أن أكتب في لحظة الدم

الجمعة 2016/04/01

“ماذا يكتب الروائي في لحظة الدم” عبارة جعلت قلبي يهوي في قاع سحيق، وتدافعت الأفكار والمشاعر كطوفان يجرفني، عرفت سلفا وبحدس مؤكد أنني يستحيل أن أكتب مقالا “مُترابطا”، وأن عبارة لحظة الدم أشبه بطلقة رصاصة في الرأس كتلك الرصاصة التي تخترق صدغ جندي منشق عن الجيش السوري لأنه يريد أن يعشق ويُحب ويتزوج ويشيخ، أو تشبه قطع رأس لسوري يعيش في الرقة ومناطق سيطرة داعش لأنه تجرأ وشرب كأس بيرة أو لم يتقيد بمواعيد الصلاة، لحظة الدم أول ما تخيلتها يوم رأيت شحوبا “فظيعا” في وجه ابنتي الفتية مهندسة الاتصالات وهي تخبرني أن زميلها المتخرج معها من كلية هندسة الاتصالات مات من قبل جماعة إرهابية في الغوطة، الشاب المُقبل على الحياة الذي لا يعرف كيف يستخدم البندقية والذي كان من المفترض أن يكون موظفا ليخدم سوريا الأشبه بإسفنجة ضخمة امتصت حتى الثمالة دماء أبنائها، يومها كتبت رسالة اعتذار إلى ابنتي لأن صديقها مات. أن أكتب في لحظة الدم يعني أن أستيقظ صباحا “مرعوبة سلفا” من الموت الذي ينتظرني والمجازر التي سأسمع عنها وصور الشهداء الأبطال يشهرون بنادقهم نحو سماء قصية لا تبالي بهم وهم يبتسمون ابتسامة كأنهم يقفون في حضرة إله لم تصله تضرعات أهلهم أن يعيشوا وألا يكون مصيرهم المحتم الموت، أعرف الآلاف من الشبان ماتوا تحت التعذيب في معتقلات النظام، نشاطي الاجتماعي الوحيد في اللاذقية ذات الأمان المُنافق والزائف هو التعازي، أشعر بالخزي والعار وينتابني الخرس حين أتأمل هؤلاء الأهالي المفجوعين بأولادهم الشهداء الأبطال والذين –كالبهاليل- يضطرون أن يفخروا في بعض الفضائيات بفخرهم باستشهاد ابنهم أو عدة أبناء من أولادهم وهم قد تجاوزوا عتبة الألم وأقاموا في عالم من ذهول الألم. أعزّي نفسي أنني حية ومُنتجة في لحظة الدم أجلس أمام الشاشة بقلب مرتجف، أستنجد بأي شيء ليقويني كي لا أنهار، وحدها اللغة عكازي، ترأف بي إذ تجعل أصابعي تنقر على الحروف لأكتب عن صديقي إسماعيل زرطيط الذي مات تحت التعذيب أو عن الأطفال في عمر البراعم الذين أراهم من شرفة بيتي يتدثرون بغطاء من الورق المقوى وينامون في الشارع ويأكلون من القمامة، أترك نفسي نهبا “لمشاعر قاسية مدمرة وأتمنى لو أذوب دموعا” أو لو أتحول إلى تمثال من الملح، أو لو أفقد مشاعري، وغالبا ما أضطر لترك بيتي وإغلاق الشاشة والتسكع لساعات في أزقة وشوارع اللاذقية أستنجد بالوجوه المعذبة وأبتلع دموعي وأنا أكرر كببغاء أو كبلهاء: آه يا سوريا، آه أيتها الثورة اليتيمة التي خذلها العالم كله، لا أخجل من السباب والشتائم الفاحشة التي تنفلت مني حين أقرأ لافتات من نوع “التحقوا جميعا” بالقوات المسلحة، وصورة طفل أبله يرسم علامة النصر وبجانبه رجل وامرأة -ربما هما أمه وأبوه- يصوبان بندقيتهما في وجهي ووجوه كل سوري -هذا ما أشعر به تماما-.

أن أكتب في لحظة الدم يعني أن يتوقف قلبي عن الخفقان حين أجد رأسا “مقطوعا مرميا” في وسط شارع فقير في اللاذقية لأن صاحبه (عوايني) أي من أنصار النظام، أفكر ما حقيقة هذا الرجل وأين بقية جسده وكيف لا يكفنه إلا الذباب الأزرق، وحده الذباب أزرق في سوريا التي تحولت إلى بحر من الدماء. أن أكتب في لحظة الدم يعني أن أستسلم للهذيان.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.