خدوجة

الثلاثاء 2016/03/01
لوحة: هبة العقاد

الطريق طويلة‭ ‬والوقت‭ ‬فجرٌ‭. ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬للطفل‭ ‬أن‭ ‬يقود‭ ‬الأعمى‭. ‬يَصعدان‭ ‬ويهبطان‭ ‬مع‭ ‬العقبات‭. ‬يظهرُ‭ ‬القليل‭ ‬من‭ ‬جسديهما،‭ ‬في‭ ‬البداية،‭ ‬ثم‭ ‬يصعدان‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬بجهد‭. ‬والطفل‭ ‬يقيسُ‭ ‬المسافة‭ ‬بالعين‭ ‬والأعمى‭ ‬يقيسها‭ ‬بالذاكرة‭.. ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تُفضي‭ ‬الدروب‭ ‬الطينية‭ ‬الطويلة‭ ‬التي‭ ‬يسيران‭ ‬فيها،‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬طريق‭ ‬الواحة‭ ‬الملتفة‭ ‬بالنهر،‭ ‬وقد‭ ‬لا‭ ‬تقود‭ ‬إلى‭ ‬مصير،‭ ‬لكن‭ ‬المسافة‭ ‬تموت‭ ‬عند‭ ‬كل‭ ‬فجر،‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬السوق‭ ‬الأسبوعي‭..‬

‮ ‬‭ ‬وهما‭ ‬لا‭ ‬يهتمان‭ ‬لبرد‭ ‬ولا‭ ‬غريب،‭ ‬لأن‭ ‬البهجة‭ ‬في‭ ‬اختلاطهما‭ ‬وفي‭ ‬تذكّر‭ ‬غبار‭ ‬السوق‭ ‬وأصوات‭ ‬الباعة،‭ ‬وفي‭ ‬دأبهما‭ ‬وحماسهما‭ ‬للبيع‭ ‬والشراء‭.‬‭.‬

‮ ‬‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬يقصدان‭ ‬مكانا‭ ‬مختلفا‭: ‬الاثنين‭ ‬سوق‭ ‬قرية‭ ‬تُسمّى‭ ‬“أعلى‭ ‬الريح‭ ‬“،‭ ‬الثلاثاء‭ ‬السوق‭ ‬الأسبوعي‭ ‬لقرية‭ ‬“تيمضاض”‭ ‬الأمازيغية،‭ ‬والأربعاء‭ ‬سوق‭ ‬قرية‭ ‬“فم‭ ‬الحسن”‭ ‬وهكذا‭.. ‬ثم‭ ‬إنهما‭ ‬يسيران‭. ‬في‭ ‬السير‭ ‬كفاية‭ ‬للذي‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬سوى‭ ‬تأمل‭ ‬وجوه‭ ‬الحياة،‭ ‬كما‭ ‬يحدث‭ ‬للصبي‭ ‬الذي‭ ‬يبدو‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬سِنّه‭ ‬بالشعر‭ ‬الكثيف‭ ‬والطول‭ ‬الفارع‭ ‬واليد‭ ‬المُمْسِكة‭ ‬بإصرار‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬عمّه‭ ‬الأعمى‭..‬

‮ ‬‭ ‬يسير‭ ‬الأعمى‭ ‬والصبي،‭ ‬فيخدعُ‭ ‬الصبي‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬بقوله‭ ‬إنني‭ ‬أقود‭ ‬عمّي‭ ‬كما‭ ‬أقود‭ ‬دراجة‭ ‬أو‭ ‬قَصَبة‭ ‬وأستمتع،‭ ‬هي‭ ‬لُعبة‭ ‬إذن‭ ‬لا‭ ‬عمل،‭ ‬وحين‭ ‬سأكبر‭ ‬سأبني‭ ‬لنفسي‭ ‬بيتا‭ ‬وأشتري‭ ‬سلعة‭ ‬وأصبح‭ ‬تاجرا‭ ‬وأتزوج‭ ‬خَدّوجَةَ‭ ‬ابنته‭. ‬لم‭ ‬يَسُقْ‭ ‬درّاجة‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬لكنه‭ ‬يستطيع‭ ‬تخيّل‭ ‬نفسه‭ ‬يركبها‭. ‬سوف‭ ‬يتكئ‭ ‬على‭ ‬الحائط‭ ‬في‭ ‬الأيام‭ ‬الأولى‭ ‬ثم‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يستقيم‭ ‬الأمر‭ ‬يسوقها‭ ‬بلا‭ ‬مشقة،‭ ‬يسوقها‭ ‬ويصيح‭ ‬بالأطفال‭ ‬أن‭ ‬يبتعدوا‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬يدهسهم‭ ‬لأن‭ ‬أسلاك‭ ‬الكابح‭ ‬مقطوعة‭ ‬فيهرب‭ ‬الجميع‭ ‬إلا‭ ‬خَدّوجَة‭ ‬التي‭ ‬تشاكسُه‭ ‬وتقف‭ ‬لبرهة‭ ‬أمامه‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬اقترب‭ ‬منها‭ ‬زاغت‭.. ‬أما‭ ‬الأعمى‭ ‬فلا‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬أَمَامٍ‭. ‬لا‭ ‬يتحسس‭ ‬جسده‭ ‬أبدا‭ ‬لأن‭ ‬الجسد‭ ‬تُغطّيه‭ ‬الجلابيب‭ ‬الكثيرة‭ ‬التي‭ ‬تَحْرِصُ‭ ‬العجوز‭ ‬على‭ ‬وضعها‭ ‬فوق‭ ‬جسده‭ ‬وهي‭ ‬تعامله‭ ‬كأنما‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬في‭ ‬المهد‭ ‬صبيا،‭ ‬وحين‭ ‬يضجَر‭ ‬تُذكّره‭ ‬بعَماه‭ ‬وضعفه‭ ‬وأنها‭ ‬أمه‭ ‬التي‭ ‬تخاف‭ ‬عليه‭. ‬يسير‭ ‬ولا‭ ‬يكاد‭ ‬يشعر‭ ‬سوى‭ ‬بالشعر‭ ‬الكثيف‭ ‬للصبي‭ ‬ليطمَئِنَّ‭ ‬بأنه‭ ‬يمشي‭ ‬معه،‭ ‬لا‭ ‬يفكّر‭ ‬في‭ ‬شيء‭ ‬كأنما‭ ‬دماغه‭ ‬أعمى‭ ‬كالبصر‭. ‬لم‭ ‬يفقدِ‭ ‬البصر‭ ‬إلا‭ ‬متأخرا،‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬بدأ‭ ‬يرى‭ ‬ظلال‭ ‬الأشياء‭ ‬ثم‭ ‬ماتت‭ ‬الرؤية،‭ ‬ومع‭ ‬الوقت‭ ‬أصبح‭ ‬يتحسَّسُ‭ ‬الأشياء‭ ‬ولا‭ ‬ينظر‭ ‬إليها‭. ‬لم‭ ‬يعدْ‭ ‬يعرف‭ ‬معنى‭ ‬أن‭ ‬ينظر،‭ ‬كلمة،‭ ‬أصبح‭ ‬يتذكرها‭ ‬مثل‭ ‬حوار‭ ‬قديم‭ ‬تختلط‭ ‬مُفرداته‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭. ‬يتحسّسُ‭ ‬شعر‭ ‬الصبي‭ ‬ويقول‭ ‬له‭:‬

-‭ ‬بُنَي،‭ ‬عليك‭ ‬أن‭ ‬تقص‭ ‬شعرك،‭ ‬لقد‭ ‬أصبح‭ ‬طويلا‭..‬

‮ ‬‭ ‬لا‭ ‬يردُّ‭ ‬الصبي‭. ‬الصمت‭ ‬المعهود‭ ‬فقط‭. ‬صمتٌ‭ ‬يُدخِلُ‭ ‬نفسه‭ ‬فيه‭ ‬كل‭ ‬حين‭. ‬هل‭ ‬قالا‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬ينبغي‭ ‬سلفا؟‭ ‬يتخيّل‭ ‬الصبي‭ ‬نفسَهُ‭ ‬بين‭ ‬قدمي‭ ‬عمّ‭ ‬ثان‭ ‬مبصر،‭ ‬في‭ ‬الخيمة‭ ‬التي‭ ‬نصبوها‭ ‬عند‭ ‬حافة‭ ‬الواحة‭ ‬لمّا‭ ‬عادوا‭ ‬من‭ ‬الصحراء‭. ‬يأتي‭ ‬العمّ‭ ‬بالمقص‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬يُعالج‭ ‬به‭ ‬نعاج‭ ‬الواحة‭ ‬كلّها،‭ ‬ثم‭ ‬يبدأ‭ ‬في‭ ‬حلق‭ ‬شعر‭ ‬الصبي‭ ‬الكثيف‭ ‬حتى‭ ‬يتركه‭ ‬مثل‭ ‬أرض‭ ‬محصودة‭ ‬نسي‭ ‬الفلاحون‭ ‬على‭ ‬صفحتها‭ ‬سنابل‭ ‬متفرقة‭ ‬وغادروا‭..‬

‮ ‬‭ ‬في‭ ‬الليالي‭ ‬المقمرة‭ ‬يسيران‭ ‬أيضا‭. ‬عائدَيْنِ‭ ‬من‭ ‬السوق،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يكونا‭ ‬قد‭ ‬أنهيا‭ ‬المهمة‭. ‬لا‭ ‬يسأل‭ ‬الضرير‭ ‬ابن‭ ‬أخيه‭ ‬عن‭ ‬جمال‭ ‬السماء‭ ‬ولا‭ ‬عن‭ ‬الأرض،‭ ‬ولا‭ ‬عن‭ ‬البشر‭ ‬الذي‮ ‬‭ ‬يُراوغ‭ ‬مشيهما‭ ‬حين‭ ‬يقتربان‭ ‬فيستحيل‭ ‬الناس‭ ‬مجرد‭ ‬ظلال،‭ ‬يسيران‭ ‬صامتين‭ ‬وأحيانا‭ ‬يكسِر‭ ‬العم‭ ‬الصمت‭ ‬فيغني‭ ‬فقرات‭ ‬يحفظها‭ ‬جيدا‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬الحسّاني‭ ‬القديم‭..‬

‮ ‬‭ ‬يسمعُ‭ ‬الصبي‭ ‬غناء‭ ‬عمه‭ ‬ويحفظه‭ ‬بذاكرته‭ ‬القوية‭. ‬ولكنه‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬يهرب‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬الواقع‭ ‬حين‭ ‬يكونان‭ ‬في‭ ‬الحافلة‭ ‬المكتظة‭ ‬التي‭ ‬تُقلّهما‭ ‬بين‭ ‬الأسواق،‭ ‬وقتها‭ ‬لا‭ ‬يفكّر‭ ‬سوى‭ ‬في‭ ‬الطريقة‭ ‬التي‮ ‬‭ ‬يردُّ‭ ‬بها‭ ‬عن‭ ‬جسد‭ ‬عمه‭ ‬لَكَزات‭ ‬الباعة‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يلتفتون‭ ‬لجسده‭ ‬الهش‭ ‬ولا‭ ‬لعمى‭ ‬عمّه‭ ‬المخبوء‭ ‬وسط‭ ‬الجلابيب‭..‬

‮ ‬‭ ‬ثم‭ ‬إن‭ ‬الأيام‭ ‬تسير‭ ‬بهما‭. ‬الطفل‭ ‬يقود‭ ‬الأعمى‭ ‬في‭ ‬الطريق،‭ ‬والعمّ‭ ‬يتحسس‭ ‬بحنان‭ ‬رأس‭ ‬ابن‭ ‬أخيه‭. ‬لكن‭ ‬الطفل،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يفهم‭ ‬لم،‭ ‬خاف‭ ‬يوما‭ ‬من‭ ‬عمه‭. ‬ليس‭ ‬خوفا‭ ‬مفهوما،‭ ‬بل‭ ‬خوف‭ ‬غامض‭ ‬رآه‭ ‬حين‭ ‬تمعّن‭ ‬في‭ ‬عين‭ ‬الضرير‭. ‬لقد‭ ‬شكّ‭ ‬بأنه‭ ‬يرى‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬يدّعي‭. ‬حينها‭ ‬تساءل‭ ‬هل‭ ‬من‭ ‬أقود‭ ‬عمّي‭ ‬فعلا‭ ‬أم‭ ‬أقود‭ ‬شبيها‭ ‬له؟

شَغلته‭ ‬الفكرة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تمعّن‭ ‬يوما‭ ‬مليّا‮ ‬‭ ‬فأدرك‭ ‬أن‭ ‬العين‭ ‬لم‭ ‬تمت‭ ‬كاملة،‭ ‬كانا‭ ‬قد‭ ‬ابتعدا‭ ‬قليلا‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يصلا‭ ‬إلى‭ ‬السوق‭ ‬فضلاّ‭ ‬الطريق‭ ‬والعمّ‭ ‬يتبع‭ ‬خطو‭ ‬الولد،‭ ‬وحين‭ ‬طالت‭ ‬الطريق‭ ‬ارتجف‭ ‬الرجل‭ ‬ورمشت‭ ‬عيناه،‭ ‬حينها‭ ‬سمع‭ ‬الطفل‭ ‬صوت‭ ‬عقله‭ ‬يقول‭ ‬له‭ ‬اهرب‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬العين‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬ترى‭ ‬لكنها‭ ‬تجمع‭ ‬الصور‭.. ‬رأى‭ ‬العين‭ ‬ذاتها‭ ‬ترمُش‭ ‬يوما‭ ‬أيضا‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬يفكّر‭ ‬في‭ ‬خدّوجة‭ ‬ولا‭ ‬يرغب‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬الأعمى‭ ‬بالأمر‭. ‬كان‭ ‬عمّه‭ ‬يحدّثه‭ ‬عن‭ ‬السوق‭ ‬فإذا‭ ‬بالولد‮ ‬‭ ‬ينطقُ‭ ‬اسمها‭ ‬المحبّب‭: ‬خّدوجة،‭ ‬دون‭ ‬سبب‭. ‬اسمها‭ ‬خديجة،‭ ‬لكنه‭ ‬نطقها‭ ‬خدّوجة،‭ ‬فَنَظر‭ ‬إليه‭ ‬عمّه‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬العين‭ ‬البيضاء‭ ‬فخاف‭ ‬خوفا‭ ‬شديداً‭..‬

‮ ‬‭ ‬لكن،‭ ‬من‭ ‬أنا‭ ‬؟‭ ‬الأعمى‭ ‬أم‭ ‬الصبي؟‭ ‬أم‭ ‬سارد‭ ‬هرب‭ ‬به‭ ‬المركب‭ ‬نحو‭ ‬شطآن‭ ‬جديدة؟‭ ‬لا‭ ‬أدري‭ ‬،‭ ‬وليس‭ ‬عليّ‭ ‬في‮ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬حرجٌ‭. ‬ربما‭ ‬أكون‭ ‬شخصا‭ ‬آخر‭:‬‭ ‬مزارعا‭ ‬يُراقب‭ ‬فحسب،‭ ‬يَرى‭ ‬من‭ ‬ثقب‭ ‬الباب‭ ‬كل‭ ‬صباح‭ ‬دخول‭ ‬الطبيعة‭ ‬على‭ ‬الطبيعة‭ ‬والضوء‭ ‬على‭ ‬الظلام‭ ‬فيرقُبُ‭ ‬رجلا‭ ‬مغطىً‭ ‬بالجلابيب‭ ‬وفتىً‭ ‬يرتعد‭ ‬من‭ ‬البرد‭ ‬يُساقُ‭ ‬إلى‭ ‬السوق‭ ‬فيكتُم‭ ‬صرخة‭ ‬التي‭ ‬تَحته،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬غاب‭ ‬زوجها‭ ‬طويلا،‭ ‬التي‭ ‬اعتادت‭ ‬أن‭ ‬تتسلّل‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬التّبن‭ ‬عند‭ ‬اللّيل‭..‬‭ ‬يختلي‭ ‬بها‭ ‬وحين‭ ‬تغادره‭ ‬ينام‭ ‬نوما‭ ‬متقطّعا‭ ‬ثم‭ ‬يستيقظ‭ ‬فينصرف‭ ‬ليُعدّ‭ ‬أدوات‭ ‬الفلاحة‭ ‬ويستحمّ‭ ‬ويستغفر‭. ‬يرى‭ ‬الطفل‭ ‬والأعمى‭ ‬يمران‭ ‬في‭ ‬وقتهما‭ ‬المحدد‭ ‬فيُسكِتُ‭ ‬صوتَ‭ ‬شهوتها‭ ‬لأن‭ ‬فجْرَ‭ ‬القرية‭ ‬يُسمع‭ ‬من‭ ‬به‭ ‬صمم‭.. ‬ربما‭ ‬أكون‭ ‬رجلا‭ ‬آخر‭: ‬مدرّس‭ ‬الصبي‭ ‬الذي‭ ‬رمت‭ ‬الأقدار‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬بعيدة،‭ ‬وتَعب‭ ‬وهو‭ ‬ينصحُ‭ ‬العم‭ ‬بالانتباه‭ ‬لما‭ ‬سيأتي،‭ ‬فالطفل‭ ‬غائب‭ ‬عن‭ ‬الدرس‭ ‬على‭ ‬الدوام،‭ ‬والعم‭ ‬يقف‭ ‬احتراما‭ ‬أمام‭ ‬المدرسة،‭ ‬يحرّك‭ ‬عصاه‭ ‬كأنما‭ ‬يهش‭ ‬شيئا‭ ‬ويُنصِتُ،‭ ‬يقول‭ ‬نعم،‭ ‬لكنه‭ ‬يقودُ‭ ‬الطفل‭ ‬عند‭ ‬السادسة‭ ‬صباحا‭ ‬إلى‭ ‬السوق‭.. ‬ورغم‭ ‬أنه‭ ‬مدرّس،‭ ‬والولد‭ ‬مجرد‭ ‬رقم،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬يحلم‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يدور،‭ ‬ويهتم‭ ‬لما‭ ‬يحصل‭ ‬له‭ ‬كأنّه‭ ‬ابنه‭. ‬ومن‭ ‬أحلامه‭ ‬الدائمة‭ ‬بعد‭ ‬العصر،‭ ‬أنّه‭ ‬يرى‭ ‬فقيه‭ ‬الدوار‭ ‬عبدالله‭ ‬يقف‭ ‬بباب‭ ‬المدرسة‭ ‬ويَطلب‭ ‬منه‭ ‬مساعدة،‭ ‬ثم‭ ‬يدعوه‭ ‬إلى‭ ‬نظم‭ ‬قصيدة‭ ‬معارضة‭ ‬لقصيدة‭ ‬كتبها‭ ‬علي‭ ‬ابن‭ ‬أبي‭ ‬طالب،‭ ‬تبدأ‭ ‬هكذا‭ ‬(المتكئُ‭ ‬على‭ ‬الزمان‭.. ‬لا‭ ‬بُد‭ ‬الزمان‭ ‬يَغْدِرُ‭ ‬به)‭.. ‬ويتعجّب‭ ‬المدرّس،‭ ‬ويحاول‭ ‬أن‭ ‬يُفسّر‭ ‬للفقيه‭ ‬أن‭ ‬القصيدة‭ ‬ليست‭ ‬لعلي‭ ‬ابن‭ ‬أبي‭ ‬طالب،‭ ‬بل‭ ‬للمغربي‭ ‬سيدي‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬المجذوب،‭ ‬لكن‭ ‬الفقيه‭ ‬يضحك‭ ‬ويرفض‭ ‬الاستماع‭ ‬ويُصبح‭ ‬مثل‭ ‬طفل‭ ‬صغير‭ ‬حين‭ ‬يمنعُ‭ ‬المدرّس‭ ‬من‭ ‬الكلام‭ ‬بإصدار‭ ‬أصوات‭ ‬مختلفة‭ ‬مُضحكة‭ ‬ليُثبت‭ ‬كلامه‭ ‬ويفرضه‭..‬

‮ ‬‭ ‬حسنا،‭ ‬هناك‭ ‬شخصان‭ ‬لن‭ ‬أنساهما‭ ‬وقد‭ ‬أكونهما‭ ‬في‭ ‬حكاية‭ ‬أخرى‭: ‬أوّلهما‭ ‬رجل‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬بالولد‭ ‬ولا‭ ‬بعمّه‭ ‬ولا‭ ‬بالمزارع‭ ‬ولا‭ ‬المدرّس‭ ‬ولا‭ ‬الراوي،‭ ‬لكنه‭ ‬أحبّ‭ ‬خدّوجةَ‭ ‬حين‭ ‬كبُرَت‭ ‬وأصبَحَت‭ ‬عروسا‭ ‬ويكاد‭ ‬يقتله‭ ‬الحسد‭ ‬والغيرة‭ ‬من‭ ‬بائع‭ ‬فقير‭ ‬تزوّجها،‭ ‬ورغم‭ ‬أنه‭ ‬متعلّم‭ ‬وهي‭ ‬مجرّد‭ ‬بدوية‭ ‬ترعى‭ ‬الغنم‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يحلم‭ ‬حين‭ ‬ينام‭ ‬بغيرها،‭ ‬ينام‭ ‬ملء‭ ‬عيونه‭ ‬فيتحول‭ ‬في‭ ‬الحلم‭ ‬إلى‭ ‬شجرة‭ ‬من‭ ‬كثرة‭ ‬الخمول‭ ‬ومن‭ ‬كثرة‭ ‬التفكير‭ ‬بها،‭ ‬وحين‭ ‬يستيقظُ‭ ‬يسأل‭ ‬نفسه‭ ‬العارفة‭ ‬بالكتب‭: ‬ما‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الخمول‭ ‬والخميلة‭ ‬والخليلة؟‭ ‬وثانيهما‭ ‬رجل‭ ‬لا‭ ‬يُحبُّ‭ ‬خَدوجة‭ ‬ولا‭ ‬يعرفها‭ ‬ولا‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬بالأمر‭ ‬كلّه،‭ ‬لكنه‭ ‬يعيش‭ ‬الكوابيس‭ ‬ويرى‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬الأحلام‭ ‬مثل‭ ‬شجرة‭ ‬يابسة،‭ ‬وحين‭ ‬يستيقظ‭ ‬يتساءل‭ : ‬ما‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬يابس‭ ‬ويائس‭..‬

أمّا‭ ‬أنا،‭ ‬فقد‭ ‬وجدتُ‭ ‬نفسي‭ ‬أخيرا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تهت‭ ‬في‭ ‬الممرات،‭ ‬على‭ ‬الطريق‭ ‬الوحيدة‭ ‬الحقيقية،‭ ‬تلك‭ ‬الطريق‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تَهتزّ‭ ‬تحتَ‭ ‬الأقدام،‭ ‬الطريق‭ ‬العزيزة‭ ‬التي‭ ‬سأنحني‭ ‬الآن‭ ‬لأبوسها،‭ ‬أمام‭ ‬الوادي‭ ‬الذي‭ ‬يلُفُّ‭ ‬الواحة‭. ‬أنا‭ ‬والليل‭ ‬والظلمة‭ ‬ترخي‭ ‬رداءها‭ ‬على‭ ‬الطريق،‭ ‬وعلى‭ ‬الجانب‭ ‬واد‭ ‬ممتد‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬عمقه‭.. ‬لا‭ ‬أسوق‭ ‬أحدا‭ ‬ولا‭ ‬يسوقني‭ ‬سوى‭ ‬الصبر‭. ‬عيناي‭ ‬عينا‭ ‬صقر‭ ‬ترى‭ ‬في‭ ‬الظلمة‭ ‬كل‭ ‬الأشياء‭. ‬لستُ‭ ‬أعمى‭ ‬ولكن‭ ‬يدي‭ ‬قادت‭ ‬الأعمى‭ ‬طويلا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الممرات‭. ‬تضعني‭ ‬“التاكسي”‭ ‬القادمة‭ ‬من‭ ‬سوق‭ ‬أسبوعي‭ ‬أمام‭ ‬الوادي‭ ‬ومعي‮ ‬‭ ‬كيس‮ ‬‭ ‬كبير‭. ‬ثمة‭ ‬من‭ ‬ينتظرني‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬على‭ ‬ضوء‭ ‬القنديل؛‭ ‬خدّوجة‭ ‬التي‭ ‬تحبني‭ ‬وتشتهيني‭ ‬ولا‭ ‬تقول‭ ‬ذلك‭ ‬بل‭ ‬تضحك‭ ‬وهي‭ ‬تمضغ‭ ‬السّواك‭ ‬البلدي‭ ‬بلا‭ ‬توقّف‭ ‬حتى‭ ‬تُصبح‭ ‬لثتها‭ ‬حمراء‭. ‬والطفلة‭ ‬الصغيرة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تبلغ‭ ‬الرابعة‭ ‬بعد،‭ ‬أتذكّرها‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬الماء،‭ ‬أنزل‭ ‬إلى‭ ‬الماء‭ ‬البارد‭ ‬للنهر‭ ‬وأعبُر‭ ‬إلى‭ ‬الاتجاه‭ ‬الآخر‭ ‬وأضحك‭. ‬أتذكر‭ ‬فمي‭ ‬يمسك‭ ‬بطرف‭ ‬البالون‭ ‬وحدقتا‭ ‬عينيها‭ ‬تتسعان‭ ‬وأضحك‭ ‬وأخاف‭ ‬أن‭ ‬أُفلتها،‭ ‬عيناها‭ ‬مصوبتان‭ ‬نحوي‭ ‬ويداها‭ ‬إلى‭ ‬أعلى،‭ ‬وحين‭ ‬يتمزق‭ ‬البالون‭ ‬الصغير‭ ‬اكتشفُ‭ ‬أن‭ ‬عمري‭ ‬أصغر‭ ‬من‭ ‬عمر‭ ‬الصبية‭ ‬لأنني‭ ‬تبعتُ‭ ‬هواي،‭ ‬وأنها‭ ‬قد‭ ‬غضبت‭ ‬لأنني‭ ‬ضيّعت‭ ‬بالونها‭. ‬أعبُرُ‭ ‬الوادي‭ ‬وأشم‭ ‬رائحة‭ ‬القصب‭. ‬هل‭ ‬أشمُّ‭ ‬رائحته‭ ‬أم‭ ‬أسمع‭ ‬صوتهُ‭ ‬يحك‭ ‬الريح؟وهل‭ ‬للقصب‭ ‬رائحة؟‭ ‬أم‭ ‬هي‭ ‬رائحة‭ ‬الطين‭ ‬الذي‭ ‬يَنغرس‭ ‬القصب‭ ‬في‭ ‬جسده‭ ‬بعد‭ ‬سيل‭ ‬عارم‭ ‬جرف‭ ‬التراب‭ ‬وعرى‭ ‬العروق؟ أرى‭ ‬خدّوجة‭ ‬عند‭ ‬الباب‭ ‬تحمل‭ ‬البنت‭ ‬وتحثني‭ ‬على‭ ‬قطع‭ ‬الوادي،‭ ‬أرجّ‭ ‬الكيس‭ ‬الكبير لأتأكد‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬على‭ ‬خير،‭ ‬وأتذكر‭ ‬عمي‭ ‬الأعمى‭ ‬الذي‭ ‬كنتُ‭ ‬أسير‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الطريق‭ ‬وكيف‭ ‬انقطعتُ‭ ‬بسببه‭ ‬مبكّرا‭ ‬عن‭ ‬الدراسة‭ ‬ومدرّس‭ ‬القرية‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يهتمّ‭ ‬بي‭ ‬ويصارع‭ ‬لأبقى‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬وحلمي‭ ‬القديم‭ ‬بأن‭ ‬أصبح‭ ‬تاجرا‭ ‬كبيرا،‭ ‬لكن‭ ‬الدراسة‭ ‬والتجارة‭ ‬لا‭ ‬تهم‭ ‬ما‭ ‬دامت‭ ‬خدّوجة‭ ‬أمام‭ ‬الباب‭ ‬تنتظر‭ ‬وصولي‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.