الرجل‭ ‬صاحب‭ ‬الهارمونيكا

الثلاثاء 2016/03/01
لوحة: بهرام حاجو

هناك قصة‭ ‬وراء‭ ‬كل‭ ‬قصة،‭ ‬سبب‭ ‬وراء‭ ‬كل‭ ‬فعل،‭ ‬وسبب‭ ‬لنهاية‭ ‬أيّ‭ ‬شيء،‭ ‬وسبب‭ ‬لبداية‭ ‬أيّ‭ ‬شيء‭. ‬هناك‭ ‬دائماً‭ ‬دافع‭ ‬ما،‭ ‬رغبة‭ ‬ما،‭ ‬إما‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬غريزة‭ ‬إشباع‭ ‬تتملك‭ ‬الإنسان،‭ ‬وإما‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬وعي‭ ‬ناضج‭ ‬توصل‭ ‬إليه‭ ‬الإنسان‭. ‬هناك‭ ‬قصة،‭ ‬سبب،‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬جانب،‭ ‬وهناك‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬جانب‭ ‬آخر‭. ‬ليس‭ ‬فراغاً‭ ‬ولا‭ ‬عدماً،‭ ‬بل‭ ‬لا‭ ‬شيء‭. ‬لم‭ ‬يوجد‭ ‬أبداً‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬ولم‭ ‬يفكر‭ ‬به‭ ‬أيّ‭ ‬إنسان‭ ‬من‭ ‬قبل‭.‬

كنت‭ ‬أعرفه‭ ‬جيداً،‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬منذ‭ ‬وقت‭ ‬طويل‭ ‬وكدت‭ ‬أنسى‭ ‬اسمه‭ ‬معظم‭ ‬الأحيان‭. ‬أحياناً‭ ‬أتذكره‭ ‬كأن‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬الأمس،‭ ‬أحياناً‭ ‬ثانية‭ ‬لا‭ ‬أتذكره‭ ‬أبداً‭. ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬يعزف‭ ‬على‭ ‬الهارمونيكا‭. ‬كان‭ ‬يرتدي‭ ‬قميص‭ ‬بوب‭ ‬ديلان‭ ‬غالب‭ ‬الأيام،‭ ‬يملك‭ ‬شعرا‭ ‬بنياً‭ ‬طويلاً،‭ ‬يضع‭ ‬قراطاً‭ ‬في‭ ‬أذنه‭ ‬اليسرى‭.‬

أمسكه‭ ‬الأمن‭ ‬الداخلي‭ ‬للنظام‭ ‬السابق‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة،‭ ‬وبعد‭ ‬سقوط‭ ‬النظام‭ ‬أمسكه‭ ‬المسلحون‭ ‬من‭ ‬النظام‭ ‬الثوري‭ ‬الجديد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭.‬

«ما‭ ‬أنت؟»‭ ‬كانوا‭ ‬يهزؤون‭ ‬به‭.‬

«أنا‭ ‬لا‭ ‬أحد،»‭ ‬كان‭ ‬يقول‭ ‬لهم‭.‬

يضربونه،‭ ‬يهينونه،‭ ‬يذلونه،‭ ‬لكنه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬يخرج‭ ‬مبتسماً‭ ‬كأنه‭ ‬انتصر‭ ‬في‭ ‬لعبة‭ ‬ما‭. ‬وخلال‭ ‬الليل‭ ‬يصعد‭ ‬إلى‭ ‬سطح‭ ‬المنزل‭ ‬ويعزف‭ ‬على‭ ‬الهارمونيكا‭ ‬الحمراء‭ ‬الفضية‭ ‬خاصته‭.‬

«إنها‭ ‬من‭ ‬نيو‭ ‬أورلينز،»‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬ذات‭ ‬ليلة،‭ ‬«كانت‭ ‬لجدي،»‭ ‬صدقته‭. ‬كلانا‭ ‬صدقناه‭. ‬أنا‭ ‬وصديقي‭ ‬الآخر‭ ‬الذي‭ ‬نسيت‭ ‬اسمه‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭. ‬لقد‭ ‬مات‭ ‬منذ‭ ‬مدة‭ ‬طويلة‭. ‬نسيت‭ ‬متى‭ ‬بالضبط‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬صديقي‭ ‬الميت‭ ‬يملك‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأصدقاء‭. ‬كنت‭ ‬شبه‭ ‬صديقه‭ ‬الوحيد‭. ‬أمه‭ ‬بقيت‭ ‬وحيدة‭ ‬مع‭ ‬أخته‭ ‬الصغيرة‭. ‬أبوه‭ ‬توفي‭ ‬بسرطان‭ ‬الرئة‭ ‬قبله‭. ‬«أبي‭ ‬تعذب‭ ‬كثيراً،»‭ ‬قال‭ ‬لي،‭ ‬«لكن‭ ‬أتعرف‭ ‬شيئاً؟‭ ‬أنا‭ ‬سعيد‭ ‬أنه‭ ‬مات»‭.‬

«لماذا؟»‭ ‬سألته‭.‬

«لقد‭ ‬أفلسنا‭ ‬بسبب‭ ‬علاجه،»‭ ‬قال،‭ ‬«وأتعرف‭ ‬شيئاً‭ ‬آخر؟‭ ‬أبي‭ ‬أناني،‭ ‬إنه‭ ‬يعلم‭ ‬ظروفنا‭ ‬الصعبة،‭ ‬وأن‭ ‬كل‭ ‬ورقة‭ ‬نقدية‭ ‬نملك‭ ‬مهمة‭ ‬جداً‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلينا،‭ ‬لكنه‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬صرف‭ ‬كل‭ ‬نقودنا‭ ‬على‭ ‬علاجه،‭ ‬وعلاجه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لينقذه‭ ‬من‭ ‬الموت،‭ ‬كنت‭ ‬أعرف‭ ‬ذلك،‭ ‬أنا‭ ‬لست‭ ‬غبياً،‭ ‬أنت‭ ‬تعلم‭ ‬ذلك،‭ ‬السرطان‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬علاجه،‭ ‬أنا‭ ‬لست‭ ‬غبياً،‭ ‬لكنني‭ ‬مفلس″‭.‬

نسيت‭ ‬أسماء‭ ‬الكثيرين‭. ‬هذا‭ ‬سيء،‭ ‬أعلم‭ ‬ذلك‭. ‬لكن‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬آخرون‭ ‬نسوا‭ ‬اسمي‭ ‬أيضاً‭. ‬هذا‭ ‬أعتقد‭ ‬يغفر‭ ‬لي‭.‬

أتى‭ ‬أبي‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬أمام‭ ‬منزل‭ ‬الرجل‭ ‬صاحب‭ ‬الهارمونيكا‭. ‬أخرجني‭ ‬من‭ ‬هناك،‭ ‬وقادني‭ ‬بالضرب‭ ‬أمام‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬نصف‭ ‬الظهيرة‭ ‬إلى‭ ‬منزلنا‭. ‬علاقتي‭ ‬مع‭ ‬أبي‭ ‬سيئة،‭ ‬لكنه‭ ‬رجل‭ ‬جيد‭ ‬في‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر‭. ‬أبي‭ ‬كان‭ ‬يرفض‭ ‬أن‭ ‬أملك‭ ‬أصدقاء‭ ‬بمثل‭ ‬هذا‭ ‬النوع،‭ ‬كان‭ ‬يريدني‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬مثله،‭ ‬خنوعاً‭ ‬وأرتدي‭ ‬سروال‭ ‬قماشيا‭ ‬وأنظر‭ ‬لأسفل‭ ‬وأكون‭ ‬مثلهم‭. ‬كرهت‭ ‬أبي‭ ‬لفترة،‭ ‬ثم‭ ‬توقفت‭ ‬عن‭ ‬كرهه‭. ‬ليس‭ ‬ذنبه‭ ‬أنه‭ ‬هكذا،‭ ‬حسناً‭ ‬بعض‭ ‬الذنب‭ ‬يقع‭ ‬عليه،‭ ‬أعني‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الذنب‭ ‬يقع‭ ‬عليه،‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬بأس،‭ ‬هو‭ ‬أبي‭ ‬وأنا‭ ‬لا‭ ‬أملك‭ ‬خياراً‭ ‬آخر‭. ‬وفي‭ ‬النهاية‭ ‬هناك‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الآباء‭ ‬الآخرين‭ ‬أسوأ‭ ‬بمليون‭ ‬مرة‭ ‬من‭ ‬أبي‭.‬

والد‭ ‬الرجل‭ ‬صاحب‭ ‬الهارمونيكا‭ ‬مثلاً،‭ ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬إنساناً‭ ‬حقيراً‭ ‬بشكل‭ ‬لا‭ ‬يصدق،‭ ‬كأنه‭ ‬قد‭ ‬ولد‭ ‬من‭ ‬فرج‭ ‬حقارة‭ ‬العالم‭ ‬أجمع،‭ ‬أخبرنا‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬عن‭ ‬والده‭. ‬كيف‭ ‬كان‭ ‬يضربه‭ ‬هو‭ ‬وأمه‭. ‬حسناً‭ ‬الضرب‭ ‬شيء‭ ‬طبيعي‭ ‬في‭ ‬مجتمعنا‭ ‬الشرقي،‭ ‬العقيدة‭ ‬الأبوية‭ ‬التي‭ ‬يؤمن‭ ‬بها‭ ‬كل‭ ‬الآباء‭ ‬هي‭ ‬كالآتي‭:‬

«الأب‭ ‬يمتلك‭ ‬العائلة‭ ‬بكاملها،‭ ‬ويعاملها‭ ‬دائماً‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬من‭ ‬ممتلكاته‭ ‬الخاصة،‭ ‬يستطيع‭ ‬بيعها‭ ‬والتصرف‭ ‬بها‭ ‬كيفما‭ ‬يشاء؛‭ ‬مثل‭ ‬الماشية»‭.‬

لكن‭ ‬والد‭ ‬الرجل‭ ‬صاحب‭ ‬الهارمونيكا‭ ‬لم‭ ‬يتوقف‭ ‬عند‭ ‬الضرب‭ ‬والشتم‭ ‬والإذلال‭ ‬فقط‭. ‬كان‭ ‬يقوم‭ ‬بأفعال‭ ‬لا‭ ‬يمكنني‭ ‬ذكرها،‭ ‬أشياء‭ ‬تفوق‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬عهدته‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬سمعته‭ ‬أو‭ ‬شاهدته‭ ‬أو‭ ‬جربته‭. ‬شعرت‭ ‬بالشفقة‭ ‬تجاه‭ ‬الرجل‭ ‬صاحب‭ ‬الهارمونيكا‭ ‬وأمه،‭ ‬وشعرت‭ ‬أنني‭ ‬محظوظ‭ ‬لأنني‭ ‬أملك‭ ‬والداً‭ ‬مثل‭ ‬أبي،‭ ‬لكنني‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬الوقت‭ ‬تمنيت‭ ‬لو‭ ‬كنت‭ ‬أملك‭ ‬والداً‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬أبي‭.‬

عندما‭ ‬مات‭ ‬والده،‭ ‬لم‭ ‬أر‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الابتسامة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬على‭ ‬وجهه،‭ ‬كانت‭ ‬ابتسامة‭ ‬عظيمة‭ ‬مثل‭ ‬ابتسامة‭ ‬رجل‭ ‬فقد‭ ‬عذريته‭ ‬لأجمل‭ ‬نساء‭ ‬العالم‭ ‬عشر‭ ‬مرات‭ ‬متتالية‭ ‬في‭ ‬ليلة‭ ‬واحدة،‭ ‬«كأن‭ ‬السماء‭ ‬أمطرت‭ ‬ملايين‭ ‬النساء‭ ‬العاريات‭ ‬لي‭ ‬فقط،»‭ ‬قال‭ ‬لنا‭ ‬ذات‭ ‬مرة،‭ ‬«وليس‭ ‬لأحد‭ ‬آخر»‭.‬

لا‭ ‬أحد‭ ‬يختار‭ ‬والده‭. ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يختار‭ ‬والدته‭. ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يختار‭ ‬عائلته‭. ‬ولو‭ ‬أعطوا‭ ‬الرجل‭ ‬صاحب‭ ‬الهارمونيكا‭ ‬خيار‭ ‬لما‭ ‬اختار‭ ‬أن‭ ‬ينتمي‭ ‬لعائلة‭ ‬على‭ ‬الإطلاق،‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬اعتقدته‭ ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬جالساً‭ ‬معه‭ ‬أثناء‭ ‬أيام‭ ‬العزاء‭.‬

ذات‭ ‬يوم‭ ‬قتلت‭ ‬غريغوري‭ ‬سامسا،‭ ‬كان‭ ‬صرصوراً‭ ‬يشبه‭ ‬فرانز‭ ‬كافكا‭ ‬يسير‭ ‬على‭ ‬ساقي‭. ‬كنت‭ ‬جالساً‭ ‬مع‭ ‬الرجل‭ ‬صاحب‭ ‬الهارمونيكا،‭ ‬لوحدنا،‭ ‬صديقنا‭ ‬الآخر‭ ‬بدأ‭ ‬يعمل‭ ‬وتوقف‭ ‬عن‭ ‬الدراسة‭ ‬ليعيل‭ ‬عائلته‭ ‬بعد‭ ‬وفاة‭ ‬والده‭.‬

«ما‭ ‬رأيك‭ ‬بالثورة؟»‭ ‬سألني‭ ‬الرجل‭ ‬صاحب‭ ‬الهارمونيكا‭.‬

«لا‭ ‬أعرف،‭ ‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أفهم‭ ‬هذه‭ ‬الأمور‭. ‬لكن‭ ‬أبي‭ ‬يظن‭ ‬أنها‭ ‬شيء‭ ‬جيد»‭. ‬أجبته‭.‬

«الوغد،‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة،‭ ‬لكان‭ ‬ظنَ‭ ‬أنها‭ ‬شيء‭ ‬جيد‭ ‬أيضاً»‭.‬

«كيف‭ ‬تعرف‭ ‬هذا؟»‭ ‬سألته‭.‬

«أنا‭ ‬أعرفه،‭ ‬لهذا‭ ‬أنا‭ ‬ضد‭ ‬هذه‭ ‬الثورة،‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬أنا‭ ‬ضد‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬ولست‭ ‬مع‭ ‬أيّ‭ ‬شيء،‭ ‬ولا‭ ‬مليون‭ ‬ثورة‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تغير‭ ‬ذلك»‭ ‬أجابني‭.‬

«إذن‭ ‬أنت‭ ‬ضد‭ ‬الثورة‭ ‬لأن‭ ‬والدك‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬حياً‭ ‬لكان‭ ‬معها؟»‭.‬

«أجل،‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬أبسط‭ ‬من‭ ‬هذا»‭.‬

بعدها‭ ‬بدأ‭ ‬يعزف‭ ‬على‭ ‬الهارمونيكا،‭ ‬أخرجت‭ ‬سيجارة‭ ‬وأشعلتها،‭ ‬كان‭ ‬جيداً‭ ‬حقاً‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الهارمونيكا،‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬السجائر‭ ‬التي‭ ‬دخنتها‭ ‬طوال‭ ‬حياتي‭. ‬ظللنا‭ ‬صامتين‭ ‬لمدة‭ ‬طويلة،‭ ‬بعدها‭ ‬ودعته‭ ‬وعدت‭ ‬للمنزل‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الرجل‭ ‬صاحب‭ ‬الهارمونيكا‭ ‬يخجل‭ ‬من‭ ‬إبداء‭ ‬رأيه‭ ‬أمام‭ ‬الناس،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬كونه‭ ‬منبوذاً،‭ ‬محَتقراً،‭ ‬ويبدو‭ ‬مثل‭ ‬المدمن‭ ‬المتشرد‭. ‬أخبرته‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬أن‭ ‬يتوقف‭ ‬عن‭ ‬إبداء‭ ‬رأيه‭ ‬لأي‭ ‬أحد،‭ ‬وأن‭ ‬هذا‭ ‬سيسبب‭ ‬له‭ ‬المشاكل‭ ‬ولربما‭ ‬الاعتقال‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬السجون‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنتهي‭.‬

كنا‭ ‬ثلاثتنا،‭ ‬أنا‭ ‬والرجل‭ ‬صاحب‭ ‬الهارمونيكا‭ ‬وصديقنا،‭ ‬الأشخاص‭ ‬الوحيدون‭ ‬في‭ ‬الحي‭ ‬الذي‭ ‬يفهمون‭ ‬مسألة‭ ‬الموسيقى،‭ ‬المعنى،‭ ‬الروح،‭ ‬الخلوة‭ ‬الإنسانية‭ ‬الصافية‭ ‬المتآلفة‭ ‬مع‭ ‬العالم‭ ‬وسط‭ ‬نغمات‭ ‬الآلة‭ ‬عند‭ ‬اليد‭ ‬المناسبة‭.‬

كنا‭ ‬نسمع‭ ‬الروك‭ ‬آند‭ ‬رول‭ ‬ونرتدي‭ ‬قمصان‭ ‬فرقنا‭ ‬المفضلة‭ ‬ونعزف‭ ‬فوق‭ ‬سطح‭ ‬منزل‭ ‬رجل‭ ‬صاحب‭ ‬الهارمونيكا‭ ‬كل‭ ‬خميس،‭ ‬ولم‭ ‬نكن‭ ‬نذهب‭ ‬لنصلي‭ ‬صلاة‭ ‬الجمعة‭ ‬أبداً‭. ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬غير‭ ‬مؤمنين،‭ ‬لكن‭ ‬إيماننا‭ ‬كان‭ ‬مختلفاً،‭ ‬كانوا‭ ‬يقولون‭ ‬لنا‭ ‬إن‭ ‬الموسيقى‭ ‬حرام،‭ ‬وأن‭ ‬الله‭ ‬حرّم‭ ‬الموسيقى‭ ‬لأنها‭ ‬من‭ ‬فعل‭ ‬الشيطان،‭ ‬هذا‭ ‬الشيء‭ ‬لم‭ ‬يتغير‭ ‬بعد‭ ‬الثورة،‭ ‬الرجل‭ ‬صاحب‭ ‬الهارمونيكا‭ ‬كان‭ ‬يقول‭ ‬لهم‭ ‬دائماً‭ ‬قبل‭ ‬الثورة‭ ‬وبعدها‭:‬

«أنا‭ ‬شيطان،‭ ‬والآن‭ ‬ماذا‭ ‬تريد‭ ‬يا‭ ‬أخي؟»‭.‬

كان‭ ‬أشجعنا،‭ ‬كأنه‭ ‬ابن‭ ‬الألم‭ ‬أو‭ ‬نصف‭ ‬إله‭ ‬أو‭ ‬شيء‭ ‬كهذا‭. ‬كنت‭ ‬أخاف‭ ‬الألم‭. ‬كنت‭ ‬أغار‭ ‬منه‭ ‬ولو‭ ‬لم‭ ‬أعترف‭ ‬له‭ ‬بذلك‭ ‬في‭ ‬أيّ‭ ‬مرة‭.‬

كبرنا،‭ ‬أنا‭ ‬وصديقي‭ ‬الميت،‭ ‬مر‭ ‬نصف‭ ‬عقد‭ ‬على‭ ‬الثورة،‭ ‬ولم‭ ‬نعد‭ ‬نقابل‭ ‬الرجل‭ ‬صاحب‭ ‬الهارمونيكا‭. ‬لقد‭ ‬خنته،‭ ‬خناه،‭ ‬هكذا‭ ‬كنت‭ ‬أعتقد‭ ‬عندما‭ ‬أتذكره‭ ‬نادراً‭. ‬فلحقتنا‭ ‬لعناته‭ ‬ومات‭ ‬صديقي‭. ‬أتذكر‭ ‬أنه‭ ‬مات‭ ‬مقتولاً‭. ‬كيف‭ ‬ولماذا،‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬أو‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أتذكر‭. ‬لقد‭ ‬نسيت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأشياء‭. ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬أفضل،‭ ‬أن‭ ‬أنسى‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأشياء،‭ ‬هذا‭ ‬سهّل‭ ‬عليّ‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬التفاهة‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أظن‭ ‬أنها‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭.‬

أتذكر‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬واقفاً‭ ‬على‭ ‬قبر‭ ‬صديقي،‭ ‬عندما‭ ‬رأيت‭ ‬الرجل‭ ‬صاحب‭ ‬الهارمونيكا،‭ ‬أصبح‭ ‬هزيلاً،‭ ‬وجهه‭ ‬شاحب،‭ ‬لكنني‭ ‬شعرت‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يفقد‭ ‬قوته‭ ‬بعد‭.‬‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬تلك‭ ‬الهالة‭ ‬الأرجوانية‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أراها‭ ‬دائماً‭ ‬حوله‭ ‬موجودة‭.‬

«شيطان‭ ‬الديب‭ ‬بربل»،‭ ‬لقب‭ ‬نفسه‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭. ‬ضحكنا‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الاسم‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬يليق‭ ‬به‭. ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬كان‭ ‬يقوم‭ ‬به‭ ‬كان‭ ‬يليق‭ ‬به،‭ ‬كان‭ ‬مثل‭ ‬دايفيد‭ ‬بووي،‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يليق‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭. ‬ربما‭ ‬كنت‭ ‬وصديقي‭ ‬وحدنا‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬يفهم‭ ‬ذلك‭. ‬لكنّني‭ ‬أصبحت‭ ‬وحيداً‭. ‬اعتدت‭ ‬على‭ ‬الأمر‭ ‬مع‭ ‬الوقت‭.‬

اختفى‭ ‬بعد‭ ‬الجنازة‭. ‬أردت‭ ‬لقائه،‭ ‬إلا‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أتجرأ‭ ‬على‭ ‬ذلك‭. ‬شعرت‭ ‬أنني‭ ‬خنته‭. ‬منعني‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬التواصل‭ ‬معه‭ ‬بأيّ‭ ‬طريقة‭.‬

أبي‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬كالسابق،‭ ‬أصبح‭ ‬ليناً‭ ‬أكثر‭. ‬وهذا‭ ‬أمر‭ ‬جيد‭. ‬انتصار‭ ‬لنا‭ ‬كعائلة‭. ‬بدا‭ ‬أكثر‭ ‬لطفاً،‭ ‬وأكثر‭ ‬مرونة‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬معنا،‭ ‬ربما‭ ‬لأنه‭ ‬بدأ‭ ‬يخاف‭ ‬منا،‭ ‬أنا‭ ‬وإخوتي،‭ ‬أوه‭ ‬لقد‭ ‬كبرنا‭ ‬أيضاً،‭ ‬الوقت‭ ‬يفعل‭ ‬بك‭ ‬ذلك،‭ ‬يجعلك‭ ‬تكبر،‭ ‬تتغير،‭ ‬تصبح‭ ‬أكثر‭ ‬جرأة،‭ ‬شجاعة،‭ ‬أحياناً‭ ‬لا،‭ ‬أحياناً‭ ‬نعم‭.‬

الرجل‭ ‬صاحب‭ ‬الهارمونيكا‭ ‬تغيّر‭ ‬هو‭ ‬الآخر،‭ ‬أنا‭ ‬تغيرت،‭ ‬أصبحت‭ ‬وغداً،‭ ‬لئيماً،‭ ‬كاذباً،‭ ‬مثلهم‭ ‬هم‭ ‬الذين‭ ‬أردت‭ ‬في‭ ‬السابق‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬مختلفاً‭ ‬عنهم‭ ‬بأيّ‭ ‬طريقة‭ ‬ممكنة‭.‬

أحبتني‭ ‬الفتيات‭ ‬لأنني‭ ‬أصبحت‭ ‬هكذا،‭ ‬فقدت‭ ‬عذريتي‭ ‬مع‭ ‬إحداهن‭ ‬ثم‭ ‬ثانية‭ ‬وثالثة،‭ ‬أصابني‭ ‬السيلان‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬المرات،‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬فظيعاً‭ ‬عندما‭ ‬وضع‭ ‬الطبيب‭ ‬الإبرة‭ ‬في‭ ‬رأس‭ ‬قضيبي‭ ‬لكنني‭ ‬شعرت‭ ‬أنني‭ ‬أفضل‭ ‬بعدها‭.‬

بدأت‭ ‬أعمل‭ ‬كموظف‭ ‬في‭ ‬مصرف،‭ ‬وكنت‭ ‬سأتزوج‭ ‬بعد‭ ‬ستة‭ ‬أشهر،‭ ‬من‭ ‬فتاة‭ ‬تقية‭ ‬مؤمنة‭ ‬غبية‭. ‬أجل،‭ ‬لقد‭ ‬أصبحت‭ ‬مثلهم،‭ ‬أحرقت‭ ‬قمصان‭ ‬الروك‭ ‬آند‭ ‬رول‭ ‬في‭ ‬ظهيرة‭ ‬يوم‭ ‬جمعة،‭ ‬وخضعت‭ ‬للعدو،‭ ‬أصبحت‭ ‬خانعاً،‭ ‬توقفت‭ ‬عن‭ ‬الاستماع‭ ‬لموسيقى‭ ‬الروك‭ ‬آند‭ ‬رول‭ ‬منذ‭ ‬فترة‭ ‬طويلة،‭ ‬أصبحت‭ ‬أسمع‭ ‬الموسيقى‭ ‬التي‭ ‬يستمع‭ ‬لها‭ ‬أغلبهم،‭ ‬موسيقى‭ ‬شعبية‭ ‬وبعض‭ ‬الأغاني‭ ‬العربية‭ ‬الرائجة‭ ‬وموسيقى‭ ‬التكنو‭ ‬والهيب‭ ‬هوب،‭ ‬أصبحت‭ ‬هراءً‭.‬

كان‭ ‬ذلك‭ ‬رهيباً،‭ ‬سيئاً‭ ‬جداً،‭ ‬لكنني‭ ‬اعتدت،‭ ‬كان‭ ‬يجب‭ ‬عليّ‭ ‬ذلك،‭ ‬اعتدت‭ ‬على‭ ‬الأمر‭ ‬لحدّ‭ ‬أنني‭ ‬نسيت‭ ‬اسمي‭ ‬ذات‭ ‬مرة،‭ ‬نسيت‭ ‬من‭ ‬أنا؟‭ ‬من‭ ‬أنت؟‭ ‬لماذا‭ ‬بدأت‭ ‬ترتدي‭ ‬الزيّ‭ ‬الشعبي‭ ‬القبيح‭ ‬وتذهب‭ ‬لتصلي‭ ‬صلاة‭ ‬الجمعة؟‭ ‬راودتني‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة،‭ ‬سمعتها‭ ‬بصوت‭ ‬الرجل‭ ‬صاحب‭ ‬الهارمونيكا،‭ ‬صوت‭ ‬الهارمونيكا‭ ‬الحمراء‭ ‬الفضية‭ ‬صاحب‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة‭.‬

لا‭ ‬تعتقد‭ ‬أنك‭ ‬أفضل‭ ‬مني‭.‬


لوحة: بهرام حاجو

قبل‭ ‬أن‭ ‬أتزوج‭ ‬قررت‭ ‬دعوة‭ ‬الرجل‭ ‬صاحب‭ ‬الهارمونيكا‭ ‬لزفافي،‭ ‬كان‭ ‬صديقي‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬وكان‭ ‬يجب‭ ‬عليّ‭ ‬أن‭ ‬أدعوه‭. ‬كنا‭ ‬قد‭ ‬انتقلنا‭ ‬من‭ ‬الحي‭ ‬إلى‭ ‬حي‭ ‬آخر‭ ‬شرق‭ ‬المدينة‭ ‬منذ‭ ‬فترة‭ ‬طويلة‭.‬

خرجت‭ ‬من‭ ‬المصرف‭ ‬باكراً‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم،‭ ‬وقدت‭ ‬السيارة‭ ‬إلى‭ ‬حينا‭ ‬القديم،‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬تغير،‭ ‬الثورة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يؤمن‭ ‬بها‭ ‬الرجل‭ ‬صاحب‭ ‬الهارمونيكا‭ ‬والذي‭ ‬مات‭ ‬نتيجتها‭ ‬صديقي‭ ‬غيرت‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬للأسوأ،‭ ‬للأفضل،‭ ‬هذا‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬حظك‭ ‬واسم‭ ‬عائلتك‭.‬

أوه،‭ ‬أجل،‭ ‬تذكرت‭ ‬لماذا‭ ‬مات‭ ‬صديقي،‭ ‬كان‭ ‬لقب‭ ‬عائلته‭ ‬مثل‭ ‬لقب‭ ‬عائلة‭ ‬أحد‭ ‬رجالات‭ ‬النظام‭ ‬السابق،‭ ‬فأمسكوا‭ ‬به‭ ‬ذات‭ ‬يوم،‭ ‬عذبوه،‭ ‬ومات‭. ‬بكل‭ ‬هذه‭ ‬البساطة‭. ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬غلطة‭ ‬وقد‭ ‬أمسكوا‭ ‬بالفاعلين‭ ‬لكنهم‭ ‬خرجوا‭ ‬بعدها‭ ‬بأسبوع،‭ ‬فالثوار‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬المساس‭ ‬بهم‭. ‬صديقي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬منطقة‭ ‬أخرى‭ ‬والمطلوب‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬منطقة‭ ‬أخرى،‭ ‬الجهل‭ ‬قتل‭ ‬صديقي،‭ ‬مثلما‭ ‬أفلس‭ ‬الجهل‭ ‬عائلته‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬محظوظاً‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬أبداً‭.‬

شعرت‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الواجب‭ ‬عليّ‭ ‬أن‭ ‬أتزوج‭ ‬أخته‭ ‬الوحيدة‭ ‬وأرعاها‭ ‬مع‭ ‬أمها،‭ ‬لم‭ ‬يكونا‭ ‬يملكان‭ ‬أحداً،‭ ‬ذاك‭ ‬كان‭ ‬ليكون‭ ‬التصرف‭ ‬الصائب،‭ ‬لكنني‭ ‬لم‭ ‬أبال،‭ ‬تباً‭ ‬لذلك،‭ ‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أقوم‭ ‬بأيّ‭ ‬عمل‭ ‬صائب،‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬كيف،‭ ‬ذلك‭ ‬شيء‭ ‬ليس‭ ‬بإرادتي‭.‬

نزلت‭ ‬من‭ ‬السيارة‭ ‬وطرقت‭ ‬على‭ ‬الباب‭. ‬انتظرت‭ ‬عدة‭ ‬دقائق‭. ‬لم‭ ‬يفتح‭ ‬الباب‭ ‬أحد‭. ‬ثم‭ ‬قررت‭ ‬الرحيل‭ ‬ونسيان‭ ‬الأمر‭. ‬ثم‭ ‬فُتح‭ ‬الباب‭. ‬فتحت‭ ‬لي‭ ‬أمه‭ ‬الباب‭.‬

«مرحباً،‭ ‬من‭ ‬تريد‭ ‬يا‭ ‬سيد؟»‭ ‬قالت‭.‬

«أنا‭ ‬صديق‭ ‬ابنك،‭ ‬أنا‭ ‬ابن‭ ‬الأستاذ‭ ‬قاسم،»‭ ‬قلت‭ ‬لها‭.‬

«أوه،‭ ‬أوه،‭ ‬مرحباً،‭ ‬أهلاً‭ ‬بك،‭ ‬لقد‭ ‬مضى‭ ‬زمن‭ ‬طويل،»‭ ‬قالت،‭ ‬«كيف‭ ‬حالك‭ ‬وحال‭ ‬أمك‭ ‬وأبوك‭ ‬وإخوتك؟‭ ‬لقد‭ ‬اشتقنا‭ ‬إليك»‭.‬

«الحمد‭ ‬لله،‭ ‬جيدون»،‭ ‬قلت‭ ‬لها،‭ ‬«كيف‭ ‬حالك‭ ‬يا‭ ‬عمتي؟‭ ‬وكيف‭ ‬حاله؟»‭.‬

«الحمد‭ ‬لله،‭ ‬جيدون،‭ ‬نعيش‭ ‬اليوم‭ ‬بيومه،‭ ‬والحمد‭ ‬لله»‭ ‬قالت،‭ ‬«تفضل‭ ‬بالدخول،‭ ‬تجده‭ ‬فوق،‭ ‬على‭ ‬السطح،‭ ‬أنت‭ ‬تتذكر‭ ‬الطريق‭ ‬أليس‭ ‬كذلك؟»‭.‬

«أجل،‭ ‬أجل‭ ‬يا‭ ‬عمتي،‭ ‬كيف‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أنسى؟»‭ ‬قلت‭ ‬لها‭.‬

دخلت‭ ‬المنزل،‭ ‬أصبح‭ ‬هناك‭ ‬بيت‭ ‬زجاجي‭ ‬به‭ ‬أزهار‭ ‬مكان‭ ‬المخزن‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يخزن‭ ‬فيه‭ ‬والده‭ ‬«قمامته»‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬الرجل‭ ‬صاحب‭ ‬الهارمونيكا‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭. ‬استطعت‭ ‬رؤية‭ ‬الأزهار،‭ ‬كانت‭ ‬جميلة،‭ ‬وكانت‭ ‬هناك‭ ‬شجرة‭ ‬عنب‭ ‬وليمون‭ ‬وشتلات‭ ‬أزهار‭ ‬وعدة‭ ‬سلاحف‭ ‬وقطة‭ ‬صغيرة‭ ‬وبعض‭ ‬العصافير‭ ‬في‭ ‬قفص‭ ‬ذهبي،‭ ‬وثلاثة‭ ‬غيتارات‭ ‬خشبية‭ ‬قديمة‭ ‬معلقة‭ ‬على‭ ‬الحائط‭.‬

المكان‭ ‬كان‭ ‬يبدو‭ ‬جميلاً‭ ‬ـ‭ ‬كأنه‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬جنة‭ ‬أحد‭ ‬الهيبيين-‭ ‬أمه‭ ‬كانت‭ ‬تبدو‭ ‬جميلة،‭ ‬ترتدي‭ ‬فستاناً‭ ‬أبيض‭ ‬لطيفاً،‭ ‬شعرها‭ ‬أبيض‭ ‬تتوسطه‭ ‬خصلات‭ ‬صغيرة‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬الرمادي،‭ ‬كانت‭ ‬جالسة‭ ‬على‭ ‬العشب‭ ‬الأخضر‭ ‬تخيط‭ ‬الجوارب‭. ‬كانت‭ ‬تبدو‭ ‬مثل‭ ‬إحدى‭ ‬الهيبيات‭ ‬من‭ ‬السبعينات‭ ‬أو‭ ‬عرافة‭ ‬شرقية‭ ‬من‭ ‬قرون‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الإله‭ ‬الواحد‭.‬

«المكان‭ ‬أصبح‭ ‬جميلاً‭ ‬يا‭ ‬سيدة‭ ‬مريم»،‭ ‬قلت‭ ‬لها‭.‬

«شكراً‭ ‬لك‭ ‬يا‭ ‬ابني،‭ ‬لقد‭ ‬عملنا‭ ‬عليه‭ ‬بالقليل‭ ‬الذي‭ ‬نملك»،‭ ‬قالت‭ ‬مبتسمة،‭ ‬«ابني‭ ‬فعل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬تقريباً،‭ ‬أنا‭ ‬ساعدته‭ ‬فقط،‭ ‬كانت‭ ‬فكرته»‭.‬

أكملت‭ ‬سيري‭ ‬تجاه‭ ‬السلالم‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬فناء‭ ‬المنزل،‭ ‬تعلوني‭ ‬الصدمة‭ ‬والبهجة‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد،‭ ‬حقاً،‭ ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬المكان‭ ‬جميلاً‭ ‬لهذا‭ ‬الحد،‭ ‬كان‭ ‬عليك‭ ‬أن‭ ‬تراه‭.‬

صعدت‭ ‬السلالم،‭ ‬وجدت‭ ‬باب‭ ‬سطح‭ ‬المنزل‭ ‬مفتوحاً،‭ ‬دخلت‭ ‬ورأيته‭. ‬كان‭ ‬جالساً‭ ‬على‭ ‬كرسي‭ ‬خشبيّ‭ ‬أمام‭ ‬طاولة‭ ‬خشبية‭ ‬وأمامه‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬وبجانبهم‭ ‬الهارمونيكا‭.‬

وقف‭ ‬الرجل‭ ‬صاحب‭ ‬الهارمونيكا‭ ‬وحدق‭ ‬فيّ،‭ ‬سار‭ ‬نحوي‭ ‬وسرت‭ ‬نحوه،‭ ‬سلمت‭ ‬عليه،‭ ‬لكنه‭ ‬حضنني،‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬هزيلاً،‭ ‬لكنه‭ ‬أصبح‭ ‬كبيراً‭ ‬في‭ ‬العمر،‭ ‬كان‭ ‬يرتدي‭ ‬نظارات‭ ‬طبية‭ ‬وقميصاً‭ ‬أرجوانيا،‭ ‬والهالة‭ ‬الأرجوانية‭ ‬حوله‭ ‬كانت‭ ‬مشعّة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬قبل‭. ‬كان‭ ‬نضراً،‭ ‬وكنت‭ ‬أبدو‭ ‬أمامه‭ ‬كالوغد،‭ ‬شيطان‭ ‬الديب‭ ‬بربل‭ ‬أصبح‭ ‬ملاكاً‭. ‬شعرت‭ ‬أنني‭ ‬رجل‭ ‬قذر‭ ‬دون‭ ‬هالة‭. ‬خائن‭ ‬دون‭ ‬هالة‭. ‬حقير‭ ‬فارغ‭ ‬دون‭ ‬هالة‭. ‬كتلة‭ ‬من‭ ‬اللحم‭ ‬والعظام‭ ‬بلا‭ ‬جدوى،‭ ‬قمامة‭ ‬أحد‭ ‬الأوغاد‭ ‬ولا‭ ‬أساوي‭ ‬أيّ‭ ‬شيء‭.‬

‮ ‬«هل‭ ‬مازلت‭ ‬تقتل‭ ‬الصراصير‭ ‬التي‭ ‬تبدو‭ ‬مثل‭ ‬فرانز‭ ‬كافكا؟»‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬وابتسم‭.‬

«يا‭ ‬رجل،‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬هناك‭ ‬أي‭ ‬صراصير‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البلد»‭. ‬قلت‭ ‬له‭.‬

«الصراصير‭ ‬أصبحت‭ ‬ملوكاً،‭ ‬ونحن‭ ‬أصبحنا‭ ‬صراصير»‭. ‬قال‭ ‬لي،‭ ‬ثم‭ ‬ضحك‭.‬

وجدنا‭ ‬الرجل‭ ‬صاحب‭ ‬الهارمونيكا‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬يقرأ‭ ‬كتاباً‭ ‬فوق‭ ‬سطح‭ ‬منزله،‭ ‬سألناه‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬بعدما‭ ‬ضحكنا‭ ‬كثيراً‭ ‬على‭ ‬مشهده‭ ‬وهو‭ ‬يحمل‭ ‬الكتاب‭ ‬بين‭ ‬يديه‭. ‬قال‭ ‬لنا‭ ‬إنه‭ ‬وجده‭ ‬بين‭ ‬أغراض‭ ‬جده،‭ ‬والد‭ ‬أمه‭. ‬والده‭ ‬ألقى‭ ‬بكل‭ ‬أغراض‭ ‬جده‭ ‬من‭ ‬المنزل‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭. ‬في‭ ‬الليل‭ ‬عندما‭ ‬نام‭ ‬والده‭ ‬تسلل‭ ‬خارج‭ ‬المنزل‭ ‬وأخذ‭ ‬معه‭ ‬ما‭ ‬يمكنه‭ ‬حمله‭ ‬من‭ ‬أغراض‭ ‬جده،‭ ‬إحدى‭ ‬هذه‭ ‬الأغراض‭ ‬كانت‭ ‬كتاب‭ ‬فرانز‭ ‬كافكا،‭ ‬التحول‭. ‬كُتب‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬صفحة‭ ‬فارغة‭:‬

«ذات‭ ‬يوم‭ ‬قتلت‭ ‬غريغوري‭ ‬سامسا،‭ ‬كان‭ ‬صرصوراً‭ ‬يشبه‭ ‬فرانز‭ ‬كافكا‭ ‬يسير‭ ‬على‭ ‬ساقي‭.‬

س‭. ‬ي‭. ‬1966‭.‬»

اسم‭ ‬جده‭ ‬كان‭ ‬سالم‭ ‬ياسين‭. ‬والبيت‭ ‬كان‭ ‬ملكه‭. ‬وقد‭ ‬أورثه‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يموت‭ ‬لابنته،‭ ‬أمّ‭ ‬الرجل‭ ‬صاحب‭ ‬الهارمونيكا‭.‬

«كيف‭ ‬حالك؟‭ ‬لقد‭ ‬مضى‭ ‬وقت‭ ‬طويل،‭ ‬رأيتك‭ ‬في‭ ‬جنازة‭ ‬فؤاد،‭ ‬لكنني‭ ‬لم‭ ‬أستطع‭ ‬أن‭ ‬أبقى‭ ‬طويلا،‭ ‬كان‭ ‬عليّ‭ ‬أن‭ ‬أعود‭ ‬للمنزل»‭. ‬قال‭ ‬لي‭.‬

«أنا‭ ‬جيد،‭ ‬لا‭ ‬بأس،‭ ‬ولا‭ ‬داعي‭ ‬للتبرير،‭ ‬أنا‭ ‬مقصر‭ ‬معك‭ ‬أكثر،‭ ‬وأنا‭ ‬أعتذر‭ ‬على‭ ‬ذلك»‭. ‬قلت‭ ‬له‭.‬

«لا‭ ‬بأس‭ ‬يا‭ ‬رجل،‭ ‬الحياة‭ ‬هكذا،‭ ‬هناك‭ ‬دائماً‭ ‬أسباب‭ ‬لكل‭ ‬شيء،‭ ‬ودوافع‭ ‬لكل‭ ‬شيء،‭ ‬وأحياناً‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬شيء»‭. ‬قال‭ ‬لي‭ ‬وابتسم‭.‬

أخبرته‭ ‬عن‭ ‬زفافي،‭ ‬سألني‭ ‬أسئلة‭ ‬غريبة،‭ ‬«هل‭ ‬تحبها؟‭ ‬هل‭ ‬ذوقها‭ ‬مختلف‭ ‬عنهم؟‭ ‬هل‭ ‬تعرف‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬فرانز‭ ‬كافكا؟‭ ‬هل‭ ‬تسمع‭ ‬الروك‭ ‬آند‭ ‬رول؟»‭.‬

لكنها‭ ‬كانت‭ ‬عادية‭. ‬كانت‭ ‬تقية‭ ‬ومؤمنة،‭ ‬من‭ ‬الأكيد‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬يُحسب‭ ‬كشيء‭ ‬ما‭.‬

«التقوى،‭ ‬هذا‭ ‬أمر‭ ‬مبالغ‭ ‬فيه،‭ ‬الحقيقة‭ ‬والتقوى‭ ‬لا‭ ‬يتقابلان‭ ‬في‭ ‬نقطة‭ ‬واحدة‭ ‬البتة،»‭ ‬قال‭ ‬لي‭.‬

«لم‭ ‬أفهم،»‭ ‬قلت‭ ‬له‭.‬

«ستفهم‭ ‬مع‭ ‬الوقت،»‭ ‬قال‭ ‬لي‭.‬

«لقد‭ ‬تغيرت‭ ‬كثيراً‭ ‬يا‭ ‬رجل،‭ ‬أصبحتَ‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬كيف‭ ‬أقولها،‭ ‬تتكلم‭ ‬بطريقة‭ ‬مختلفة»‭. ‬قلت‭ ‬له‭.‬

«الوحدة‭ ‬يا‭ ‬رجل،‭ ‬الوحدة‭ ‬تجعلك‭ ‬تفكر‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء»‭. ‬قال‭ ‬لي،‭ ‬«في‭ ‬البداية‭ ‬تؤذيك‭ ‬الوحدة،‭ ‬تجعلك‭ ‬تؤذي‭ ‬نفسك‭ ‬والناس‭ ‬حولك،‭ ‬ثم‭ ‬تتوقف‭ ‬عن‭ ‬إيذاء‭ ‬الناس‭ ‬حولك‭ ‬وتستمر‭ ‬في‭ ‬إيذاء‭ ‬نفسك،‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬حافة‭ ‬السقوط،‭ ‬ترى‭ ‬الهاوية،‭ ‬فتراك،‭ ‬فتصبح‭ ‬الهاوية،‭ ‬قرأت‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬لرجل‭ ‬ألماني،‭ ‬ثم‭ ‬بعدها‭ ‬تعتاد،‭ ‬وتختار‭ ‬هل‭ ‬ستظل‭ ‬هكذا‭ ‬طول‭ ‬عمرك؟‭ ‬أنا‭ ‬اخترت‭ ‬أن‭ ‬أستمر‭ ‬في‭ ‬المقاومة،‭ ‬مقاومتهم،‭ ‬ثمن‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬الوحدة،‭ ‬لكنك‭ ‬تعتاد‭ ‬عليها‭ ‬فتصبح‭ ‬صديقك‭ ‬الوحيد‭ ‬المخلص،‭ ‬إلهك،‭ ‬هناك‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأشياء‭ ‬الأكثر‭ ‬أهمية‭ ‬منهم،‭ ‬البشر‭ ‬أقصد،‭ ‬ولديّ‭ ‬كفايتي‭ ‬من‭ ‬البشر،‭ ‬المرأة‭ ‬العجوز‭ ‬التي‭ ‬تخيط‭ ‬الجوارب‭ ‬تحت‭ ‬وأنا،‭ ‬وهذا‭ ‬يكفيني»‭.‬

«ألا‭ ‬تريد‭ ‬الزواج؟‭ ‬عائلة؟»‭ ‬سألته‭.‬

«لا‭ ‬أعتقد،‭ ‬ربما‭ ‬وربما‭ ‬لا،‭ ‬أنا‭ ‬أخطط‭ ‬للرحيل‭ ‬منذ‭ ‬فترة،‭ ‬وسأقوم‭ ‬بذلك‭ ‬قريباً،‭ ‬سأتنقل‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬لآخر‭ ‬ولن‭ ‬أبقى‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬واحد‭ ‬للأبد،‭ ‬وبجانب‭ ‬ذلك‭ ‬أعتقد‭ ‬أنني‭ ‬بدأت‭ ‬أغفر‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬فعله‭ ‬بنا،‭ ‬الشر‭ ‬الباقي‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭ ‬لا‭ ‬يمكنك‭ ‬أن‭ ‬تغفر‭ ‬له،‭ ‬الشر‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬موجوداً‭ ‬يمكنك‭ ‬أن‭ ‬تغفر‭ ‬له‭ ‬مع‭ ‬الوقت،‭ ‬الزمن‭ ‬شيء‭ ‬عظيم‭ ‬لتضيعه‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬تافه‭ ‬مثل‭ ‬كره‭ ‬رجل‭ ‬ميت»،‭ ‬قال‭ ‬لي‭.‬

في‭ ‬نهاية‭ ‬حديثنا،‭ ‬أخبرني‭ ‬أنه‭ ‬سيحاول‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬لزفافي،‭ ‬لكنني‭ ‬كنت‭ ‬أعرف‭ ‬أنه‭ ‬لن‭ ‬يأتي،‭ ‬لقد‭ ‬صنع‭ ‬الرجل‭ ‬صاحب‭ ‬الهارمونيكا‭ ‬عالم‭ ‬خاص‭ ‬به،‭ ‬أصبح‭ ‬خارج‭ ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬أصبحت‭ ‬أنا‭ ‬جزءا‭ ‬منه‭ ‬عندما‭ ‬تركته‭ ‬لوحده‭.‬

كرهت‭ ‬أبي،‭ ‬تمنيت‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬مثل‭ ‬والده،‭ ‬لأنني‭ ‬أردت‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬مثل‭ ‬الرجل‭ ‬صاحب‭ ‬الهارمونيكا‭. ‬ندمت‭ ‬أنني‭ ‬أحرقت‭ ‬قمصان‭ ‬الروك‭ ‬آند‭ ‬رول‭ ‬خاصتي‭. ‬ندمت‭ ‬أنني‭ ‬حطمت‭ ‬الغيتارة‭ ‬خاصتي‭. ‬ندمت‭ ‬أنني‭ ‬قطعت‭ ‬علاقتي‭ ‬مع‭ ‬فؤاد‭ ‬والرجل‭ ‬صاحب‭ ‬الهارمونيكا‭. ‬شعرت‭ ‬أنني‭ ‬خائن‭ ‬وتمنيت‭ ‬أن‭ ‬أختفي‭ ‬للأبد،‭ ‬تمنيت‭ ‬لو‭ ‬كنت‭ ‬شجاعاً‭.‬

تزوجت‭ ‬بعدها‭ ‬بأسابيع‭. ‬كانت‭ ‬امرأة‭ ‬طيبة‭ ‬وتقية‭. ‬رائعة‭ ‬في‭ ‬الفراش‭. ‬كرهتها،‭ ‬ليس‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬فراش‭ ‬وأكل‭. ‬كرهت‭ ‬ابني‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬أسميته‭ ‬على‭ ‬اسم‭ ‬والدي،‭ ‬كان‭ ‬قبيح‭ ‬الشكل‭. ‬تظاهرت‭ ‬أنني‭ ‬أحب‭ ‬ابني‭ ‬الصغير‭. ‬تظاهرت‭ ‬أنني‭ ‬أحب‭ ‬زوجتي‭. ‬شتمتها‭ ‬وضربتها‭ ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬غاضباً‭. ‬كانت‭ ‬وفية‭. ‬امرأة‭ ‬حمقاء‭. ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تقاوم‭. ‬أردتها‭ ‬أن‭ ‬تقاوم‭. ‬لكنها‭ ‬لم‭ ‬تفعل‭ ‬ذلك‭. ‬استمريت‭ ‬في‭ ‬العيش‭ ‬هكذا‭ ‬لسنة‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭. ‬العيش‭ ‬في‭ ‬البلد‭ ‬أصبح‭ ‬أصعب‭ ‬الآن‭.‬

عندما‭ ‬أنظر‭ ‬للمرآة‭ ‬كل‭ ‬صباح،‭ ‬أرى‭ ‬الرجل‭ ‬صاحب‭ ‬الهارمونيكا‭. ‬في‭ ‬آخر‭ ‬حديث‭ ‬لنا،‭ ‬طلبت‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يعزف‭ ‬على‭ ‬الهارمونيكا‭. ‬تذكرت‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭. ‬عندما‭ ‬كنا‭ ‬نرتدي‭ ‬قمصان‭ ‬الروك‭ ‬آند‭ ‬رول‭ ‬خاصتنا،‭ ‬الرجل‭ ‬صاحب‭ ‬الهارمونيكا‭ ‬كان‭ ‬يرتدي‭ ‬قميص‭ ‬بوب‭ ‬ديلان‭ ‬كعادته،‭ ‬وأنا‭ ‬نسيت‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬القميص‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أرتديه،‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬رائعاً‭ ‬بلا‭ ‬شك‭. ‬كانت‭ ‬لدينا‭ ‬أذواق‭ ‬موسيقية‭ ‬مختلفة‭ ‬في‭ ‬الروك‭ ‬آند‭ ‬رول،‭ ‬لكننا‭ ‬كنا‭ ‬نفهم‭ ‬أن‭ ‬الموسيقى‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬جعلتنا‭ ‬نقاوم‭.‬

ذات‭ ‬ليلة‭ ‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬زوجتي‭ ‬نائمة،‭ ‬استيقظ‭ ‬ابني‭ ‬الصغير،‭ ‬بدأ‭ ‬يبكي،‭ ‬نهضت‭ ‬من‭ ‬السرير‭ ‬وحملته‭ ‬لأحاول‭ ‬تهدئته،‭ ‬جلست‭ ‬على‭ ‬الكرسي‭ ‬وأنا‭ ‬أحمله‭ ‬بين‭ ‬يدي،‭ ‬لم‭ ‬يتوقف‭ ‬عن‭ ‬البكاء‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬محاولاتي،‭ ‬ثم‭ ‬فكرت،‭ ‬«ماذا‭ ‬سيفعل‭ ‬الرجل‭ ‬صاحب‭ ‬الهارمونيكا‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬مكاني؟»‭.‬

«أجل،‭ ‬أجل،‭ ‬كان‭ ‬سيعزف‭ ‬له‭ ‬لحناً‭ ‬جميلاً،»‭ ‬قلت‭ ‬في‭ ‬نفسي‭.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.