جمهورية‭ ‬مريم

الجمعة 2016/04/01
تخطيط: حسين جمعان

‬فريق‭ ‬تلفزيوني‭ ‬ياباني‭ ‬من‭ ‬رجلين‭ ‬وامرأة‭ ‬أثار‭ ‬الحادثة‭ ‬القديمة‭ ‬وأعادها‭ ‬حيّةً‭ ‬بطريقة‭ ‬فيلمية‭ ‬حافظت‭ ‬على‭ ‬واقعيتها‭ ‬المأساوية‭ ‬كما‭ ‬حصلت‭.‬

كانت‭ ‬مصادفة‭ ‬سياحية‭ ‬وإعلامية‭ ‬بذاكرة‭ ‬رجل‭ ‬عجوز‭ ‬تفتحت‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬استرخاء‭ ‬حينما‭ ‬زار‭ ‬العاصمة‭ ‬مع‭ ‬فريقه‭ ‬التلفزيوني‭ ‬المكوّن‭ ‬من‭ ‬مصورة‭ ‬شابة‭ ‬وصحفي‭ ‬متدرب‭.‬

طاف‭ ‬بزورق‭ ‬خشبي‭ ‬تراثي‭ ‬على‭ ‬نهر‭ ‬دجلة‭ ‬مستعيداً‭ ‬ذكرى‭ ‬ثلاثين‭ ‬سنة‭ ‬مضت‭ ‬حينما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬يرسل‭ ‬تقاريره‭ ‬الصحفية‭ ‬إلى‭ ‬التلفزيون‭ ‬الياباني‭ ‬بقناته‭ ‬الرسمية‭ ‬أثناء‭ ‬القتال‭ ‬الطائفي‭ ‬عام‭ ‬2006‭.‬

يرأس‭ ‬الفريق‭ ‬روائي‭ ‬وإعلامي‭ ‬معروف‭ ‬في‭ ‬طوكيو‭ ‬اسمه‭ ‬«هيروشي»‭ ‬من‭ ‬أنصار‭ ‬البيئة‭ ‬الخضراء‭ ‬هو‭ ‬مَن‭ ‬أثار‭ ‬الحادثة‭ ‬التي‭ ‬نساها‭ ‬الناس‭ ‬وتعاقبت‭ ‬الأجيالُ‭ ‬على‭ ‬نسيانها‭ ‬بحوادث‭ ‬أكثر‭ ‬دموية‭ ‬ورعباً‭ ‬تلتها،‭ ‬وهدأت‭ ‬النفوس‭ ‬بعد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مناسبة‭ ‬انتخابية‭ ‬تسيّد‭ ‬فيها‭ ‬حزب‭ ‬إسلامي‭ ‬رئاسة‭ ‬الوزراء‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرّة‭ ‬وابتلع‭ ‬مؤسسات‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬مرة‭ ‬ودائماً‭ ‬كان‭ ‬يترك‭ ‬وراءه‭ ‬ملفّات‭ ‬فساد‭ ‬وفضائح‭ ‬مالية‭ ‬وإدارية‭ ‬حتى‭ ‬أدخل‭ ‬البلاد‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الفساد‭ ‬والميليشيات‭ ‬الدينية‭ ‬الطائشة‭ ‬والبطالة‭ ‬والجريمة‭ ‬وانتهاك‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬على‭ ‬أوسع‭ ‬نطاق‭.‬

وعندما‭ ‬طاف‭ ‬به‭ ‬الزورق‭ ‬القديم‭ ‬على‭ ‬صفحة‭ ‬النهر‭ ‬ومر‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬جسر‭ ‬الجمهورية‭ ‬تطلع‭ ‬إلى‭ ‬الضفة‭ ‬الأخرى‭ ‬المتآكلة‭. ‬امّحت‭ ‬الصورة‭ ‬القديمة‭ ‬كلياً‭. ‬ومع‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يتغير‭ ‬شيء،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هيروشي‭ ‬وهو‭ ‬يستعيد‭ ‬ثلاثين‭ ‬سنة‭ ‬تقدمت‭ ‬إلى‭ ‬ذاكرته‭ ‬العجوز‭ ‬وجد‭ ‬تلالاً‭ ‬من‭ ‬التراب‭ ‬تقدمت‭ ‬إلى‭ ‬النهر‭ ‬وسدوداً‭ ‬غير‭ ‬مكتملة‭ ‬دخلت‭ ‬بألسنة‭ ‬رمادية‭ ‬وتوقفت‭ ‬وصنعت‭ ‬بما‭ ‬يشبه‭ ‬الجزر‭ ‬العشوائية‭.‬

تتوهج‭ ‬ذاكرته‭ ‬الأربعينية‭ ‬السابقة‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬الزورق‭ ‬والنهر‭ ‬والحريق‭ ‬فيغرق‭ ‬لحظات‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬الذي‭ ‬مضى‭ ‬وهو‭ ‬يتأمل‭ ‬الضفة‭ ‬النارية‭ ‬التي‭ ‬اشتعلت‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬وقبضت‭ ‬على‭ ‬قرية‭ ‬سعيدة‭ ‬وهي‭ ‬تحاول‭ ‬أن‭ ‬تتخلص‭ ‬من‭ ‬حربٍ‭ ‬محلية‭ ‬وأحالتها‭ ‬إلى‭ ‬ركام‭ ‬وقتلت‭ ‬فقراءها‭ ‬وعُزّلها‭ ‬بطريقة‭ ‬مجنونة‭.‬

لم‭ ‬يلفته‭ ‬بناء‭ ‬حديث‭ ‬سوى‭ ‬بعض‭ ‬العمارات‭ ‬الواطئة‭ ‬التي‭ ‬يغلفها‭ ‬الزجاج‭ ‬الأخضر‭ ‬والأزرق‭ ‬المُترب‭ ‬خلف‭ ‬الشارع‭ ‬العام‭. ‬كما‭ ‬وجد‭ ‬النهر‭ ‬منحسراً‭ ‬كثيراً‭ ‬كخاصرة‭ ‬مريضة‭ ‬وقد‭ ‬زحفت‭ ‬عليه‭ ‬أزبال‭ ‬العاصمة‭ ‬ونفايات‭ ‬الصرف‭ ‬الصحي‭ ‬والتلال‭ ‬الترابية‭ ‬المتعرجة‭ ‬التي‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬منتصفه‭ ‬وعَلَتْ‭ ‬عليه‭ ‬كرفانات‭ ‬وغرف‭ ‬طابوقية‭ ‬ببناء‭ ‬كيفي‭ ‬من‭ ‬البلوك‭ ‬الرمادي‭ ‬بما‭ ‬يشي‭ ‬بأنّ‭ ‬النهر‭ ‬يحتضر‭ ‬ويتنفس‭ ‬بصعوبة‭ .‬

يستحث‭ ‬ذاكرته‭ ‬أكثر‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬النهر‭ ‬المنسابة‭ ‬مع‭ ‬رجل‭ ‬الزورق‭ ‬بفريقه‭ ‬الصغير‭ ‬الذي‭ ‬بقي‭ ‬يتأمل‭ ‬المكان‭ ‬ويشمّ‭ ‬روائح‭ ‬نهرية‭ ‬مختلفة‭ ‬اختلطت‭ ‬عليه‭.‬

طلب‭ ‬من‭ ‬رجل‭ ‬الزورق‭ ‬أن‭ ‬ينحدر‭ ‬به‭ ‬أكثر‭ ‬جنوب‭ ‬النهر‭ ‬وكانت‭ ‬عيناه‭ ‬تتطلعان‭ ‬إلى‭ ‬الضفة‭ ‬القريبة،‭ ‬والبنايات‭ ‬القديمة‭ ‬تمرق‭ ‬من‭ ‬أمامه‭ ‬فتستدعي‭ ‬له‭ ‬صوراً‭ ‬كادت‭ ‬تغيب‭ ‬عن‭ ‬ذاكرته‭ ‬لولا‭ ‬هذه‭ ‬الزيارة‭ ‬التي‭ ‬أعادته‭ ‬إلى‭ ‬النهر‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬وأعادت‭ ‬فيه‭ ‬يوماً‭ ‬لخّص‭ ‬مأساة‭ ‬الناس‭ ‬وحيرتهم‭ ‬عندما‭ ‬وُضِعوا‭ ‬بين‭ ‬منشار‭ ‬الطوائف‭ ‬المتقاتلة‭.‬

‮ ‬يوكي‭ .. ‬صوّري‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الضفة‭..‬

‮ ‬أمر‭ ‬الفتاة‭ ‬المتهيئة‭ ‬وهي‭ ‬تتلقى‭ ‬نسائم‭ ‬باردة‭ ‬فشرعت‭ ‬بتصوير‭ ‬الضفة‭ ‬المتآكلة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ترى‭ ‬زاوية‭ ‬فنية‭ ‬تسعفها‭ ‬بلقطة‭ ‬نهرية‭ ‬تستفز‭ ‬براعتها‭ ‬التصويرية،‭ ‬وبشكل‭ ‬لا‭ ‬إرادي‭ ‬أخذ‭ ‬هيروشي‭ ‬يتحسّس‭ ‬موضع‭ ‬إصابته‭ ‬بطلق‭ ‬ناري‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬حينما‭ ‬حاصره‭ ‬حريق‭ ‬القرية‭ ‬التي‭ ‬بناها‭ ‬رجل‭ ‬خرج‭ ‬من‭ ‬العاصمة‭ ‬بوصايا‭ ‬وأفكار‭ ‬ومواقف‭ ‬كانوا‭ ‬يسمونه‭ ‬«الأستاذ»‭ ‬فتبعه‭ ‬فقراء‭ ‬البغداديين‭ ‬الذين‭ ‬هربوا‭ ‬من‭ ‬بطش‭ ‬الميليشيات‭ ‬المتناحرة‭ ‬والتجأوا‭ ‬إلى‭ ‬قرية‭ ‬من‭ ‬صفيح‭ ‬وخشب‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬النبي‭ ‬الذي‭ ‬يشبه‭ ‬غاندي‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭.‬

ما‭ ‬يزال‭ ‬وخز‭ ‬الطلقة‭ ‬يعيد‭ ‬إليه‭ ‬كابوساً‭ ‬وحريقاً‭ ‬وحصاراً‭ ‬وموتاً‭ ‬تركه‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬عجائبية‭ ‬حينما‭ ‬اختلط‭ ‬النهر‭ ‬بالدخان‭ ‬والرصاص‭ ‬والصراخ‭.. ‬لكنه‭ ‬الآن‭ ‬يعود‭ ‬بعد‭ ‬ثلاثين‭ ‬سنة‭ ‬إلى‭ ‬المكان‭ ‬ذاته‭.. ‬إلى‭ ‬دجلة‭ ‬الذي‭ ‬أغرق‭ ‬الكثيرين‭ ‬وحمل‭ ‬بين‭ ‬أمواجه‭ ‬الكثيرين‭ ‬أيضاً‭ ‬إلى‭ ‬منافذ‭ ‬الخلاص‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬عصيب‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬ينساه‭.‬

تلتقط‭ ‬المصوّرة‭ ‬الضفة‭ ‬بأكملها‭ ‬وكانت‭ ‬ترى‭ ‬خرائب‭ ‬قديمة‭ ‬متروكة‭ ‬وبقايا‭ ‬مكان‭ ‬تكوّم‭ ‬على‭ ‬بعضه‭ ‬وسواداً‭ ‬يصبغ‭ ‬نخلات‭ ‬محترقات‭ ‬بقيت‭ ‬على‭ ‬احتراقها‭ ‬وصفائح‭ ‬متراكمة‭ ‬وما‭ ‬يشبه‭ ‬البيوت‭ ‬الصفيحية‭ ‬ارتمت‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬النهر‭ ‬أكلها‭ ‬الصدأ‭ ‬والوقت‭..‬

قال‭ ‬بصوت‭ ‬لم‭ ‬يفهمه‭ ‬رجل‭ ‬الزورق‭ ‬وهو‭ ‬يتأفف‭:‬

النهر‭ ‬يمضي‭ ‬إلى‭ ‬المستقبل‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬الظروف‭.. ‬والناس‭ ‬تموت‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أسباب‭ .‬

لم‭ ‬تكن‭ ‬مريم‭ ‬مهيأة‭ ‬أمام‭ ‬الكاميرا‭ ‬الصغيرة‭ ‬التي‭ ‬فاجأتها‭ ‬بعد‭ ‬عودتها‭ ‬من‭ ‬النهر‭ ‬القريب‭ ‬لكنها‭ ‬ابتسمت‭ ‬للوجوه‭ ‬الثلاثة‭ ‬المتشابهة‭ ‬وهي‭ ‬تتباطأ‭ ‬وعيناها‭ ‬متسعتان‭ ‬بسوادٍ‭ ‬جاذب‭.‬

كانت‭ ‬تنوء‭ ‬بحملها‭ ‬من‭ ‬الملابس‭ ‬المغسولة‭ ‬في‭ ‬سطلتين‭ ‬رصاصيتين‭ ‬وهي‭ ‬تصعد‭ ‬المنحدر‭ ‬باتجاه‭ ‬حبل‭ ‬الغسيل‭ ‬المعلق‭ ‬بين‭ ‬شجرتي‭ ‬صفصاف،‭ ‬والكلب‭ ‬الأبيض‭ ‬الضخم‭ ‬الذي‭ ‬تتقاسمه‭ ‬ألوان‭ ‬سوداء‭ ‬ورصاصية‭ ‬يتقافز‭ ‬أمامها،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬بدأ‭ ‬الفريق‭ ‬التلفزيوني‭ ‬يحاصرها‭ ‬بالكاميرا‭ ‬الرقمية‭ ‬وعيناها‭ ‬السوداوان‭ ‬تتفرسان‭ ‬بالوجوه‭ ‬الغريبة‭ ‬التي‭ ‬انفتحت‭ ‬عن‭ ‬ابتسامات‭ ‬جماعية‭ ‬أشعرتها‭ ‬بأن‭ ‬الحيّ‭ ‬أخذ‭ ‬طابعه‭ ‬السياحي‭ ‬بشكل‭ ‬من‭ ‬الأشكال‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬اليابانيون‭ ‬وصلوا‭ ‬إلى‭ ‬هنا‭.‬

تركت‭ ‬السطلتين‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬وزرّرت‭ ‬أزرار‭ ‬ثوبها‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬عنقها،‭ ‬وجسدها‭ ‬ينكمش‭ ‬في‭ ‬لسعة‭ ‬برد‭ ‬بدأت‭ ‬من‭ ‬يديها‭ ‬العاريتين‭ ‬المبلّلتين‭.‬

قال‭ ‬المترجم‭ ‬العراقي‭ ‬الشاب‭ ‬للتوضيح‭:‬

فريق‭ ‬عمل‭ ‬ياباني‭ ‬يزور‭ ‬المكان‭ ‬ويتوخى‭ ‬الاطّلاع‭ ‬على‭ ‬الحيّ‭ ‬الأخضر‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬الظروف‭ ‬الصعبة‭ ‬التي‭ ‬فيها‭ ‬العاصمة‭.‬

يتطلع‭ ‬الروائي‭ ‬الياباني‭ ‬المخضرم‭ ‬إلى‭ ‬مريم‭ ‬بعينيه‭ ‬اللتين‭ ‬غطاهما‭ ‬شعر‭ ‬حاجبيه‭ ‬الأبيض‭ ‬النازل‭ ‬كثيراً‭ ‬عليهما‭ ‬فيرى‭ ‬ببصيرة‭ ‬ثانية‭ ‬شيئاً‭ ‬بذاكرة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تخذله‭ ‬في‭ ‬مرأى‭ ‬النهر‭ ‬والحريق‭ ‬القديم‭..‬

ماء‭ ‬ونار‭.. ‬عنصران‭ ‬متضادّان‭ ‬يفتحان‭ ‬طريقي‭ ‬الموت‭ ‬والحياة‭ ‬أمامه‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭.‬

كان‭ ‬يقول‭ ‬لنفسه‭.. ‬إنها‭ ‬ثلاثون‭ ‬سنة‭.. ‬ما‭ ‬أقصر‭ ‬العمر‭ ‬مهما‭ ‬طال‭..!‬

تقدم‭ ‬إليها‭ ‬وصافحها‭ ‬بحرارة‭ ‬وهو‭ ‬يديم‭ ‬النظر‭ ‬بعينين‭ ‬حافظتا‭ ‬على‭ ‬بريق‭ ‬سواد‭ ‬لامع‭ ‬فيهما‭:‬

ذ‭ ‬أنا‭ ‬هيروشي‭.. ‬روائي‭ ‬من‭ ‬اليابان‭ ‬ومن‭ ‬أنصار‭ ‬البيئة‭ ‬الخضراء‭.‬

ذ‭ ‬أهلاً‭ ‬وسهلا‭ .. ‬شرفتمونا‭ ‬بهذه‭ ‬الزيارة‭.‬

تطلعت‭ ‬إلى‭ ‬الفريق‭ ‬الصغير‭ ‬وابتسامة‭ ‬تعلو‭ ‬وجهها‭ ‬الجميل‭.‬

أحنت‭ ‬المصورة‭ ‬الشابة‭ ‬رأسها‭ ‬ومثلها‭ ‬فعل‭ ‬الصحفي‭ ‬المتدرب‭.‬

قال‭ ‬الياباني‭ ‬بود‭:‬

الدنيا‭ ‬صغيرة‭ ‬سيدتي‭..‬

بقيت‭ ‬تنظر‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تقول‭ ‬شيئاً‭ ‬سوى‭ ‬أنها‭ ‬ابتسمت،‭ ‬كأنما‭ ‬الرجل‭ ‬لا‭ ‬يفهم‭ ‬ما‭ ‬يقول‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬المترجم‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬حاذق‭ ‬الترجمة‭.‬

كان‭ ‬يرى‭ ‬جمالاً‭ ‬قديماً‭ ‬وأنوثة‭ ‬لا‭ ‬تخطئها‭ ‬العين‭ ‬وقواماً‭ ‬قد‭ ‬رآه‭ ‬أو‭ ‬لم‭ ‬يره‭ ‬وهو‭ ‬مأخوذ‭ ‬منذ‭ ‬أيام‭ ‬بجريان‭ ‬النهر‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يتوقف‭ ‬منذ‭ ‬ثلاثين‭ ‬سنة،‭ ‬حينما‭ ‬عاد‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬ليرى‭ ‬الحياة‭ ‬البغدادية‭ ‬بعد‭ ‬الحروب‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬فيها‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬وهي‭ ‬عودة‭ ‬سعى‭ ‬من‭ ‬أجلها‭ ‬كثيراً‭ ‬ليكون‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الجوّ‭ ‬الذي‭ ‬فارقه‭ ‬متخلصاً‭ ‬من‭ ‬موت‭ ‬أكيد‭ ‬لكن‭ ‬بذرة‭ ‬الرواية‭ ‬وجيناتها‭ ‬تحفر‭ ‬فيه‭ ‬الكثير‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬التعيس‭..‬

تدخّل‭ ‬المترجم‭ ‬بشرح‭ ‬توضيحي‭ ‬كأنه‭ ‬يحفظه‭:‬

الفريق‭ ‬يريد‭ ‬استطلاع‭ ‬الحي‭ ‬الأخضر‭ ‬بعدما‭ ‬تأكد‭ ‬أنه‭ ‬المكان‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬أنشئ‭ ‬بعد‭ ‬الحرب،‭ ‬وبعد‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬دجلة‭ ‬بالدفن‭ ‬وإنشاء‭ ‬الشاليهات‭ ‬والكازينوات‭ ‬والجزر‭ ‬الترابية‭ ‬التي‭ ‬خنقته‭.‬

لم‭ ‬تركز‭ ‬كثيراً‭ ‬بما‭ ‬قاله‭ ‬المترجم‭ ‬فهو‭ ‬من‭ ‬معتاد‭ ‬الكلام‭ ‬مع‭ ‬المجاميع‭ ‬السياحية‭ ‬التي‭ ‬تصل‭ ‬الحي‭ ‬الأخضر‭ ‬بين‭ ‬فترة‭ ‬وأخرى‭ ‬لكنها‭ ‬استدركت‭ ‬قول‭ ‬الياباني‭ ‬كأنها‭ ‬وجدت‭ ‬لغزاً‭ ‬فيه‭ ‬،‭ ‬غير‭ ‬أنها‭ ‬صرفت‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة،‭ ‬فالرجل‭ ‬كبير‭ ‬السن‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يعي‭ ‬ما‭ ‬يقول‭.. ‬الدنيا‭ ‬صغيرة‭ ‬يا‭ ‬أستاذ‭.. ‬صح‭.. ‬وهي‭ ‬تدعوهم‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬المحاط‭ ‬بالأشجار‭ ‬الفارعة‭.‬

همهم‭ ‬الياباني‭ ‬وهو‭ ‬يتطلع‭ ‬إلى‭ ‬الفضاء‭ ‬الأخضر‭ ‬المنتشر‭ ‬المعقود‭ ‬في‭ ‬الحي‭ ‬السكني‭ ‬المفتوح‭ ‬على‭ ‬فضاء‭ ‬واسع‭ ‬ويتشمم‭ ‬عبير‭ ‬أزهار‭ ‬تتفتح‭ ‬مع‭ ‬المطر،‭ ‬فتلبّسته‭ ‬روح‭ ‬المكان‭ ‬وهو‭ ‬يتنهد‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬استعادت‭ ‬ذاكرته‭ ‬شيئاً‭ ‬ماضياً‭ ‬اكتنفه‭ ‬الحنين‭ ‬إليه‭.‬

فرق‭ ‬كبير‭ ‬بين‭ ‬العاصمة‭ ‬الميتة‭ ‬وهذا‭ ‬المكان‭ ‬الصغير‭ ‬الحي‭!‬

تطلع‭ ‬إلى‭ ‬الحي‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬اتجاه‭: ‬أزقة‭ ‬صغيرة‭ ‬متقابلة‭ ‬تكسو‭ ‬بيوتها‭ ‬أشجار‭ ‬وتفترع‭ ‬تقاطعاتها‭ ‬نافورات‭ ‬صغيرة‭ ‬وألوان‭ ‬تنفتح‭ ‬على‭ ‬واجهات‭ ‬البيوت‭. ‬ثمّة‭ ‬أصوات‭ ‬لصِبية‭ ‬يلعبون‭ ‬ونساء‭ ‬خرجن‭ ‬إلى‭ ‬السوق‭ ‬ورجال‭ ‬يتناوبون‭ ‬في‭ ‬الظهور‭ ‬أمام‭ ‬عينيه‭ ‬وسيارات‭ ‬قليلة‭ ‬تتخاطف‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬العام‭.‬

هناك‭ ‬مساحات‭ ‬مفتوحة‭ ‬متباعدة‭ ‬وبر‭ ‬أجرد‭ ‬يلوح‭ ‬خلفها،‭ ‬لكنه‭ ‬اطمأن‭ ‬إلى‭ ‬ترتيب‭ ‬الحي‭ ‬الصغير‭ ‬وهو‭ ‬يستنشق‭ ‬هواء‭ ‬الشتاء‭ ‬فيه‭.‬

حدائق‭ ‬عامة‭ ‬واضحة‭ ‬في‭ ‬مسافات‭ ‬متقاربة‭ ‬بشكل‭ ‬دائري‭ ‬تتصل‭ ‬ببعضها‭ ‬بقناطر‭ ‬خشبية‭ ‬وتجري‭ ‬من‭ ‬تحتها‭ ‬شوارع‭ ‬قليلة‭ ‬السيارات‭ ‬والعربات‭ ‬التراثية‭ ‬التي‭ ‬تتخاطر‭ ‬بين‭ ‬وقت‭ ‬وآخر‭.‬

النهر‭ ‬الصغير‭ ‬يبدو‭ ‬كساقية‭ ‬تسير‭ ‬مع‭ ‬الشارع‭ ‬العام‭ ‬وتستدير‭ ‬باستداراته‭ ‬المتكررة،‭ ‬لكنه‭ ‬يمر‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الأزقة‭ ‬بماءٍ‭ ‬صافٍ‭ ‬تلبط‭ ‬فيه‭ ‬أسماكٌ‭ ‬صغيرة‭ ‬ناعمة‭ ‬وتنعكس‭ ‬فيه‭ ‬ظلال‭ ‬الأشجار‭ ‬المتطاولة‭ ‬وشرفات‭ ‬البيوت‭ ‬الواطئة‭ ‬وألوانها‭ ‬المختلفة‭.‬

تشممهم‭ ‬الكلب‭ ‬ورافقهم‭ ‬إلى‭ ‬الصالة‭ ‬وقفزت‭ ‬دجاجات‭ ‬تركية‭ ‬منفوشة‭ ‬الريش‭ ‬بين‭ ‬أقدامهم‭ ‬وحطت‭ ‬عصافير‭ ‬مصوّتة‭ ‬بإلحاح‭ ‬كأنما‭ ‬تتشاجر‭ ‬على‭ ‬ياسمينة‭ ‬تدور‭ ‬على‭ ‬حديقة‭ ‬البيت‭ ‬مع‭ ‬ياسمينات‭ ‬واطئات‭ ‬كَسورٍ‭ ‬من‭ ‬الورد‭ ‬يحجز‭ ‬البيت‭ ‬عن‭ ‬امتداد‭ ‬البيوت‭ ‬المزينة‭ ‬بالأشجار‭.‬

قال‭ ‬الياباني‭ ‬كأنما‭ ‬ليستدرك‭ ‬القول‭ ‬الأول‭:‬

الدنيا‭ ‬أصغر‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬نحيط‭ ‬بها‭ ‬سيدتي‭.. ‬قبل‭ ‬ثلاثين‭ ‬سنة‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬بغداد‭.. ‬وها‭ ‬قد‭ ‬مرّ‭ ‬العمر‭ ‬بلمح‭ ‬البصر‭..‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬هيروشي‭ ‬واثقاً‭ ‬كثيراً‭ ‬وهو‭ ‬يخرج‭ ‬عن‭ ‬حزام‭ ‬العاصمة‭ ‬شبه‭ ‬المهجورة‭ ‬إلى‭ ‬بر‭ ‬عارٍ‭ ‬من‭ ‬البنايات‭ ‬ومظاهر‭ ‬الحياة‭. ‬ومع‭ ‬أن‭ ‬أركان‭ ‬السفارة‭ ‬اليابانية‭ ‬طمأنوه‭ ‬بأن‭ ‬الطريق‭ ‬الذاهب‭ ‬إلى‭ ‬الحي‭ ‬الأخضر‭ ‬ممكن‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الظروف؛‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬ومنذ‭ ‬ثلاثين‭ ‬سنة‭ ‬حينما‭ ‬رأى‭ ‬بغداد‭ ‬ودجلة‭ ‬وعاش‭ ‬حادثته‭ ‬الشهيرة‭ ‬وخرج‭ ‬منها‭ ‬جريحاً‭ ‬وأنقذه‭ ‬ليل‭ ‬النهر‭ ‬الجاري،‭ ‬ظل‭ ‬يعتمل‭ ‬في‭ ‬داخله‭ ‬يأس‭ ‬مرير‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تعود‭ ‬الحياة‭ ‬كما‭ ‬كانت،‭ ‬وتركّز‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الشعور‭ ‬فيه‭ ‬كلما‭ ‬كان‭ ‬يقلّب‭ ‬بأرشيفه‭ ‬الفيلمي‭ ‬والصوري‭ ‬في‭ ‬طوكيو‭ ‬تلك‭ ‬المَشاهِد‭ ‬المريعة‭ ‬وحريق‭ ‬القرية‭ ‬واشتعال‭ ‬النهر‭ ‬وموت‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬أقسى‭ ‬كابوس‭ ‬عاشه‭ ‬مع‭ ‬الميليشيات‭ ‬الدينية‭ ‬المسلحة‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭. ‬وذات‭ ‬بغداد‭. ‬وذات‭ ‬دجلة‭.‬

ظلت‭ ‬المرأة‭ ‬تنظر‭ ‬إليه‭ ‬وهو‭ ‬يبتكر‭ ‬الكلام‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬يخرجه‭ ‬من‭ ‬روحه‭:‬

الدنيا‭ ‬هاتف‭ ‬جوال‭ ‬يا‭ ‬سيدتي‭. ‬صغير‭ ‬وسريع‭ ‬العطب‭ ‬في‭ ‬الظروف‭ ‬الجوية‭ ‬المختلفة‭..‬

شمّ‭ ‬رائحة‭ ‬الحي‭ ‬كأنه‭ ‬يطرد‭ ‬من‭ ‬أعماقه‭ ‬رائحة‭ ‬أخرى‭ ‬زاحمته‭ ‬وهو‭ ‬يطأ‭ ‬المكان‭ ‬الجديد‭ ‬بروح‭ ‬أخرى‭ ‬أكثر‭ ‬تقبلاً‭ ‬لمكان‭ ‬ما‭ ‬عاشه‭ ‬يوماً‭ ‬ما‭ ‬بطريقة‭ ‬مجنونة‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.