذا الشأن “إن من حقّ كل فرد أن يفكر في ما يشاء ويعبر عما يفكر، ومن حقّ كل فرد أن يمارس شعائره بحرية، ولكن هذا التسامح الذي تجعله الدولة ممكنا يفترض ألا يكون القانون راجعا لسلطة أخرى غير سلطة الدولة، فلا يمكن قطعا القبول بفضاء خارج عن القانون بين جدران جمعية دينية، بدعوى أن الإيمان لا يخضع إلا للعقيدة الفردية. فلكل فرد، بوصفه مواطنا، حقوق مماثلة لبقية أفراد المجتمع، وإذا وقعت جرائم تحت غطاء سلطة دينية دون محاسبة، فمعنى ذلك أن الدولة لا تؤدي دورها”. وفي رأيه أن الدين لا يلغي صفة المواطنة.
والخلاصة أن العرب لا يمكن أن يتحرّروا من الانغلاق اللاهوتي الذي آل إلى ما نشهده اليوم من تطرّف وتكفير وقتل وتفجير باسم الدين إلا من خلال قراءة النصّ الديني في سياقه التاريخي، قراءة مستنيرة تصالح المسلم مع ذاته وعصره، وتراجع موروثنا العقائدي لتنقيته ممّا لا يستقيم مع سنن التطور، كما فعل فلاسفة التنوير الأوروبي مع تراثهم المسيحي.
في كتابه “تجريد الآلهة من السلاح” يقول جان ماري مولّر “إن الطريقة الوحيدة لإنصاف النصوص الدينية هي التوصل إلى ما تتضمنه من مقولات حكمة وتعقل، لا ما تحويه من حثّ على الجنون. بعبارة أخرى، أن نعطي أهمية للمعنى الروحي اللازمني للنصوص المقدسة أكبر مما نعطيه لمدلولها التاريخي البحت. فمنذ اللحظة التي نلمس فيها ما يمكن أن تشتمل عليه من حكمة، سنجد نظاما أبديا للحقيقة لا يخص طرفا بعينه، بل يمكن أن يوجد في شكل آخر، وبلغة أخرى في نص مقدس آخر”.
وفي رأينا أن كل مشروع عربي نهضوي لا بدّ أن يرتكز على إرساء أسس الديمقراطية، التي تكفل المساواة بين سائر المواطنين، إناثا وذكورا، في ظل سيادة القانون. والنهوض بالثقافة باعتبارها آلية حاضنة لشعوب الوطن العربي، من شأنها إصلاح ما أفسدته السياسة من جهة، والإسهام في مواكبة العصر من جهة ثانية.
والاقتداء بالبلدان المتقدمة في المجالات العلمية والمعرفية والتكنولوجية من أجل نهضة تنموية شاملة تحدّ من تواكلنا على الآخر. وأخيرا تحرير العقل من كل سلطة غيبية، حتى يمكن التمييز بين الدين والتفسير الديني. وفي هذا يقول حسن حنفي “بدلا من الاعتماد على سلطة النص ومصادره، علينا الاعتماد على سلطة العقل والثقة بمناهجه واستدلالاته ومنطقه. على هذا النحو تتحول السلطة في المجتمع من سلطة الأشخاص والكتب والنصوص إلى سلطة العقل، وبدلا من أن يتمّ صراع فقهي بين التفسيرات المختلفة، كل منها يكشف عن مصلحة، يتمّ الحوار والنقاش بين كافة الآراء والاتجاهات”.
بقي أن نقول إن الدول الثلاث آنفة الذكر، أي إيران وتركيا وإسرائيل، إن استطاعت أن تحقق مشاريعها النهضوية فلأن كلاًّ منها كيانٌ مفرد ذو قيادة واحدة، فيما العرب دول شتّى، قلّ أن تجتمع على كلمة، هذا في المجال السياسي فما البال بالمعضلة الدينية، ما يجعل المشروع النهضوي العربي المرتقب، يتأرجح بين الأمل والوهم.