تشكيل

الجمعة 2016/04/01
لوحة: حسين طربي

لا‭ ‬أذكر‭ ‬كم‭ ‬مرة‭ ‬عرضت‭ ‬نفسي‭ ‬لهذا‭ ‬الموقف،‭ ‬أو‭ ‬عدد‭ ‬الخيبات‭ ‬التي‭ ‬منيت‭ ‬بها‭ ‬إثر‭ ‬كل‭ ‬مرة‭.‬

هي‭ ‬محاولات‭ ‬النوم‭ ‬اليائسة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ليلة‭ ‬رسمت‭ ‬على‭ ‬جدار‭ ‬معدتي‭ ‬مساحات‭ ‬تضيق‭ ‬حيناً‭ ‬وتتسع‭ ‬أحيانا،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنها‭ ‬خطوط‭ ‬ابتدائية‭ ‬لرسم‭ ‬أول‭: ‬ابتسامة‭ ‬وجه،‭ ‬مثلاً‭.‬

لا‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬المحاولات‭ ‬إلاّ‭ ‬في‭ ‬جوف‭ ‬عتمة‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬النوم‭.‬

وفي‭ ‬كل‭ ‬ليلة‭ ‬يحدث‭ ‬الأمر‭ ‬نفسه‭: ‬أحضر‭ ‬مساحة‭ ‬لوحتي،‭ ‬وألوان‭ ‬خطوطي،‭ ‬وأحاول‭ ‬رسم‭ ‬ابتسامة‭ ‬وجهه‭ ‬التي‭ ‬لاحت‭ ‬فوق‭ ‬ملامحه‭ ‬ذات‭ ‬مساء‭.‬

أحب‭ ‬أن‭ ‬أراه‭ ‬في‭ ‬فجر‭ ‬ضبابي‭ ‬كثيف‭. ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬لم‭ ‬تفارقني‭ ‬قط‭. ‬أقبض‭ ‬على‭ ‬الوجه‭ ‬متحكمة‭ ‬به،‭ ‬وأعيد‭ ‬تشكيله‭ ‬كما‭ ‬يحلو‭ ‬لي‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الألوان‭ ‬تذوب‭ ‬تماما‭ ‬داخل‭ ‬المساحة‭.‬

أعيد‭ ‬المحاولة،‭ ‬أبدأ‭ ‬بالعينين‭ ‬فأجرّب‭ ‬رسمهما‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬أضيق‭ ‬المسافة‭ ‬بينهما،‭ ‬وأمنحهما‭ ‬لونا‭ ‬عسلياً‭ ‬خفيفاً‭ ‬هذه‭ ‬المرة،‭ ‬ثم‭ ‬أرسم‭ ‬فوقهما‭ ‬حاجبيه،‭ ‬ولا‭ ‬أنسى‭ ‬الشاربين‭ ‬الكثين‭. ‬أمنحهما‭ ‬هما‭ ‬أيضا،‭ ‬لوناً‭ ‬جديداً‭: ‬الأبيض‭.‬

هكذا‭ ‬أبدّل‭ ‬في‭ ‬وجهه‭ ‬لون‭ ‬عينيه‭ ‬ليصير‭ ‬أقل‭ ‬تركيزا،‭ ‬ولون‭ ‬شاربيه‭ ‬ليصبح‭ ‬أكثر‭ ‬بياضاً‭.‬

خطوط‭ ‬ملامحه‭ ‬لم‭ ‬تتضح‭ ‬تماماً‭ ‬بعد‭. ‬لكنْ‭ ‬ثمّة‭ ‬لون‭ ‬آخر‭ ‬جديد‭ ‬يومض‭ ‬على‭ ‬استحياء‭ ‬في‭ ‬جزء‭ ‬صغير‭ ‬من‭ ‬المشهد‭. ‬ربما‭ ‬مزج‭ ‬ألوان‭ ‬الأوراق‭ ‬الذابلة‭ ‬بلون‭ ‬عينيه‭ ‬الجديد‭ ‬قد‭ ‬أخرجه‭. ‬لقد‭ ‬أحببته‭ ‬لولادته‭ ‬العفوية‭ ‬هذه،‭ ‬فأتناسى‭ ‬عشقه‭ ‬للون‭ ‬الرمادي،‭ ‬وأصر‭ ‬عليه‭.‬

ولا‭ ‬أنسى‭ ‬الأنف‭: ‬دقيق‭ ‬يبدأ‭ ‬من‭ ‬فراغ‭ ‬بين‭ ‬عينيه‭ ‬الجديدتين‭ ‬في‭ ‬الأعلى،‭ ‬ليمتد‭ ‬فوق‭ ‬شاربيه‭ ‬الأبيضين‭ ‬تماماً،‭ ‬دون‭ ‬شائبة‭ ‬تعكّر‭ ‬وضوحهما‭ ‬الناصع‭.‬

أدع‭ ‬ألوان‭ ‬لوحتي‭ ‬تستقر‭ ‬في‭ ‬المساحة،‭ ‬وأحدّق‭ ‬في‭ ‬هواء‭ ‬الغرفة‭ ‬الباردة‭. ‬أغمض‭ ‬عيني‭ ‬لأتحسّس‭ ‬هذه‭ ‬البرودة‭ ‬المحبّبة،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬جسماً‭ ‬ليناً‭ ‬يتسرب‭ ‬بين‭ ‬أصابعي،‭ ‬وأفتحهما‭ ‬من‭ ‬جديد‭.‬

لا‭ ‬جديد‭.‬

أتغاضى‭ ‬مستحضرة‭ ‬فنجان‭ ‬قهوتي‭ ‬البارد‭. ‬أرشف‭ ‬بقيته،‭ ‬وأهم‭ ‬بفتح‭ ‬النافذة،‭ ‬فأرى‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يراه‭ ‬غيري‭ ‬وقد‭ ‬حدّقت‭ ‬جيداً‭: ‬عند‭ ‬جدار‭ ‬السور‭ ‬الخارجي‭ ‬لبيتنا،‭ ‬مقابل‭ ‬نافذتي‭ ‬نصف‭ ‬المفتوحة‭ ‬الآن‭ ‬ثمة‭ ‬رجل‭ ‬ينحني‭ ‬على‭ ‬امرأة‭ ‬تستند‭ ‬بظهرها‭ ‬على‭ ‬الجدار‭. ‬لا‭ ‬يعبآن‭ ‬بالهواء‭ ‬الخريفي‭ ‬الموغل‭ ‬في‭ ‬برودته‭ ‬الليلية‭:‬

“إنه‭ ‬يقبلها‭ ‬بالتأكيد”‭.‬

فكرت،‭ ‬ثم‭ ‬تذكرت‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬بأنني‭ ‬نسيت‭ ‬أن‭ ‬أرسم‭ ‬الفم‭.‬

لوهلة‭ ‬خطر‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أخرج‭ ‬لأراقبهما‭ ‬من‭ ‬مسافة‭ ‬أقرب،‭ ‬لكنّني‭ ‬عدلت‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬لأنه‭ ‬سيكون‭ ‬سلوكا‭ ‬أرعن،‭ ‬واكتفيت‭ ‬بمتابعتهما‭ ‬من‭ ‬النافذة‭. ‬بهدوء‭ ‬لا‭ ‬يقطعه‭ ‬سوى‭ ‬حفيف‭ ‬الأوراق‭ ‬المتطايرة‭ ‬مع‭ ‬هبات‭ ‬الهواء‭.‬

رأس‭ ‬الرجل‭ ‬يغيب‭ ‬في‭ ‬جسد‭ ‬المرأة،‭ ‬يغطس‭ ‬في‭ ‬نصفها‭ ‬العلوي،‭ ‬ربما‭ ‬يقطف‭ ‬زهرة‭ ‬ثدييها،‭ ‬أو‭ ‬لعله‭ ‬يتمسك‭ ‬بالدفء‭ ‬اللاهث‭ ‬من‭ ‬شفتيها‭. ‬تلهيني‭ ‬افتراضاتي‭ ‬قليلا،‭ ‬فأراه‭ ‬وقد‭ ‬انفصل‭ ‬عنها‭ ‬لبعض‭ ‬الوقت‭. ‬لكنه،‭ ‬وكما‭ ‬أراه‭ ‬متذبذباً‭ ‬يرتعش،‭ ‬“ربما‭ ‬البرد‭ ‬هناك،‭ ‬أو‭ ‬انغماري‭ ‬بالمشهد‭ ‬هنا”‭ ‬يظهر‭ ‬ثانية‭ ‬ليغيب‭ ‬في‭ ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬هبطت‭ ‬إلى‭ ‬الأرض‭.‬

تذكرت‭ ‬وقت‭ ‬أن‭ ‬فقدت‭ ‬بكارتي،‭ ‬وكنت‭ ‬حينها‭ ‬قد‭ ‬بكيت‭. ‬بكيت‭ ‬قليلاً،‭ ‬قليلاً‭ ‬فقط،‭ ‬فيما‭ ‬كان‭ ‬يهددني‭ ‬في‭ ‬حضنه‭ ‬الدافئ،‭ ‬كانت‭ ‬ابتسامة‭ ‬زهو‭ ‬ترتسم‭ ‬فوق‭ ‬وجهه‭.‬

ابتسامة‭ ‬أحاول‭ ‬أن‭ ‬أرسمها‭ ‬كل‭ ‬مرة،‭ ‬وأفشل‭ ‬دائماً‭. ‬ابتسامة‭ ‬لن‭ ‬أراها‭ ‬ثانية،‭ ‬لأنها،‭ ‬كما‭ ‬أدرك‭ ‬الآن،‭ ‬لن‭ ‬تتكرر‭ ‬أبداً‭.‬

لم‭ ‬أعد‭ ‬لأكترث‭ ‬بما‭ ‬يفعلانه‭ ‬عند‭ ‬الجدار،‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬إذ‭ ‬صرت‭ ‬أرى‭ ‬تلاشيهما‭ ‬في‭ ‬بعضهما‭ ‬أمراً‭ ‬بارداً‭ ‬مثل‭ ‬وحشة‭ ‬الليل‭ ‬الباردة،‭ ‬فأغلقت‭ ‬النافذة‭.‬

ألواني‭ ‬تجف‭ ‬وتبرد‭ ‬في‭ ‬مساحة‭ ‬لوحتي‭ ‬الناقصة‭ ‬أبداً‭.‬

وأذكر‭ ‬أنّي‭ ‬حينما‭ ‬سقطت‭ ‬في‭ ‬نوم‭ ‬جاء‭ ‬أخيراً،‭ ‬عند‭ ‬الفجر‭ ‬تقريباً،‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬بدأت‭ ‬أنسى‭ ‬أحداث‭ ‬الليلة‭. ‬ليست‭ ‬كلها،‭ ‬سوى‭ ‬أنني‭ ‬أضم‭ ‬وسادتي‭ ‬فوق‭ ‬جدار‭ ‬المعدة‭ ‬الذي‭ ‬تداخلت‭ ‬ليونته‭ ‬بخطوط‭ ‬ألواني‭ ‬المتلاشية‭ ‬فوق‭ ‬الملاءة،‭ ‬والسجادة،‭ ‬وإطار‭ ‬النافذة‭ ‬المغلقة‭ ‬التي‭ ‬تحفظ‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬هذه‭ ‬الأوراق،‭ ‬فلا‭ ‬تتطاير‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.