فواز‭ ‬طرابلسي الفكر والعاصفة

الجمعة 2016/04/01

يحاول‭ ‬الغرب‭ ‬قراءة‭ ‬الثورات‭ ‬العربية،‭ ‬وهناك‭ ‬ثقة‭ ‬لدى‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬العرب‭ ‬بالدراسات‭ ‬الغربية‭ ‬فيأخذون‭ ‬مقولاتهم‭ ‬ويبدأون‭ ‬بتصديرها‭ ‬على‭ ‬واقعنا‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬كونها‭ ‬تنطبق‭ ‬أم‭ ‬لا،‭ ‬فالثورات‭ ‬العربية‭ ‬حصلت‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬عربية‭ ‬وشهد‭ ‬عليها‭ ‬العرب،‭ ‬ولكن‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬نجد‭ ‬من‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬الثورات‭ ‬العربية‭ ‬بحسب‭ ‬دراسات‭ ‬غربية‭ ‬هي‭ ‬حركات‭ ‬اجتماعية،‭ ‬ما‭ ‬رأيك‭ ‬بموضعة‭ ‬الثورات‭ ‬العربية‭ ‬داخل‭ ‬إطار‭ ‬الحركات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬وأن‭ ‬مقوّمها‭ ‬الأساسي‭ ‬مقوّم‭ ‬عاطفي‭ ‬وهو‭ ‬الثأر؟

طرابلسي‭:‬ صدرت‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬الغربية‭ ‬قراءات‭ ‬متباينة‭ ‬للثورات‭ ‬العربية،‭ ‬والأهم‭ ‬أن‭ ‬معظمها‭ ‬جرى‭ ‬تبنّيه‭ ‬محليا‭ ‬على‭ ‬نطاق‭ ‬واسع‭.‬

إذا‭ ‬كانت‭ ‬شعارات‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬اجتاحوا‭ ‬الشوارع‭ ‬والساحات‭ ‬ذات‭ ‬دلالة،‭ ‬طالما‭ ‬أنها‭ ‬ترددت‭ ‬من‭ ‬البحر‭ ‬الأحمر‭ ‬إلى‭ ‬الأطلسي‭ ‬ومن‭ ‬تونس‭ ‬والقاهرة‭ ‬إلى‭ ‬الشمال‭ ‬السوري،‭ ‬فإنها‭ ‬تقدّم‭ ‬لنا‭ ‬تعريفا‭ ‬للثورة‭ ‬وأهدافها‭ ‬والمشكلات‭ ‬والأزمات‭ ‬التي‭ ‬تريد‭ ‬التعبير‭ ‬عنها‭ ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬التنظير‭.‬

‮«‬الشعب‭ ‬يريد‭ ‬إسقاط‭ ‬النظام‮»‬‭ ‬يستعيد‭ ‬فكرتين‭ ‬محوريّتين‭ ‬تعودان‭ ‬إلى‭ ‬حقبة‭ ‬التحرر‭ ‬الوطني‭ ‬وإلى‭ ‬الفكر‭ ‬الجمهوري‭ ‬الديمقراطي‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬معا‭: ‬الشعب‭ ‬‭(‬حلّ‭ ‬محله‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭)‬‭ ‬والإرادة‭ ‬الشعبية‭ ‬بما‭ ‬هي‭ ‬مصدر‭ ‬السلطة،‭ ‬وهي‭ ‬جوهر‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مفردة‭ ‬أثيرة‭ ‬لدى‭ ‬الليبراليين‭ ‬ودعاة‭ ‬التعددية‭ ‬والتنوع‭. ‬وإسقاط‭ ‬النظام‭ ‬‭(‬والتمييز‭ ‬واضح‭ ‬بين‭ ‬نظام‭ ‬ودولة‭)‬‭ ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬فعل‭ ‬إرغامي‭. ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬كانت‭ ‬هتافات‭ ‬‮«‬عمل،‭ ‬حرية،‭ ‬عدالة‭ ‬اجتماعية،‭ ‬كرامة‭ ‬إنسانية‮»‬‭ ‬بمثابة‭ ‬برنامج‭ ‬أهداف‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬تشخيص‭ ‬لأسباب‭ ‬الثورة‭: ‬البطالة‭ ‬الاستبداد،‭ ‬الفوارق‭ ‬المناطقية‭ ‬والطبقية،‭ ‬امتهان‭ ‬الأفراد‭ ‬في‭ ‬قيمتهم‭ ‬الإنسانية‭.‬

طغت‭ ‬تسمية‭ ‬‮«‬الربيع‭ ‬العربي‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أطلقتها‭ ‬الصحافة‭ ‬الغربية‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬المسمّيات‭ ‬والأفدح‭ ‬أن‭ ‬تصوير‭ ‬الثورة‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬حدث‭ ‬‮«‬طبيعي‮»‬‭ ‬حوّلها‭ ‬الى‭ ‬حدث‭ ‬دوري‭ ‬تكراري‭ ‬لا‭ ‬يحمل‭ ‬أيّ‭ ‬مفاجأة‭ ‬وكأنه‭ ‬لا‭ ‬يتطلّب‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬أسبابه‭ ‬أو‭ ‬مساراته‭ ‬أو‭ ‬مآلاته‭. ‬وإنه‭ ‬لمعبّر‭ ‬جداً‭ ‬أن‭ ‬يجري‭ ‬اختيار‭ ‬شعارين‭ ‬من‭ ‬الشعارات‭ ‬الأربعة‭ ‬الرئيسة‭ ‬هما‭ ‬‮«‬حرية‭ ‬وكرامة‮»‬‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬تجيير‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الشعارات‭ ‬إلى‭ ‬هدف‭ ‬أوحد‭: ‬‮«‬الانتقال‭ ‬الديمقراطي‮»‬‭. ‬صارت‭ ‬الحرية‭ ‬تعادل‭ ‬الانتقال‭ ‬الديمقراطي‭. ‬أما‭ ‬‮«‬الكرامة‮»‬‭ ‬فقد‭ ‬شاع‭ ‬استخدامها‭ ‬وسهل‭ ‬القبول‭ ‬بها‭ ‬بما‭ ‬توحي‭ ‬به‭ ‬داخليا‭ ‬من‭ ‬‮«‬شيمة‮»‬‭ ‬أو‭ ‬قيمة‭ ‬يجري‭ ‬بواسطتها‭ ‬توطين‭ ‬الثورات‭ ‬عربياً‭ ‬،‭ ‬محلياً،‭ ‬وتلقى‭ ‬صدى‭ ‬استشراقياً‭ ‬إيجابيا‭ ‬في‭ ‬الدوائر‭ ‬الغربية‭.‬

عن‭ ‬‮«‬الحركات‭ ‬الاجتماعية‮»‬‭ ‬نموذجاً‭ ‬نظرياً‭ ‬لفهم‭ ‬الثورات‭ ‬العربية‭ ‬يجب‭ ‬القول‭ ‬إنها‮ ‬‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬منتوج‭ ‬سوسيولوجي‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬الصناعي‭ ‬بعد‭ ‬السبعينات،‭ ‬شديد‭ ‬التأثر‭ ‬بانتفاضات‭ ‬ربيع‭ ‬1968‭ ‬الفرنسية‭ ‬والعالمية،‭ ‬أريد‭ ‬منه‭ ‬تعديل‭ ‬أحادية‭ ‬الجانب‭ ‬في‭ ‬اعتبار‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬الطبقة‭ ‬الوحيدة‭ ‬المؤهّلة‭ ‬للثورة‭ ‬والتغيير،‭ ‬والإشارة‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬تركيبٍ‭ ‬من‭ ‬القوى‭ ‬المجتمعية‭ ‬والعمرية‭ ‬قابلة‭ ‬للعب‭ ‬هذا‭ ‬الدّور‭. ‬على‭ ‬أن‭ ‬الحركات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬تقتصر‭ ‬أدوارها‭ ‬كحركات‭ ‬احتجاجية‭ ‬أو‭ ‬مطلبية‭ ‬أو‭ ‬إصلاحية،‭ ‬ونادرا‭ ‬ما‭ ‬تتطرّق‭ ‬للتغييرات‭ ‬البنيوية‭ ‬أو‭ ‬الجذرية‭ ‬أو‭ ‬تطرح‭ ‬مسألة‭ ‬السلطة‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬طابعها‭ ‬السلمي‭ ‬الغالب‭. ‬بهذا‭ ‬المعنى‭ ‬يصعب‭ ‬اعتبار‭ ‬الثورات‭ ‬‮«‬حركات‭ ‬اجتماعية‮»‬‭.‬

لا‭ ‬زلت‭ ‬لا‭ ‬أفهم‭ ‬تماماً‭ ‬ما‭ ‬المقصود‭ ‬بفقدان‭ ‬الكرامة‭ ‬واستعادتها‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬حديث‭. ‬اللهم‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬المقصود‭ ‬تعيين‭ ‬أصالتها‭ ‬بردّها‭ ‬إلى‭ ‬الشيمة‭ ‬التقليدية‭ ‬العربية‭ ‬إياها‭ ‬ففي‭ ‬الأمر‭ ‬استشراقية‭ ‬مبتذلة‭. ‬أما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬المقصود‭ ‬اختزال‭ ‬الكرامة‭ ‬بامتهان‭ ‬الفرد‭ ‬في‭ ‬قيمته‭ ‬كإنسان‭ ‬–‭ ‬فيصبح‭ ‬السؤال‭: ‬أليس‭ ‬الفقر‭ ‬والقمع‭ ‬والبطالة‭ ‬والتمييز‭ ‬الطبقي‭ ‬والمناطقي‭ ‬والإثني‭ ‬والمذهبي‭ ‬–‭ ‬منوعات‭ ‬من‭ ‬الانتقاص‭ ‬من‭ ‬كرامة‭ ‬البشر؟‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬الندوات‭ ‬عن‭ ‬الثورات،‭ ‬المنعقدة‭ ‬مؤخراً‭ ‬ببيروت،‭ ‬سمعت‭ ‬أحد‭ ‬كبار‭ ‬موظفي‭ ‬إحدى‭ ‬المؤسسات‭ ‬التنموية‭ ‬وهو‭ ‬يعرّف‭ ‬الثورة‭ ‬السورية‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬ثورة‭ ‬كرامة،‭ ‬مستثنياً‭ ‬سائر‭ ‬التفسيرات،‭ ‬ليعلن‭ ‬أن‭ ‬الشعب‭ ‬السوري‭ ‬كان‭ ‬راضياً‭ ‬بحكم‭ ‬بشار‭ ‬الأسد‭ ‬لولا‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬الكرامة‭. ‬والرجل‭ ‬سوريّ‭ ‬بالمناسبة‭. ‬وينتمي‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الفصيل‭ ‬التحليلي‭ ‬المجابهة‭ ‬بين‭ ‬الخبز‭ ‬والكرامة‭ ‬بإنكار‭ ‬أن‭ ‬الثورة‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬هي‭ ‬ثورة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الخبز‭ ‬–‭ ‬أي‭ ‬القضايا‭ ‬المعيشية‭ ‬–‭ ‬وهي‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحرية‭ ‬والكرامة‭.‬

‬إذا‭ ‬كان‭ ‬المقصود‭ ‬اختزال‭ ‬الكرامة‭ ‬بامتهان‭ ‬الفرد‭ ‬في‭ ‬قيمته‭ ‬كإنسان‭ ‬–‭ ‬فيصبح‭ ‬السؤال‭: ‬أليس‭ ‬الفقر‭ ‬والقمع‭ ‬والبطالة‭ ‬والتمييز‭ ‬الطبقي‭ ‬والمناطقي‭ ‬والإثني‭ ‬والمذهبي‭ ‬–‭ ‬منوعات‭ ‬من‭ ‬الانتقاص‭ ‬من‭ ‬كرامة‭ ‬البشر؟‭

هكذا‭ ‬خصمت‭ ‬من‭ ‬شعارات‭ ‬الثورات‭ ‬رموز‭ ‬العمل‭ ‬والعدالة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬وجرى‭ ‬الاكتفاء‭ ‬برمزيْ‭: ‬الحرية‭ ‬والكرامة‭.‬‮ ‬‭ ‬وإنه‭ ‬لمعبّر‭ ‬جداً‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬تمسك‭ ‬بشعاري‭ ‬الحرية‭ ‬والكرامة‭ ‬هي‭ ‬قوى‭ ‬محافظة‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬أقول‭ ‬يمينية‭ ‬ممن‭ ‬أراد‭ ‬احتواء‭ ‬الثورات‭ ‬وإفراغها‭ ‬ممّا‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬مطالب‭ ‬وحقوق‭. ‬عندما‭ ‬انتفض‭ ‬سكان‭ ‬الأرياف‭ ‬والأطراف‭ ‬والعاطلون‭ ‬في‭ ‬القصرين‭ ‬خلال‭ ‬فبراير‭ ‬2016‭ ‬تحت‭ ‬شعاري‭ ‬‮«‬التشغيل‭ ‬والتنمية‮»‬‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬القائد‭ ‬السبسي‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬التونسية،‭ ‬وأحد‭ ‬أركان‭ ‬الردة‭ ‬ضد‭ ‬الثورة‭ ‬التونسية،‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يذكّر‭ ‬المنتفضين‭ ‬بأن‭ ‬الثورة‭ ‬قامت‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحرية‭ ‬والكرامة‭.‬

وثمة‭ ‬محاولات‭ ‬تطبيق‭ ‬لمقولة‭ ‬‮«‬الحركات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الجديدة‮»‬‭ ‬على‭ ‬الحالة‭ ‬العربية‭ ‬والجديد‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬قراءة‭ ‬الحركات‭ ‬الشعبية‭ ‬الاحتجاجية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المشاعر‭ ‬التي‭ ‬تعبّر‭ ‬عنها‭ ‬أو‭ ‬تسودها‭. ‬فبعد‭ ‬‮«‬الكرامة‮»‬‭ ‬لديك‭ ‬‮«‬العيب‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬اكتشف‭ ‬المستشرق‭ ‬فؤاد‭ ‬عجمي‭ ‬أن‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية‭ ‬قد‭ ‬تحررت‭ ‬منه‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬العقبة‭ ‬الجوهرية‭ ‬التاريخية‭ ‬أمام‭ ‬الانتقال‭ ‬الديمقراطي،‭ ‬ولديك‭ ‬الغزل‭ ‬على‭ ‬منوال‭ ‬‮«‬كسر‭ ‬الخوف‮»‬‭ ‬ناهيك‭ ‬عن‭ ‬تفسير‭ ‬للثورات‭ ‬يردّها‭ ‬إلى‭ ‬الكبت‭ ‬الجنسي‭ ‬لدى‭ ‬شباب‭ ‬عربي‭ ‬مسلم‭ ‬مكبّل‭ ‬بتحريمات‭ ‬الدين‭ ‬والعادات‭ ‬والتقاليد،‭ ‬وصاحب‭ ‬التفسير‭ ‬المستشرق‭ ‬برنارد‭ ‬لويس،‭ ‬مستشار‭ ‬الرئيس‭ ‬بوش‭ ‬الأب‭ ‬والابن‭ ‬وأبرز‭ ‬دعاة‭ ‬احتلال‭ ‬العراق‭. ‬وها‭ ‬هو‭ ‬شعور‭ ‬‮«‬الثأر‮»‬‭ ‬يجري‭ ‬على‭ ‬المنوال‭ ‬ذاته‭ ‬من‭ ‬الاستشراق‭ ‬المضروب‭ ‬بالثقافوية‭ ‬البعد‭ ‬حداثية،‭ ‬يدلو‭ ‬بدلوه‭ ‬في‭ ‬تحرير‭ ‬الثورات‭ ‬من‭ ‬المصالح‭ ‬والتطلعات‭ ‬والحقوق‭.‬

هل‭ ‬تتفق‭ ‬في‭ ‬رأيك‭ ‬مع‭ ‬عزمي‭ ‬بشارة‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الصادر‭ ‬عام‭ ‬2014‭: ‬“سورية‭: ‬درب‭ ‬الآلام‭ ‬نحو‭ ‬الحرية”‭ ‬بأن‭ ‬الثورات‭ ‬العربية‭ ‬تمر‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬انتقالية؟‭ ‬كيف‭ ‬ترى‭ ‬وتصف‭ ‬ما‭ ‬تمر‭ ‬به‭ ‬الثورات‭ ‬العربية،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬الثورة‭ ‬السورية؟

طرابلسي‭:‬ مرحلة‭ ‬انتقالية،‭ ‬نعم‭. ‬إذا‭ ‬شخصنا‭ ‬معالم‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬إلى‭ ‬أين‭.‬

لنتفاهم‭ ‬أولا‭ ‬على‭ ‬أننا‭ ‬بصدد‭ ‬ثورات‭. ‬أي‭ ‬انفجارات‭ ‬شعبية،‭ ‬على‭ ‬عفويتها،‭ ‬تجهر‭ ‬بنيّتها‭ ‬إسقاط‭ ‬السلطات‭ ‬القائمة،‭ ‬وإحلال‭ ‬سلطات‭ ‬بديلة‭ ‬محلها،‭ ‬بقصد‭ ‬تغيير‭ ‬الدولة‭ ‬والمجتمع‭ ‬تغييراً‭ ‬جذرياً‭ ‬بقوة‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬الشعب،‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬خصوصاً‭. ‬لم‭ ‬تكتف‭ ‬تلك‭ ‬الجماهير‭ ‬بهذا‭ ‬وإنّما‭ ‬جاهرت‭ ‬بأهداف‭ ‬جذرية‭ ‬تنمّ‭ ‬عن‭ ‬مشكلات‭ ‬جذرية‭. ‬فشعارات‭ ‬عمل‭-‬حرية‭-‬عدالة‭ ‬اجتماعية‭-‬كرامة‭ ‬إنسانية،‭ ‬التي‭ ‬ترددت‭ ‬من‭ ‬المحيط‭ ‬إلى‭ ‬الخليج‭ ‬ومن‭ ‬اليمن‭ ‬إلى‭ ‬سوريا،‭ ‬أعلنت‭ ‬أيضا‭ ‬أسباب‭ ‬الانفجارات‭: ‬البطالة،‭ ‬الاستبداد‭ ‬والقمع،‭ ‬نمو‭ ‬الفوارق‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والمناطقية،‭ ‬والاستهتار‭ ‬بالأفراد‭ ‬وحقوقهم‭. ‬أما‭ ‬انتقال‭ ‬هذه‭ ‬الحركات‭ ‬من‭ ‬طابعها‭ ‬السلمي‭ ‬إلى‭ ‬العنف‭ ‬فمرهونٌ‭ ‬بطريقة‭ ‬استجابة‭ ‬أو‭ ‬عدم‭ ‬استجابة‭ ‬النظام‭ ‬القائم‭ ‬لمطالبها‭.‬

‭ ‬كان‭ ‬التدخل‭ ‬الأميركي‭ ‬المبكر‭ ‬على‭ ‬نمط‭ ‬واحد،‭ ‬تمّ‭ ‬باسم‭ ‬الهدوء‭ ‬والاستقرار‭ ‬وأمن‭ ‬الأنظمة‭ ‬والحدود‭ ‬‭(‬خصوصا‭ ‬حدود‭ ‬إسرائيل‭)‬،‭ ‬ومؤداه‭ ‬التضحية‭ ‬بالرئيس‭ ‬عند‭ ‬الضرورة‭ ‬لإنقاذ‭ ‬النظام،‭ ‬‭(‬ومعبّر‭ ‬جدا‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬الإجراء‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يأخذه‭ ‬فلاديمير‭ ‬بوتين‭ ‬على‭ ‬أوباما‭!‬‭)‬‭. ‬أمكن‭ ‬تطبيق‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬أربع‭ ‬حالات‭: ‬ليبيا،‭ ‬اليمن،‭ ‬مصر،‭ ‬تونس‭: ‬بالقتل‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬وبالتنحي‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬مبارك،‭ ‬المختلف‭ ‬مع‭ ‬الجيش‭ ‬على‭ ‬موضوع‭ ‬التوريث،‭ ‬وبن‭ ‬علي،‭ ‬الذي‭ ‬تخلّت‭ ‬عنه‭ ‬القوات‭ ‬المسلحة‭ ‬وقسم‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬حزبه،‭ ‬وعلي‭ ‬عبدالله‭ ‬صالح‭ ‬الذي‭ ‬قضت‭ ‬المبادرة‭ ‬الخليجية‭ ‬في‭ ‬اليمن‭ ‬منحه‭ ‬الحصانة‭ ‬لقاء‭ ‬تخلّيه‭ ‬عن‭ ‬الرئاسة‭ ‬وتسليمها‭ ‬إلى‭ ‬نائبه‭. ‬وجرى‭ ‬دعم‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمين‭ ‬للارتقاء‭ ‬إلى‭ ‬سدّة‭ ‬الحكم،‭ ‬على‭ ‬اعتبارهم‭ ‬‮«‬الإسلام‭ ‬المعتدل‮»‬،‭ ‬في‭ ‬نظرة‭ ‬للمنطقة‭ ‬كانت‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬مرتهنة‭ ‬لأولوية‭ ‬‮«‬الحرب‭ ‬الكونية‭ ‬ضد‭ ‬الإرهاب‮»‬‭. ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وتونس،‭ ‬تولّى‭ ‬فرعا‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمين‭ ‬الحكم‭ ‬بعد‭ ‬الفوز‭ ‬في‭ ‬انتخابات‭ ‬نيابية‭ ‬ورئاسية‭. ‬وفي‭ ‬اليمن،‭ ‬حيث‭ ‬انشق‭ ‬الجيش،‭ ‬على‭ ‬موضوع‭ ‬التوريث،‭ ‬فجرى‭ ‬دعم‭ ‬حزب‭ ‬الإصلاح‭ ‬اليمني،‭ ‬التحالف‭ ‬بين‭ ‬زعماء‭ ‬قبيلة‭ ‬حاشد‭ ‬مع‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمين،‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬الواجهة‭. ‬في‭ ‬المعارضة‭ ‬السورية،‭ ‬ألقي‭ ‬الثقل‭ ‬وراء‭ ‬قيادة‭ ‬‮«‬المجلس‭ ‬الوطني‮»‬‭ ‬التي‭ ‬شكّل‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمون‭ ‬أبرز‭ ‬قواه‭.‬

بدل‭ ‬عمومية‭ ‬الانتقال،‭ ‬الأحرى‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الثورات‭ ‬استولدت‭ ‬ردّات‭ ‬مضادة‭ ‬للثورة،‭ ‬أو‭ ‬ثورات‭ ‬مضادة،‭ ‬حسب‭ ‬التعبير‭ ‬الدارج‭. ‬وهذه‭ ‬لها‭ ‬أشكال‭ ‬مختلفة،‭ ‬ناعمة‭ ‬نسبياً‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬حيث‭ ‬الانهيار‭ ‬السريع‭ ‬لحكم‭ ‬الإخوان‭ ‬تحت‭ ‬الضغط‭ ‬الشعبي‭ ‬فصادره‭ ‬الجيش‭ ‬الذي‭ ‬أمسك‭ ‬بالسلطة‭ ‬ساعياً‭ ‬إلى‭ ‬تجديد‭ ‬الحكم‭ ‬الفردي‭. ‬في‭ ‬تونس‭ ‬نجحت‭ ‬النقابات‭ ‬المهنية‭ ‬وجمعية‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬عقد‭ ‬تسوية‭ ‬أنتجت‭ ‬دستوراً‭ ‬جديداً‭ ‬وانتخابات‭ ‬رئاسية‭ ‬ونيابية‭ ‬ما‭ ‬لبثت‭ ‬أن‭ ‬جاءت‭ ‬بتساكن‭ ‬بين‭ ‬قسم‭ ‬من‭ ‬النظام‭ ‬القديم‭ ‬وحركة‭ ‬النهضة‭ ‬الإسلامية‭. ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬لبثت‭ ‬سياسات‭ ‬التحالف‭ ‬النيوليبرالية‭ ‬وإهمال‭ ‬المطالب‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والمعيشية‭ ‬للتونسيين‭ ‬أن‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬انطلاق‭ ‬حركات‭ ‬الاحتجاج‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬يناير‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬القصرين‭ ‬فحشدت‭ ‬شبانا‭ ‬عاطلين‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬وجماهير‭ ‬ريفية‭ ‬مهمشة‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬اشتباكات‭ ‬مع‭ ‬قوى‭ ‬الأمن‭. ‬وتوالت‭ ‬حركات‭ ‬الاحتجاج‭ ‬والتضامن‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬16‭ ‬ولاية‭ ‬تونسية‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬المدن‭ ‬الساحلية‭ ‬والعاصمة‭ ‬تتحرك‭ ‬تحت‭ ‬شعاري‭ ‬‮«‬التشغيل‭ ‬والتنمية‮»‬‭..‬

ما‭ ‬سبق‭ ‬قوله‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الانتفاضات‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬متعددة‭ ‬المكونات‭ ‬والقوى‭ ‬يتنازعها‭ ‬تياران‭ ‬على‭ ‬الأقل‭: ‬تيار‭ ‬حداثي‭ ‬يريد‭ ‬تغيير‭ ‬الأنظمة‭ ‬وتطوير‭ ‬الدولة‭ ‬ذاتها،‭ ‬باتجاه‭ ‬دولة‭ ‬ديمقراطية‭ ‬ذات‭ ‬توجه‭ ‬إنمائي‭ ‬اجتماعي،‭ ‬وتيار‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬وسيلة‭ ‬لتحويل‭ ‬طبيعة‭ ‬الدولة‭ ‬ذاتها‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬إسلامية‭ ‬بتطبيق‭ ‬الشريعة‭. ‬هناك‭ ‬أنواع‭ ‬من‭ ‬الثورات‭ ‬المضادة‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬قوى‭ ‬الردّة،‭ ‬فنجد‭ ‬في‭ ‬منوعات‭ ‬دفاع‭ ‬الأنظمة‭ ‬عن‭ ‬بقائها‭ ‬تجديد‭ ‬العصب‭ ‬الزيدي‭ ‬للسلطة‭ ‬بواسطة‭ ‬انقلاب‭ ‬الحركة‭ ‬الحوثية‭ ‬المسلحة‭ ‬في‭ ‬اليمن،‭ ‬واحتلالها‭ ‬العاصمة‭ ‬واندفاعتها‭ ‬للسيطرة‭ ‬العسكرية‭ ‬على‭ ‬البلد‭ ‬كله‭ ‬ما‭ ‬استدعى‭ ‬التدخل‭ ‬السعودي‭ ‬الخليجي‭ ‬ووقوع‭ ‬أفقر‭ ‬بلد‭ ‬عربي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المزيج‭ ‬المأسوي‭ ‬من‭ ‬حرب‭ ‬أهلية‭ ‬وتدخل‭ ‬خارجي‭. ‬وهناك‭ ‬دفاع‭ ‬نظام‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬البحرين،‭ ‬مدعوما‭ ‬بالتدخل‭ ‬العسكري‭ ‬السعودي‭ ‬وبتواطؤ‭ ‬وإهمال‭ ‬كبيرين‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬والعالم‭. ‬ولقد‭ ‬أسهبت‭ ‬أعلاه‭ ‬عن‭ ‬سوريا‭ ‬فلن‭ ‬أزيد‭.‬

اليسار‭ ‬والثورات

غياب‭ ‬الفكر‭ ‬اليساري‭ ‬أحد‭ ‬التهم‭ ‬التي‭ ‬توصم‭ ‬بها‭ ‬ثورات‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭ ‬وأحد‭ ‬الأسباب‭ ‬التي‭ ‬يتكهن‭ ‬بها‭ ‬المحللون‭ ‬لسيادة‭ ‬الديني‭ ‬على‭ ‬الساحات‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬الحزبي‭ ‬الثقافي‭ ‬والفكري،‭ ‬هل‭ ‬ترى‭ ‬في‭ ‬الاتهام‭ ‬والسبب‭ ‬المتنبأ‭ ‬به‭ ‬وجهة‭ ‬نظر؟‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬كذلك‭ ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬يتجنب‭ ‬لبنان‭ ‬الطائفية‭ ‬والفئات‭ ‬الجهادية‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الأحزاب‭ ‬اليسارية‭ ‬المتنوعة‭ ‬تلعب‭ ‬دوراً‭ ‬رئيسياً‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬مثل‭ ‬الحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬اللبناني‭ ‬ومنظمة‭ ‬العمل‭ ‬الشيوعي‭ ‬وغيرهم‭ ‬كثر‭.‬

طرابلسي‭:‬ في‭ ‬السؤال‭ ‬سؤالان،‭ ‬أبدأ‭ ‬باليسار‭ ‬والثورات‭.‬

عندما‭ ‬باشرنا‭ ‬بإصدار‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬بدايات‮»‬‭ ‬الفصلية‭ ‬الفكرية‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬مارس‭‬2012،‭‬ منبراً‭ ‬يسارياً‮ ‬‭ ‬يواكب‭ ‬الثورات‭ ‬العربية،‭ ‬كتبنا‭ ‬أن‭ ‬الثورات‭ ‬فرصة‭ ‬تاريخية‭ ‬لإعادة‭ ‬بناء‭ ‬اليسار،‭ ‬ليوضح‭ ‬هويته‭ ‬الفكرية،‭ ‬ويجدد‭ ‬تمثيله‭ ‬الاجتماعي‭ ‬للفئات‭ ‬الكادحة‭ ‬والمهمشة‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬ويعيد‭ ‬الاعتبار‭ ‬لترابط‭ ‬قيمتي‭ ‬الحرية‭ ‬والمساواة،‭ ‬ويعمد‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬بناء‭ ‬عتاده‭ ‬النظري‭ ‬ورؤيته‭ ‬وبرامجه‭ ‬رداً‭ ‬على‭ ‬تحديات‭ ‬عصر‭ ‬جديد‭ ‬هو‭ ‬عصر‭ ‬العولمة‭ ‬النيوليبرالية‭. ‬ودعونا‭ ‬إلى‭ ‬يسار‭ ‬يضمن‭ ‬استقلاله‭ ‬الفكري‭ ‬والسياسي‭ ‬والتنظيمي،‭ ‬ويبتكر‭ ‬استراتيجيات‭ ‬ووسائل‭ ‬النضال‭ ‬وأشكالا‭ ‬تنظيمية‭ ‬أكثر‭ ‬ملاءمة‭ ‬لما‭ ‬تحوّل‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬والمجتمعات‭ ‬والسلطات‭.‬

عن‭ ‬الثورات،‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬يجب‭ ‬قوله‭ ‬إن‭ ‬شباب‭ ‬وشابات‭ ‬اليسار‭ ‬العربي‭ ‬كانوا‭ ‬سبّاقين‭ ‬إلى‭ ‬النزول‭ ‬إلى‭ ‬الشوارع‭ ‬والساحات‭ ‬منذ‭ ‬الأيام‭ ‬الأولى‭ ‬للانتفاضات‭. ‬وتعرّضوا‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬رفاقهم‭ ‬من‭ ‬كافة‭ ‬التيارات‭ ‬والاتجاهات‭ ‬للاعتقال‭ ‬والقتل‭ ‬ولازالوا‭ ‬يتعرّضون‭ ‬للتشريد‭ ‬والاضهطاد‭. ‬وطبيعي‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬تقتصر‭ ‬مشاركة‭ ‬اليساريين‭ ‬واليساريات‭ ‬على‭ ‬الشباب‭. ‬لكن‭ ‬عنصر‭ ‬الشباب‭ ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬إعطاء‭ ‬الثورات‭ ‬زخمها‭ ‬وشعاراتها‭ ‬وأشكالا‭ ‬مبتكرة‭ ‬وخلاقة‭ ‬في‭ ‬التنظيم‭ ‬والتضامن‭ ‬والتفاني‭ ‬والإخلاص‭.‬

على‭ ‬الصعيد‭ ‬السياسي،‭ ‬وصل‭ ‬اليسار‭ ‬إلى‭ ‬الثورات‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬بقايا‭ ‬أحزاب‭ ‬وتنظيمات‭ ‬مثخن‭ ‬بعقود‭ ‬من‭ ‬القمع،‭ ‬والنزاع‭ ‬مع‭ ‬السلطات‭ ‬الحاكمة،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتلقّى‭ ‬ضربة‭ ‬انهيار‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفياتي‭ ‬وكتلته‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬أداء‭ ‬اليسار‭ ‬الحزبي‭ ‬بمستوى‭ ‬التوقعات‭ ‬قياساً‭ ‬إلى‭ ‬جذرية‭ ‬العمليات‭ ‬الثورية‭ ‬ذاتها‭ ‬ولا‭ ‬كان‭ ‬بمستوى‭ ‬تطلعات‭ ‬وآمال‭ ‬وحماس‭ ‬منتسبيه‭ ‬أو‭ ‬المتطلعين‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬خصوصا‭. ‬رأت‭ ‬بعض‭ ‬أحزاب‭ ‬اليسار‭ ‬في‭ ‬الثورات‭ ‬مناسبة للمشاركة‭ ‬في‭ ‬السلطة‭. ‬وفي‭ ‬معظم‭ ‬الحالات،‭ ‬ارتضى‭ ‬يساريون‭ ‬أن‭ ‬يختزلوا‭ ‬هويتهم‭ ‬بالعلمانية‭ ‬وأن‭ ‬يصنّفوا‭ ‬أنفسهم‭ ‬طرفاً‭ ‬في‭ ‬ثنائية‭ ‬علماني‭/‬إسلامي،‭ ‬والتركيز‭ ‬على‭ ‬معارضة‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬اضطرهم‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬التحالف‭ ‬الانتخابي‭ ‬مع‭ ‬قوى‭ ‬النظام‭ ‬القديم‭ ‬أو‭ ‬الانحياز‭ ‬له‭ ‬ضد‭ ‬الاسلاميين‭.‬‮ ‬‭ ‬والأفدح‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الاختزال‭ ‬للنفس‭ ‬بالعَلمانية‭ ‬أدى‭ ‬للارتضاء‭ ‬بتغييب‭ ‬القضايا‭ ‬الاجتماعية‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالبطالة‭ ‬والفقر‭ ‬والتفاوت‭ ‬الطبقي‭ ‬والمناطقي‭ ‬وغيرها‭.‬

هنا‭ ‬أودّ‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬من‭ ‬أراد‭ ‬منافسة‭ ‬حركات‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬كان‭ ‬الأحرى‭ ‬به‭ ‬أن‭ ‬ينافسها‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬وبين‭ ‬الناس‭ ‬وأن‭ ‬يسدّد‭ ‬ضرباته‭ ‬إلى‭ ‬نقاط‭ ‬ضعفها‭ ‬الفعلية،‭ ‬أي‭ ‬إلى‭ ‬البطن‭ ‬الرخو‭ ‬لكل‭ ‬مشاريع‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬القضية‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬لا‭ ‬لأن‭ ‬تلك‭ ‬القوى‭ ‬مبدعة‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬والثقافة‭ ‬ولكن‭ ‬لأنها‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬مفلسة‭ ‬اقتصادياً‭ ‬واجتماعيا،‭ ‬اللهم‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬اعتبرنا‭ ‬تأتأتها‭ ‬النيوليبرالية‭ ‬وخدماتها‭ ‬الخيرية‭ ‬والإحسان‭ ‬مشروعاً‭ ‬اقتصادياً‭ ‬واجتماعياً‭. ‬وليس‭ ‬أدل‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أقول‭ ‬من‭ ‬انهيار‭ ‬عهد‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬أمام‭ ‬العجز‭ ‬عن‭ ‬التقدّم‭ ‬بأيّ‭ ‬فكرة‭ ‬وأيّ‭ ‬مشروع‭ ‬لمعالجة‭ ‬قضايا‭ ‬البلد‭ ‬المزمنة‭ ‬والمتفاقمة،‭ ‬ومثله‭ ‬عجز‭ ‬حركة‭ ‬النهضة‭ ‬التونسية‭ ‬ما‭ ‬دفع‭ ‬إلى‭ ‬تصاعد‭ ‬الدّعوات‭ ‬في‭ ‬أوساطها‭ ‬للاعتراف‭ ‬بالفشل‭ ‬في‭ ‬تحمّل‭ ‬المسؤولية‭ ‬والانسحاب‭ ‬من‭ ‬الحكم‭.‬

ثمة‭ ‬مشكلة‭ ‬أخرى‭ ‬سيطرت‭ ‬على‭ ‬معظم‭ ‬قوى‭ ‬اليسار‭ ‬عشية‭ ‬الثورات‭ ‬بعدما‭ ‬رفع‭ ‬الغطاء‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬السوفياتي‭ ‬عنه‭ ‬هي‭ ‬انشقاقه‭ ‬بين‭ ‬تيارين‭:‬‮ ‬‭ ‬تيار‭ ‬قومي‭ ‬ذو‭ ‬خطاب‭ ‬فج‭ ‬معاد‭ ‬للكولونيالية‭ ‬يغرّب‭ ‬المشكلات‭ ‬الداخلية‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬مطاردة‭ ‬‮«‬مشاريع‮»‬‭ ‬استعمارية‭ ‬ضد‭ ‬المنطقة‭ ‬‭(‬ليس‭ ‬أنها‭ ‬غير‭ ‬موجودة،‭ ‬بل‭ ‬لأن‭ ‬التشخيص‭ ‬والتعيين‭ ‬قاصران‭ ‬أيما‭ ‬قصور‭ ‬عن‭ ‬تبيّن‭ ‬المرحلة‭ ‬الجديدة‭ ‬من‭ ‬الامبريالية‭)‬‭ ‬وهو‭ ‬تيار‭ ‬وقف‭ ‬في‭ ‬معظمه‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬أنظمة‭ ‬الاستبداد‭ ‬بحجة‭ ‬أن‭ ‬الرجعية‭ ‬العربية‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬تناصبها‭ ‬العداء‭ ‬‭(‬مثلا‭ ‬موقف‭ ‬اليسار‭ ‬التونسي‭ ‬المؤيد‭ ‬لنظام‭ ‬البعث‭ ‬ودكتاتورية‭ ‬بشار‭ ‬الأسد‭ ‬الذي‭ ‬حظي‭ ‬بتأييد‭ ‬تيارين‭ ‬قديمين‭ ‬من‭ ‬تيارات‭ ‬اليسار‭ ‬السوري‭)‬‭ ‬وتيار‭ ‬ليبرالي‭ ‬يتوهم‭ ‬أن‭ ‬الديمقراطية‭ ‬سوف‭ ‬تأتيه‭ ‬محمّلة‭ ‬على‭ ‬أساطيل‭ ‬وطائرات‭ ‬ودبابات‭ ‬أميركا‭ ‬والحلف‭ ‬الأطلسي‭. ‬الأقلية‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬اللقاء‭ ‬خارج‭ ‬هذا‭ ‬الاستقطاب‭.‬

اليسار‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬تأسيس‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬تعاقد‭ ‬جديد‭ ‬بين‭ ‬أفراده‭ ‬ومكوناته‭ ‬يحلّ‭ ‬محلّ‭ ‬التعاقدات‭ ‬القديمة‭ ‬التي‭ ‬تغيّرت‭ ‬معطياتها‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬حد‭. ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬التحدي‭ ‬التاريخي‭ ‬الذي‭ ‬يواجهه‭. ‬لست‭ ‬واثقا‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬يمكن‭ ‬بناؤه‭ ‬بالحجارة‭ ‬القديمة‭. ‬لكني‭ ‬أتمنى‭ ‬أن‭ ‬يعاد‭ ‬تأسيسه‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬جيل‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬اليساريات‭ ‬واليساريين،‭ ‬يواكب‭ ‬ما‭ ‬يولد‭ ‬الآن‭ ‬من‭ ‬تنظيمات‭ ‬يسارية‭ ‬تنهض‭ ‬ضد‭ ‬الاستبداد‭ ‬والنيوليبرالية‭ ‬في‭ ‬كافة‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم،‭ ‬مزيجاً‭ ‬من‭ ‬بقايا‭ ‬يسار‭ ‬قديم،‭ ‬أمكنه‭ ‬العبور‭ ‬إلى‭ ‬الحاضر‭ ‬والتطلع‭ ‬للمستقبل،‭ ‬ومن‭ ‬جيل‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬اليساريات‭ ‬واليساريين‭ ‬قادم‭ ‬من‭ ‬تجارب‭ ‬جديدة‭ ‬وأفكار‭ ‬جديدة‭ ‬ووسائل‭ ‬عمل‭ ‬جديدة‭. ‬والمشجّع‭ ‬أن‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬اليسار‭ ‬قابل‭ ‬لأن‭ ‬يولد‭ ‬بسرعة‭ ‬ويصل‭ ‬إلى‭ ‬كسب‭ ‬شعبية‭ ‬سريعة،‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬التقط‭ ‬القضايا‭ ‬المركزية‭ ‬التي‭ ‬تهمّ‭ ‬الأكثرية‭ ‬الشعبية،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬حال‭ ‬تنظيمات‭ ‬من‭ ‬مثل‭ ‬سيريزا‭ ‬اليونان‭ ‬وبوديموس‭ ‬أسبانيا‭ ‬وجبهة‭ ‬اليسار‭ ‬الموحّد‭ ‬في‭ ‬البرتغال‭. ‬ويجب‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬ألواناً‭ ‬من‭ ‬الماركسية‭ ‬الحيّة‭ ‬المتجددة،‭ ‬بعد‭ ‬السوفياتية،‭ ‬تشكل‭ ‬مصدر‭ ‬الاستلهام‭ ‬الأساسي‭ ‬لتلك‭ ‬التنظيمات‭ ‬والتجارب‭ ‬سابقة‭ ‬الذكر‭.‬

لا‭ ‬أدري‭ ‬تماما‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تتم‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭. ‬ما‭ ‬أعرفه‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬حاجة‭ ‬لمعارضة‭ ‬الاستبداد‭ ‬والنيوليبرالية‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬ديمقراطي‭ ‬تقدمي‭ ‬وعلماني‭.‬‭ ‬وأن‭ ‬هذه‭ ‬الحاجة‭ ‬سوف‭ ‬تفرض‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬كيفية‭ ‬تلبيتها‭. ‬ولكني‭ ‬واثق‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭ ‬سوف‭ ‬تكون‮ ‬‭ ‬متفاوتة‭ ‬بين‭ ‬بلد‭ ‬وآخر‭ ‬ويترتب‭ ‬عليها‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬العقبات‭ ‬هي‭:‬

الأولى‭:‬ تجاوز‭ ‬الاستقطاب‭ ‬التّبعي‭ ‬لليسار‭ ‬بين‭ ‬ميل‭ ‬قومي‭ ‬وميل‭ ‬ليبرالي‭ ‬مذكور‭ ‬أعلاه‭ ‬وانتزاع‭ ‬استقلال‭ ‬اليسار‭ ‬الفكري،‭ ‬وهو‭ ‬قاعدة‭ ‬استقلاله‭ ‬السياسي‭ ‬والبرنامجي‭ ‬والتنظيمي،‭ ‬بالتمايز‭ ‬عن‭ ‬هذين‭ ‬الخطين،‭ ‬مع‭ ‬تركيز‭ ‬خاص‭ ‬على‭ ‬التحرر‭ ‬من‭ ‬أيديولوجيا‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬وإشكاليات‭ ‬الهوية‭ ‬والثقافوية‭.‬

ثانيا‭:‬ ضخامة‭ ‬الجهد‭ ‬المطلوب‭ ‬لكي‭ ‬يجدّد‭ ‬اليسار‭ ‬تمثيله‭ ‬الاجتماعي‭ ‬وقد‭ ‬فعلت‭ ‬الفورات‭ ‬النفطية‭ ‬والحراكات‭ ‬الطبقية‭ ‬فعلها‭ ‬في‭ ‬تغليب‭ ‬أبناء‭ ‬الطبقات‭ ‬الوسطى‭ ‬الدنيا‭ ‬والوسطى‭ ‬على‭ ‬انتمائه‭ ‬الاجتماعي؛‭ ‬واستعادة‭ ‬تمثيله‭ ‬الفعلي،‭ ‬لا‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬‭(‬أي‭ ‬ادعاء‭ ‬حمل‭ ‬‮«‬فكر‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬والفلاحين‭ ‬والمثقفين‭ ‬الثوريين‮» ‬‭)‬‮بإعادة‭ ‬توطّنه‭ ‬في‭ ‬أوساط‭ ‬الطبقات‭ ‬الشعبية‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تحوّلت‭ ‬هي‭ ‬نفسها‭ ‬أيّما‭ ‬تحول،‭ ‬وأن‭ ‬ينجح‭ ‬اليسار‭ ‬في‭ ‬مدّ‭ ‬جذوره‭ ‬في‭ ‬أوساط‭ ‬العاطلين‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬‭(‬بمن‭ ‬فيهم‭ ‬الخريجون‭ ‬العاطلون‭ ‬عن‭ ‬العمل‭)‬‭ ‬والعاملين‭ ‬بالأجر،‭ ‬من‭ ‬نظاميين‭ ‬وغير‭ ‬نظاميين،‭ ‬والفقراء‭ ‬واختراق‭ ‬عوالم‭ ‬المهمشين‭ ‬اجتماعيا‭ ‬والعودة‭ ‬إلى‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬الأرياف‭ ‬والأطراف،‭ ‬ومعظم‭ ‬تلك‭ ‬المناطق‭ ‬والفئات‭ ‬ترتع‭ ‬فيها‭ ‬حاليا‭ ‬جماعات‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬والتنظيمات‭ ‬الجهادية‭ ‬أو‭ ‬قوى‭ ‬الردة‭ ‬المضادة‭ ‬للثورة‭.‬

ثالثا‭:‬ في‭ ‬المسألة‭ ‬التنظيمية،‭ ‬لا‭ ‬إصلاح‭ ‬ولا‭ ‬تغيير‭ ‬دون‭ ‬أحزاب‭. ‬المطلوب‭ ‬أحزاب‭ ‬من‭ ‬نمط‭ ‬جديد‭ ‬كل‭ ‬الجدّة،‭ ‬لقد‭ ‬انتهى‭ ‬دور‭ ‬الحزب‭ ‬الطليعي‭ ‬وجاء‭ ‬دور‭ ‬الأحزاب‭ ‬الجماهيرية‭ ‬المبنية‭ ‬من‭ ‬القاعدة‭ ‬فصاعداً،‭ ‬واسعة‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬متعددة‭ ‬المنابر‭ ‬تحمل‭ ‬برامج‭ ‬وخطط‭ ‬عمل‭ ‬وأساليب‭ ‬نضال‭ ‬مبتكرة‭. ‬أقول‭ ‬هذا‭ ‬وأفكر‭ ‬بالنفور‭ ‬الشديد‭ ‬عند‭ ‬الشباب‭ ‬في‭ ‬منطقتنا‭ ‬من‭ ‬الأحزاب‭ ‬السياسية‭ ‬والهيئات‭ ‬النقابية‭. ‬يعود‭ ‬ذلك‭ ‬لأسباب‭ ‬متعددة‭ ‬منها‭ ‬خيبة‭ ‬الآمال‭ ‬من‭ ‬الأحزاب‭ ‬لعدم‭ ‬الاقتناع‭ ‬بفكرها‭ ‬أو‭ ‬سياساتها‭ ‬أو‭ ‬أشخاصها،‭ ‬عدم‭ ‬الثقة‭ ‬بفاعليتها‭ ‬أو‭ ‬نظافتها‭ ‬أو‭ ‬الاحتجاج‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬اتساعها‭ ‬لتعدد‭ ‬الآراء‭ ‬وطابعها‭ ‬الأوامري،‭ ‬الخ‭.‬‮ لكن‭ ‬المشكل‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬النفور‭ ‬يختلط‭ ‬أحيانا‭ ‬كثيرة‭ ‬مع‭ ‬رفض‭ ‬أيّ‭ ‬شكل‭ ‬للتمثيل‭ ‬والتنظيم‭ ‬عموماً‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬حدّ‭ ‬أدنى‭ ‬من‭ ‬التراتب‭ ‬والتكليف‭ ‬والتوكيل‭ ‬والتمثيل‭ ‬لقاء‭ ‬المساءلة‭ ‬والمحاسبة‭ ‬اللاحقتين‭. ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يضاف‭ ‬نمو‭ ‬النزعة‭ ‬الفردانية‭ ‬التي‭ ‬تتغذى‭ ‬من‭ ‬تذرذر‭ ‬الانتماءات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والمهنية‭ ‬وغياب‭ ‬التمركز‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬العمل‭ ‬إلى‭ ‬النفور‭ ‬من‭ ‬الأحزاب‭ ‬الأوامرية،‭ ‬بالتجربة‭ ‬أو‭ ‬السمعة،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬التأثر‭ ‬بثقافة‭ ‬الفردية‭ ‬الليبرالية‭.‬

‬العقبة‭ ‬الرابعة‭:‬ هي‭ ‬ميل‭ ‬واسع‭ ‬لدى‭ ‬الشباب‭ ‬الراديكالي‭ ‬خلال‭ ‬الانتفاضات‭ ‬إلى‭ ‬رفض‭ ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬الدولة‭ ‬وتصوّر‭ ‬إمكان‭ ‬بناء‭ ‬عالمه‭ ‬الخاص‭ ‬تحت‭ ‬سقفها‭ ‬وباستقلال‭ ‬عنها،‭ ‬فينتهي‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬شللية‭ ‬مهووسة‭ ‬بالتنظيمات‭ ‬الأفقية‭ ‬رافضة‭ ‬لأيّ‭ ‬تراتب‭ ‬تمثيلي‭ ‬لا‭ ‬تلبث‭ ‬أن‭ ‬تنفرط‭ ‬حالما‭ ‬تنمو‭ ‬وتتوسع‭ ‬عددياً‭ ‬أو‭ ‬تضطر‭ ‬لاتخاذ‭ ‬موقف‭ ‬مشترك‭ ‬لا‭ ‬يقوم‭ ‬عليه‭ ‬إجماع‭.‬

العقبة‭ ‬الخامسة‭: ‬ولعلها‭ ‬أبرز‭ ‬نقطة‭ ‬في‭ ‬المسألة‭ ‬التنظيمية‭ ‬هي‭ ‬تنظيم‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬أحزاب‭ ‬اليسار‭ ‬وتنظيماته‭ ‬وبين‭ ‬منظمات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬هاجرت‭ ‬أعداد‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬اليساريات‭ ‬واليساريين‭ ‬حتى‭ ‬تحولت‭ ‬منظمات‭ ‬المجتمع‭ ‬إلى‭ ‬أطر‭ ‬الالتزام‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والسياسي‭ ‬الأبرز‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليهم‭.‬

‬إن‭ ‬شباب‭ ‬وشابات‭ ‬اليسار‭ ‬العربي‭ ‬كانوا‭ ‬سبّاقين‭ ‬إلى‭ ‬النزول‭ ‬إلى‭ ‬الشوارع‭ ‬والساحات‭ ‬منذ‭ ‬الأيام‭ ‬الأولى‭ ‬للانتفاضات‭. ‬وتعرّضوا‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬رفاقهم‭ ‬من‭ ‬كافة‭ ‬التيارات‭ ‬والاتجاهات‭ ‬للاعتقال‭ ‬والقتل‭ ‬ولازالوا‭ ‬يتعرّضون‭ ‬للتشريد‭ ‬والاضهطاد

‮ ‬‭ ‬***

الطائفية‭ ‬معوّق‭ ‬أم‭ ‬حلّ

‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الشطر‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬السؤال،‭ ‬أعتبر‭ ‬نفسي‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬بحث‭ ‬مستمرة‭ ‬في‭ ‬مسألة‭ ‬الطائفة‭ ‬والمذهبية‭ ‬والجماعات‭ ‬المماثلة‭. ‬اختصارا‭ ‬للوقت‭ ‬هذا‭ ‬مدخل‭ ‬إلى‭ ‬المسألة‭ ‬الطائفية‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬معاكسة‭ ‬بعض‭ ‬الشيء‭ ‬للسائد،‭ ‬أقتطفها‭ ‬من‭ ‬مقابلة‭ ‬لي‭ ‬مع‭ ‬الصديق‭ ‬محمد‭ ‬العطار‭ ‬منذ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سنتين‭ ‬تسعى‭ ‬للإحاطة‭ ‬بما‭ ‬بيّنته‭ ‬تجارب‭ ‬الثورات‭ ‬العربية‭ ‬ايضا‭:‬

‮«‬‮…‬‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أتوقف‭ ‬عند‭ ‬كلمة‭ ‬طائفي‭.. ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬إنكار‭ ‬الطائفية‭ ‬قيد‭ ‬التنفيذ‭ ‬هو‭ ‬أفضل‭ ‬طريقة‭ ‬لتكريسها‭. ‬التصرف‭ ‬مع‭ ‬الطائفيّة‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬آفة‭ ‬ولوثة‭ ‬ودليل‭ ‬تخلّف‭ ‬وفتنة‭ ‬لا‭ ‬نحب‭ ‬الكلام‭ ‬عنها‭ ‬ونضع‭ ‬المفردة‭ ‬ذاتها‭ ‬بين‭ ‬مزدوجين،‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬ننكرها‭ ‬ولا‭ ‬نفسرها‭ ‬أو‭ ‬نفهمها‭. ‬أما‮…‬‭ ‬اعتبارها‭ ‬دائماً‭ ‬جريرة‭ ‬الآخر،‭ ‬فهذا‭ ‬لن‭ ‬يسمح‭ ‬بمعالجتها‭. ‬حقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬توجد‭ ‬مسألة‭ ‬طائفية،‭ ‬عندما‭ ‬تشتبك‭ ‬مواقع‭ ‬جماعات،‭ ‬بما‭ ‬هي‭ ‬جماعات،‭ ‬في‭ ‬مواقع‭ ‬الامتياز‭ ‬أو‭ ‬الحرمان‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والثقافيّة‭. ‬ولا‭ ‬أعرف‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬الراهن‭ ‬حالة‭ ‬تشكلت‭ ‬فيها‭ ‬مسألة‭ ‬طائفية‭ ‬أو‭ ‬مذهبية‭ ‬أو‭ ‬جهوية‭ ‬أو‭ ‬قومية‭ ‬أو‭ ‬إثنية‭ ‬أو‭ ‬قبلية،‭ ‬أي‭ ‬جرت‭ ‬الاستعانة‭ ‬بهذه‭ ‬التركيبات‭ ‬الأهلية‭ ‬أو‭ ‬الارتداد‭ ‬إليها‭ ‬أو‭ ‬إعادة‭ ‬إنتاجها‭ ‬في‭ ‬ظروف‭ ‬الرأسمالية‭ ‬المتعولمة،‭ ‬إلا‭ ‬وتغذت‭ ‬تلك‭ ‬المسارات‭ ‬من‭ ‬تفاوت‭ ‬أو‭ ‬تمايز‭ ‬–‭ ‬أو‭ ‬امتيارات‭ ‬أو‭ ‬حرمان‭ ‬–‭ ‬تتعلق‭ ‬بست‭ ‬مجالات‭ ‬أوجزها‭ ‬هنا‭ ‬بما‭ ‬هي‭ ‬رؤوس‭ ‬أقلام‭ ‬للقياس‭ ‬فقط‭.‬

أولاً‭:‬ التفاوت‭ ‬بين‭ ‬جماعات‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الموقع‭ ‬من‭ ‬السلطة‭ ‬السياسية،‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬التحكم‭ ‬بعلاقات‭ ‬القوة‭ ‬والقرار‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭.‬

ثانيا‭:‬ التفاوت‭ ‬في‭ ‬الإمساك‭ ‬بالسلطة‭ ‬الأمنية‭ ‬والعسكرية‭ ‬‭(‬قرار‭ ‬استخدام‭ ‬العنف‭)‬‭ ‬أو‭ ‬الحضور‭ ‬فيها‭ ‬بما‭ ‬يفيض‭ ‬أو‭ ‬يقصّر‭ ‬عن‭ ‬نسبة‭ ‬الجماعة‭ ‬إلى‭ ‬السكان‭.‬

ثالثا‭: ‬التفاوت‭ ‬والتمايز،‭ ‬وما‭ ‬يقابلهما‭ ‬من‭ ‬حرمان،‭ ‬في‭ ‬الموقع‭ ‬من‭ ‬موارد‭ ‬الدولة‭ ‬ومن‭ ‬خدماتها‭ ‬ووظائفها‭.‬

رابعا‭:‬ التمايز‭ ‬والفروقات‭ ‬بين‭ ‬الطوائف‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬آليات‭ ‬توزيع‭ ‬الثروة‭.‬

خامسا‭:‬ التفاوت‭ ‬المناطقي‭ ‬بذاته،‭ ‬خصوصاً‭ ‬عندما‭ ‬تكون‭ ‬للمناطق‭ ‬ألوان‭ ‬طائفية‭ ‬محددة‭.‬

سادساً‭:‬ التفاوت‭ ‬في‭ ‬توزيع‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬الثقافي‭ ‬وفرص‭ ‬تحصيل‭ ‬العلم‭.‬

إذا‭ ‬صح‭ ‬ذلك،‭ ‬الأحرى‭ ‬مقاربة‭ ‬هذه‭ ‬المسألة‭ ‬من‭ ‬زوايا‭ ‬إلغاء‭ ‬الامتيازات‭ ‬ولكن‭ ‬وفق‭ ‬معادلة‭ ‬صعبة‭ ‬هي‭ ‬تشريع‭ ‬المساواة‭ ‬للجميع‭ ‬في‭ ‬الفرص‭ ‬والحقوق‭ ‬السياسية‭ ‬والقانونية‭ ‬على‭ ‬الأقل‭. ‬وهذا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يترافق‭ ‬مع‭ ‬التمييز‭ ‬الإيجابي‭ ‬للجماعات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬ضحية‭ ‬الحرمان‭ ‬والمظلومية‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬وإيجاد‭ ‬آليات‭ ‬وضوابط‭ ‬لحماية‭ ‬من‭ ‬ستلغى‭ ‬امتيازاته‮»‬‭.‬

أود‭ ‬أن‭ ‬أستخلص‭ ‬من‭ ‬المطالعة‭ ‬أعلاه‭ ‬الآتي‭:‬

ثمة‭ ‬حاجة‭ ‬لمعارضة‭ ‬الاستبداد‭ ‬والنيوليبرالية‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬ديمقراطي‭ ‬تقدمي‭ ‬وعلماني‭.‬‭ ‬وأن‭ ‬هذه‭ ‬الحاجة‭ ‬سوف‭ ‬تفرض‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬كيفية‭ ‬تلبيتها‭. ‬ولكني‭ ‬واثق‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭ ‬سوف‭ ‬تكون‮ ‬‭ ‬متفاوتة‭ ‬بين‭ ‬بلد‭ ‬وآخر‭

1‭)‬‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬إزالة‭ ‬الالتباسات‭ ‬العالقة‭ ‬بموضوع‭ ‬الأقليات‭ ‬والأكثريات‭. ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬عودة‭ ‬القوى‭ ‬الغربية،‭ ‬في‭ ‬خطابها‭ ‬السائد،‭ ‬إلى‭ ‬موضوع‭ ‬حماية‭ ‬الأقليات‭. ‬أول‭ ‬مدخل‭ ‬إلى‭ ‬المساواة‭ ‬هنا‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬أقلية‭ ‬مضطهَدة‭ ‬وأقلية‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬السلطة‭ ‬والأمر‭ ‬ذاته‭ ‬ينطبق‭ ‬على‭ ‬الأكثرية،‭ ‬ثمة‭ ‬أكثريات‭ ‬مضطهدة‭ ‬ومقصيّة‭ ‬عن‭ ‬المشاركة‭ ‬الفعلية‭ ‬في‭ ‬السلطة‭ ‬وأكثريات‭ ‬طاغية‭. ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬الديمقراطية‭ ‬هي‭ ‬حكم‭ ‬الأغلبية‭ ‬وحقوق‭ ‬الأقليات‭ ‬فإنها‭ ‬تعني‭ ‬هنا‭ ‬الأغلبية‭ ‬البرلمانية‭ ‬والأقلية‭ ‬البرلمانية‭. ‬ولا‭ ‬يستوي‭ ‬حكم‭ ‬الأغلبية‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬قدّم‭ ‬ضمانات‭ ‬فعلية‭ ‬للأقلية‭/‬يأتي‭ ‬خصوصاً‭ ‬عندما‭ ‬يتعلّق‭ ‬الأمر‭ ‬بغلبة‭ ‬الهوية‭ ‬الإثنية‭ ‬أو‭ ‬الطائفية‭ ‬أو‭ ‬المذهبية‭ ‬على‭ ‬أيّ‭ ‬منها‭. ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الأقليات‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬ليست‭ ‬هي‭ ‬ذاتها‭ ‬الأقليات‭ ‬المضطهدة،‭ ‬وأن‭ ‬الأكثريات‮‭ ‬‭(‬العددية،‭ ‬أو‭ ‬المفترضة‭)‬‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬الحرمان‭ ‬من‭ ‬المشاركة‭ ‬السياسية‭. ‬وتبرز‭ ‬هنا‭ ‬الحاجة‭ ‬الماسة‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬البنية‭ ‬المركزية‭ ‬المفرطة‭ ‬للسّلطة،‭ ‬بعدما‭ ‬انهارت‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬وباتت‭ ‬تهدّد‭ ‬تماسك‭ ‬الكيانات‭ ‬السياسية‭ ‬والمجتمعات‭ ‬ذاتها‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭. ‬إن‭ ‬تنامي‭ ‬المشكلات‭ ‬الناجمة‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬يملي‭ ‬إعادة‭ ‬تشكيل‭ ‬الكيانات‭ ‬على‭ ‬قواعد‭ ‬من‭ ‬اللامركزية‭ ‬بل‭ ‬والفيدرالية،‭ ‬بغية‭ ‬إعادة‭ ‬تركيب‭ ‬وحدة‭ ‬السلطة‭ ‬والمجتمع‭. ‬وبديل‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬دفع‭ ‬الأقليات‭ ‬المتوطّنة‭ ‬جغرافيا‭ ‬إلى‭ ‬الانفصال‭ ‬لا‭ ‬محالة‭.‬

2‭)‬‭ ‬الجواب‭ ‬الأول‭ ‬على‭ ‬الأنظمة‭ ‬الطائفية،‭ ‬بما‭ ‬هي‭ ‬أنظمة‭ ‬امتياز‭/‬تمييز‭ ‬متعددة‭ ‬الأوجه‭ ‬بين‭ ‬الجماعات،‭ ‬هو‭ ‬الديمقراطية‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬العلمانية‭. ‬فتجاوز‭ ‬على‭ ‬الامتياز‭/‬التمييز‭ ‬في‭ ‬مواقع‭ ‬الجماعات‭ ‬الطائفية‭ ‬‭(‬وسواها‭)‬‭ ‬من‭ ‬السلطة‭ ‬والإدارة‭ ‬‭(‬ومن‭ ‬القانون‭ ‬والثروة‭ ‬والموارد‭ ‬والتعليم‭ ‬وسواها‭)‬‭ ‬هو‭ ‬تشريع‭ ‬ومأسسة المساواة‭ ‬السياسية‭ ‬والقانونية‭ ‬بين‭ ‬المواطنين‭ ‬بما‭ ‬هم‭ ‬أفراد،‮ ‬بما‭ ‬يتضمّن‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬تكريس‭ ‬للسيادة‭ ‬الشعبية‭ ‬مرجعاً‭ ‬للتمثيل‭ ‬وللنظام‭ ‬الانتخابي‭ ‬ولفصل‭ ‬السلطات‭ ‬وتداول‭ ‬السلطة‭ ‬ومساءلة‭ ‬الحكام‭. ‬بهذا‭ ‬المعنى‭ ‬كنت‭ ‬ولا‭ ‬أزال‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬الديمقراطية‭ ‬ثورة‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬لأنها‭ ‬ترمي‭ ‬إلى‭ ‬اقتلاع‭ ‬جذور‭ ‬الاستبداد‭ ‬والحكم‭ ‬الأسري‭ ‬والدكتاتورية‭ ‬الفردية‭ ‬والتمييز‭ ‬السياسي‭ ‬والقانوني‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬كافة‭ ‬المستويات‭ ‬وإعادة‭ ‬صياغة‭ ‬الدولة‭ ‬والنظام‭ ‬السياسي‭ ‬والتشريعي‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬جديدة‭ ‬كل‭ ‬الجدّة‭. ‬أما‭ ‬العلمانية‭ ‬–‭ ‬وما‭ ‬يعنيني‭ ‬منها‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬التدبير‭ ‬السياسي‭/‬التشريعي‭ ‬الذي‭ ‬يؤمّن‭ ‬الحياد‭ ‬الديني‭ ‬للدولة‭ ‬–‮ ‬‭ ‬فهي‭ ‬إجراء‭ ‬مكمّل‭ ‬للديمقراطية‭ ‬‭(‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬أننا‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬علمانية‭ ‬ديمقراطية‭)‬‭ ‬يمسّ‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى‭ ‬قوانين‭ ‬الأحوال‭ ‬الشخصية‭ ‬‭(‬أي‭ ‬تحرّر‭ ‬المواطن‭ ‬من‭ ‬تحكّم‭ ‬المؤسسات‭ ‬والتشريعات‭ ‬الدينية‭ ‬بحياته‭ ‬الشخصية‭ ‬وتمييزها‭ ‬القانوني‭ ‬بين‭ ‬المواطنين‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬تعدد‭ ‬تلك‭ ‬المؤسسات‭ ‬والتشريعات‭ ‬وإخضاعه‭ ‬لأنظمة‭ ‬وتشريعات‭ ‬تسري‭ ‬على‭ ‬الجميع‭)‬‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تمسّ‭ ‬تمييز‭ ‬مواقع‭ ‬رجال‭ ‬الدين‭ ‬والمؤسسات‭ ‬الدينية‭ ‬من‭ ‬السلطة‭.‬

3‭)‬‭ ‬إن‭ ‬قسطاً‭ ‬كبيراً‭ ‬من‭ ‬المعالجة‭ ‬للمسائل‭ ‬الطائفية‭-‬المذهبية‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬بالمعالجات‭ ‬غير‭ ‬المباشرة،‭ ‬أي‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تكتفي‭ ‬بإلغاء‭ ‬التمييز‭/‬الامتياز‭ ‬في‭ ‬السياسية‭ ‬وأجهزة‭ ‬العنف‭ ‬والأمن،‭ ‬والاهتمام‭ ‬بتوسيع‭ ‬دائرة‭ ‬الحقوق‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬للمواطنين،‭ ‬طالما‭ ‬أن‭ ‬الامتياز‭/‬التمييز‭ ‬السياسي‭-‬القانوني‭ ‬يتداخل‭ ‬مع‭ ‬الامتياز‭/‬الحرمان‭ ‬على‭ ‬الأصعدة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والمناطقية‭ ‬والثقافية‭ ‬والتعليمية،‭ ‬الخ‭. ‬إن‭ ‬محاربة‭ ‬الفقر‭ ‬مساهمة‭ ‬في‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬الطائفية‭-‬المذهبية،‭ ‬وكذلك‭ ‬خلق‭ ‬فرص‭ ‬عمل‭ ‬وبناء‭ ‬اقتصاديات‭ ‬تنتج‭ ‬تلك‭ ‬الفرص،‭ ‬ونمو‭ ‬الفرص‭ ‬المتكافئة‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬والعلم‭ ‬والسكن‭ ‬والصحة‭ ‬مساهمة‭ ‬في‭ ‬التخفيف‭ ‬من‭ ‬الاحتقان‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الذي‭ ‬يسهل‭ ‬عليه‭ ‬التفجّر‭ ‬عند‭ ‬نقاط‭ ‬الالتحام‭ ‬الأقدم‭ ‬بين‭ ‬الجماعات‭ ‬أي‭ ‬الطائفية‭-‬المذهبية؛‭ ‬وتعميم‭ ‬الضمان‭ ‬الصحي‭ ‬والتوزيع‭ ‬الأعدل‭ ‬للثروة‭ ‬والموارد‭ ‬والمداخيل‭ ‬بين‭ ‬المواطنين‭ ‬يسهم‭ ‬في‭ ‬الغرض‭ ‬ذاته‭.‬

4‭)‬‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬الانتقال‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬المساواة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والسياسية‭ ‬–‭ ‬أي‭ ‬الطموح‭ ‬إلى‭ ‬بناء‭ ‬نظام‭ ‬اشتراكي،‭ ‬أي‭ ‬نظام‭ ‬متكامل‭ ‬من‭ ‬العدالة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬–‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬المرور‭ ‬بمرحلة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬السياسية‭ ‬والقانونية‭. ‬وليس‭ ‬صدفة‭ ‬أن‭ ‬الاسم‭ ‬الأصلي‭ ‬الذي‭ ‬أطلقه‭ ‬الاشتراكيون‭ ‬الأوائل،‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬مشاربهم‭ ‬بمن‭ ‬فيهم‭ ‬ماركس‭ ‬والماركسيون،‭ ‬على‭ ‬مذهبهم‭ ‬والمجتمع‭ ‬الذين‭ ‬ينوون‭ ‬تشييده‭ ‬هو الديمقراطية‭ ‬الاجتماعية‭.‬

لبنان‭ ‬والطائفية

في‭ ‬عودة‭ ‬إلى‭ ‬لبنان‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الأمر‭ ‬يتعلّق‭ ‬بتجنيب‭ ‬لبنان‭ ‬الطائفية‭ ‬بل‭ ‬بكيفية‭ ‬المساهمة‭ ‬في‭ ‬تجاوز‭ ‬النظام‭ ‬الطائفي‭. ‬خلال‭ ‬عقد‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬1964‭-‬1974،‭ ‬شهد‭ ‬لبنان‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬الحركات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية‭ ‬الجماهيرية‭ ‬لم‭ ‬يخلُ‭ ‬الأمر‭ ‬من‭ ‬مشاركة‭ ‬أيّ‭ ‬كتلة‭ ‬أو‭ ‬مجموعة‭ ‬أو‭ ‬فئة‭ ‬أو‭ ‬منطقة‭ ‬أو‭ ‬قطاع‭ ‬مهني‭. ‬وقد‭ ‬أرّختُ‭ ‬لتلك‭ ‬الفترة‭ ‬بشيء‭ ‬من‭ ‬التفصيل‭ ‬في‭ ‬كتابي‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬لبنان‭ ‬الحديث‭.‬

انطلقتْ‭ ‬تلك‭ ‬الحركات‭ ‬في‭ ‬جو‭ ‬من‭ ‬الرَّسملة‭ ‬المتسارعة‭ ‬للاقتصاد‭ ‬والمجتمع‭ ‬واشتداد‭ ‬أزمة‭ ‬الطبقة‭ ‬الحاكمة‭ ‬والزعامات‭ ‬الطائفية‭ ‬وتوليد‭ ‬الحراك‭ ‬الاجتماعي‭ ‬لفئات‭ ‬وجماعات‭ ‬أخذت‭ ‬تطرق‭ ‬بقوة‭ ‬أبواب‭ ‬التمثيل‭ ‬السياسي‭ ‬والمشاركة‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬والسلطة‭. ‬أفضى‭ ‬هذا‭ ‬المسار‭ ‬إلى‭ ‬انتفاضة‭ ‬لجأت‭ ‬فيها‭ ‬الأحزاب‭ ‬والقوى‭ ‬الوطنية‭ ‬والتقدمية‭ ‬إلى‭ ‬الاستقواء‭ ‬بالسلاح‭ ‬الفلسطيني‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬حماية‭ ‬حق‭ ‬الفدائيين‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬الحدود‭ ‬اللبنانية‭ ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬تحقيق‭ ‬الإصلاح‭ ‬الديمقراطي‭ ‬المتجاوز‭ ‬للنظام‭ ‬الطائفي،‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬تجييش‭ ‬الميليشيات‭ ‬اليمنية‭ ‬المبكر‭ ‬باسم‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬السيادة‭ ‬ورفض‭ ‬الوجود‭ ‬الفلسطيني‭ ‬المسلّح‭ ‬وتحريم‭ ‬أيّ‭ ‬بحث‭ ‬في‭ ‬الإصلاح‭ ‬والمساس‭ ‬بالنظام‭ ‬الطائفي‭ ‬بحجة‭ ‬قداسة‭ ‬الدستور‭. ‬هكذا‭ ‬انقسم‭ ‬الجمهور‭ ‬اللبناني‭ ‬بين‭ ‬معسكرين‭ ‬أهليين‭ ‬ومسلحين،‭ ‬بين‭ ‬دعاة‭ ‬سيادة‭ ‬ودعاة‭ ‬تغيير‭. ‬واتخذ‭ ‬النزاع‭ ‬أكثر‭ ‬فأكثر‭ ‬مظاهر‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬ذات‭ ‬الألوان‭ ‬الطائفية‭ ‬ثم‭ ‬المذهبية‭. ‬في‭ ‬حصيلة‭ ‬ما‭ ‬سمّي‭ ‬‮«‬حرب‭ ‬السنتين‮»‬‭ ‬1975‭-‬1976،‭ ‬خسر‭ ‬تحالف‭ ‬المقاومة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬والحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬اللبنانية‭ ‬المعركة‭ ‬تحت‭ ‬وطأة‭ ‬التدخل‭ ‬العسكري‭ ‬للنظام‭ ‬السوري‭ ‬ضدها‭ ‬بتغطية‭ ‬أميركية‭ ‬ودعم‭ ‬سعودي‭ ‬وعربي‭ ‬عام‭.‬ وأخلي‭ ‬المجال‭ ‬أمام‭ ‬سير‭ ‬الاحتراب‭ ‬الأهلي‭ ‬وحروب‭ ‬التدخل‭ ‬على‭ ‬وقع‭ ‬الصراعات‭ ‬الإقليمية‭ ‬والدولية‭.‬

خسرت‭ ‬القوى‭ ‬الداعية‭ ‬إلى‭ ‬تجاوز‭ ‬النظام‭ ‬الطائفي‭ ‬وانهزمت‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬غير‭ ‬متكافئة‭.‬ أتحاشى‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬فشل،‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬المكابرة،‭ ‬ولكن‭ ‬لأنه‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬المواجهات‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬هزيمة‭ ‬كاملة‭ ‬ولا‭ ‬انتصار‭ ‬كامل‭. ‬حتى‭ ‬المهزومون‭ ‬يتركون‭ ‬بصماتهم‭ ‬على‭ ‬الحلول‭. ‬والذين‭ ‬يتعنّتون‭ ‬في‭ ‬البدايات‭ ‬ويرفضون‭ ‬التنازلات‭ ‬الجزئية‭ ‬والإصلاحات،‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬هيكلية،‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬يضطرون‭ ‬إلى‭ ‬تقديم‭ ‬تنازلات‭ ‬وتضحيات‭ ‬مضاعفة‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬حصل‭ ‬في‭ ‬الأزمة‭ ‬اللبنانية‭. ‬في‭ ‬مؤتمر‭ ‬الطائف‭ ‬العام‭ ‬1989،‭ ‬أعيد‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬المشروع‭ ‬الذي‭ ‬طرحته‭ ‬الحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬لتجاوز‭ ‬النظام‭ ‬الطائفي‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬والإدارة‭ ‬واعتماد‭ ‬قانون‭ ‬مدني‭ ‬اختياري‭ ‬للأحوال‭ ‬الشخصية‭. ‬أقر‭ ‬المؤتمر‭ ‬إلغاء‭ ‬الطائفية‭ ‬السياسية‭ ‬والإدارية،‭ ‬ورفض‭ ‬أيّ‭ ‬مساس‭ ‬بقوانين‭ ‬الأحوال‭ ‬الشخصية‭ ‬العائدة‭ ‬للطوائف‭. ‬هكذا‭ ‬فرض‭ ‬دستور‭ ‬الجمهورية‭ ‬الثانية‭ ‬على‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬تشكيل‭ ‬هيئة‭ ‬لإلغاء‭ ‬الطائفية‭ ‬السياسية‭ ‬والإجراءات‭ ‬الزمنية‭ ‬المطلوب‭ ‬التقيّد‭ ‬بها‭ ‬لأجل‭ ‬ذلك،‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬العام‭ ‬1992‭. ‬والأهم‭ ‬أن‭ ‬الدستور‭ ‬شرّع‭ ‬لتجاوز‭ ‬الطائفية‭ ‬باعتماده‭ ‬سلطة‭ ‬تشريعية‭ ‬من‭ ‬مجلسين‭ ‬اثنين‭: ‬مجلس‭ ‬نواب‭ ‬يجري‭ ‬انتخابه‭ ‬خارج‭ ‬القيد‭ ‬الطائفي‭ ‬‭(‬ليمثّل‭ ‬المواطنين‭ ‬بما‭ ‬هم‭ ‬أفراد‭)‬‭ ‬ومجلس‭ ‬شيوخ‭ ‬يمثل‭ ‬اللبنانيين‭ ‬بما‭ ‬هم‭ ‬جماعات‭ ‬مذهبية،‭ ‬تنتخبه‭ ‬الجماعات‭ ‬المذهبية‭ ‬مباشرة‭.‬‮ ‬‭ ‬لكن‭ ‬التواطؤ‭ ‬كان‭ ‬كاملا‭ ‬على‭ ‬منع‭ ‬تطبيق‭ ‬هذه‭ ‬البنود‭ ‬من‭ ‬الدستور،‭ ‬بين‭ ‬سلطات‭ ‬الانتداب‭ ‬السوري‭ ‬والفريق‭ ‬الميليشياوي‭ ‬والاقتصادي‭ ‬والسياسي‭ ‬الذي‭ ‬ارتقى‭ ‬إلى‭ ‬الحكم‭ ‬بعد‭ ‬الحرب،‭ ‬بتعدّد‭ ‬المذاهب‭ ‬والطوائف‭ ‬والتنظيمات‭ ‬التي‭ ‬مثّلها‭ ‬وبمن‭ ‬فيه‭ ‬رجال‭ ‬وعلماء‭ ‬الدين‭. ‬وكان‭ ‬توازن‭ ‬القوى‭ ‬مختلاً‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬كاسح‭ ‬لقوى‭ ‬المحافَظة‭ ‬على‭ ‬الأمر‭ ‬الواقع‭ ‬فترة‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬قائما‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭. ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬السلطات‭ ‬المتعاقبة‭ ‬على‭ ‬الحكم‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬تحكم‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬دستور‭ ‬تمتنع‭ ‬عن‭ ‬تطبيق‭ ‬أبرز‭ ‬مواده‭.‬

أثمان‭ ‬باهظة‭ ‬وأدوار‭ ‬مترقبة

تم‭ ‬دفع‭ ‬ثمن‭ ‬غال‭ ‬للثورات‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية‭ ‬وتم‭ ‬إنهاؤها‭ ‬بالعنف‭ ‬أو‭ ‬الاحتيال‭ ‬السياسي‭ ‬أو‭ ‬التدخل‭ ‬العسكري،‭ ‬وهناك‭ ‬قراءة‭ ‬ترى‭ ‬أنه‭ ‬حان‭ ‬دور‭ ‬المفكرين‭ ‬والمثقفين‭ ‬وحتى‭ ‬الأدباء‭ ‬في‭ ‬تنظيم‭ ‬الخلايا‭ ‬الخاملة‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬استبعادها‭ ‬خارج‭ ‬دولها‭ ‬أو‭ ‬حيّدت‭ ‬بحيث‭ ‬يتم‭ ‬تأهيل‭ ‬المجتمعات‭ ‬بتنمية‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬وإحياء‭ ‬الثورات‭ ‬دون‭ ‬عسكرة؟

طرابلسي‭:‬ تدفع‭ ‬الشعوب‭ ‬عادة‭ ‬أثمانا‭ ‬باهظة‭ ‬عندما‭ ‬تثور‭ ‬لتغيير‭ ‬أنظمتها‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والقيمية‭ ‬فتضطر‭ ‬إلى‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬القوة‭ ‬والعنف‭ ‬لتحقيق‭ ‬ذلك‭. ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬ثورات‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬تشذّ‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬القاعدة‭. ‬يتضاعف‭ ‬الثمن‭ ‬عندما‭ ‬تضطر‭ ‬هذه‭ ‬الشعوب‭ ‬إلى‭ ‬خلخلة‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬اقتلاع‭ ‬أنظمة‭ ‬متجذرة‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬تتغذى‭ ‬من‭ ‬عصب‭ ‬جماعات‭ ‬بعينها‭ ‬وتستقوي‭ ‬بالجيش‭ ‬المسيّس‭ ‬والأجهزة‭ ‬الأمنية‭ ‬عميمة‭ ‬الوجود‭ ‬والسطوة‭ ‬والبطش‭. ‬خصوصاً‭ ‬عندما‭ ‬تكون‭ ‬تلك‭ ‬الأنظمة‭ ‬منخرطة‭ ‬في‭ ‬منظومات‭ ‬إقليمية‭ ‬ودولية‭ ‬تمنحها‭ ‬الشرعية‭ ‬الخارجية‭ ‬والدعم‭ ‬الخارجي‭. ‬وهذه‭ ‬الشرعية‭ ‬الأخيرة‭ ‬بالغة‭ ‬الأهمية‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭ ‬حيث‭ ‬باتت‭ ‬بديلاً‭ ‬عن‭ ‬أيّ‭ ‬شرعية‭ ‬داخلية‭ ‬بتواطؤ‭ ‬كوني‭. ‬ويصبح‭ ‬الثمن‭ ‬فادحاً‭ ‬عندما‭ ‬يفضي‭ ‬النزاع‭ ‬بين‭ ‬قوى‭ ‬الثورة،‭ ‬وقوى‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬الأمر‭ ‬الواقع،‭ ‬وقوى‭ ‬الرّدة‭ ‬المضادة‭ ‬للثورة،‭ ‬إلى‭ ‬حروب‭ ‬أهلية‭. ‬ولا‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬حسم‭ ‬لصالح‭ ‬قوى‭ ‬التغيير،‭ ‬بل‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إنه‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬أنها‭ ‬أفضت‭ ‬إلى‭ ‬انتصار‭ ‬لهذه‭ ‬القوى‭ ‬فسوف‭ ‬يكون‭ ‬مشروعها‭ ‬التغييري‭ ‬قد‭ ‬تشوّه‭ ‬وتشوّهت‭ ‬قواها‭ ‬ذاتها‭. ‬فثمة‭ ‬فارق‭ ‬كبير‭ ‬بين‭ ‬التظاهرة‭ ‬والاعتصام‭ ‬والتنسيقية‭ ‬والحزب‭ ‬والميليشيا‭.‬

لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬إزالة‭ ‬الالتباسات‭ ‬العالقة‭ ‬بموضوع‭ ‬الأقليات‭ ‬والأكثريات‭. ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬عودة‭ ‬القوى‭ ‬الغربية،‭ ‬في‭ ‬خطابها‭ ‬السائد،‭ ‬إلى‭ ‬موضوع‭ ‬حماية‭ ‬الأقليات‭. ‬أول‭ ‬مدخل‭ ‬إلى‭ ‬المساواة‭ ‬هنا‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬أقلية‭ ‬مضطهَدة‭ ‬وأقلية‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬السلطة‭

آمل‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬القصد‭ ‬من‭ ‬سؤالك‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬العامة‭ ‬ورّطت‭ ‬البلاد‭ ‬في‭ ‬حروب‭ ‬يقع‭ ‬على‭ ‬المثقفين‭ ‬انتشالها‭. ‬المثقف‭ ‬الذي‭ ‬يحترم‭ ‬نفسه،‭ ‬وله‭ ‬حدّ‭ ‬أدنى‭ ‬من‭ ‬قيم‭ ‬يدافع‭ ‬عنها،‭ ‬والملتزم‭ ‬بشعبه،‭ ‬والمهموم‭ ‬بهَمّ‭ ‬التغيير،‭ ‬يفترض‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬انخرط‭ ‬في‭ ‬الثورة‭ ‬منذ‭ ‬البداية،‭ ‬يمارس‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬الأدوار‭ ‬الفكرية‭ ‬والعملية‭ ‬والتنظيمية‭ ‬والإعلامية‭ ‬والإنسانية‭ ‬والتضامنية‭ ‬المطلوبة‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬القتال‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬في‭ ‬الثورات‭ ‬كافة‭ ‬ولا‭ ‬يزالون‭ ‬وقد‭ ‬قضى‭ ‬العديد‭ ‬منهم‭ ‬في‭ ‬المعتقلات‭ ‬أو‭ ‬ساحات‭ ‬القتال‭ ‬وثمة‭ ‬من‭ ‬يواصلون‭ ‬النضال‭ ‬وما‭ ‬بدّلوا‭ ‬تبديلا‭.‬

أتحفظ‭ ‬على‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬العسكرة‮»‬‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬تم‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬تحديد‭ ‬المسؤولية،‭ ‬مسؤولية‭ ‬الأنظمة‭ ‬المعنية‭ ‬في‭ ‬دفع‭ ‬المعارضين‭ ‬السلميين‭ ‬إلى‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬السلاح‭. ‬هذا‭ ‬مع‭ ‬عميق‭ ‬وعيي‭ ‬لما‭ ‬ترتّب‭ ‬على‭ ‬عسكرة‭ ‬الثورة‭ ‬لاحقاً‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬من‭ ‬انطفاء‭ ‬مشروع‭ ‬التغيير‭ ‬والتقدّم‭ ‬بسبب‭ ‬طغيان‭ ‬أهداف‭ ‬ومصالح‭ ‬مناقضة‭ ‬له‭ ‬فرضتها‭ ‬أنظمة‭ ‬إقليمية‭ ‬وسواها‭ ‬من‭ ‬الأنظمة‭ ‬المتدخلة‭ ‬في‭ ‬الصراعات‭ ‬السورية‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬الجمهورية‭ ‬الإسلامية‭ ‬الإيرانية‭ ‬وروسيا‭ ‬الداعمتين‭ ‬للدكتاتورية‭. ‬وأحسب‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬السذاجة‭ ‬–‭ ‬بعد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أربع‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬تحول‭ ‬بعض‭ ‬الثورات‭ ‬إلى‭ ‬الاحتراب‭ ‬الأهلي‭ ‬–‭ ‬أن‭ ‬نظل‭ ‬نفترض‭ ‬بأنه‭ ‬تمكن‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬وضع‭ ‬سابق‭ ‬على‭ ‬الثورة‭ ‬يستأنف‭ ‬فيه‭ ‬النضال‭ ‬السلمي‭ ‬وكأن‭ ‬شيئا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭. ‬لست‭ ‬أحسب‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬القراءة‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬سوريا‭ ‬المجتمع‭ ‬والدولة‭ ‬والكيان‭ ‬قد‭ ‬انقلبت‭ ‬رأساً‭ ‬على‭ ‬عقب‭ ‬بحيث‭ ‬يصعب‭ ‬تصوّر‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬ستكون‭ ‬عليه‭ ‬الحالة‭ ‬فعليا‭ ‬حين‭ ‬تصمت‭ ‬الأسلحة‭. ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬آمله‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬تكرر‭ ‬سوريا‭ ‬التجربة‭ ‬اللبنانية‭ ‬في‭ ‬الإعمار‭.‬

ولكن‭ ‬قبل‭ ‬كل‭ ‬هذا،‭ ‬إنّ‭ ‬أيّ‭ ‬حريص‭ ‬على‭ ‬مستقبل‭ ‬سوريا‭ ‬واليمن‭ ‬وليبيا‭ ‬والبحرين‭ ‬وأيّ‭ ‬بلد‭ ‬عربي‭ ‬آخر‭ ‬عرف‭ ‬الانتفاضات‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يتحوّل‭ ‬في‭ ‬اعتقادي‭ ‬الآن‭ ‬إلى‭ ‬داعية‭ ‬سلام‭ ‬لا‭ ‬لسبب‭ ‬إلا‭ ‬لوقف‭ ‬القتل‭ ‬العبثي‭ ‬وذلك‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬صادرت‭ ‬قوى‭ ‬إقليمية‭ ‬ودولية‭ ‬مصائر‭ ‬تلك‭ ‬الشعوب،‭ ‬تتسابق‭ ‬جميعا‭ ‬باسم‭ ‬خدمة‭ ‬الحرب‭ ‬الكونية‭ ‬ضد‭ ‬الإرهاب،‭ ‬التي‭ ‬غلّبت‭ ‬الجيوسياسة‭ ‬على‭ ‬السياسة‭ ‬والخارج‭ ‬على‭ ‬الداخل،‭ ‬ومعست‭ ‬كل‭ ‬مطلب‭ ‬وكل‭ ‬حق‭ ‬وكل‭ ‬تطلّع‭ ‬نحو‭ ‬المستقبل‭ ‬لدى‭ ‬شعوبنا‭.‬

من‭ ‬تاريخ‭ ‬نزاعات‭ ‬جيل‭ ‬لبنان‭ ‬أودّ‭ ‬الاستشهاد‭ ‬بهذه‭ ‬الحكمة‭ ‬لشيخ‭ ‬درزي‭ ‬قال‭ ‬عن‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬‮«‬الخاسر‭ ‬فيها‭ ‬خسران‭ ‬والرابح‭ ‬فيها‭ ‬خسران‮»‬‭.‬

فاعلية‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني

أما‭ ‬عن‭ ‬‮«‬تأهيل‭ ‬المجتمعات‮»‬‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬‮«‬المجتمع‭ ‬المدني‮»‬‭ ‬فلا‭ ‬أرى‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الصيغة‭ ‬فارقا‭ ‬كبيراً‭ ‬عن‭ ‬فكرة‭ ‬الطليعة‭ ‬البعثية،‭ ‬اللهم‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬مسكوبة‭ ‬في‭ ‬لغة‭ ‬النيوليبرالية‭ ‬ومنظمات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬ناشرة‭ ‬الوعي‭ ‬عند‭ ‬فاقديه‭ ‬ومتولية‭ ‬تدريب‭ ‬شعوب‭ ‬قليلة‭ ‬الدربة‭. ‬لست‭ ‬مقتنعاً‭ ‬بأن‭ ‬ما‭ ‬حصل‭ ‬للثورات‭ ‬ناتج‭ ‬عن‭ ‬قلّة‭ ‬وعي‭ ‬لدى‭ ‬‮«‬العامة‮»‬‭. ‬بل‭ ‬العكس،‭ ‬إنه‭ ‬نتج‭ ‬عن‭ ‬فائض‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬الشعبي‭ ‬ونقص‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬والحيوية‭ ‬لدى‭ ‬النخبة‭ ‬والخاصة‭. ‬ونادرا‭ ‬ما‭ ‬نتناسى‭ ‬دور‭ ‬قطاعات‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬برجوازية‭ ‬سوريا‭ ‬وطبقاتها‭ ‬الوسطى‭ ‬في‭ ‬دعم‭ ‬النظام‭ ‬أو‭ ‬التواطؤ‭ ‬معه‭ ‬بالاستكانة‭. ‬مثلما‭ ‬نتناسى‭ ‬أن‭ ‬الذين‭ ‬يقتلون‭ ‬ويتقاتلون‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬واليمن‭ ‬وليبيا‭ ‬هم‭ ‬الفقراء‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬الأطراف‭. ‬وهم‭ ‬الذي‭ ‬شكلوا‭ ‬الجسم‭ ‬الأوسع‭ ‬للثورات‭ ‬مثلما‭ ‬هم‭ ‬يشكلون‭ ‬الآن‭ ‬وقود‭ ‬الحروب‭ ‬الأهلية‭.‬

‬المثقف‭ ‬الذي‭ ‬يحترم‭ ‬نفسه،‭ ‬وله‭ ‬حدّ‭ ‬أدنى‭ ‬من‭ ‬قيم‭ ‬يدافع‭ ‬عنها،‭ ‬والملتزم‭ ‬بشعبه،‭ ‬والمهموم‭ ‬بهَمّ‭ ‬التغيير،‭ ‬يفترض‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬انخرط‭ ‬في‭ ‬الثورة‭ ‬منذ‭ ‬البداية،‭ ‬يمارس‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬الأدوار‭

أنا‭ ‬من‭ ‬نقّاد‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬كنظرية‭ ‬وتطبيقات‭ ‬وتنظيمات‭ ‬وجمعيات‭.‬

وعندي‭ ‬أن‭ ‬نظرية‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬جزء‭ ‬مكوّن‭ ‬من‭ ‬النيوليبرالية‭ ‬يقوم‭ ‬شقّها‭ ‬السياسي‭ ‬والاقتصادي‭ ‬على‭ ‬قسمة‭ ‬المجتمع‭ ‬إلى‭ ‬نقيضين‭ ‬دولة‭/‬مجتمع‭ ‬مدني‭ ‬حيث‭ ‬الدولة‭ ‬هي‭ ‬التسلط‭ ‬والاستبداد‭ ‬تعريفاً‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬يضعف‭ ‬دورها‭ ‬يعزز‭ ‬حريات‭ ‬الأفراد‭ ‬مثلما‭ ‬يعزز‭ ‬الحرية‭ ‬الاقتصادية‭. ‬والخلط‭ ‬بين‭ ‬النطاقين‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والسياسي‭ ‬هو‭ ‬عين‭ ‬الدعوة‭ ‬النيوليبرالية‭. ‬انظري‭ ‬إلى‭ ‬العراق‭ ‬حيث‭ ‬دمّر‭ ‬الاحتلال‭ ‬الأميركي‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬دكتاتورية‭ ‬صدام‭ ‬حسين‭ ‬ونظامه‭ ‬‭(‬وكلاهما‭ ‬يعود‭ ‬الآن،‭ ‬في‭ ‬صيغةٍ‭ ‬تكرر‭ ‬المهزلة‭ ‬بمأساة،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬داعش‭)‬‭ ‬وإنما‭ ‬الدولة‭ ‬العراقية‭ ‬في‭ ‬أبرز‭ ‬مؤسساتها‭: ‬حلّ‭ ‬القوات‭ ‬المسلحة‭ ‬وتسريح‭ ‬أقسام‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الإدارة‭ ‬وتحريم‭ ‬حزب‭ ‬البعث‭ ‬وتجريمه‭. ‬ماذا‭ ‬كانت‭ ‬النتيجة؟‭ ‬لم‭ ‬يسهم‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬نمو‭ ‬حريات‭ ‬الأفراد‭ ‬وتعزيزها،‭ ‬بل‭ ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬إطلاق‭ ‬شياطين‭ ‬المناطقية‭ ‬والإثنية‭ ‬والمذهبية‭ ‬التي‭ ‬أطبقت‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬الأفراد‭ ‬قد‭ ‬تحرّروا‭ ‬منه‭ ‬سابقاً‭ ‬من‭ ‬انصياع‭ ‬وولاء‭ ‬للجماعة‭ ‬وإذا‭ ‬بتدمير‭ ‬الدولة‭ ‬يعاد‭ ‬تحشيدهم‭ ‬تحت‭ ‬ألوية‭ ‬العائلة‭ ‬والعشيرة‭ ‬والقبيلة‭ ‬والمذهب‭ ‬والمنطقة‭ ‬والاثنية‭ ‬والدين‭. ‬إن‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬تتغاضى‭ ‬عنه‭ ‬نظرية‭ ‬الدولة‭/‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬هو‭ ‬حقيقة‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬ناظمة‭ ‬للمجتمع‭ ‬وحاوية‭ ‬مؤسسات‭ ‬وقوانين‭ ‬وحدته‭.‬

‬‭‬تقوم‭ ‬الآلة‭ ‬السحرية‭ ‬للسوق،‭ ‬الأقنوم‭ ‬الأول‭ ‬للنيوليبرالية،‭ ‬على‭ ‬فرضية‭ ‬أن‭ ‬التنافس‭ ‬بين‭ ‬الوحدات‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬ونمو‭ ‬ثروات‭ ‬الأثرياء،‭ ‬لا‭ ‬تلبث‭ ‬أن‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تسرّب‭ ‬البحبوحة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬من‭ ‬قمة‭ ‬الهرم‭ ‬الاجتماعي‭ ‬إلى‭ ‬قاعدته،‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يجرى‭ ‬دقّه‭ ‬في‭ ‬رؤوسنا‭ ‬خلال‭ ‬ربع‭ ‬قرن‭. ‬دعيني‭ ‬أسألك‭: ‬لو‭ ‬أن‭ ‬ربع‭ ‬قرن‭ ‬من‭ ‬تطبيق‭ ‬النيوليبرالية‭ ‬كان‭ ‬بهذا‭ ‬النجاح‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬البحبوحة‭ ‬والاستقرار‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والاجتماعي،‭ ‬لماذا‭ ‬انفجرت‭ ‬الأزمة‭ ‬المالية‭ ‬العالمية‭ ‬للعام‭ ‬2008؟‭ ‬ولماذا‭ ‬تنمو‭ ‬الفوارق‭ ‬الطبقية‭ ‬والمناطقية‭ ‬على‭ ‬الأصعدة‭ ‬العالمية‭ ‬والإقليمية‭ ‬والوطنية‭ ‬بأحجام‭ ‬لا‭ ‬سوابق‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬التاريخ؟‭ ‬وكيف‭ ‬يحصل‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬العولمة‭ ‬وآليات‭ ‬السوق‭ ‬السحرية‭ ‬أن‭ ‬نصل‭ ‬إلى‭ ‬وضع‭ ‬يملك‭ ‬فيه‭ ‬63‭ ‬فردا‭ ‬من‭ ‬الثروات‭ ‬ما‭ ‬يوازي‮ ‬‭ ‬ثروات‭ ‬نصف‭ ‬سكان‭ ‬المعمورة؟‭ ‬وكيف‭ ‬يحصل‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬النيوليبرالية‭ ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬سياسيات‭ ‬المؤسسات‭ ‬المالية‭ ‬الدولية،‭ ‬وفي‭ ‬مقدمها‭ ‬البنك‭ ‬الدولي‭ ‬وصندوق‭ ‬النقد‭ ‬ووكالات‭ ‬التنمية،‭ ‬التي‭ ‬قررت‭ ‬‮«‬وأد‭ ‬الفقر‭ ‬المدقع‮»‬‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬العالمي‭ ‬‭(‬أي‭ ‬الإنفاق‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يزيد‭ ‬عن‭ ‬دولار‭ ‬واحد‭ ‬باليوم‭)‬‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬2015‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬تفشل‭ ‬في‭ ‬تطبيق‭ ‬القرار‭ ‬وحسب‭ ‬بل‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬نتائج‭ ‬جهودها‭ ‬تناقص‭ ‬ممتلكات‭ ‬الفقراء‭ ‬حسب‭ ‬تقرير‭ ‬منظمة‭ ‬أوكسفام؟‭ ‬ولماذا‭ ‬تضطر‭ ‬المؤسسات‭ ‬الدولية‭ ‬الى‭ ‬إعادة‭ ‬الاعتبار‭ ‬لمقولة‭ ‬العدالة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬بعد‭ ‬الثورات‭ ‬العربية‭ ‬–‭ ‬ولكن‭ ‬بعد‭ ‬خصيها‭ ‬وقلبها‭ ‬رأسا‭ ‬على‭ ‬عقب‭ ‬ونزع‭ ‬مفهوم‭ ‬للحقوق‭ ‬منها‭ ‬–‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬تطبيقات‭ ‬الإصلاح‭ ‬الهيكلي‭ ‬وزيادة‭ ‬نسب‭ ‬نمو‭ ‬الدخل‭ ‬الأهلي‭ ‬والآليات‭ ‬السحرية‭ ‬للسوق‭ ‬هي‭ ‬الكفيلة‭ ‬بحمل‭ ‬البحبوحة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والرخاء‭ ‬الاجتماعي؟

وعلى‭ ‬صعيد‭ ‬محلي،‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬سياسات‭ ‬النيوليبرالية‭ ‬التي‭ ‬طبّقها‭ ‬بشار‭ ‬الأسد‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬اقتصاد‭ ‬السوق‮ ‬‭ ‬الاجتماعي‮»‬‭ ‬‭(‬وقد‭ ‬أعلن‭ ‬التخلي‭ ‬عنها‭ ‬منذ‭ ‬أيام‭ ‬لصالح‭ ‬اقتصاديات‭ ‬‮«‬التضامن‭ ‬الوطني‮»‬‭)‬‭ ‬ناجحة‭ ‬لماذا‭ ‬انهارت‭ ‬الزراعة‭ ‬السورية‭ ‬وألقت‭ ‬إلى‭ ‬الجوع‭ ‬والفقر‭ ‬والتشرّد‭ ‬ملايين‭ ‬السوريين‭ ‬الذين‭ ‬نزحوا‭ ‬إلى‭ ‬المدن‭ ‬وتكدسوا‭ ‬في‭ ‬الضواحي‭ ‬وأرياف‭ ‬العاصمة‭ ‬والمدن‭ ‬والعشوائيات؟‭ ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬آليات‮ ‬‭ ‬المنافسة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬مقدسة‭ ‬كيف‭ ‬نفسّر‭ ‬وجود‭ ‬كائن‭ ‬مثل‭ ‬رامي‭ ‬مخلوف‭ ‬يتباهى‭ ‬بأنه‭ ‬يسيطر‭ ‬على‭ ‬60‭ ‬بالمئة‭ ‬من‭ ‬الاقتصاد‭ ‬السوري؟‭ ‬ألم‭ ‬يكن‭ ‬السوريون‭ ‬مدركين‭ ‬أنهم‭ ‬يثورون‭ ‬ضد‭ ‬هذه‭ ‬الأمور‭ ‬أيضاً؟‭ ‬إني‭ ‬أتساءل‭. ‬وهل‭ ‬ننسى‭ ‬أن‭ ‬أهالي‭ ‬درعا‭ ‬حطموا‭ ‬وأحرقوا‭ ‬مكاتب‭ ‬شركة‭ ‬سيرياتل‭ ‬للاتصالات‭ ‬التي‭ ‬يملكها‭ ‬مخلوف‭ ‬عند‭ ‬انطلاق‭ ‬انتفاضتهم؟

على‭ ‬امتداد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ربع‭ ‬قرن‭ ‬كانت‭ ‬عشرات‭ ‬الألوف‭ ‬من‭ ‬منظمات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬تعمل‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬‭(‬17‭ ‬ألف‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬و8‭ ‬آلاف‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭)‬‭ ‬وتتحكم‭ ‬بأجزاء‭ ‬حيوية‭ ‬من‭ ‬حياتنا‭ ‬وتتولّى‭ ‬الوعظ‭ ‬والتبشير‭ ‬ونشر‭ ‬الوعي‭ ‬والتدريب‭ ‬والتمكين‭ ‬وقد‭ ‬حوّلت‭ ‬مصطلحاتها‭ ‬إلى‭ ‬تمائم‭ ‬ومقولاتها‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬اليقينيات‭ ‬الإيمانية‭ ‬بالسوق‭ ‬وآلياته‭ ‬السحرية‭ ‬وبالانتقال‭ ‬إلى‭ ‬الديمقراطية‭. ‬لست‭ ‬أريد‭ ‬الاستخفاف‭ ‬بدور‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬تنظيمات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬في‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬وحقوق‭ ‬النساء‭ ‬والعمال‭ ‬المنزليين‭ ‬والمعوقين‭ ‬‭(‬مع‭ ‬إهمال‭ ‬شديد‭ ‬للحقوق‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭)‬‭ ‬ولن‭ ‬أغفل‭ ‬التقدير‭ ‬العميق‭ ‬لكافة‭ ‬المؤسسات‭ ‬والمنظمات‭ ‬العاملة‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬الإغاثة‭ ‬ومساعدة‭ ‬اللاجئين‭ ‬والتعليم‭ ‬وسائر‭ ‬أنواع‭ ‬المساعدات‭ ‬الانسانية‭.‬

لكن‭ ‬ماذا‭ ‬نقول‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬منظمات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬يبشّر‭ ‬بالديمقراطية،‭ ‬بل‭ ‬التعددية‭ ‬والتنوّع،‭ ‬وبالكاد‭ ‬يمارس‭ ‬الانتخابات‭ ‬أو‭ ‬تداول‭ ‬السلطة‭ ‬وتجديد‭ ‬القيادات؟‭ ‬حتى‭ ‬أنها‭ ‬قد‭ ‬أعفت‭ ‬نفسها‭ ‬من‭ ‬المساءلة‭ ‬تجاه‭ ‬أعضائها‭ ‬والجمهور،‭ ‬فكأنّ‭ ‬المساءلة‭ ‬لا‭ ‬تمارس‭ ‬إلا‭ ‬تجاه‭ ‬المموّلين‭. ‬ثم‭ ‬إن‭ ‬أعداداً‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬العاملين‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المنظمات‭ ‬باتوا‭ ‬محترفين‭ ‬يتقاضون‭ ‬الأجور‭ ‬لقاء‭ ‬أعمالهم،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬الفكرة‭ ‬الأساس‭ ‬للعمل‭ ‬المدني‭ ‬هي‭ ‬العمل‭ ‬التطوعي‭. ‬وأخيرا‭ ‬ليس‭ ‬آخراً،‭ ‬تدّعي‭ ‬تلك‭ ‬المنظمات‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬التنمية‭ ‬والخدمة‭ ‬العامة‭ ‬مثلاً‭ ‬أنها‭ ‬تقوم‭ ‬مقام‭ ‬الدولة‭ ‬الغائبة،‭ ‬مع‭ ‬أنها‭ ‬تعرف‭ ‬تماماً‭ ‬أنها‭ ‬موجودة‭ ‬لتحلّ‭ ‬محلّ‭ ‬الدولة‭ ‬المغيّبة،‭ ‬بفعل‭ ‬أوامر‭ ‬البنك‭ ‬الدولي‭ ‬وصندوق‭ ‬النقد‭ ‬والهيئات‭ ‬التجارية‭ ‬والتنموية‭ ‬الدولية،‭ ‬وأنها‭ ‬موجودة‭ ‬لملء‭ ‬فراغات‭ ‬لن‭ ‬تستطيع‭ ‬ملأها،‭ ‬بديلا‭ ‬عن‭ ‬دولة‭ ‬ألزمت‭ ‬على‭ ‬الانسحاب‭ ‬من‭ ‬مجالات‭ ‬الخدمة‭ ‬العامة‭ ‬والتعليم‭ ‬والصحة‭ ‬والنقل‭ ‬والسكن،‭ ‬ومن‭ ‬الاشكال‭ ‬المختلفة‭ ‬الأخرى‭ ‬من‭ ‬التوزيع‭ ‬الاجتماعي‭.‬

قبل‭ ‬إيكال‭ ‬مهمة‭ ‬‮«‬تأهيل‮»‬‭ ‬منظمات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬لـ«المجتمع‮»‬،‭ ‬حريٌّ‭ ‬بها‭ ‬أن‭ ‬تقدّم‭ ‬جردةً‭ ‬بإنجازاتها‭ ‬والإصلاحات‭ ‬والإخفاقات‭ ‬في‭ ‬نحو‭ ‬دزينة‭ ‬من‭ ‬المجالات‭ ‬التي‭ ‬تعمل‭ ‬فيها‭ ‬خلال‭ ‬ربع‭ ‬القرن‭ ‬الأخير‭. ‬فمن‭ ‬تكلّفينه‭ ‬بالتأهيل‭ ‬حريٌّ‭ ‬به‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مؤهلاً‭ ‬أصلاً‭ ‬للمهمة‭ ‬الموكلة‭ ‬إليه‭. ‬ولكن،‭ ‬هل‭ ‬إن‭ ‬منظمات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬قوى‭ ‬تغيير‭ ‬أصلاً؟‭ ‬أنتِ‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬هولندا‭. ‬هل‭ ‬إن‭ ‬التغيير‭ ‬هناك‭ ‬تصنعه‭ ‬منظمات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬أم‭ ‬الأحزاب‭ ‬السياسية؟‭ ‬هل‭ ‬إن‭ ‬ما‭ ‬تتمتعون‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬حقوق‭ ‬معزول‭ ‬عمّا‭ ‬تبقى‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬الأوروبية‭ ‬من‭ ‬أدوار‭ ‬لدولة‭ ‬الرعاية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬في‭ ‬التعويض‭ ‬عن‭ ‬البطالة‭ ‬وتوفير‭ ‬الحد‭ ‬الأدنى‭ ‬للأجور‭ ‬والضمانات‭ ‬الصحية‭ ‬والتعليم‭ ‬المجاني‭ ‬وسائر‭ ‬الحقوق‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬الأساسية؟‭ ‬وهي‭ ‬إجراءات‭ ‬فرضتها‭ ‬أحزاب‭ ‬ذات‭ ‬توجه‭ ‬اشتراكي‭ ‬واتحادات‭ ‬نقابية‭ ‬عمالية‭ ‬ومهنية‭ ‬ونضالات‭ ‬وتراكمات‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬عقود‭ ‬من‭ ‬الزمن؟

وسؤال‭ ‬أخير‭ ‬عن‭ ‬منظمات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭:‬‮ ‬‭ ‬لو‭ ‬أنها‭ ‬حققت‭ ‬ما‭ ‬انطلقت‭ ‬أصلا‭ ‬لممارسته‭ ‬من‭ ‬إصلاحات،‭ ‬وادّعت‭ ‬القدرة‭ ‬عليه،‭ ‬هل‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬حاجة‭ ‬لأن‭ ‬تتفجّر‭ ‬ثورات‭ ‬شارك‭ ‬بها‭ ‬عشرات‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬العرب،‭ ‬والشباب‭ ‬خصوصاً،‭ ‬وبهذا‭ ‬القدر‭ ‬من‭ ‬الجذرية‭ ‬والعنف؟

اختزال‭ ‬الفكر‭ ‬بالمفكرين

يتم‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬تنميط‮ ‬‭ ‬المفكرين‭ ‬العرب‭ ‬بالدعوة‭ ‬إلى‭ ‬القطيعة‭ ‬مع‭ ‬التراث‭ ‬الديني‭ ‬كدعوة‭ ‬علي‭ ‬حرب،‭ ‬والدعوة‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬تفسير‭ ‬النص‭ ‬الديني‭ ‬مثل‭ ‬نصر‭ ‬حامد‭ ‬أبو‭ ‬زيد‭ ‬أو‭ ‬الحث‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬بنية‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬مثل‭ ‬ما‭ ‬ذهب‭ ‬إليه‭ ‬عابد‭ ‬الجابري،‭ ‬بوصفك‭ ‬مفكراً‭ ‬عربياً‭ ‬لك‭ ‬متابعوك‭ ‬أين‭ ‬تجد‭ ‬موقع‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬التنميط‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬النسق‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي‭ ‬وداخل‭ ‬منظومة‭ ‬التلقي‭ ‬له‭.‬

طرابلسي‭:‬ لا‭ ‬مجال‭ ‬للتنميط‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬وخصوصاً‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬مجال‭ ‬لاختزال‭ ‬الفكر‭ ‬بمساهمات،‭ ‬على‭ ‬قيمتها،‭ ‬في‭ ‬تأويل‭ ‬الإسلام‭. ‬عاشت‭ ‬المنطقة‭ ‬خلال‭ ‬ربع‭ ‬القرن‭ ‬الأخير‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬خطاب‭ ‬مهيمن‭ ‬هو‭ ‬خطاب‭ ‬العولمة‭ ‬النيوليبرالية‭ ‬وردود‭ ‬الفعل‭ ‬عليه،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬الفكر‭ ‬الإسلامي،‭ ‬أو‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬الإسلام،‭ ‬بمنأى‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬المناخ‭.‬

على‭ ‬أهمية‭ ‬انتشار‭ ‬ظاهرة‭ ‬التديّن‭ ‬وتنامي‭ ‬دور‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬شعبياً‭ ‬وتنظيمياً،‭ ‬لا‭ ‬يحتكر‭ ‬الفكر‭ ‬الديني‭ ‬العوالم‭ ‬الفكرية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭. ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬إن‭ ‬الظاهرتين‭ ‬تنضويان‭ ‬في‭ ‬منظومة‭ ‬أوسع‭ ‬هي‭ ‬تنامي‭ ‬التديّن‭ ‬وتزايد‭ ‬تديين‭ ‬الحركات‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الفكر‭ ‬الأوحد‭ ‬المسيطر‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬وهو‭ ‬العولمة‭ ‬والنيوليبرالية‭.‬

الثقافوية‭ ‬هي‭ ‬الوجه‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬للعولمة‭ ‬النيوليبرالية‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬تغليب‭ ‬النظرة‭ ‬الثقافية‭ ‬للحياة،‭ ‬وملحقاتها‭ ‬من‭ ‬نظرية‭ ‬صدام‭ ‬الحضارات،‭ ‬وإشكالية‭ ‬الهويات‭. ‬وإنه‭ ‬لمعبّر‭ ‬جداً‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬التعبير‭ ‬والتبرير‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬للسوق‭ ‬النيوليبرالي‭ ‬وتسليع‭ ‬كل‭ ‬أوجه‭ ‬الطبيعة‭ ‬والحياة،‭ ‬هو‭ ‬الثقافة‭ ‬وعمادها‭ ‬الدين‭. ‬قدّم‭ ‬صموئيل‭ ‬هانتينغتن‭ ‬وأنصاره‭ ‬هذه‭ ‬النظرة‭ ‬للحياة‭ ‬بما‭ ‬هي‭ ‬البديل‭ ‬عن‭ ‬نظرتين‭ ‬يرى‭ ‬أنهما‭ ‬‮«‬سقطتا‮»‬‭ ‬في‭ ‬التجربة‭: ‬النظرة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬التي‭ ‬سقطت‭ ‬في‭ ‬عرفه‭ ‬مع‭ ‬انهيار‭ ‬المعسكر‭ ‬السوفياتي؛‭ ‬ونظريات‭ ‬التحرر‭ ‬الوطني‭ ‬التي‭ ‬انتهت‭ ‬فاعليتها‭ ‬مع‭ ‬انحسار‭ ‬الاستعمار‭ ‬عن‭ ‬معظم‭ ‬الأراضي‭ ‬في‭ ‬القارات‭ ‬الثلاث‭. ‬ولقد‭ ‬وقع‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬المفكرين‭ ‬العرب‭ ‬والمسلمين،‭ ‬بمن‭ ‬فيهم‭ ‬إسلاميون‭ ‬إيرانيون‭ ‬‭(‬كالإصلاحي‭ ‬محمد‭ ‬خاتمي‭ ‬مثلا‭)‬‭ ‬في‭ ‬فخ‭ ‬صموئيل‭ ‬هانتينغتن‭ ‬هذا‭. ‬أخذوا‭ ‬من‭ ‬المعادلة‭ ‬مفردة‭ ‬‮«‬الصِدام‮»‬‭ ‬واستهولوها‮ ‬‭ ‬ليدعوا‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الحوار‮»‬،‭ ‬حوار‭ ‬الحضارات‭ ‬الذي‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬انحلّ‭ ‬إلى‭ ‬حوار‭ ‬بين‭ ‬ممثلين‭ ‬عن‭ ‬الديانات‭ ‬التوحيدية‭ ‬الثلاث‭. ‬أي‭ ‬أن‭ ‬دعاة‭ ‬الحوار‭ ‬ارتضوا‭ ‬تعريف‭ ‬هانتينغتن‭ ‬الاختزالي‭ ‬للبشر‭ ‬بما‭ ‬هم‭ ‬مجموعات‭ ‬تتمايز‭ ‬وتكتسب‭ ‬هويتها‭ ‬بما‭ ‬هي‭ ‬‮«‬حضارات‮»‬‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬جواهر‭ ‬وثوابت‭ ‬هي‭ ‬المذاهب‭ ‬الدينية‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يفسّر‭ ‬تقسيم‭ ‬هانتينغتن‭ ‬للحضارات‭ ‬إلى‭ ‬أرثوذكسية،‭ ‬أي‭ ‬روسيا‭ ‬وملحقاتها،‭ ‬ولاتينية‭ ‬كاثوليكية‭ ‬–‭ ‬أي‭ ‬أميركا‭ ‬اللاتينية‭ ‬–‭ ‬وكونفوشية‭ ‬–‭ ‬الصين‭ ‬–‭ ‬ومسلمة‭. ‬وتكفي‭ ‬نظرة‭ ‬متمعنة‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الجيوستراتيجيا‭ ‬الكونية‭ ‬أنها‭ ‬تصنّف‭ ‬‮«‬الحضارات‮»‬‭ ‬من‭ ‬منظار‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية‭ ‬والتحديات‭ ‬بل‭ ‬الأخطار‭ ‬التي‭ ‬تواجه‭ ‬‮«‬الغرب‮»‬‭ ‬بقيادتها‭. ‬حيث‭ ‬تعادل‭ ‬الأرثوذكسية‭ ‬الخطر‭ ‬الروسي،‭ ‬والكاثوليكية‭ ‬الهجرة‭ ‬من‭ ‬أميركا‭ ‬اللاتينية‭ ‬والكونفوشية‭ ‬يطل‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬شبح‭ ‬الجبروت‭ ‬الاقتصادي‭ ‬الصيني‭ ‬والإسلام‭.. ‬الإرهاب‭.‬

ولا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬المفارقة‭ ‬الفاغرة‭ ‬في‭ ‬الثقافوية‭: ‬إنها‭ ‬تحوّل‭ ‬الثقافة‭ ‬–‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬ذاتية‭ ‬تخييلية‭ ‬إبداعية‭ ‬انشقاقية‭ ‬شابحة‭ ‬إلى‭ ‬المستقبل‭ ‬–‭ ‬إلى‭ ‬نقائضها،‭ ‬أي‭ ‬إلى‭ ‬جواهر‭ ‬وخصائص‭ ‬تكرارية‭ ‬ثابتة‭ ‬تتحكم‭ ‬بالبشر،‭ ‬يشكل‭ ‬الدين‭ ‬نواتها‭ ‬الصلبة،‭ ‬وتشدّها‭ ‬إشكاليات‭ ‬الهوية‭ ‬الى‭ ‬الأصول‭ ‬والجذور‭ ‬والالتفات‭ ‬الدائم‭ ‬إلى‭ ‬الوراء،‭ ‬إلى‮ ‬‭ ‬الماضي‭.‬

من‭ ‬السذاجة‭ ‬–‭ ‬بعد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أربع‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬تحول‭ ‬بعض‭ ‬الثورات‭ ‬إلى‭ ‬الاحتراب‭ ‬الأهلي‭ ‬–‭ ‬أن‭ ‬نظل‭ ‬نفترض‭ ‬بأنه‭ ‬تمكن‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬وضع‭ ‬سابق‭ ‬على‭ ‬الثورة‭ ‬يستأنف‭ ‬فيه‭ ‬النضال‭ ‬السلمي‭ ‬وكأن‭ ‬شيئا‭ ‬لم‭ ‬يكن

لنقل‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الإطار‭ ‬الكوني‭ ‬لظاهرة‭ ‬محلية‭ ‬هي‭ ‬النمو‭ ‬غير‭ ‬المسبوق‭ ‬للتديّن‭ ‬الشعبي‭ ‬وظاهرة‭ ‬الحركات‭ ‬والتنظيمات‭ ‬الإسلاموية‭ ‬الجهادية‭ ‬التي‭ ‬تسوّغ‭ ‬العنف‭ ‬وتمارسه‭ ‬خلال‭ ‬العقود‭ ‬الثلاثة‭ ‬الماضية‭. ‬أما‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬المحلي،‭ ‬فقد‭ ‬نشطت‭ ‬الحركات‭ ‬الإسلامية‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬السبعينات‭ ‬والثمانينات‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬العهد‭ ‬النيوليبرالي‭ ‬وترعرعت‭ ‬خارج‭ ‬إطار‭ ‬الدولة‭ ‬والقطاع‭ ‬العام‭ ‬والبيروقراطية‭. ‬أي‭ ‬أنها‭ ‬عاشت‭ ‬في‭ ‬الهوامش‭ ‬بمعنيين‭: ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ارتباطها‭ ‬بالقطاع‭ ‬الرأسمالي‭ ‬الخاص،‭ ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬التجارة‭ ‬الداخلية‭ ‬أو‭ ‬تجارة‭ ‬التجزئة‭ ‬والخدمات‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬أفلت‭ ‬من‭ ‬سيطرة‭ ‬القطاع‭ ‬العام،‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬ولكنها‭ ‬عاشت‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬الهوامش‭ ‬الاجتماعية‭ ‬وسط‭ ‬الطبقات‭ ‬الشعبية‭ ‬وخصوصاً‭ ‬وسط‭ ‬الفقراء‭ ‬والعاطلين‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬أو‭ ‬الفئات‭ ‬المهمشة‭ ‬في‭ ‬الأرياف‭ ‬والأطراف‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬لوّن‭ ‬اقتصاد‭ ‬الإسلاميين‭ ‬بألوان‭ ‬نيوليبرالية‭ ‬معادية‭ ‬للتوزيع‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وتوسيع‭ ‬دور‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد‭ ‬والمجتمع‭.. ‬يحضرني‭ ‬خطاب‭ ‬لافت‮ ‬‭ ‬لأسامة‭ ‬بن‭ ‬لادن‭ ‬عشية‭ ‬الانتخابات‭ ‬الرئاسية‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬بأوباما‭ ‬إلى‭ ‬الرئاسة‭ ‬الأميركية،‭ ‬دعا‭ ‬فيه‭ ‬الأميركيين‭ ‬إلى‭ ‬اعتناق‭ ‬الإسلام‭ ‬والإغراء‭ ‬الذي‭ ‬قدّمه‭ ‬لهم‭: ‬أن‭ ‬لا‭ ‬ضرائب‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭! ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬الميل‭ ‬النيوليبرالي‭ ‬للإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬يتجلّى‭ ‬لدى‭ ‬حزب‭ ‬العدالة‭ ‬والتنمية‭ ‬التركي،‭ ‬مثلما‭ ‬قد‭ ‬تجده‭ ‬لدى‭ ‬حزب‭ ‬الله‭ ‬اللبناني‭.‬

في‭ ‬عودة‭ ‬إلى‭ ‬موضوعنا‭ ‬المباشر،‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬محاولات‭ ‬تأويل‭ ‬النصوص‭ ‬الدينية‭ ‬عملية‭ ‬لا‭ ‬تنتهي‭. ‬والسبب‭ ‬أن‭ ‬مبدأ‭ ‬التأويل‭ ‬هو‭ ‬إعطاء‭ ‬معان‭ ‬معاصرة‭ ‬لنص‭ ‬ليس‭ ‬معاصراً‭ ‬يفترض‭ ‬فيه‭ ‬أنه‭ ‬يقدّم‭ ‬نظرة‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬ومبادئ‭ ‬إيمان‭ ‬وقواعد‭ ‬سلوك‭ ‬ونمط‭ ‬حياة‭ ‬صالحة‭ ‬لكل‭ ‬آن‭ ‬وأوان‭. ‬في‭ ‬المقابل،‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬تفسرّه‭ ‬تأويلات‭ ‬النص،‭ ‬أكانت‭ ‬صادرة‭ ‬عن‭ ‬علمائيين‭ ‬أو‭ ‬علمانيين،‭ ‬هو‭ ‬التأويل‭ ‬ذاته‭. ‬أي‭ ‬تفسيرُ‭: ‬لماذا‭ ‬يغلب‭ ‬هذه‭ ‬التأويل‭ ‬للنص‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬زمنية‭ ‬معينة‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬أخرى،‭ ‬وكيف‭ ‬ولماذا‭ ‬ينحسر‭ ‬نفوذه‭ ‬وتكون‭ ‬الغلبة‭ ‬لصالح‭ ‬تفسير‭ ‬آخر‭. ‬والجواب‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬وإنما‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬والزمن‭.‬

بناء‭ ‬عليه،‭ ‬أودّ‭ ‬قلب‭ ‬المعادلة‭ ‬بحيث‭ ‬يصير‭ ‬السؤال‭: ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يدفع‭ ‬بشراً،‭ ‬وشباناً‭ ‬بنوع‭ ‬خاص،‭ ‬إلى‭ ‬تبني‭ ‬هذا‭ ‬التفسير‭/‬التأويل‭ ‬الجهادي‭ ‬التكفيري‭ ‬للإسلام‭ ‬بما‭ ‬يمليه‭ ‬من‭ ‬استهانة‭ ‬مفرطة‭ ‬بالحياة‭ ‬الذاتية‭ ‬وبحياة‭ ‬سائر‭ ‬البشر‭ ‬بهذا‭ ‬القدر‭ ‬من‭ ‬التوحش‭ ‬غير‭ ‬المسبوق‭ ‬تاريخياً‭ ‬يزيد‭ ‬من‭ ‬توحشه‭ ‬استعانته‭ ‬بكل‭ ‬مستحضرات‭ ‬القتل‭ ‬التي‭ ‬ابتكرتها‭ ‬الحداثة‭.‬

هذا‭ ‬السؤال‭ ‬لا‭ ‬يجيب‭ ‬عليه‭ ‬نقص‭ ‬الوعي‭. ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬الناس‭ ‬يعرفون‭ ‬مصالحهم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬يريدون‭ ‬تعليمهم‭. ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يفسّر‭ ‬بالعودة‭ ‬الى‭ ‬الماضي‭ ‬وإنما‭ ‬بالانطلاق‭ ‬من‭ ‬قضايا‭ ‬وتحولات‭ ‬وانقلابات‭ ‬الحاضر‭ ‬لتفسير‭ ‬استحضار‭ ‬الماضي‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬مشاريع‭ ‬في‭ ‬الحاضر‭ ‬أو‭ ‬تدّعي‭ ‬بناء‭ ‬المستقبل‭. ‬فولاية‭ ‬الفقيه‭ ‬شرعنت‭ ‬للجماعة‭ ‬الشيعية‭ ‬توسّل‭ ‬السلطة،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬نقول‭ ‬الاستيلاء‭ ‬عليها‭ ‬والاستئثار‭ ‬بها‭. ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬انقلاب‭ ‬كامل‭ ‬للفقه‭ ‬الشيعي‭ ‬السابق‭ ‬ولتصوّر‭ ‬الموقع‭ ‬التاريخي‭ ‬للشيعة‭ ‬بما‭ ‬هم‭ ‬المعارضون‭ ‬التقليديون‭ ‬للسلطات‭ ‬القائمة‭ ‬والضحايا‭ ‬المستكينين‭ ‬للتمييز‭ ‬والحرمان‭ ‬بانتظار‭ ‬عودة‭ ‬المهدي‭ ‬المنتظر‭ ‬ليحقق‭ ‬الانقلاب‭ ‬الألفي‭ ‬من‭ ‬ظلم‭ ‬وحرب‭ ‬إلى‭ ‬سلام‭ ‬وعدل‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭. ‬وقد‭ ‬جرى‭ ‬لهذا‭ ‬الغرض‭ ‬التوفيق‭ ‬بين‭ ‬السلطة‭ ‬الزمنية‭ ‬والنزعة‭ ‬المهدوية،‭ ‬بحيث‭ ‬صارت‭ ‬الوظيفة‭ ‬الرئيسة‮ ‬‭ ‬للسلطة‭ ‬الزمنية،‭ ‬لا‭ ‬مجرّد‭ ‬النيابة‭ ‬عن‭ ‬الإمام‭ ‬بانتظار‭ ‬ظهوره،‭ ‬وإنما‭ ‬التعجيل‭ ‬بعودة‭ ‬‮«‬صاحب‭ ‬الزمان‮»‬‭ ‬بواسطة‭ ‬ما تؤديه‭ ‬السلطة‭ ‬والمؤمنون‭ ‬معاً‭ ‬من‭ ‬أفعال‭.‬

قبل‭ ‬إيكال‭ ‬مهمة‭ ‬‮«‬تأهيل‮»‬‭ ‬منظمات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬لـ«المجتمع‮»‬،‭ ‬حريٌّ‭ ‬بها‭ ‬أن‭ ‬تقدّم‭ ‬جردةً‭ ‬بإنجازاتها‭ ‬والإصلاحات‭ ‬والإخفاقات‭ ‬في‭ ‬نحو‭ ‬دزينة‭ ‬من‭ ‬المجالات‭ ‬التي‭ ‬تعمل‭ ‬فيها‭ ‬خلال‭ ‬ربع‭ ‬القرن‭ ‬الأخير

والأمر‭ ‬نفسه‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يقال‭ ‬عن‭ ‬الجهادية‭ ‬السنّية،‭ ‬دون‭ ‬تناسي‭ ‬التباين‭ ‬في‭ ‬الفقه‭ ‬والموقف‭. ‬فإن‭ ‬استدعاء‭ ‬الخلافة‭ ‬والسعي‭ ‬لتطبيقها‭ ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬احتلال‭ ‬الأراضي‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬العراق‭ ‬وسوريا،‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الواحد‭ ‬والعشرين،‭ ‬يرى‭ ‬فيه‭ ‬دعاته‭ ‬وممارسوه‭ ‬جواباً‭ ‬على‭ ‬مظلوميات‭ ‬جمعية‭ ‬معاصرة‭ ‬بحق‭ ‬السنّة،‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬وفي‭ ‬سوريا‭ ‬خصوصا،‭ ‬يجري‭ ‬تصعيدها‭ ‬باتجاه‭ ‬تكريس‭ ‬الغلبة‭ ‬السنّية‭ ‬غير‭ ‬المنقوصة‭ ‬في‭ ‬صيغتها‭ ‬السلطانية‭.‬

لقلب‭ ‬المعادلة‭ ‬مترتبات‭ ‬لا‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬النتائج‭ ‬المعرفية‭. ‬وأبرزها‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬حلّ‭ ‬عسكرياً‭ ‬للجهادية‭ ‬التكفيرية‭. ‬ففي‭ ‬زمن‭ ‬مضى‭ ‬كثر‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬‮«‬تجفيف‭ ‬منابع‭ ‬الإرهاب‮»‬‭ ‬وكان‭ ‬المقصود‭ ‬به‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬شبكاته‭ ‬المالية‭. ‬الآن‭ ‬مطلوب‭ ‬‮«‬تجفيف‭ ‬المنابع‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬للإرهاب‮»‬‭ ‬وأبرزها‭ ‬البطالة،‭ ‬الفقر،‭ ‬انسداد‭ ‬الآفاق‭ ‬أمام‭ ‬الشباب،‭ ‬سوء‭ ‬توزيع‭ ‬الثروات‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬تلك‭ ‬الصادرة‭ ‬عن‭ ‬ريوع‭ ‬النفط‭ ‬والغاز،‭ ‬الهامشية‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬انهيار‭ ‬الأرياف،‭ ‬نبذ‭ ‬الأطراف‭ ‬وتحويل‭ ‬قبائلها‭ ‬والعشائر‭ ‬إلى‭ ‬شبكات‭ ‬تهريب‭ ‬وميليشيات‭ ‬ومرتزقة‭ ‬لقوى‭ ‬الداخل‭ ‬والخارج،‭ ‬والمظلوميات‭ ‬أكانت‭ ‬تطاول‭ ‬أكثريات‭ ‬أو‭ ‬أقليات،‭ ‬الخ‭.‬

‮ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬الموارد‭ ‬النفطية‭ ‬والغازية‭ ‬الفلكية‭ ‬التي‭ ‬تملكها‭ ‬المنطقة‭ ‬قد‭ ‬وظفت‭ ‬لأغراض التنمية‭ ‬وتقريب‭ ‬الفوارق‭ ‬بين‭ ‬مدينة‭ ‬وريف‭ ‬ومركز‭ ‬وأطراف‭ ‬وتقليص‭ ‬الفوارق‭ ‬بين‭ ‬الطبقات‭ ‬والجماعات‭ ‬والمناطق‭ ‬وتأمين‭ ‬الحدّ‭ ‬الأدنى‭ ‬من‭ ‬ضرورات‭ ‬الحياة‭ ‬تليق‭ ‬ببشر‭ ‬للجميع،‭ ‬هل‭ ‬كنا‭ ‬شهدنا‭ ‬هذه‭ ‬الانفجارات‭ ‬الثورية‭ ‬وتسابق‭ ‬الميليشيات‭ ‬والمافيات‭ ‬للسيطرة‭ ‬على‭ ‬حقول‭ ‬النفط‭ ‬والغاز‭ ‬وأنابيبه‭ ‬وريوعه؟

مسار‭ ‬طرابلسي‭ ‬الفكري

معظم‭ ‬تجارب‭ ‬الشخصيات‭ ‬ذات‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالشأن‭ ‬العام‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬فكرية‭ ‬أو‭ ‬سياسية‭ ‬أو‭ ‬دينية‭ ‬أو‭ ‬اجتماعية‭ ‬يطالها‭ ‬تغيّر‭ ‬بمرور‭ ‬الزمن،‭ ‬فهل‭ ‬فواز‭ ‬طرابلسي‭ ‬ممن‭ ‬أعادوا‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬منظومتهم‭ ‬الفكرية‭ ‬والمعرفية؟‭ ‬إن‭ ‬تم‭ ‬ذلك‭ ‬بالفعل‭ ‬فهل‭ ‬هو‭ ‬بفعل‭ ‬تغير‭ ‬الظروف‭ ‬المحيطة؟‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الأدوات‭ ‬المنهجية‭ ‬قد‭ ‬أفلست؟

طرابلسي‭:‬ يعجبني‭ ‬الإلحاح‭ ‬الدائم‭ ‬على‭ ‬اليساريين‭ ‬للتأكد‭ ‬من‭ ‬أنهم‭ ‬راجعوا‭ ‬معتقداتهم‭ ‬ومارسوا‭ ‬النقد‭ ‬الذاتي‭. ‬ولكن‭ ‬انقلب‭ ‬السحر‭ ‬على‭ ‬الساحر،‭ ‬فها‭ ‬هم‮ ‬‭ ‬يساريون‭ ‬سابقون‭ ‬يمارسون‭ ‬هذا‭ ‬الطقس‭ ‬الديني‭ ‬التكفيري‭ ‬الذي‭ ‬تعلّموه‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬خدمتهم‭ ‬اليسارية‭ ‬‭(‬مثلما‭ ‬يقال‭ ‬عن‭ ‬‮«‬خدمة‭ ‬عسكرية‮»‬‭)‬‭ ‬والذي‭ ‬يفترض‭ ‬أن‭ ‬اليساري‭ ‬المؤمن‭ ‬مذنبٌ‭ ‬ومنحرف‭ ‬بالتعريف‭ ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يرتكب‭ ‬خطأ‭ ‬أو‭ ‬خطيئة‭ ‬ما‭ ‬وأن‭ ‬يحيد‭ ‬عن‭ ‬الصراط‭ ‬المستقيم،‭ ‬ما‭ ‬يستوجب‭ ‬الاعتراف‭ ‬والعقاب‭. ‬لست‭ ‬أعرف‭ ‬عن‭ ‬أسئلة‭ ‬مشابهة‭ ‬تتقدم‭ ‬بمثل‭ ‬هذه‭ ‬البداهة‭ ‬والإلزام‭ ‬إلى‭ ‬يمينيين‭ ‬أو‭ ‬ليبراليين‭ ‬أو‭ ‬وسطيين‭ ‬أو‭ ‬إسلاميين‭ ‬أو‭ ‬مؤيدين‭ ‬للسياسات‭ ‬السعودية‭ ‬والقطرية‭ ‬والأميركية‭ ‬في‭ ‬الحروب‭ ‬السورية،‭ ‬مثلاً،‭ ‬الخ‭.‬

المهم‭: ‬الفكر‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليّ‭ ‬ينمو‭ ‬وينضج‭ ‬ويتحول‭ ‬ويسعى‭ ‬للإحاطة‭ ‬بالمستجدات‭ ‬والمنعطفات‭ ‬الحاسمة‭ ‬ويراجع‭ ‬نفسه‭ ‬عند‭ ‬الضرورة‭. ‬والماركسية‭ ‬هي‭ ‬المنهج‭ ‬الخصيب‭ ‬الذي‭ ‬قاد‭ ‬وألهَم‭ ‬ولا‭ ‬زال‭ ‬فكري‭ ‬وكتاباتي‭ ‬وممارساتي‭ ‬ونمط‭ ‬حياتي‭. ‬والشاهد‭ ‬منذ‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة‭: ‬كلما‭ ‬أعلن‭ ‬عن‭ ‬موت‭ ‬الماركسية‭ ‬ودفنها‭ ‬كلما‭ ‬انتفضت‭ ‬بعزيمة‭ ‬متجددة‭ ‬تفاجئ‭ ‬أنصارها‭ ‬ذاتهم‭ ‬أحياناً‭. ‬ماركسيتي‭ ‬ماركسية‭ ‬متعددة‭ ‬المصادر‭ ‬الخارجية‭ ‬والداخلية،‭ ‬تغتني‭ ‬بروافد‭ ‬متنوعة‭ ‬من‭ ‬سائر‭ ‬المذاهب‭ ‬والتيارات‭ ‬في‭ ‬الإنسانيات‭ ‬والعلوم‭ ‬الاجتماعية‭ ‬ومن‭ ‬مخزون‭ ‬التاريخ‭ ‬العربي‭ ‬والتراث‭ ‬الفكري‭ ‬والثقافي‭ ‬العربي‭-‬الاسلامي‭. ‬والماركسية‭ ‬شكلّت‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬تشكّل‭ ‬عندي‭ ‬نقطة‭ ‬الانطلاق‭ ‬المنهجية‭ ‬والنظرية‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬لا‭ ‬خاتمة‭ ‬المطاف‭. ‬فهي‭ ‬كما‭ ‬عرّفها‭ ‬سارتر‭ ‬نظرية‭ ‬التجاوز،‭ ‬تتجاوز‭ ‬نفسها‭ ‬بنفسها‭ ‬باستمرار،‭ ‬لسوء‭ ‬حظ‭ ‬مَن‭ ‬لا‭ ‬يمارس‭ ‬هذا‭ ‬التجاوز‭ ‬في‭ ‬ماركسيته‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬أحاوله‭.‬

لم‭ ‬أنقلب‭ ‬من‭ ‬النقيض‭ ‬إلى‭ ‬نقيضه،‭ ‬خلافا‭ ‬للعديد‭ ‬ممن‭ ‬انقلب‭ ‬إلى‭ ‬ليبراليين‭ ‬وقوميين‭ ‬أو‭ ‬إسلامويين‭ ‬أوعلمانيين‭ ‬أصوليين،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬أتحدث‭ ‬عن‭ ‬الذين‭ ‬صاروا‭ ‬من‭ ‬مثقفي‭ ‬السلاطين‭ ‬والسلطات‭.‬‮ ‬‭ ‬ولا‭ ‬أزال‭ ‬أتعجب‭ ‬من‭ ‬اتساع‭ ‬تلك‭ ‬الظاهرة‭ ‬وآسف‭ ‬لها،‭ ‬لا‭ ‬لشيء‭ ‬إلا‭ ‬لأن‭ ‬نقيض‭ ‬ما‭ ‬بات‭ ‬يعتبره‭ ‬المرء‭ ‬هو‭ ‬الخطأ‭ ‬نادرا‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬بالضرورة‭ ‬هو‭ ‬الأصح‭.‬

أنا‭ ‬مواطن‭ ‬لبناني‭ ‬عربي‮ ‬أتيح‭ ‬له‭ ‬الانغماس‭ ‬منذ‭ ‬المراهقة‭ ‬في‭ ‬تجارب‭ ‬سياسية‭ ‬وثورات‭ ‬ونضالات‭ ‬مختلفة‭. ‬تفتّح‭ ‬وعيي‭ ‬الوطني‭ ‬مع‭ ‬العدوان‭ ‬الثلاثي‭ ‬على‭ ‬مصر‭ ‬1956،‭ ‬ونما‭ ‬مع‭ ‬الثورة‭ ‬الجزائرية‭ ‬وعاصرتُ‭ ‬انطلاقة‭ ‬المقاومة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬وشاركت‭ ‬فيها‭ ‬ومعها،‭ ‬وواكبت‭ ‬حركة‭ ‬التحرر‭ ‬الوطني‭ ‬اليمنية‭ ‬وارتبطت‭ ‬بعلاقة‭ ‬وثيقة‭ ‬بنظامها‭ ‬اليساري‭ ‬وزرت‭ ‬ظفار‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الثورة‭ ‬وكتبت‭ ‬عنها‭ ‬وناضلت‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬كافة‭ ‬القوى‭ ‬الوطنية‭ ‬والتقدمية‭ ‬واليسارية‭ ‬في‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬والخليج‭ ‬وأسهمت‭ ‬في‭ ‬تأسيس‭ ‬تنظيمين‭ ‬يساريين‭ ‬وتحمّلت‭ ‬المسؤولية‭ ‬القيادية‭ ‬في‭ ‬كليهما‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬هيئات‭ ‬الحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬اللبنانية‭. ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أسجّل‭ ‬أن‭ ‬فكري‭ ‬ووعيي‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬نما‭ ‬ونضج‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المساهمة‭ ‬مع‭ ‬رفاق‭ ‬ورفيقات‭ ‬كانوا‭ ‬المحاورين‭ ‬والمثرين‭ ‬للفكر‭ ‬في‭ ‬‮«‬مجموعة‭ ‬لبنان‭ ‬الاشتراكي‭ ‬‮»‬‭ ‬وتالياً‭ ‬في‭ ‬‮«‬منظمة‭ ‬العمل‭ ‬الشيوعي‭ ‬في‭ ‬لبنان‮»‬‭. ‬وأنا‭ ‬مدين‭ ‬لهنّ‭ ‬ولهم‭ ‬بالكثير‭ ‬على‭ ‬الصعيدين‭ ‬الفكري‭ ‬والثقافي،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬أتحدث‭ ‬عن‭ ‬الدَين‭ ‬النضالي‭. ‬وأضيف‭ ‬أن‭ ‬النضج‭ ‬في‭ ‬العمر‭ ‬والفكر‭ ‬يعني‭ ‬أيضا‭ ‬اتّساع‭ ‬الصدر‭ ‬قدر‭ ‬اتساع‭ ‬الأفق‭.‬

يدور‭ ‬قسم‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬نتاجي‭ ‬مدار‭ ‬محورين‭: ‬الأول‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬تسميته‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي‭ ‬والاجتماعي،‭ ‬وأفضّل‭ ‬تسميته‭ ‬السوسيولوجيا‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصاد‭ ‬الاجتماعي‭. ‬والمحور‭ ‬الثاني‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬أسمّيه‭ ‬‮«‬تصنيع‭ ‬التجارب‮»‬‭ ‬همّي‭ ‬فيه‭ ‬هو‭ ‬إعطاء‭ ‬معنى،‭ ‬بل‭ ‬معانٍ،‭ ‬للتجارب‭ ‬التي‭ ‬عشتها‭.‬

بدأت‭ ‬التأليف‭ ‬متأخرا‭: ‬خلال‭ ‬وبعد‭ ‬الاحتلال‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬للبنان‭ ‬ولبيروت‭ ‬العام‭ ‬1982‭ ‬وتجربة‭ ‬المقاومة‭ ‬الوطنية‭ ‬والإسلامية‭ ‬له‭. ‬وقد‭ ‬صممت‭ ‬على‭ ‬الكتابة‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬وتجربة‭ ‬العنف‭ ‬الأهلي‭ ‬بعدة‭ ‬أساليب،‭ ‬منطلقاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أضعف‭ ‬أنواع‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬هي‭ ‬الكتابة‭ ‬السياسية‭ ‬المباشرة‭. ‬كتبت‭ ‬المذكّرات‭ ‬باكراً‭ ‬في‭ ‬‮«‬صورة‭ ‬الفتى‭ ‬بالأحمر‭. ‬يوميات‭ ‬في‭ ‬السلم‭ ‬والحرب‮»‬‭ ‬‭(‬1997‭)‬‭. ‬ودونت‭ ‬يوميات‭ ‬حصار‭ ‬بيروت‭ ‬العام‭ ‬1982‭ ‬في‭ ‬‮«‬عن‭ ‬أمل‭ ‬لا‭ ‬شفاء‭ ‬منه‮»‬‭ ‬‭(‬1984‭)‬،‭ ‬وقرأت‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬اللبنانية‭ ‬من‭ ‬خلال الحرب‭ ‬الأسبانية‭ ‬والفن‭ ‬في‭ ‬‮«‬غيرنيكا‭ ‬بيروت‮ ‬‭-‬‮ ‬الفن‭ ‬والحياة‭ ‬بين‭ ‬جدارية‭ ‬لبيكاسو‭ ‬ومدينة‭ ‬عربية‭ ‬في‭ ‬الحرب‮»‬‭ ‬‭(‬1978‭)‬‭. ‬واشتغلت‭ ‬على‭ ‬الدراسة‭ ‬النقدية‭ ‬للنظام‭ ‬السياسي‭ ‬والاقتصادي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬اللبناني،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬حياة‭ ‬وأعمال‭ ‬ميشال‭ ‬شيحا،‭ ‬الصحفي‭ ‬والمصرفي‭ ‬والكاتب‭ ‬الذي‭ ‬قدّم‭ ‬أكبر‭ ‬مساهمة‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬والترويج‭ ‬له،‭ ‬في‭ ‬كتابي‮ ‬‭ ‬‮«‬صلات‭ ‬بلا‭ ‬وصل‭. ‬ميشال‭ ‬شيحا‭ ‬والأيديولوجية‭ ‬اللبنانية‮»‬‭ ‬‭(‬1999‭)‬‭. ‬وفي‭ ‬مجال‭ ‬قراءة‭ ‬التطورات‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الفن‭ ‬أيضا‭ ‬كانت‭ ‬دراستي‭ ‬‮«‬مسرح‭ ‬فيروز‭ ‬والرحابنة‭: ‬الغريب‭ ‬والكنز‭ ‬والأعجوبة‮»‬‭ ‬‭(‬2006‭)‬،‭ ‬ومجموعة‭ ‬مقالات‭ ‬ودراسات‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬الشعبية‭ ‬بعنوان‮ «‬إن‭ ‬كان‭ ‬بدّك‭ ‬تعشق‮»‬‭ ‬‭(‬2004‭)‬‭. ‬والذروة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المسار‭ ‬هي‭ ‬مغامرة‭ ‬التصدي‭ ‬للتأريخ‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬العِلم‭ ‬الذي‭ ‬يدمج‭ ‬سائر‭ ‬العلوم‭ ‬في‭ ‬كتابي‭ ‬‮«‬تاريخ‭ ‬لبنان الحديث‭. ‬من‭ ‬إمارة‭ ‬جبل‭ ‬لبنان‭ ‬إلى‭ ‬اتفاق‭ ‬الطائف‮»‬‭. ‬وكان‭ ‬الدافع‭ ‬الأكبر‭ ‬لكتابته‭ ‬هو‭ ‬تأريخ‭ ‬الحروب‭ ‬الأهلية‭ ‬والخارجية‭ ‬1975‭-‬1990‭. ‬من‭ ‬حيث‭ ‬المنهج،‭ ‬حاولت التأريخ‭ ‬من‭ ‬منظار‭ ‬البلد‭ ‬ككل،‭ ‬ورفض‭ ‬اختزال‭ ‬تاريخ‭ ‬لبنان‭ ‬بتاريخ‭ ‬الطوائف‭ ‬أو‭ ‬بالتاريخ‭ ‬السياسي‭ ‬بل‭ ‬الربط‭ ‬بين‭ ‬الاقتصاد‭ ‬والسياسة‭ ‬والشغل‭ ‬على‭ ‬التاريخ‭ ‬الاجتماعي‭.‬

بدأت‭ ‬الكتابة‭ ‬السياسية‭ ‬باكرا‭. ‬كتبت‭ ‬عن‭ ‬الثورة‭ ‬الجزائرية‭ ‬عشية‭ ‬الاستقلال‭ ‬وعن‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬‭(‬1969‭)‬،‭ ‬وعن‭ ‬زيارتي‭ ‬لظفار‭ ‬زمن‭ ‬الثورة‭ ‬العام‭ ‬1970‭. ‬نشرت‭ ‬لاحقا‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬ظفار‭ ‬شهادة‭ ‬من‭ ‬زمن‭ ‬الثورة‮»‬‭ ‬وكتبت‭ ‬مؤخرا‭ ‬شهادتي‭ ‬الشخصية‭ ‬عن‭ ‬حركة‭ ‬التحرر‭ ‬وحكم‭ ‬اليسار‭ ‬في‭ ‬اليمن‭ ‬الجنوبي‭ ‬‮«‬جنوب‭ ‬اليمن‭ ‬في‭ ‬حكم‭ ‬اليسار‮»‬،‭ ‬‭(‬2016‭)‬‭. ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬تابعت‭ ‬الثورات‭ ‬العربية‭ ‬منذ‭ ‬انطلاقتها‭ ‬وكتبت‭ ‬وحاضرت‭ ‬ونشرت‭ ‬كتاباتي‭ ‬في‭ ‬‮«‬الديمقراطية‭ ‬ثورة‮»‬‭ ‬‭(‬2012‭)‬‭ ‬و«ثورات‭ ‬بلا‭ ‬ثوار‮»‬‭ ‬‭(‬2014‭)‬،‭ ‬الخ‭

لم‭ ‬أنقلب‭ ‬من‭ ‬النقيض‭ ‬إلى‭ ‬نقيضه،‭ ‬خلافا‭ ‬للعديد‭ ‬ممن‭ ‬انقلب‭ ‬إلى‭ ‬ليبراليين‭ ‬وقوميين‭ ‬أو‭ ‬إسلامويين‭ ‬أوعلمانيين‭ ‬أصوليين،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬أتحدث‭ ‬عن‭ ‬الذين‭ ‬صاروا‭ ‬من‭ ‬مثقفي‭ ‬السلاطين‭

.‬

هذا‭ ‬بمثابة‭ ‬‮«‬سي‭. ‬ڤي‮»‬‭ ‬للقراء‭ ‬الشباب‭ ‬منهم‭ ‬والأقل‭ ‬شباباً‭.‬

فاجأني‭ ‬انهيار‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفياتي‭ ‬ومعسكره‭ ‬بل‭ ‬صدمني‭ ‬بالتأكيد،‭ ‬وتحداني‭ ‬على‭ ‬التفسير‭ ‬والتأويل‭. ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يترك‭ ‬عليّ‭ ‬الأثر‭ ‬الذي‭ ‬تركه‭ ‬على‭ ‬المؤمنين‭ ‬في‭ ‬الأحزاب‭ ‬الشيوعية‭ ‬العربية‭.‬‮ ‬‭ ‬لم‭ ‬أزر‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفياتي‭ ‬في‭ ‬حياتي‭ ‬وكنت‭ ‬عضواً‭ ‬في‭ ‬تنظيم‭ ‬ممنوع‭ ‬من‭ ‬الصرف‭ ‬في‭ ‬موسكو‭. ‬وقد‭ ‬كتبت‭ ‬وترجمت‭ ‬عدة‭ ‬دراسات‭ ‬ومؤلفات‭ ‬نقدية‭ ‬عن‭ ‬التجربة‭ ‬السوفياتية‭. ‬ودعوت‭ ‬باكراً‭ ‬إلى‭ ‬بلورة‭ ‬المكوّن‭ ‬الديمقراطي‭ ‬للاشتراكية،‭ ‬وانتقدت‭ ‬نمط‭ ‬البناء‭ ‬الاقتصادي‭ ‬الذي‭ ‬ساد‭ ‬الحقبة‭ ‬البريجنيفية‭ ‬في‭ ‬كتابي‭ ‬‮«‬الماركسية‭ ‬وبعض‭ ‬قضايانا‭ ‬العربية‮»‬‭ ‬‭(‬1985‭)‬‭. ‬كنت‭ ‬أنتمي‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬اليسار‭ ‬الجديد‮»‬،‭ ‬أرى‭ ‬نفسي‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬أفكار‭ ‬تروتسكي‭ ‬وغرامشي‭ ‬وماو‭ ‬تسي‭ ‬تونغ‭ ‬وتشي‭ ‬غيفارا‭ ‬‭(‬الذي‭ ‬ترجمته‭ ‬باكرا‭)‬‭ ‬والثورات‭ ‬الصينية‭ ‬والفيتنامية‭ ‬والكوبية‭.‬

وقد‭ ‬تتفاجئين‭ ‬إذا‭ ‬قلت‭ ‬لك‭ ‬إن‭ ‬انهيار‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفياتي‭ ‬قد‭ ‬حرر‭ ‬الماركسية‭ ‬من‭ ‬عقيدة‭ ‬سلطوية‭ ‬و‭ ‬قوالب‭ ‬جامدة‭ ‬وإيمانية‭ ‬وأطلق‭ ‬موجة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬النتاج‭ ‬الماركسي‭ ‬أكثر‭ ‬خيالاً‭ ‬وإبداعاً‭ ‬وثراءً‭.‬

أما‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليّ،‭ ‬فلم‭ ‬أنتقل‭ ‬إلى‭ ‬الليبرالية،‭ ‬لتمييزي‭ ‬بين‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والليبرالية‭ ‬واقتناعي‭ ‬بأن‭ ‬الثانية‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬الأولى‭. ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬لم‭ ‬أعتبر‭ ‬مرّة‭ ‬أن‭ ‬الهزائم‭ ‬تستوجب‭ ‬التراجع‭ ‬الفكري‭ ‬أو‭ ‬النظري‭ ‬أو‭ ‬المساومة‭ ‬على‭ ‬الفكر‭ ‬والنظرية‭.‬

تعلّمت‭ ‬بعض‭ ‬الدروس‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬في‭ ‬مراجعتي‭ ‬لتجارب‭ ‬الاشتراكية‭ ‬المتحققة‭.‬

الدرس‭ ‬الأول‭: ‬أنه‭ ‬يجب‭ ‬النجاح‭ ‬في‭ ‬إنتاج‭ ‬الثروة‭ ‬‭(‬بالتنمية‭ ‬والتحديث‭ ‬وإعلاء‭ ‬قيمة‭ ‬العمل‭ ‬المنتج‭ ‬وغيرها‭)‬‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التمكّن‭ ‬من‭ ‬توزيعها‭ ‬بطريقة‭ ‬أعدل‭ ‬بين‭ ‬المواطنين‭. ‬وقد‭ ‬أعانتني‭ ‬تجربتي‭ ‬اليمنية‭ ‬على‭ ‬اكتشاف‭ ‬هذه‭ ‬القاعدة‭ ‬وتطبيقها‭ ‬العكسي‭ ‬في‭ ‬المساواة‭ ‬في‭ ‬الفقر‭ ‬أو‭ ‬التقشف‭.‬

الدرس‭ ‬الثاني‭: ‬هو‭ ‬ضرورة‭ ‬الاعتراف‭ ‬بلحظة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬السياسية‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬مرحلة‭ ‬تاريخية‭ ‬متكاملة‭. ‬وأن‭ ‬حرق‭ ‬المراحل‭ ‬على‭ ‬افتراض‭ ‬إمكان‭ ‬القفز‭ ‬فوق‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬إلى‭ ‬لون‭ ‬من‭ ‬ألوان‭ ‬الديمقراطية‭ ‬المسمّاة‭ ‬‮«‬مباشرة‮»‬‭ ‬‭(‬مجالسية‭ ‬مثلاً‭)‬‭ ‬لن‭ ‬يؤدي‭ ‬إلا‭ ‬إلى‭ ‬الدكتاتورية،‭ ‬كما‭ ‬حصل‭ ‬في‭ ‬التجربة‭ ‬السوفياتية‭. ‬الدرس‭ ‬الثالث‭: ‬إن‭ ‬تجاوز‭ ‬الديمقراطية‭ ‬السياسية‭-‬القانونية‭ ‬باتجاه‭ ‬الديمقراطية‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬الديمقراطية‭ ‬السياسية‭.‬

الدرس‭ ‬الرابع‭: ‬هو‭ ‬ضرورة‭ ‬اعتماد‭ ‬النظرة‭ ‬الجدلية‭ ‬إلى‭ ‬ثنائية‭ ‬الحرية‭ ‬والمساواة‭ ‬بما‭ ‬هما‭ ‬قيمتان‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬التضحية‭ ‬بواحدة‭ ‬منهما‭ ‬لصالح‭ ‬الأخرى‭ ‬إلا‭ ‬بخسائر‭ ‬فادحة‭ ‬تصيب‭ ‬الاثنين‭. ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الدرس‭ ‬الأبلغ‭ ‬الذي‭ ‬يعلّمنا‭ ‬إياه‭ ‬التاريخ‭.‬

في‭ ‬الآونة‭ ‬الأخيرة‭ ‬عدت‭ ‬إلى‭ ‬الماركسية‭ ‬منقبّا‭ ‬ومستلهماً‭ ‬في‭ ‬مسعى‭ ‬للرد‭ ‬على‭ ‬تحديين‭ ‬طارئين‭. ‬الأول‭ ‬هو‭ ‬تحدي‭ ‬فهم‭ ‬العولمة‭ ‬والنيوليبرالية‭ ‬ورصد‭ ‬آثارهما‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬والطبيعة،‭ ‬وتعيين‭ ‬موقع‭ ‬منطقتنا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬وتلك‭. ‬وقد‭ ‬تجدّد‭ ‬اقتناعي‭ ‬بأن‭ ‬الماركسية،‭ ‬بما‭ ‬هي‭ ‬ذلك‭ ‬التراث‭ ‬المتعدد‭ ‬والمتنوع،‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬أبرز‭ ‬مقاربة‭ ‬نظرية‭ ‬لفهم‭ ‬اتجاهات‭ ‬الرأسمالية‭ ‬وقوانين‭ ‬تشغيلها،‭ ‬تطوّرها‭ ‬وأزماتها‭. ‬أما‭ ‬التحدي‭ ‬الثاني‭ ‬فهو‭ ‬تحدي‭ ‬فهم‭ ‬وتقييم‭ ‬الثورات‭ ‬العربية‭ ‬والعودة‭ ‬إلى‭ ‬الماركسية‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬التبحّر‭ ‬في‭ ‬نظرية‭ ‬ثورية‭ ‬تولّت‭ ‬تحليل‭ ‬الثورات‭ ‬وتقييمها‭ ‬في‭ ‬الآن‭ ‬ذاته‭.‬

في‭ ‬مواصلة‭ ‬الشغل‭ ‬بوحي‭ ‬من‭ ‬الماركسية،‭ ‬أصدرتُ‭ ‬نهاية‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ‬دراستي‭ ‬‮«‬الطبقات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسلطة‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬لبنان‮»‬،‭ ‬تنفيذاً‮ ‬‭ ‬لمشروع‭ ‬بحثي‭ ‬أتحفّز‭ ‬له‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬للخوض‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الاجتماعي‭ ‬‭(‬لا‭ ‬‮«‬الاقتصاد‭ ‬السياسي‮»‬‭ ‬فقط‭)‬‭ ‬وهو‭ ‬تتبع‭ ‬ما‭ ‬طرأ‭ ‬على‭ ‬البنية‭ ‬الطبقية‭ ‬والمجتمعية‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬من‭ ‬تحوّلات‭ ‬فترة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬مع‭ ‬تركيز‭ ‬خاص‭ ‬على‭ ‬علاقة‭ ‬البنية‭ ‬الطبقية‭ ‬بالبنية‭ ‬الطائفية‭ ‬وعلى‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬السلطة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والسلطة‭ ‬السياسية‭.‬

المتلقي‭ ‬وجهة‭ ‬الكتابة

يلاحظ‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬تكتبه‭ ‬من‭ ‬كتبك‭ ‬المتنوعة‭ ‬أنها‭ ‬محبوبة‭ ‬من‭ ‬الأكاديميين‭ ‬والقراء‭ ‬غير‭ ‬المتخصصين‭ ‬على‭ ‬حدّ‭ ‬سواء،‭ ‬فتؤرخ‭ ‬وتكتب‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬بأدوات‭ ‬جديدة‭ ‬تتناسب‭ ‬مع‭ ‬مفردات‭ ‬التلقي‭ ‬الحديثة‭ ‬من‭ ‬مثل‭ ‬ما‭ ‬نراه‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬“حديد‭ ‬وحرير”‭ ‬مثلاً،‭ ‬كما‭ ‬تختار‭ ‬عناوين‭ ‬كتبك‭ ‬بطريقة‭ ‬جاذبة،‭ ‬سؤالي‭ ‬كيف‭ ‬يكتب‭ ‬فواز‭ ‬طرابلسي‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬رؤيته‭ ‬وموجّهه‭ ‬في‭ ‬الكتابة؟

طرابلسي‭:‬ المضمون‭ ‬يفرض‭ ‬الأسلوب‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬حدّ‭ ‬أو‭ ‬يملي‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬أنسب‭ ‬الأساليب‭ ‬وطرائق‭ ‬السرد‭ ‬الأكثر‭ ‬ملاءمة‭ ‬له‭. ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬حرير‭ ‬وحديد‮»‬‭ ‬برهان‭ ‬على‭ ‬الأهمية‭ ‬البالغة‭ ‬للقراءة‭ ‬والبحث‭ ‬والتنقيب‭ ‬في‭ ‬التأليف‭. ‬نشأ‭ ‬الكتاب‭ ‬من‭ ‬ملاحظات‭ ‬واستشهادات‭ ‬وأخبار‭ ‬وحكايات‭ ‬لملمتها‭ ‬على‭ ‬هامش‭ ‬الشغل‭ ‬على‭ ‬تاريخ‭ ‬لبنان‭. ‬فرضت‭ ‬هذه‭ ‬النبذات‭ ‬نفسها‭ ‬كمشروع‭ ‬كتاب‭ ‬عندما‭ ‬رحت‭ ‬أكتشف‭ ‬التشابك‭ ‬المثير‭ ‬بين‭ ‬الأحداث‭ ‬والشخصيات‭ ‬في‭ ‬محيط‭ ‬البحر‭ ‬الأبيض‭ ‬المتوسط‭ ‬خلال‭ ‬العقود‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭.‬‮ ‬‭ ‬والقرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬هو‭ ‬قرن‭ ‬الاستعمار‭ ‬بامتياز،‭ ‬ونمو‭ ‬النزاع‭ ‬الفرنسي‭ ‬البريطاني‭ ‬على‭ ‬وراثة‭ ‬السلطنة‭ ‬العثمانية‭. ‬وهكذا‭ ‬تتضافر‭ ‬وتتشابك‭ ‬أقدار‭ ‬شخصيات‭ ‬–‭ ‬ليدي‭ ‬هستر‭ ‬ستانهوب‭ ‬الأرستقراطية‭ ‬البريطانية‭ ‬والأمير‭ ‬عبدالقادر‭ ‬الجزائري‭ ‬وجماعة‭ ‬سان‭ ‬سيمون‭ ‬الاشتراكيين‭ ‬الفرنسيين‭ ‬ونابليون‭ ‬الثالث‭ ‬وأحمد‭ ‬فارس‭ ‬الشدياق‭ ‬وآخرين‭ ‬–‮ ‬‭ ‬تدور‭ ‬حول‭ ‬المتوسط‭ ‬من‭ ‬بلاد‭ ‬الشام‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬وتونس‭ ‬والجزائر،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬فرنسا‭ ‬وإنكلترا‭ ‬والأستانة‭ ‬العثمانية،‭ ‬وتتصل‭ ‬من‭ ‬مواقع‭ ‬مختلفة‭ ‬وطرائق‭ ‬متباينة‭ ‬بالتجاذبات‭ ‬والمنافسات‭ ‬والنزاعات‭ ‬المرتبطة‭ ‬بصفقة‭ ‬القرن‭ ‬آنذاك،‭ ‬امتياز‭ ‬شق‭ ‬قناة‭ ‬السويس‭. ‬أملتْ‭ ‬هذه‭ ‬المادة‭ ‬أسلوبها‭: ‬الحوليات‭. ‬النص‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬رواية‭ ‬تاريخية‭ ‬واقعية‭ ‬دون‭ ‬تخييل‭. ‬إذ‭ ‬تنتفي‭ ‬الحاجة‭ ‬للتخييل‭ ‬عندما‭ ‬يكون‭ ‬الواقع‭ ‬التاريخي‭ ‬أغرب‭ ‬من‭ ‬الخيال‭.‬

صدّقيني‭: ‬كتابة‭ ‬النص‭ ‬الواضح‭ ‬يحتاج‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬والجهد‭ ‬والصحو‭ ‬والبحث‭ ‬والمراجعة‭ ‬وإعادة‭ ‬الصياغة‭ ‬أكثر‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬النص‭ ‬العويص‭ ‬المتحذلق‭ ‬المكتوب‭ ‬جرّة‭ ‬واحدة‭. ‬أصعب‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬فكرة‭ ‬معقّدة‭ ‬ليس‭ ‬بالضرورة‭ ‬بالبساطة‭ ‬وإنما‭ ‬بنص‭ ‬مركّب‭ ‬على‭ ‬وضوح‭. ‬التّعبير‭ ‬عن‭ ‬فكرة‭ ‬معقدة‭ ‬بلغة‭ ‬مقعّرة‭ ‬يبتذل‭ ‬الفكرة‭ ‬ذاتها‭ ‬ويستغلقها‭ ‬ويفقدها‭ ‬تركيبها‭ ‬أي‭ ‬ثراءها‭.‬

أفهم‭ ‬أن‭ ‬وظيفة‭ ‬الكتابة‭ ‬والكاتب‭ ‬هي‭ ‬التوجّه‭ ‬إلى‭ ‬القارئ‭ ‬وإيصال‭ ‬الحد‭ ‬الأدنى‭ ‬ممّا‭ ‬يريده‭ ‬الكاتب‭ ‬إليه‭. ‬لا‭ ‬معنى‭ ‬لكاتب‭ ‬ليس‭ ‬مهتمّا‭ ‬بالقرّاء،‭ ‬اللهم‭ ‬إلا‭ ‬المتعالي‭ ‬عليهم‭ ‬ينمّ‭ ‬عن‭ ‬عدم‭ ‬ثقة‭ ‬بالنفس‭. ‬والذي‭ ‬يعنيني‭ ‬من‭ ‬القارئ‭ ‬هو‭ ‬القارئ‭ ‬العربي،‭ ‬أكتب‭ ‬بالعربية‭ ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬العرب‭. ‬واللغة‭ ‬العربية‭ ‬لغة‭ ‬إيجاز‭ ‬واقتصاد‭ ‬ودقة‭ ‬واشتقاق‭ ‬وترادف‭ ‬وهي‭ ‬لغة‭ ‬الفعل‭. ‬تلك‭ ‬هي‭ ‬روعتها‭. ‬وهي‭ ‬لغة‭ ‬عظيمة‭ ‬ما‭ ‬أن‭ ‬نسبر‭ ‬بعض‭ ‬أغوارها‭ ‬ونحيط‭ ‬بعدد‭ ‬معقول‭ ‬من‭ ‬مكونات‭ ‬عبقريّتها‭ ‬فنظن‭ ‬أننا‭ ‬بتنا‭ ‬متمكنين‭ ‬بعض‭ ‬الشيء‭ ‬منها،‭ ‬نكون‭ ‬قد‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬العمر‭. ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬الشغل‭ ‬على‭ ‬اللغة‭ ‬وفي‭ ‬استنطاقها،‭ ‬متعة‭ ‬آفلة‭ ‬وشعور‭ ‬بالزهوّ‭ ‬قلّ‭ ‬نظيرهما‭.‬

أحسبني‭ ‬أتوسل‭ ‬السهل‭ ‬الممتنع‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬ولكن‭ ‬ذلك‭ ‬ليس‭ ‬إلا‭ ‬نتاج‭ ‬شغل‭ ‬مضنٍ‭ ‬على‭ ‬اللغة‭ ‬لكي‭ ‬تتقبّل‭ ‬كل‭ ‬منوّعات‭ ‬الكتابة‭ ‬التي‭ ‬أمارس‭: ‬السرد‭ ‬التاريخي‭ ‬والنقد‭ ‬الفني‭ ‬والأدبي‭ ‬واليوميات‭ ‬والكتابة‭ ‬النظرية‭ ‬والنص‭ ‬السياسي‭ ‬والاقتصاد‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والصياغات‭ ‬السردية‭.‬

نعم،‭ ‬همّي‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬أوسع‭ ‬عدد‭ ‬ممكن‭ ‬من‭ ‬القراء‭ ‬بمن‭ ‬فيهم‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬يثمّنون‭ ‬القراءة‭ ‬والثقافة‭ ‬وهم‭ ‬الأقل‭ ‬حظوة‭ ‬أحيانا‭ ‬في‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬كتاب‭ ‬أو‭ ‬دخول‭ ‬مدرسة‭. ‬علماً‭ ‬بأن‭ ‬ضيق‭ ‬دائرة‭ ‬قراءة‭ ‬الكتب‭ ‬لا‭ ‬تسمح‭ ‬بنشر‭ ‬أو‭ ‬بيع‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬بضعة‭ ‬آلاف‭ ‬كتاب‭ ‬في‭ ‬الإصدار‭ ‬الواحد‭. ‬فيما‭ ‬حضور‭ ‬برنامج‭ ‬حوار‭ ‬تلفزيوني‭ ‬يبلغ‭ ‬مئات‭ ‬الألوف‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬نقول‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬المشاهدين‭. ‬ونعم،‭ ‬أكبر‭ ‬تعويض‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬العناء‭ ‬المسمّى‭ ‬كتابة،‭ ‬هو‭ ‬حين‭ ‬يستوقفني‭ ‬قارئ‭ ‬–‭ ‬سائق‭ ‬سرفيس‭ ‬أو‭ ‬موظف‭ ‬في‭ ‬استقبال‭ ‬فندق‭ ‬متواضع‭ ‬أو‭ ‬طالبة‭ ‬من‭ ‬الجامعة‭ ‬اللبنانية‭ ‬–‭ ‬ليقول‭ ‬لي‭ ‬إنه‭ ‬قرأ‭ ‬كتابي‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬لبنان‭ ‬وأفاد‭ ‬منه‭ ‬ليعرف‭ ‬تاريخ‭ ‬بلده‭ ‬أكثر‭. ‬هذا‭ ‬لكي‭ ‬آخذ‭ ‬مثالاً‭ ‬واحداً‭ ‬عن‭ ‬القراء‭ ‬وعن‭ ‬الكتب‭.‬

أجري‭ ‬الحوار‭ ‬في‭ ‬بيروت

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.