قصة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مدينتين

الثلاثاء 2016/03/01
تخطيط: فيصل لعيبي

ثم وفي‭ ‬المقطع‭ ‬التالي‭ ‬يضع‭ ‬ذلك‭ ‬الروائيّ‭ ‬الفذ‭ ‬يَدَهُ‭ ‬على‭ ‬مكمن‭ ‬الداء‭. ‬إنه‭ ‬الترميدُ،‭ ‬والاستنقاعُ،‭ ‬واللايقينيةُ‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬عاش‭ ‬فيها‭ ‬معظم‭ ‬أبناء‭ ‬الشعب الفرنسي‭ ‬قبل‭ ‬الثورة‭. ‬ويلخّص‭ ‬ديكنز‭ ‬حالة‭ ‬الترميدِ‭ ‬قائلاً‭: ‬إنّ‭ ‬الملكَ‭ ‬والملكةَ،‭ ‬والفئات‭ ‬الحاكمة‭ ‬الذين‭ ‬وصفهم‭ ‬بـ”السادةِ‭ ‬المهيمنين‭ ‬على‭ ‬مخازن‭ ‬الدولة‭ ‬الخاصة‭ ‬بالخبز‭ ‬والسمك‭ ‬كانوا‭ ‬يرون‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬وضوح‭ ‬البلّور،‭ ‬أو‭ ‬أوضحَ،‭ ‬أنّ‭ ‬الأشياء‭ ‬سوف‭ ‬تَظَلُّ‭ ‬على‭ ‬حالها‭ ‬الراهنِ‭ ‬أبَدَ‭ ‬الدهر”‭.‬

وأتذكّرُ‭ ‬أنا،‭ ‬الآنَ،‭ ‬هذا‭ ‬المقطع‭ ‬النبوئيِّ‭. ‬أتذكّرُهُ،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬بتنا‭ ‬ننزف‭ ‬فيه‭ ‬دماً،‭ ‬ونعيشُ‭ ‬تمزيقاً،‭ ‬وتشويهاً‭ ‬لصورتنا‭ ‬وسط‭ ‬شعوب‭ ‬هذا‭ ‬الكون‭ ‬الفسيح‭. ‬الصورة‭ ‬التي‭ ‬أفلحَ‭ ‬أعداؤنا،‭ ‬وساعدناهم‭ ‬في‭ ‬فلاحهم‭ ‬ذاك،برسم‭ ‬صورةٍ‭ ‬لا‭ ‬تُمحى‭ ‬عنّا،‭ ‬كإرهابيين،‭ ‬ومدمّرين‭ ‬لتراثنا،‭ ‬وتراثِ‭ ‬ما‭ ‬سَبَقَنا‭ ‬من‭ ‬حضارات‭. ‬فالصورة‭ ‬هي،‭ ‬وبلا‭ ‬رتوش،‭ ‬صورة‭ ‬متخلّفين،‭ ‬ومتحرّشين،‭ ‬وما‭ ‬شئتَ‭ ‬من‭ ‬نعوت‭.‬

وفي‭ ‬البداية،‭ ‬ينبغي،‭ ‬أيضاً،‭ ‬أن‭ ‬نغلق‭ ‬عيوننا،‭ ‬ولو‭ ‬لبعض‭ ‬الوقت،‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬حدث‭ ‬تالياً‭ ‬في‭ ‬منطقتنا‭ ‬العربية‭. ‬وسنأمرُ‭ ‬الأيام‭ ‬بأن‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬الوراء،‭ ‬ليس‭ ‬كثيراً‭. ‬أربعَ‭ ‬سنواتٍ‭ ‬وحسب‭. ‬وسنطلبُ‭ ‬من‭ ‬وعينا‭ ‬المؤرَّق،‭ ‬والمُمَزَّقِ،‭ ‬الوعي‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يعرف‭ ‬إنْ‭ ‬كان‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬تَمّ‭ ‬كان‭ ‬ينبغي‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يتمّ‭. ‬أمّا‭ ‬وقدْ‭ ‬تَمَّ،‭ ‬أفكان‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يتمّ‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الذي‭ ‬تمّ‭ ‬به‭. ‬أما‭ ‬للتغيير‭ ‬من‭ ‬دروبٍ‭ ‬وطرائقَ‭ ‬أقّلَّ‭ ‬عنفاً‭. ‬دروبٌ‭ ‬تعاهد‭ ‬عليها‭ ‬البشر،‭ ‬وبمقتضاها‭ ‬باتوا،‭ ‬أينما‭ ‬كانوا،‭ ‬يتداولون‭ ‬مقاليد‭ ‬الحكم،‭ ‬مرةً‭ ‬أنا،‭ ‬ومرّةً‭ ‬أنت‭. ‬بتلك‭ ‬اللعبة‭ ‬البسيطة،‭ ‬والساذجة‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬استرضاءُ‭ ‬كبرياء‭ ‬البشر،‭ ‬وتوقِهم‭ ‬الدائم‭ ‬للأفضل‭.‬

سنقف‭. ‬ونغمض‭ ‬أعيننا،‭ ‬ونطلبَ‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬ومن‭ ‬الوعي،‭ ‬ومن‭ ‬الأمكنة،‭ ‬أيْ‭ ‬باختصار‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬أصابه‭ ‬فيروس‭ ‬الدمار،‭ ‬أن‭ ‬يعودوا‭ ‬كلهم‭ ‬إلى‭ ‬الوراء‭.‬‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬اللحظات‭ ‬المجيدة،‭ ‬أواخر‭ ‬عام‭ ‬2010‭ ‬وأوائل‭ ‬عام‭ ‬2011،‭ ‬وأن‭ ‬يتبصّروا‭ ‬في‭ ‬‮ ‬حالة‭ ‬الترميد‭ ‬التي‭ ‬أجادَ‭ ‬ديكنز‭ ‬في‭ ‬تكثيفها‭ ‬في‭ ‬جملةٍ‭ ‬واحدة‭ ‬“الاعتقاد‭ ‬بأنّ‭ ‬الأشياء‭ ‬ستبقى‭ ‬على‭ ‬حالها‭ ‬إلى‭ ‬أبد‭ ‬الدهر”‭.‬

سأطلب‭ ‬أن‭ ‬نعود‭ ‬إلى‭ ‬اللحظة‭ ‬الأروع،‭ ‬لحظة‭ ‬اكتشاف‭ ‬مَنْبَت‭ ‬الخلل،‭ ‬إلى‭ ‬سرابيةِ‭ ‬ما‭ ‬اعتقده‭ ‬الطغاة‭ ‬بأنه‭ ‬سرمديٌّ،‭ ‬ومُمتَدٌّ‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬شاء‭ ‬الله‭. ‬إلى‭ ‬الحالة‭ ‬التي‭ ‬نسيت‭ ‬معها‭ ‬الناس‭ ‬كيف‭ ‬يُقالُ‭ ‬للأشياء‭ ‬القبيحة‭ ‬كفى‭. ‬كانت‭ ‬الـ”لا”‭ ‬العريضة،‭ ‬التي‭ ‬قيلت‭ ‬يومها‭ ‬ستُقال‭. ‬وسنُدهَشُ‭ ‬كيف‭ ‬قيلت‭. ‬لا‭ ‬بل‭ ‬إنّ‭ ‬الدهشة‭ ‬سوف‭ ‬لن‭ ‬تبارحنا‭ ‬ما‭ ‬حيينا‭.‬

إنْ‭ ‬حقّقنا‭ ‬شرط‭ ‬الانفصال‭ ‬عن‭ ‬الراهن‭. ‬والتفكير‭ ‬بتلك‭ ‬الأيام،‭ ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬غير‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭. ‬لكان‭ ‬سؤالنا‭ ‬الوحيد‭: ‬أحقيقيٌّ‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬شاهدناه‭ ‬بأمِّ‭ ‬أعيننا‭ ‬في‭ ‬هاتيك‭ ‬الأيام،‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬الذي‭ ‬جرى‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬حلم‭ ‬يقظة،‭ ‬ومن‭ ‬نوع‭ ‬تلك‭ ‬الأحلام‭ ‬التي‭ ‬انتظرنا‭ ‬حدوثها‭ ‬طويلاً،‭ ‬في‭ ‬منافينا،‭ ‬وزنازيننا،‭ ‬الحقيقية،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الزنازين‭ ‬التي‭ ‬حبسنا‭ ‬أرواحنا‭ ‬بداخلها،وبأيدينا‭. ‬وكنّا‭ ‬ونحن‭ ‬نحلم‭ ‬تلك‭ ‬الأحلام،‭ ‬ونَحُضُّ‭ ‬على‭ ‬تحويلها‭ ‬إلى‭ ‬حقائق،‭ ‬في‭ ‬كتاباتنا‭ ‬وفي‭ ‬اجتماعاتنا‭ ‬الحزبية،‭ ‬نعتقدها،‭ ‬في‭ ‬قرارة‭ ‬نفوسنا،‭ ‬أموراً‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬دائرة‭ ‬الوهم،‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬انتمائها‭ ‬إلى‭ ‬دائرة‭ ‬الممكنات‭!‬

وماذا؟

أن‭ ‬ترى‭ ‬الناسَ،‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬العواصم‭ ‬والمدن‭ ‬العربية‭ ‬الكبرى،‭ ‬أيْ‭ ‬في‭ ‬أكثرِ‭ ‬من‭ ‬مدينتين،‭ ‬وقد‭ ‬نزلت‭ ‬إلى‭ ‬الشوارع،‭ ‬في‭ ‬مجاميعَ‭ ‬هائلةٍ،‭ ‬لكأنما‭ ‬لم‭ ‬يتبقَّ‭ ‬أحدٌ‭ ‬يومها‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬البيوت،‭ ‬كي‭ ‬يرى‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬صار‭ ‬على‭ ‬الشاشات‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬صارت‭ ‬هي‭ ‬سيّدةً‭ ‬كُلِّ‭ ‬قول‭.‬

ولا‭ ‬ينبغي،‭ ‬لأيّ‭ ‬ارتكاساتٍ‭ ‬تالية،‭ ‬مهما‭ ‬بلغت دمويّتها‭ ‬ووحشيّتها،‭ ‬أن‭ ‬تُنسينا‭ ‬ما‭ ‬جرى،‭ ‬وأن‭ ‬تنزعَ‭ ‬عنها‭ ‬ألقَها‭ ‬الذي‭ ‬كانَ،‭ ‬وكانَ،‭ ‬وتواصَلَ،‭ ‬وتواصلَ،‭ ‬وما‭ ‬مِن‭ ‬شيءٍ‭ ‬ولا‭ ‬إجراء‭ ‬ولا‭ ‬وعودَ،‭ ‬ولا‭ ‬جوائزَ‭ ‬ترضيةٍ،‭ ‬كان‭ ‬بمقدوره‭ ‬أن‭ ‬يوقف‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬كان،‭ ‬وتواصلَ‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬النحو‭ ‬الجبّار‭ ‬والمخيف،‭ ‬في‭ ‬آنٍ‭ ‬معاً‭.‬

كان‭ ‬تواصلاً‭ ‬دَفَقَ‭ ‬الحياةَ،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬على‭ ‬نحوٍ‭ ‬دائم،‭ ‬فأقلُّه‭ ‬أيامذاك،‭ ‬إلى‭ ‬القلب‭ ‬من‭ ‬دواخلنا،‭ ‬ومِنْ‭ ‬وعينا‭ ‬المكلوم،‭ ‬والمنكفئ‭ ‬على‭ ‬نفسه‭. ‬وكانت‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬حدثاً‭ ‬استثنائيّاً،‭ ‬ومباغتاً،‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬هذا‭ ‬الشرق‭ ‬القاحل‭ ‬والمبارك‭. ‬الشرق‭ ‬الأوسط،‭ ‬صانع‭ ‬الحضارات‭ ‬الكبرى،‭ ‬وأرض‭ ‬الرسالات‭ ‬السماوية‭. ‬الأرضُ‭ ‬المُبتلاةُ‭ ‬منذ‭ ‬نعومة‭ ‬أظفارها،‭ ‬أيْ‭ ‬منذُ‭ ‬آلاف‭ ‬السنين،‭ ‬بالطغاة‭ ‬والأفّاقين‭ ‬من‭ ‬كُلِّ‭ ‬مِلّةٍ‭ ‬ولون‭. ‬الأرض‭ ‬المبتلاةِ‭ ‬إلى‭ ‬أبد‭ ‬الآبدين،‭ ‬بالتنظيرات التي‭ ‬ما‭ ‬تفتأ‭ ‬تُدَجِّن‭ ‬أرواح‭ ‬الناس‭ ‬بأيديولوجيّات‭ ‬الخضوعِ‭ ‬لأولي‭ ‬الأمر،‭ ‬وطأطأة‭ ‬الرؤوس‭ ‬لهم،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬أهلاً‭ ‬لولاية‭ ‬الأمر‭.‬

هذا‭ ‬الشرقُ‭ ‬الذي‭ ‬إنْ‭ ‬حدثَ‭ ‬ففاضَ‭ ‬عسلاً‭ ‬ولبَنَاً،‭ ‬فإنما‭ ‬فيضُهُ‭ ‬للحكام،‭ ‬ولمن‭ ‬ارتبط‭ ‬بهم‭ ‬مِنْ‭ ‬باعة‭ ‬الوهم،‭ ‬وما‭ ‬أكثر‭ ‬باعةَ‭ ‬الوهم،‭ ‬مِنْ‭ ‬الشيوخ‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬السياسيين،‭ ‬في‭ ‬تاريخٍ‮ ‬‭ ‬امتدَّ‭ ‬وامتدَّ،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬وضّاءً‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬مراحله‭.‬

و”لحظة‭ ‬البوعزيزي”،‭ ‬التي‭ ‬ابتدأت‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬وانتقلت‭ ‬بعدها‭ ‬إلى‭ ‬غير‭ ‬مكان،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬انتصاراً‭ ‬لبائعٍ‭ ‬مغلوبٍ‭ ‬على‭ ‬أمره،‭ ‬بل‭ ‬انتصاراً‭ ‬لأمّة‭ ‬جرى‭ ‬زبلُها‭ ‬بالكامل‭. ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬أشار‭ ‬إليه‭ ‬ديكنز‭: ‬أيْ،‭ ‬اعتقادُ‭ ‬الحكام‭ ‬بأن‭ ‬وجودهم‭ ‬سرمديّ،‭ ‬مثل‭ ‬وجود‭ ‬الشمس‭. ‬أو‭ ‬ظواهر‭ ‬الطبيعة‭ ‬الأخرى‭. ‬لا‭ ‬حياة‭ ‬لشيء‭ ‬من‭ ‬دونهم‭. ‬وهم‭ ‬الأحرار‭ ‬الوحيدون‭. ‬وليس‭ ‬من‭ ‬حقّ‭ ‬أحدٍ‭ ‬أن‭ ‬يسائلهم‭. ‬هم‭ ‬مِن‭ ‬يقودون‭ ‬البلاد‭ ‬والعباد‭ ‬حيث‭ ‬أرادوا‭.‬

“لحظة‭ ‬البوعزيزي”‭ ‬تلك،‭ ‬كانت‭ ‬قَدراً‭ ‬اصطاد‭ ‬الحكامَ‭ ‬والمحكومين‭ ‬على‭ ‬حدٍّ‭ ‬سواء‭. ‬وكان‭ ‬لها‭ ‬إلزامُ‭ ‬الضرورة‭ ‬الموضوعية‭. ‬كانت‭ ‬القَدَرَ‭ ‬الذي‭ ‬أتى،‭ ‬كي‭ ‬يعودَ‭ ‬لي،‭ ‬ولك،‭ ‬ولكل‭ ‬واحد‭ ‬مِنّا،‭ ‬نحن‭ ‬المهمّشين،‭ ‬والمُقْصَين‭ ‬إلى‭ ‬التخوم‭. ‬وإلى‭ ‬برهة‭ ‬الترميد،‭ ‬حيثُ‭ ‬لأموت،‭ ‬ولا‭ ‬حياة‭. ‬أرضُ‭ ‬الرماد‭ ‬التي‭ ‬اختيرت‭ ‬سكناً‭ ‬لنا‭ ‬ولأرواحنا‭ ‬اهتزّت‭. ‬اهتزّت‭ ‬أخيراً‭. ‬وكان‭ ‬اهتزازها‭ ‬ذاك‭ ‬أفقَ‭ ‬أملٍ‭ ‬تتوِّجَ‭ ‬بالكارثة‭.‬

أرضُ‭ ‬الرماد‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬هزّتها‭ ‬وإلى‭ ‬غير‭ ‬عودة‭ ‬أقدام‭ ‬الجموع‭ ‬التي‭ ‬تحدّت‭ ‬الموت،‭ ‬وقامرت‭ ‬بهناءة‭ ‬العيش،‭ ‬لتعيد‭ ‬لأنفسنا‭ ‬إيمانها‭ ‬الأصلي‭ ‬بقانون‭ ‬الحياة‭ ‬الخالد؛‭ ‬القانون‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬مكّننا،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬مكّن‭ ‬أسلافنا‭ ‬فيما‭ ‬مضى،‭ ‬من‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬رحاب‭ ‬هذه‭ ‬الأرض،‭ ‬صانعة‭ ‬الحضارات‭. ‬الأرض‭ ‬التي‭ ‬تشرّفت‭ ‬بالأنبياء،‭ ‬فكان‭ ‬أن‭ ‬ورثها‭ ‬عنهم‭ ‬الطغاة‭.‬

“لحظة‭ ‬البوعزيزي”‭ ‬أحيت‭ ‬ما‭ ‬عرفته‭ ‬الشعوب‭ ‬الأخرى،‭ ‬عبر‭ ‬نضالاتها‭ ‬المريرة،‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬يمكن‭ ‬للحاكمين‭ ‬ترميد‭ ‬الأرواح،‭ ‬ويمكن‭ ‬للاستعباد‭ ‬وللضحك‭ ‬على‭ ‬لحى‭ ‬البشر‭ ‬أن‭ ‬يستمرّ‭ ‬طويلاً،‭ ‬ولكنه‭ ‬لن‭ ‬يستمرّ‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬نهاية‭ ‬لاستمراره‭.‬

ولحظة‭ ‬البوعزيزي،‭ ‬هي‭ ‬أنّ‭: ‬لحظة‭ ‬الحقيقة‭ ‬قد‭ ‬تأتي‭ ‬في‭ ‬أشَدّ‭ ‬برهات‭ ‬الدول‭ ‬وثوقاً‭ ‬بنفسها،‭ ‬وبما‭ ‬تملكه‭ ‬من‭ ‬أدوات‭ ‬لكَمِّ‭ ‬الأفواه‭. ‬إنها‭ ‬لحظة،‭ ‬ولكنها‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭ ‬كُلُّ‭ ‬اللحظاتُ‭. ‬اللحظاتُ‭ ‬وقد‭ ‬تكثّفت،‭ ‬وأطلقت‭ ‬شرارة‭ ‬الحدث‭. ‬إنها‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬أتت‭ ‬فجرفت‭ ‬الكُلَّ‭ ‬في‭ ‬طريقها‭. ‬ولحظتها،‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬الحقيقة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬فصارت‭ ‬في‭ ‬الفعل،‭ ‬سنطلبُ‭ ‬مِنْ‭ ‬لحظة‭ ‬البوعزيزي،‭ ‬ومن‭ ‬أنفسنا،‭ ‬ومن‭ ‬اللاعبين‭ ‬الإقليميين،‭ ‬وإخوتهم‭ ‬الدوليين،‭ ‬وقتاً‭ ‬مُستقطعاً،‭ ‬نلتقطُ‭ ‬فيه‭ ‬أنفاسنا،‭ ‬ونضبط‭ ‬فيه‭ ‬اندفاعتنا،‭ ‬فلا‭ ‬يمنحنُا‭ ‬أحدٌ‭ ‬مثل‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬لأنّ‭ ‬الوقتَ‭ ‬ما‭ ‬عاد‭ ‬وقتناً،‭ ‬بل‭ ‬وقت‭ ‬غيرنا‭.‬

أكانت‭ ‬“لحظة‭ ‬البوعزيزي”‭ ‬التي‭ ‬تهدّمت‭ ‬إثرها‭ ‬أوطانٌ‭ ‬وأوطان،‭ ‬ومات‭ ‬في‭ ‬أعقابها‭ ‬آلافٌ‭ ‬وآلاف،‭ ‬أكانت‭ ‬مِنْ‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬يحصلَ‭ ‬الناس،‭ ‬مَنْ‭ ‬ماتَ‭ ‬منهم‭ ‬ومَن‭ ‬ظَلَّ‭ ‬منهم‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة،‭ ‬على‭ ‬مقدارٍ‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬كعكة‭ ‬العيش،‭ ‬هل‭ ‬يتلخّصُ‭ ‬سعي‭ ‬البشر،‭ ‬وإقبالهم‭ ‬المرعب‭ ‬على‭ ‬التضحية‭ ‬بالغالي‭ ‬والرخيص،‭ ‬بالقول‭: ‬إنّ‭ ‬الأمر‭ ‬وما‭ ‬فيه‭ ‬أننا‭ ‬نحتاجُ‭ ‬كي‭ ‬نسكت‭ ‬أن‭ ‬تُزادَ‭ ‬جرايتُنا‭ ‬من‭ ‬الفتات‭. ‬الفتاتُ‭ ‬الذي‭ ‬يُلقي‭ ‬به‭ ‬الحكّامُ‭ ‬متى‭ ‬شبعوا‭ ‬هُمُ‭ ‬والطغَم‭ ‬العائشة‭ ‬مِنْ‭ ‬فُتاتهم،‭ ‬والمُتغنّية‭ ‬دوماً‭ ‬بأمجادهم‭.‬

أيمكن‭ ‬لذلك‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬سبباً‭ ‬وحيداً‭ ‬في‭ ‬كُلِّ‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬جرى‭. ‬فماذا‭ ‬إذن‭ ‬عن‭ ‬مسألة‭ ‬العيش‭ ‬نفسهِ،‭ ‬كُلِّهِ،‭ ‬العيشِ‭ ‬غير‭ ‬المنقوص،‭ ‬العيش‭ ‬الذي‭ ‬كان،‭ ‬طوال‭ ‬قرونٍ‭ ‬مضت،‭ ‬قد‭ ‬امتلأ‭ ‬قيحاً،‭ ‬وتخلّفاً‭ ‬عن‭ ‬ركب‭ ‬الأمم‭. ‬ماذا‭ ‬إذن‭ ‬عن‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬مشمولين‭ ‬فيقلب‭ ‬الشرط‭ ‬الإنساني‭. ‬الشرط‭ ‬الذي‭ ‬يحتِّم‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬البشر‭ ‬مُفعَمين‭ ‬ببشريّتهم،‭ ‬وكرامتهم،‭ ‬وحقّهم‭ ‬في‭ ‬اختيار‭ ‬حاكميهم،‭ ‬وحقّهم‭ ‬الآخر‭ ‬باستبدال‭ ‬أولئك‭ ‬الحاكمين،‭ ‬متى‭ ‬وجدوا‭ ‬الأفعال‭ ‬قد‭ ‬تناقضت‭ ‬مع‭ ‬الوعود‭.‬

والآن،‭ ‬إذ‭ ‬نفتحُ‭ ‬أعيننا،‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كنّا‭ ‬قد‭ ‬أغمضناها‭ ‬لدقائق‭. ‬الدقائق‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬كافيةً‭ ‬كي‭ ‬نستعيد‭ ‬بهاء‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭.‬الآن،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬فعلنا‭ ‬ذلك،‭ ‬صار‭ ‬لزاماً‭ ‬أن‭ ‬نعيدَ‭ ‬فتحهما‭ ‬من‭ ‬جديد‭. ‬كي‭ ‬تريا‭ ‬جيّداً‭ ‬وعميقاً‭ ‬كيف‭ ‬صار‭ ‬حاضرُ‭ ‬الماضي‭. ‬وكي‭ ‬تتمعّنا‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬بشر،‭ ‬بعد‭ ‬سنواتٍ‭ ‬خمس‭ ‬من‭ ‬الاقتتال‭ ‬المرير‭.‬

سنعود‭ ‬الآن‭ ‬إلى‭ ‬البشر‭ ‬الجُدد‭. ‬البشر‭ ‬الذين‭ ‬نصادفهم‭ ‬في‭ ‬الشوارع،‭ ‬أو‭ ‬جثثاً‭ ‬هامدة‭ ‬عند‭ ‬الشواطئ،‭ ‬سنراهم،‭ ‬دون‭ ‬أيّ‭ ‬مسعىً‮ ‬منّا‭ ‬لخداع‭ ‬الذات‭.‬‭ ‬كي‭ ‬نرى،‭ ‬ونرثي‭ ‬لبشرٍ‭ ‬اكتشفوا،‭ ‬وربما‭ ‬بعد‭ ‬فوات‭ ‬الأوان،‭ ‬أنهم‭ ‬قد‭ ‬باتوا،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يدرون،‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬المجهول‭. ‬في‭ ‬القلب‭ ‬من‭ ‬عنفٍ‭ ‬بشع‭. ‬عنف‭ ‬الحُكّامِ‭ ‬في‭ ‬دفاعهم‭ ‬حتى‭ ‬الموت‭ ‬عمّا‭ ‬يملكون،‭ ‬وما‭ ‬يحكمون‭. ‬وأن‭ ‬نتأمّل‭ ‬بالمثل،‭ ‬عُنفَ‭ ‬هويّتنا‭ ‬المتشظّية‭ ‬بين‭ ‬طوائف‭ ‬ومِلَل،‭ ‬كانت‭ ‬موجودةً‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ،‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬مبرر‭ ‬لعدم‭ ‬وجودها‭. ‬وأن‭ ‬نتأمّل،‭ ‬بعقولنا‭ ‬وعواطفنا،‭ ‬وما‭ ‬أصابنا‭ ‬من‭ ‬مفخخات،عنف‭ ‬لصوص‭ ‬الثورات‭. ‬اللصوص‭ ‬الذين‭ ‬أنبتتهم‭ ‬الأرضُ‭. ‬أو‭ ‬الذين‭ ‬ألقت‭ ‬بهم‭ ‬إلينا‭ ‬أجنداتُ‭ ‬الآخرين،‭ ‬وحساباتهم‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تتطابقُ‭ ‬ولا‭ ‬ينبغي‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تتطابق‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬حلمنا‭ ‬به‭.‬

ما‭ ‬تحقّق‭ ‬لوعينا،‭ ‬وما‭ ‬نحن‭ ‬أكيدون‭ ‬منه،‭ ‬أنه‭ ‬ذات‭ ‬يوم،‭ ‬وفي‭ ‬لحظةٍ‭ ‬كلحظة‭ ‬البوعزيزي،‭ ‬تجرّأ‭ ‬بعضُنا‭ ‬فعلّق‭ ‬الجرس‭. ‬ألقُ‭ ‬البدايات‭ ‬إن‭ ‬نحنُ‭ ‬تذكّرناه‭ ‬جيّدا‭ ‬فسيكوّن‭ ‬وعيَنا‭ ‬الراهن‭ ‬والقادم‭. ‬حقّاً،‭ ‬أين‭ ‬كان‭ ‬الوعي،‭ ‬وكيف‭ ‬صار‭!‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.