من‭ ‬التحرير‭ ‬إلى‭ ‬الصراع

الأحد 2016/05/01
لوحة: عمار النحاس

يفرض‭ ‬موضوع‭ ‬الهوية‭ ‬نفسه‭ ‬بمجرد‭ ‬أن‭ ‬نطرح‭ ‬على‭ ‬أنفسنا‭ ‬سؤال‭ ‬“من‭ ‬نكون؟”‭ ‬أو‭ ‬“من‭ ‬نحن؟”‭. ‬وقد‭ ‬تمّ‭ ‬طرح‭ ‬هذه‭ ‬المسألة‭ ‬دائما‭ ‬في‭ ‬صيغة‭ ‬التساؤل،‭ ‬مما‭ ‬يفسر‭ ‬انتشار‭ ‬عبارة‭ ‬“إشكالية‭ ‬الهوية”،‭ ‬الشيء‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬زغموند‭ ‬بومان‭ ‬Z. Bauman‭ ‬ يؤكد‭ ‬في‭ ‬كتابه ‮ ‬La vie en miettes (Expérience postmoderne et moralité) بأنه‭ ‬“ولا‭ ‬مرة‭ ‬‘أصبحت’‭ ‬الهوية‭ ‬مشكلة،‭ ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬توجد‭ ‬أصلا‭ ‬إلا كمشكلة،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬مشكلة‭ ‬منذ‭ ‬ظهورها،‭ ‬وبرزت‭ ‬منذ‭ ‬البدء‭ ‬بوصفها‭ ‬مشكلة”. ‬وهذا‭ ‬الوجود‭ ‬كمشكلة‭ ‬هو‭ ‬بالذات‭ ‬ما‭ ‬يميّز‭ ‬اليوم‭ ‬مسألة‭ ‬الهوية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬حيث‭ ‬تسيل‭ ‬أنهار‭ ‬من‭ ‬الدماء‭ ‬تحت‭ ‬غطاء‭ ‬الهوية‭ ‬إن‭ ‬ضمنا‭ ‬أو‭ ‬علنا،‭ ‬وتتعرض‭ ‬أوطان‭ ‬لمخاطر‭ ‬التقسيم‭ ‬والزوال‭ ‬نتيجة‭ ‬لذلك،‭ ‬فالهوية‭ ‬بمعناها‭ ‬الجماعي‭ ‬هي‭ ‬ظاهرة‭ ‬تدميرية‭ ‬وتأسيسية‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬الوقت‭. ‬تدمر‭ ‬أوطانا‭ ‬ودولا‭ ‬وتبني‭ ‬أوطانا‭ ‬ودولا. ‬لقد‭ ‬شاهدنا‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يسمى‭ ‬سابقا‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يشمل‭ ‬داخله‭ ‬عدة‭ ‬هويات‭ ‬جماعية‭ ‬استقلت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬كل‭ ‬واحدة‭ ‬بنفسها‭ ‬مؤسسة‭ ‬دولا‭ ‬ومفككة‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬الوقت‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬جزءا‭ ‬منها. ‬يمكن‭ ‬أيضا‭ ‬للهوية‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أداة‭ ‬تحرير‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬تاريخية‭ ‬معينة‭ ‬وأداة‭ ‬إقصاء‭ ‬وهيمنة‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬أخرى. ‬لقد‭ ‬تحررت‭ ‬الجزائر،‭ ‬مثلا،‭ ‬من‭ ‬السيطرة‭ ‬الاستعمارية‭ ‬باسم‭ ‬ثنائية‭ ‬العروبة‭ ‬والإسلام،‭ ‬لكي‭ ‬يتم‭ ‬تحويلها‭ ‬فيما‭ ‬بعد،‭ ‬يعني‭ ‬بعد‭ ‬الاستقلال،‭ ‬إلى‭ ‬أداة‭ ‬إقصاء‭ ‬للهوية‭ ‬الأمازيغية‭.‬

‬إذن‭ ‬وطيدة‭ ‬بين‭ ‬الهوية‭ ‬كظاهرة‭ ‬جماعية‭ ‬والوجود‭ ‬السياسي‭ ‬والأيديولوجي‭ ‬للجماعات‭ ‬البشرية. ‬إنها‭ ‬ركن‭ ‬أساس‭ ‬في‭ ‬الوجود‭ ‬كشعب‭ ‬أو‭ ‬كدولة‭ ‬أو‭ ‬كحزب‭ ‬أيضا‭ ‬تبعا‭ ‬لسياقات‭ ‬معينة،‭ ‬مثلما‭ ‬لها‭ ‬دور‭ ‬في‭ ‬عقد‭ ‬التحالفات‭ ‬والارتباطات‭ ‬وفي‭ ‬الديناميكية‭ ‬التاريخية‭ ‬ككل‭. ‬لكن‭ ‬ولئن‭ ‬كانت‭ ‬الهوية‭ ‬الجماعية‭ ‬ليس‭ ‬لها‭ ‬تجسد‭ ‬سياسي‭ ‬بالضرورة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬هوية‭ ‬جماعية‭ ‬تحمل‭ ‬في‭ ‬طياتها‭ ‬قابلية‭ ‬التعبير‭ ‬السياسي‭ ‬عن‭ ‬وجودها‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬ظروف‭ ‬وعوامل‭ ‬معينة‭ ‬لا‭ ‬يسعنا‭ ‬المجال‭ ‬هنا‭ ‬للتطرق‭ ‬إليها. ‬ويبدو‭ ‬البعد‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬الهوية‭ ‬الجماعية ‭ ‬identité‭ ‬collective‭ ‬ هو‭ ‬ما‭ ‬يميزها‭ ‬بالأساس‭ ‬عن‭ ‬الهوية‭ ‬الفردية‭ ‬الموجودة‭ ‬كذلك‭ ‬ضرورة‭ ‬في‭ ‬أيّ‭ ‬هوية‭ ‬بالمعنى‭ ‬العابر‭ ‬للأفراد،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة،‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الفردي،‭ ‬لا‭ ‬تقضي‭ ‬على‭ ‬الاختلاف‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬قوام‭ ‬الهوية،‮ ‬مما‭ ‬يجعل‭ ‬الهوية‭ ‬الجماعية‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬حالة‭ ‬انسجام‭ ‬مطلق‭ ‬أو‭ ‬تطابقا‭ ‬تاما‭ ‬بين‭ ‬مختلف‭ ‬مكوناتها‭. ‬وعلى‭ ‬العموم‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬الهوية‭ ‬الجماعية‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬مزدوج،‭ ‬فهي‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬جامعة‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬أن‭ ‬أعضاءها‭ ‬يملكون‭ ‬أو‭ ‬يعتقدون‭ ‬بأنهم‭ ‬يملكون‭ ‬مقومات‭ ‬ذاتية‭ ‬خاصة‭ ‬بهم،‭ ‬لغوية،‭ ‬دينية،‭ ‬عرقية‭ ‬أو‭ ‬غيرها،‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬مُؤسسة‭ ‬للاختلاف،‭ ‬الاختلاف‭ ‬عن‭ ‬الآخر،‭ ‬وعليه‭ ‬فهي‭ ‬تؤسس‭ ‬الذات‭ ‬والآخر‭ ‬معا‭.‬

وبالرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬عامل‭ ‬الهوية،‭ ‬بمختلف‭ ‬تجلياته‭ ‬وأنماطه،‭ ‬كان‭ ‬دائما‭ ‬فاعلا‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬وفي‭ ‬علاقات‭ ‬الجماعات‭ ‬البشرية‭ ‬بعضها‭ ‬ببعض،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يصبح‭ ‬موضوع‭ ‬دراسة‭ ‬واهتمام‭ ‬ولم‭ ‬يتبلور‭ ‬كمفهوم‭ ‬نظري‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬وبالذات‭ ‬في‭ ‬خمسينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬الأبحاث‭ ‬التي‭ ‬دارت‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬في‭ ‬أميركا،‭ ‬وذلك‭ ‬تحت‭ ‬تأثير‭ ‬مسألة‭ ‬إدماج‭ ‬المهاجرين‭ ‬المنتمين‭ ‬إلى‭ ‬ثقافات‭ ‬أخرى‭ ‬والوافدين‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬البلد. ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬يمكن‭ ‬اعتبار‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬رائدا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال،‭ ‬إذ‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يستعمل‭ ‬مفهوم‭ ‬الهوية،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬يمكن‭ ‬تماما‭ ‬أن‭ ‬نرى‭ ‬في‭ ‬مفهوم‭ ‬“العصبية”‮ ‬‭ ‬التي‭ ‬فسر‭ ‬بها‭ ‬آلية‭ ‬وديناميكية‭ ‬التغيرات‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬مجتمعات‭ ‬شمال‭ ‬أفريقيا،‭ ‬نمطا‭ ‬مهيمنا‭ ‬للهوية‭ ‬كفعالية‭ ‬ومحرك‭ ‬سياسي‭ ‬في‭ ‬عصره‭.‬

‬التاريخ‭ ‬والهوية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي

في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬حيث‭ ‬ارتبطت‭ ‬الهوية‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬بالتوظيف‭ ‬السياسي‭ ‬والأيديولوجي،‭ ‬توجد‭ ‬صلة‭ ‬وثيقة‭ ‬بين‭ ‬الهوية‭ ‬والتاريخ،‭ ‬فتعقد‭ ‬المسألة‭ ‬الهويّاتية‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭ ‬وطابعها‭ ‬الإشكالي‭ ‬مرتبط‭ ‬بشكل‭ ‬أساس‭ ‬بتاريخ‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة،‭ ‬فسواء‭ ‬تطرقنا‭ ‬إلى‭ ‬مكوّنها‭ ‬اللغوي‭ ‬“العربية”‭ ‬أو‭ ‬الديني‭ ‬“الإسلام”،‭ ‬وهما‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬المكونات‭ ‬الكبيرة‭ ‬لهذه‭ ‬الهوية‭ ‬قوميا‭ ‬وقطريا،‭ ‬مع‭ ‬اختلافات‭ ‬لا‭ ‬يستهان‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬بلد‭ ‬إلى‭ ‬أخر،‭ ‬كان‭ ‬للعامل‭ ‬التاريخي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬دور‭ ‬هام‭ ‬في‭ ‬الطابع‭ ‬الإشكالي‭ ‬للهوية‭ ‬المؤسسة‭ ‬على‭ ‬هذين‭ ‬المعطيين. ‬فبالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬العامل‭ ‬الأول،‭ ‬نعرف‭ ‬بأن‭ ‬بعض‭ ‬شعوب‭ ‬المنطقة‭ ‬التي‭ ‬تُنسب‭ ‬لها‭ ‬العروبة،‭ ‬مثل‭ ‬بلدان‭ ‬شمال‭ ‬أفريقيا‭ ‬وكذلك‭ ‬مصر‭ ‬والسودان‭ ‬والعراق‭ ‬وسوريا،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬بلادا‭ ‬ذات‭ ‬“هوية”‭ ‬عربية،‭ ‬فقد‭ ‬دخلت‭ ‬إليها‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬تاريخيا‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الفتح‭ ‬الإسلامي،‭ ‬لكن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يؤدي‭ ‬ذلك‭ ‬بالضرورة‭ ‬إلى‭ ‬امّحاء‭ ‬الهوية‭ ‬الأصلية،‭ ‬الشيء‭ ‬الذي‭ ‬يفسر‭ ‬التوترات‭ ‬التي‭ ‬صاحبت‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الصعيد‭ ‬قيام‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬بعد‭ ‬الاستقلال‭ ‬وما‭ ‬اقتضاه‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬تعريف‭ ‬للهوية،‭ ‬وتبعا‭ ‬لذلك‭ ‬للغة‭ ‬الوطنية‭ ‬والرسمية‭ ‬للبلاد‭.‬

أما‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬المكون‭ ‬الثاني،‭ ‬يعني‭ ‬الديني،‭ ‬لهذه‭ ‬الهوية،‭ ‬سواء‭ ‬نظرنا‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الأصل‭ ‬‭(‬الإسلام‭)‬‭ ‬أو‭ ‬الفرع‭ ‬‭(‬الطوائف‭)‬،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬بدورها‭ ‬فصلها‭ ‬عن‭ ‬التاريخ‭ ‬العام‭ ‬للمنطقة‭. ‬إنه‭ ‬لمن‭ ‬المعروف‭ ‬مثلا،‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬أردنا‭ ‬أن‭ ‬تقتصر‭ ‬إشارتنا‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬ثنائية‭ ‬سنّة‭/‬شيعة،‭ ‬بالنظر‭ ‬إلى‭ ‬كونها‭ ‬أبرز‭ ‬تجلّ‭ ‬اليوم‭ ‬لمعضلة‭ ‬الهوية‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية،‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الثنائية‭ ‬الإشكالية‭ ‬هي‭ ‬نتاج‭ ‬لحظة‭ ‬تاريخية‭ ‬تحيل‭ ‬إلى‭ ‬الصراع‭ ‬حول‭ ‬السلطة‭ ‬بعد‭ ‬موت‭ ‬الرسول،‭ ‬لكنه‭ ‬تمّ‭ ‬التسامي‭ ‬بها‭ ‬لتصبح‭ ‬بذلك‭ ‬لحظة‭ ‬تأسيسية‭ ‬لهوية‭ ‬أصبحت‭ ‬اليوم‭ ‬أداة‭ ‬للتوظيف‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬تنتهي‭ ‬إليه‭ ‬الهوية‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬لما‭ ‬تحمله‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬قابلية‭ ‬للتجييش‭ ‬والتعبئة‭ ‬وتوظيف‭ ‬الجماهير‭ ‬ومراقبتها،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الهوية‭ ‬حالة‭ ‬وجدانية،‭ ‬عاطفية،‭ ‬بالأساس‭.‬

ولا‭ ‬تشذ‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬بالتاريخ،‭ ‬الهوية‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬بعدها‭ ‬الجغرافي‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬تجسدها‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬الوطنية،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬الهويات‭ ‬القطرية‭ ‬التي‭ ‬تتشكل‭ ‬منها‭ ‬“جامعة‭ ‬الدول‭ ‬العربية”‭ ‬اليوم،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬بدورها‭ ‬نتاجا‭ ‬تاريخيا‭ ‬يحيل‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يعرف‭ ‬بتقسيم‭ ‬“سايكس‭-‬‭ ‬بيكو”‭ ‬وإلى‭ ‬إفرازات‭ ‬الظاهرة‭ ‬الاستعمارية‭ ‬بشكل‭ ‬عام؛‭ ‬مرحلة‭ ‬يمكن‭ ‬تسميتها‭ ‬بمرحلة‭ ‬خروج‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬التاريخ،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬البعض‭ ‬يدرج‭ ‬أيضا‭ ‬الفترة‭ ‬العثمانية‭ ‬كجزء‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬خروج‭ ‬العرب‭ ‬هذا‭ ‬عن‭ ‬الفاعلية‭ ‬التاريخية‭ ‬ليتحولوا‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬هامش‭. ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إذن‭ ‬بأن‭ ‬الهوية‭ ‬العربية‭ ‬نتاج‭ ‬تاريخي،‭ ‬شأنها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬شأن‭ ‬كل‭ ‬هوية‭ ‬جماعية‭.‬

‮ ‬ومما‭ ‬سبق‭ ‬نستنتج‭ ‬أيضا‭ ‬بأن‭ ‬هذه‭ ‬الهوية‭ ‬تتميز‭ ‬بالتعقيد‭ ‬والتركيب‭ ‬والتداخل،‭ ‬فيها‭ ‬عناصر‭ ‬التماثل‭ ‬كما‭ ‬فيها‭ ‬عناصر‭ ‬الاختلاف‭. ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬وجود‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬هوية‭ ‬داخل‭ ‬الهوية‭ ‬الواحدة،‭ ‬فالهوية‭ ‬الإسلامية‭ ‬تشمل،‭ ‬مثلا،‭ ‬الشيعي،‭ ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬الوقت‭ ‬كما‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬امتلاكه‭ ‬لاسم‭ ‬تعريفي‭ ‬جماعي‭ ‬ديني‭ ‬خاص‭ ‬به،‭ ‬يجعله‭ ‬مماثلا‭ ‬ومختلفا‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬الوقت‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬شركائه‭ ‬في‭ ‬الدين‭. ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬طابع‭ ‬التعقيد‭ ‬والتركيب‭ ‬والتداخل‭ ‬للهوية‭ ‬لا‭ ‬يتجلّى‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬يستمر‭ ‬على مستويات‭ ‬أخرى،‭ ‬متجليا‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬العشائرية‭ ‬والقبلية‭ ‬التي‭ ‬جعل‭ ‬منها‭ ‬ابن‭ ‬خلدون،‭ ‬كما‭ ‬سبق‭ ‬القول،‭ ‬العامل‭ ‬المفسر‭ ‬لديناميكية‭ ‬التغيرات‭ ‬السياسية‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬مجتمعات‭ ‬شمال‭ ‬أفريقيا‭ ‬في‭ ‬عصره،‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تفعل‭ ‬فعلها‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬وذلك‭ ‬جنبا‭ ‬إلى‭ ‬جنب‭ ‬مع‭ ‬عوامل‭ ‬الهوية‭ ‬الأخرى‭ ‬الدينية‭ ‬وغير‭ ‬الدينية‭.‬

الهوية‭ ‬القومية

ويمكن‭ ‬القول‭ ‬بصورة‭ ‬عامة‭ ‬إن‭ ‬المكونات‭ ‬الهويّاتية‭ ‬السابقة‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لها‭ ‬دائما،‭ ‬في‭ ‬الخطاب‭ ‬والممارسة‭ ‬السياسيين‭ ‬العربيين‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬والحاضر،‭ ‬نفس‭ ‬الدور‭ ‬ولا‭ ‬نفس‭ ‬الأهمية‭ ‬أو‭ ‬الحضور‭ ‬ولا‭ ‬نفس‭ ‬كيفية‭ ‬التوظيف‭ ‬والتأثير،‭ ‬ولا‭ ‬اشتغلت‭ ‬دائما‭ ‬في‭ ‬انسجام‭ ‬وتناغم‭ ‬فيما‭ ‬بينها. ‬ففي‭ ‬مرحلة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬التحرر‭ ‬من‭ ‬الاستعمار،‭ ‬مرحلة‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬وحزب‭ ‬البعث،‭ ‬تم‭ ‬التركيز‭ ‬بالأساس‭ ‬على‭ ‬المكون‭ ‬القومي‭ ‬أي‭ ‬العربي‭ ‬لهذه‭ ‬الهوية،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬المكون‭ ‬الديني‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬الإسلام. ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬لطابع‭ ‬المرحلة‭ ‬المتميز‭ ‬آنذاك‭ ‬عالميا‭ ‬بسيادة‭ ‬أيديولوجيتين‭ ‬كبيرتين،‭ ‬تتمثل‭ ‬إحداهما‭ ‬في‭ ‬الماركسية‭ ‬أو‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬أن‭ ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التوجه‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬نتائجه‭ ‬تهميش‭ ‬الحضور‭ ‬الهويّاتي‭ ‬والسياسي‭ ‬للإسلام،‭ ‬ممّا‭ ‬يفسر‭ ‬عدم‭ ‬بروز‭ ‬الظاهرة‭ ‬الطائفية‭ ‬الدينية‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة. ‬كما‭ ‬أدّى‭ ‬تمركز‭ ‬الهوية‭ ‬حول‭ ‬مبدأ‭ ‬العروبة‭ ‬إلى‭ ‬حدوث‭ ‬أزمة‭ ‬هوية‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬البلدان‭ ‬كالعراق،‭ ‬حيث‭ ‬تعيش‭ ‬أقلية‭ ‬كردية‭ ‬راحت‭ ‬تطالب‭ ‬بحقوقها‭ ‬الثقافية‭ ‬كمكوّن‭ ‬هوياتي‭ ‬جماعي‭ ‬متميز‭ ‬داخل‭ ‬الهوية‭ ‬الجماعية‭ ‬العراقية‭ ‬ككل‭. ‬بينما‭ ‬أدى‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭ ‬إلى‭ ‬نزاع‭ ‬هوياتي‭ ‬داخلي،‭ ‬عرف‭ ‬تطورات‭ ‬دموية‭ ‬أحيانا،‭ ‬استمر‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬البعد‭ ‬القومي‭ ‬للهوية‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬تعريف‭ ‬الهوية‭ ‬الوطنية،‭ ‬قد‭ ‬استتبع‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬تكريس‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬كمكوّن‭ ‬لغوي‭ ‬وطني‭ ‬ورسمي‭ ‬وحيد،‭ ‬بل‭ ‬إقصاء‭ ‬البعد‭ ‬الأمازيغي،‭ ‬في‭ ‬الجزائر،‭ ‬كمكوّن‭ ‬كامل‭ ‬الحقوق‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬هذه‭ ‬الهوية‭.

صار‭ ‬الآخر‭ ‬إذن‭ ‬“شيطانا‭ ‬أكبر”‭ ‬أو‭ ‬“غربا‭ ‬صليبيا”‭ ‬بعدما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬السابقة‭ ‬“إمبرياليا”‭ ‬أو‭ ‬“شيوعيا”‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬التغير‭ ‬الذي‭ ‬يحدث‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬إدراك‭ ‬“الأنا”‭ ‬كهوية‭ ‬جماعية‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يرافقه‭ ‬تغير‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬إدراك‭ ‬الآخر

‬وكان‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬تضحيات‭ ‬كبيرة‭ ‬وسنوات‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬الاضطرابات‭ ‬للاعتراف‭ ‬رسميا‭ ‬بالبعد‭ ‬الأمازيغي‭ ‬لهوية‭ ‬الشعب‭ ‬الجزائري‭ ‬وباللغة‭ ‬الأمازيغية‭ ‬كلغة‭ ‬وطنية‭ ‬ورسمية. ‬بينما‭ ‬أدى‭ ‬الأمر‭ ‬أخيرا‭ ‬في‭ ‬العراق،‭ ‬بعد‭ ‬مآس‭ ‬دموية‭ ‬طويلة،‭ ‬إلى‭ ‬تأسيس‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬دولة‭ ‬داخل‭ ‬الدولة،‭ ‬بعد‭ ‬قيام‭ ‬كردستان‭ ‬العراق،‭ ‬على‭ ‬إثر‭ ‬الغزو‭ ‬الأميركي،‭ ‬كإقليم‭ ‬يتمتع‭ ‬بالعديد‭ ‬من‭ ‬صلاحيات‭ ‬الدولة،‭ ‬مثل‭ ‬امتلاك‭ ‬لغة‭ ‬وطنية‭ ‬ورسمية‭ ‬وعلم‭ ‬خاص‭ ‬وقوات‭ ‬مسلحة‭ ‬وتمثيل‭ ‬دبلوماسي‭.. ‬إلخ‭.‬

وفي‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة،‭ ‬يعني‭ ‬مرحلة‭ ‬هيمنة‭ ‬الهوية‭ ‬القومية‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬أحادية‭ ‬هويّاتية‭ ‬متمثلة‭ ‬في‭ ‬العروبة،‭ ‬كان‭ ‬الآخر‭ ‬يظهر‭ ‬بالأساس‭ ‬كوجود‭ ‬أيديولوجي‭ ‬وسياسي‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يسمى‭ ‬بالإمبريالية‭ ‬الأميركية‭ ‬وحليفتها‭ ‬الصهيونية،‭ ‬فيما‭ ‬الأنظمة‭ ‬العربية‭ ‬ذات‭ ‬النظام‭ ‬الوراثي‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬معارضة‭ ‬للقومية‭ ‬العربية‭ ‬بوصفها‭ ‬أيديولوجية‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬توظيف‭ ‬الهوية‭ ‬العروبية‭ ‬كمشروع‭ ‬وحدوي،‭ ‬كانت‭ ‬تبلور‭ ‬خطابا‭ ‬سياسيا‭ ‬يرتكز‭ ‬على‭ ‬خلفية‭ ‬دينية‭ ‬سلفية،‭ ‬قائما‭ ‬بالتالي‭ ‬على‭ ‬الهوية‭ ‬الدينية،‭ ‬يظهر‭ ‬فيها‭ ‬الآخر‭ ‬متمثلا‭ ‬في‭ ‬الشيوعية‭ ‬باعتبارها‭ ‬ظاهرة‭ ‬إلحادية‭.‬

على‭ ‬أن‭ ‬هزيمة‭ ‬1967‭ ‬أمام‭ ‬إسرائيل‭ ‬وقيام‭ ‬ثورة‭ ‬الخميني‭ ‬في‭ ‬إيران،‭ ‬سنة‭ ‬1979،‭ ‬سيؤديان‭ ‬إلى‭ ‬أفول‭ ‬نجم‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬القومية،‭ ‬ومن‭ ‬خلالها‭ ‬العروبة‭ ‬كمقوّم‭ ‬هوياتي‭ ‬مهيمن،‭ ‬ليحل‭ ‬محله‭ ‬تدريجيا‭ ‬المقوم‭ ‬الهويّاتي‭ ‬الديني،‭ ‬أي‭ ‬الإسلام. ‬لكن‭ ‬مثلما‭ ‬أن‭ ‬أيديولوجية‭ ‬العروبة‭ ‬بوصفها‭ ‬مقوما‭ ‬هويّاتيا‭ ‬قام‭ ‬على‭ ‬الأحادية‭ ‬وبالتالي‭ ‬على‭ ‬الإقصاء،‭ ‬قد‭ ‬تمخض‭ ‬عن‭ ‬نتائج‭ ‬وخيمة،‭ ‬كما‭ ‬تجلّى‭ ‬ذلك‭ ‬فيما‭ ‬جرى‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬وأيضا‭ ‬في‭ ‬الجزائر،‭ ‬فإن‭ ‬اتخاذ‭ ‬الإسلام‭ ‬كمقوم‭ ‬هوياتي‭ ‬مهيمن‭ ‬ومتسلط‭ ‬داخليا،‭ ‬وبالتالي‭ ‬عدم‭ ‬الإقرار‭ ‬بدوره‭ ‬بمبدأ‭ ‬الاختلاف‭ ‬مؤكدا‭ ‬على‭ ‬المماثلة‭ ‬فقط،‭ ‬قد‭ ‬أفضى‭ ‬بدوره‭ ‬إلى‭ ‬عواقب‭ ‬سلبية،‭ ‬لعل‭ ‬انفصال‭ ‬الجنوب‭ ‬‭(‬المسيحي‭)‬‭ ‬عن‭ ‬السودان‭ ‬ذي‭ ‬الأغلبية‭ ‬المسلمة،‭ ‬وتحوّله‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬مستقلة،‭ ‬يمثل‭ ‬النتيجة‭ ‬الأكثر‭ ‬درامية‭.‬

كما‭ ‬أن‭ ‬عودة‭ ‬الهوية‭ ‬في‭ ‬بعدها‭ ‬الديني‭ ‬الإسلامي،‭ ‬خصوصا‭ ‬في‭ ‬إيران،‭ ‬وتحولها‭ ‬إلى‭ ‬المرجع‭ ‬الأساس‭ ‬سيعدل‭ ‬صورة‭ ‬الآخر‭ ‬ليبدو،‭ ‬على‭ ‬ضوء‭ ‬منظور‭ ‬هذا‭ ‬“الأنا”‭ ‬القديم‭ ‬–‭ ‬الجديد‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬الهوية‭ ‬الإسلامية،‭ ‬بدوره‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬دينية،‭ ‬تعبر‭ ‬عنه،‭ ‬مثلا،‭ ‬مفردات‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬“الشيطان‭ ‬الأكبر”‭ ‬أو‭ ‬“الغرب‭ ‬الصليبي”. ‬لقد‭ ‬صار‭ ‬الآخر‭ ‬إذن‭ ‬“شيطانا‭ ‬أكبر”‭ ‬أو‭ ‬“غربا‭ ‬صليبيا”‭ ‬بعدما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬السابقة‭ ‬“إمبرياليا”‭ ‬أو‭ ‬“شيوعيا”‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬التغير‭ ‬الذي‭ ‬يحدث‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬إدراك‭ ‬“الأنا”‭ ‬كهوية‭ ‬جماعية‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يرافقه‭ ‬تغير‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬إدراك‭ ‬الآخر،‭ ‬وكذلك‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬الخطاب‭ ‬اللغوي‭ ‬المتداول‭ ‬بشأنه‭. ‬علما‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬مرجع‭ ‬هويّاتي‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬يعني‭ ‬من‭ ‬العامل‭ ‬الهوياتي‭ ‬العروبي‭ ‬إلى‭ ‬العامل‭ ‬الهوياتي‭ ‬الديني‭ ‬الذي‭ ‬ظل‭ ‬مهيمنا‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬أساسا،‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬بمعزل‭ ‬عن‭ ‬ديناميكية‭ ‬علاقة‭ ‬الآخر‭ ‬بـ”الأنا”،‭ ‬تلك‭ ‬العلاقة‭ ‬المتميزة‭ ‬بالهيمنة‭ ‬والسيطرة. ‬وإلى‭ ‬جانب‭ ‬هذا،‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬المرجع‭ ‬الهويّاتي‭ ‬العروبي‭ ‬إلى‭ ‬المرجع‭ ‬الهويّاتي‭ ‬الديني،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬الوعي‭ ‬الجماهيري،‭ ‬يعني‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬كما‭ ‬سبق‭ ‬القول،‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬لم‭ ‬يتشكل‭ ‬كخطاب‭ ‬رسمي‭ ‬بالأساس‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬إيران،‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬بعد‭ ‬من‭ ‬الأبعاد‭ ‬نتاج‭ ‬إخفاق‭ ‬الخطاب‭ ‬العروبي‭ ‬القومي‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬التحدي‭ ‬الذي‭ ‬فرضه‭ ‬الآخر،‭ ‬وربما‭ ‬الأصح‭ ‬نتاج‭ ‬نهاية‭ ‬دوره‭ ‬التاريخي،‭ ‬باعتبار‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬ساهم‭ ‬في‭ ‬التحرر‭ ‬من‭ ‬الاستعمار‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬من‭ ‬المراحل‭.‬

وينبغي‭ ‬التوضيح‭ ‬بأن‭ ‬“صحوة”‭ ‬الهوية‭ ‬الدينية‭ ‬لم‭ ‬تقم‭ ‬مباشرة‭ ‬على‭ ‬أنقاض‭ ‬الهوية‭ ‬القومية‭ ‬التي‭ ‬أصيبت‭ ‬في‭ ‬الصميم‭ ‬بعد‭ ‬هزيمة‭ ‬1967‭ ‬أمام‭ ‬إسرائيل،‭ ‬ولم‭ ‬تحل‭ ‬محلها‭ ‬فور‭ ‬وقوع‭ ‬هذه‭ ‬“النكسة”. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬تراجع‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬القومية‭ ‬قد‭ ‬حلّت‭ ‬محلّها‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬القطرية‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬مع‭ ‬السادات،‭ ‬الرئيس‭ ‬الذي‭ ‬قتل‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬برصاصات‭ ‬“إسلامية”. ‬فمجيء‭ ‬الرئيس‭ ‬السادات،‭ ‬على‭ ‬إثر‭ ‬الوفاة‭ ‬المباغتة‭ ‬للرئيس‭ ‬عبدالناصر،‭ ‬كان‭ ‬بداية‭ ‬الانكفاء‭ ‬على‭ ‬الهوية‭ ‬بمعناها‭ ‬القطري،‭ ‬ذلك‭ ‬الانكفاء‭ ‬الذي‭ ‬جسدته‭ ‬اتفاقية‭ ‬كامب‭ ‬ديفيد‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬تهميش‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬صاحبة‭ ‬الأولوية‭ ‬في‭ ‬الخطاب‭ ‬القومي‭ ‬العربي،‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬كامب‭ ‬ديفيد‭ ‬كانت‭ ‬نكسة‭ ‬جديدة‭ ‬للهوية‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬الانتماء‭ ‬القومي‭ ‬العروبي‭ ‬وعلى‭ ‬قضيتها‭ ‬المركزية،‭ ‬فلسطين،‭ ‬بعد‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬مثلتها‭ ‬نكسة‭ ‬1967‭ ‬العسكرية. ‬وهما‭ ‬نكستان‭ ‬مترابطتان‭ ‬بالتأكيد‭. ‬فقد‭ ‬ساد‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬القلب‭ ‬النابض‭ ‬للخطاب‭ ‬القومي‭ ‬العربي،‭ ‬بعد‭ ‬هذه‭ ‬الاتفاقية،‭ ‬خطاب‭ ‬هويّاتي‭ ‬قطري‭ ‬يمكن‭ ‬وصفه‭ ‬بالانعزالي،‭ ‬يركز‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬وتميّز‭ ‬هويّة‭ ‬مصر،‭ ‬ويدعو‭ ‬إلى‭ ‬خلاص‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬بمعزل‭ ‬عن‭ ‬مصير‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬وعن‭ ‬مصير‭ ‬قضيته‭ ‬المركزية‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭. ‬وقد‭ ‬أدى‭ ‬هذا‭ ‬الخطاب‭ ‬الانعزالي‭ ‬إلى‭ ‬تقزيم‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬بعدما‭ ‬أفقدها‭ ‬تأثيرها‭ ‬العربي‭ ‬التقليدي‭ ‬وحوّلها،‭ ‬خصوصا‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬حسني‭ ‬مبارك،‭ ‬إلى‭ ‬أداة‭ ‬طيعة‭ ‬بين‭ ‬أيدي‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية،‭ ‬العدو‭ ‬رقم‭ ‬واحد‭ ‬تقليديا‭ ‬في‭‬الخطاب‭ ‬الهويّاتي‭ ‬القومي‭ ‬العربي.

‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬عودة‭ ‬الهوية‭ ‬الإسلامية‭ ‬إلى‭ ‬واجهة‭ ‬الأحداث،‭ ‬وذلك‭ ‬بوصفها‭ ‬هوية‭ ‬كبرى‭ ‬وجامعة،‭ ‬قد‭ ‬جلبت‭ ‬معها‭ ‬إعادة‭ ‬صياغة‭ ‬رؤية‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الأنا‭ ‬والآخر‭ ‬لبعضهما‭ ‬البعض،‭ ‬فقد‭ ‬جلبت‭ ‬معها‭ ‬أيضا‭ ‬إعادة‭ ‬إحياء‭ ‬معطيات‭ ‬هويّاتية‭ ‬ليست‭ ‬مشتركة‭ ‬بالضرورة

وقد‭ ‬بلغ‭ ‬انحطاط‭ ‬التوجه‭ ‬الهويّاتي‭ ‬القطري‭ ‬المصري‭ ‬أوج‭ ‬سقوطه‭ ‬بارتباطه‭ ‬بالاستبداد‭ ‬والفساد‭ ‬والتوريث،‭ ‬ولعل‭ ‬مباراة‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬مؤلمة‭ ‬الذكر‭ ‬بين‭ ‬الجزائر‭ ‬ومصر‭ ‬تمثل‭ ‬أبلغ‭ ‬تعبير‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬عن‭ ‬دخول‭ ‬القومية‭ ‬العروبية‭ ‬التقليدية‭ ‬في‭ ‬سجل‭ ‬الماضي،‭ ‬ولكن‭ ‬أكثر‭ ‬عن‭ ‬تهافت‭ ‬خليفته‭ ‬الساقط‭ ‬في‭ ‬وحل‭ ‬قطرية‭ ‬شعبوية‭ ‬وشوفينية‭ ‬تلهث‭ ‬وراء‭ ‬أمجاد‭ ‬وأحلام‭ ‬صغيرة‭ ‬ومشبوهة‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬الأحلام‭ ‬الكبيرة‭ ‬والإخفاق‭ ‬في‭ ‬بلوغ‭ ‬الأمجاد‭ ‬العظيمة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تحدو‭ ‬الخطاب‭ ‬القومي‭ ‬العربي‭: ‬وحدة‭ ‬العرب‭ ‬وتحرير‭ ‬فلسطين. ‬وما‭ ‬تبقّى‭ ‬من‭ ‬الهويّة‭ ‬القومية‭ ‬العروبية،‭ ‬بعد‭ ‬كامب‭ ‬ديفيد،‭ ‬مع‭ ‬حزبي‭ ‬البعث‭ ‬العراقي‭ ‬والسوري،‭ ‬في‭ ‬خطابهما‭ ‬الرسمي‭ ‬على‭ ‬الأقل،‭ ‬جاء‭ ‬الغزو‭ ‬الأميركي‭ ‬ليضع‭ ‬حدا‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬العراق،‭ ‬فيما‭ ‬هو‭ ‬يعيش‭ ‬ربما‭ ‬أيامه‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬حيث‭ ‬تجري‭ ‬حرب‭ ‬طاحنة‭ ‬بين‭ ‬آخر‭ ‬نظام‭ ‬“بعثي”‭ ‬ومعارضين‭ ‬تحت‭ ‬عباءة‭ ‬الهوية‮ ‬‭ ‬الدينية‭ ‬الجهادية‭ ‬وغير‭ ‬الدينية،‭ ‬حرب‭ ‬تبدو‭ ‬في‭ ‬بعد‭ ‬من‭ ‬أبعادها‭ ‬كآخر‭ ‬معركة‭ ‬يخوضها‭ ‬“القوميون‭ ‬العرب”‭ ‬فيما‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬كثيرين‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬غير‭ ‬حرب‭ ‬انتهت‭ ‬إلى‭ ‬استخدام‭ ‬أسلحة‭ ‬الهوية،‭ ‬أسلحة‭ ‬الطائفة‭ ‬هاهنا،‭ ‬ممّا‭ ‬يعني،‭ ‬إن‭ ‬صحّت‭ ‬هذه‭ ‬القراءة،‭ ‬بأن‭ ‬الحكم‭ ‬العربي‭ ‬لم‭ ‬يكفّ‭ ‬عن‭ ‬الاستناد‭ ‬إلى‭ ‬مبدأ‭ ‬“العصبية”‭ ‬الذي‭ ‬فسر‭ ‬به‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬بن‭ ‬خلدون‭ ‬نشأة‭ ‬وسقوط‭ ‬الدول‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬عصره‭.‬

إعادة‭ ‬صياغة‭ ‬نظرة‭ ‬الآخر

إخفاقات‭ ‬وانحرافات‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬الهوياتية‭ ‬القومية‭ ‬والقطرية‭ ‬اللتين‭ ‬اشتركتا‭ ‬في‭ ‬الاستبداد،‭ ‬فيما‭ ‬تميزت‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬ذلك،‭ ‬بالفساد‭ ‬والتوريث،‭ ‬خصوصا‭ ‬بعد‭ ‬المرحلة‭ ‬التي‭ ‬أعقبت‭ ‬كامب‭ ‬ديفيد،‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬“صحوة”‭ ‬الهوية‭ ‬الإسلامية‭ ‬وصعودها‭. ‬وقد‭ ‬أدت‭ ‬عودة‭ ‬هذه‭ ‬الهوية‭ ‬إلى‭ ‬الواجهة،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬تجلياتها،‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الديني‭ ‬المحض‭ ‬كما‭ ‬يظهر‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬السلوك‭ ‬الاجتماعي‭ ‬للأفراد‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬السياسي‭ ‬والجهادي،‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬حركات‭ ‬ساعية‭ ‬إلى‭ ‬تغيير‭ ‬الأنظمة‭ ‬باسم‭ ‬الإسلام‭ ‬‭(‬‭ ‬الفيس‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭ ‬وحركات‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬الأخرى‭)‬‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬مقاومة‭ ‬مسلحة‭ ‬للاحتلال‭ ‬الصهيوني‭ ‬‭(‬‭ ‬حزب‭ ‬الله،‭ ‬حماس‭.. ‬إلخ‭)‬‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬ما‭ ‬صار‭ ‬يعرف‭ ‬بالإرهاب،‭ ‬سواء‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬المحلي‭ ‬أو‭ ‬الدولي‭ ‬‭(‬‭ ‬الهجوم‭ ‬على‭ ‬برجي‭ ‬نيويورك‭ ‬في‭ ‬11‭ ‬سبتمبر‭ ‬2001‭ ‬بالأساس‭)‬،‭ ‬إلى‭ ‬تغيير‭ ‬نظرة‭ ‬الآخر‭ ‬تجاه‭ ‬العرب‭ ‬الذين‭ ‬صاروا‭ ‬يبدون‭ ‬للعالم‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى‭ ‬كوجود‭ ‬قائم‭ ‬على‭ ‬هوية‭ ‬دينية‭ ‬بالأساس،‭ ‬علما‭ ‬أن‭ ‬عصرنا‭ ‬يتميز‭ ‬عموما‭ ‬بتراجع‭ ‬الهويات‭ ‬ذات‭ ‬الطابع‭ ‬الديني‭. ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬أفضى‭ ‬في‭ ‬الأخير‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬صار‭ ‬يعرف‭ ‬بـ”فوبيا‭ ‬الإسلام”،‭ ‬الذي‭ ‬يمثل‭ ‬المظهر‭ ‬الأبرز‭ ‬للصراع‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬الذي‭ ‬عوّض‭ ‬الفراغ‭ ‬الذي‭ ‬أحدثته‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة،‭ ‬والذي‭ ‬تمثل‭ ‬صور‭ ‬الكاريكاتور‭ ‬المسيئة‭ ‬للرسول‭ ‬أحد‭ ‬أوضح‭ ‬تجلياته‭.‬

انبعاث‭ ‬الهوية‭ ‬الإسلامية

لكن‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬عودة‭ ‬الهوية‭ ‬الإسلامية‭ ‬إلى‭ ‬واجهة‭ ‬الأحداث،‭ ‬وذلك‭ ‬بوصفها‭ ‬هوية‭ ‬كبرى‭ ‬وجامعة،‭ ‬قد‭ ‬جلبت‭ ‬معها‭ ‬إعادة‭ ‬صياغة‭ ‬رؤية‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الأنا‭ ‬والآخر‭ ‬لبعضهما‭ ‬البعض،‭ ‬فقد‭ ‬جلبت‭ ‬معها‭ ‬أيضا‭ ‬إعادة‭ ‬إحياء‭ ‬معطيات‭ ‬هويّاتية‭ ‬ليست‭ ‬مشتركة‭ ‬بالضرورة‭ ‬بين‭ ‬جميع‭ ‬المسلمين،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬طابعها‭ ‬الديني‭ ‬وانتمائها‭ ‬إلى‭ ‬الإسلام،‭ ‬ونعني‭ ‬هنا‭ ‬الطائفية. ‬وهكذا‭ ‬فإن‭ ‬الهوية‭ ‬الإسلامية‭ ‬العائدة‭ ‬بقوة‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬لمّ‭ ‬شمل‭ ‬كل‭ ‬العرب،‭ ‬ناهيك‭ ‬بلمّ‭ ‬شمل‭ ‬كل‭ ‬المسلمين،‭ ‬إلا‭ ‬إزاء‭ ‬الآخر،‭ ‬وليس‭ ‬أبدا‭ ‬جمع‭ ‬شمل‭ ‬العرب‭ ‬أنفسهم‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الانقسام‭ ‬الطائفي،‭ ‬الشيعي‭ ‬السنّي،‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬الأيام،‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬استثنيا‭ ‬المرحلة‭ ‬التاريخية‭ ‬المؤسسة‭ ‬له،‭ ‬بمثل‭ ‬هذه‭ ‬الحدة‭ ‬التي‭ ‬صار‭ ‬عليها‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬طفت‭ ‬وطغت‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬العربية‭ ‬الهوية‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬تجلياتها‭. ‬فهذه‭ ‬الهوية‭ ‬الدينية‭ ‬الطائفية‭ ‬‭(‬الشيعية‭ ‬أو‭ ‬السنية‭)‬‭ ‬صارت‭ ‬أكثر‭ ‬تأثيرا،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬المستويات،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬السياسي‭ ‬منها،‭ ‬في‭ ‬علاقات‭ ‬المسلمين‭ ‬والعرب‭ ‬بعضهم‭ ‬ببعض،‭ ‬من‭ ‬الهوية‭ ‬العابرة‭ ‬للطوائف‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬ذاته. ‬وربما‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬الهوية‭ ‬الطائفية‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬هيمنة‭ ‬الهوية‭ ‬الدينية‭ ‬التي‭ ‬يمر‭ ‬بها‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬اليوم،‭ ‬هي‭ ‬أقوى‭ ‬من‭ ‬تأثير‭ ‬الهوية‭ ‬المؤسسة‭ ‬للدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬أي‭ ‬الجغرافية،‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬صدقنا‭ ‬الاتهامات‭ ‬التي‭ ‬توجه‭ ‬أحيانا‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الطائفة‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬بشأن‭ ‬ولاء‭ ‬أفرادها‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬أجنبية‭ ‬تقاسمها‭ ‬الروابط‭ ‬الطائفية‭ ‬نفسها‭. ‬لقد‭ ‬قيل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬وفي‭ ‬البحرين‭ ‬وفي‭ ‬سوريا‭ ‬وفي‭ ‬لبنان‭ ‬وفي‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬بلدان‭ ‬العالم‭ ‬العربي. ‬وتشكل‭ ‬اليوم‭ ‬هذه‭ ‬الهويات‭ ‬المؤسسة‭ ‬للاختلاف‭ ‬داخل‭ ‬الهوية‭ ‬العابرة‭ ‬للطوائف،‭ ‬الوطنية‭ ‬منها‭ ‬والإسلامية‭ ‬كذلك،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬أحد‭ ‬المعوقات‭ ‬الكبرى‭ ‬لقيام‭ ‬المواطنة،‭ ‬بل‭ ‬تهديد‭ ‬لوحدة‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬نفسها‭ ‬‭(‬في‭ ‬العراق‭ ‬وسوريا‭ ‬خصوصا‭)‬‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬إفراغها‭ ‬الديمقراطية‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬محتوى،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬صبغتها‭ ‬بطابع‭ ‬الطائفية‭.‬

الطائفية‭ ‬والثورة

‬ويمكن‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬الطائفية‭ ‬جاءت‭ ‬كإحدى‭ ‬النتائج‭ ‬غير‭ ‬المتوقعة‭ ‬وغير‭ ‬المباشرة‭ ‬للثورة‭ ‬الإيرانية،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬لقيت‭ ‬ترحيبا‭ ‬جماهيريا‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬بلدان‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي،‭ ‬فإن‭ ‬الأمر‭ ‬ليس‭ ‬كذلك‭ ‬بالضرورة‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الأنظمة. ‬كان‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬لهذه‭ ‬الثورة،‭ ‬كأيّ‭ ‬ثورة‭ ‬كبرى،‭ ‬أن‭ ‬تثير‭ ‬من‭ ‬المخاوف‭ ‬قدر‭ ‬ما‭ ‬تثيره‭ ‬من‭ ‬الترحاب‭. ‬فكل‭ ‬ثورة‭ ‬تحمل‭ ‬معها‭ ‬خطر‭ ‬العدوى،‭ ‬وبالتالي‭ ‬الخشية‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يتجاوز‭ ‬لهيبها‭ ‬حدودها‭ ‬الوطنية،‭ ‬خاصة‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬أخذنا‭ ‬بعين‭ ‬الاعتبار،‭ ‬فيما‭ ‬يعني‭ ‬الثورة‭ ‬الإيرانية،‭ ‬وجود‭ ‬الطائفة‭ ‬الشيعية‭ ‬في‭ ‬عدة‭ ‬بلدان‭ ‬عربية،‭ ‬كالعراق‭ ‬والبحرين‭ ‬ولبنان‭ ‬واليمن‭ ‬وغيرها،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تشكل‭ ‬وقودا‭ ‬أو‭ ‬جسرا‭ ‬للنظام‭ ‬الإسلامي‭ ‬الجديد،‭ ‬علما‭ ‬أن‭ ‬القائمين‭ ‬على‭ ‬الثورة‭ ‬الإيرانية‭ ‬أنفسهم‭ ‬كانوا‭ ‬لا‭ ‬يخفون‭ ‬عزمهم‭ ‬على‭ ‬تصديرها‭. ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬انجرّ‭ ‬عنه‭ ‬إحياء‭ ‬الصراعات‭ ‬السياسية‭ ‬الدينية‭ ‬القديمة‭ ‬العائدة‭ ‬إلى‭ ‬زمن‭ ‬الفتنة‭ ‬بين‭ ‬علي‭ ‬ومعاوية،‭ ‬فكانت‭ ‬الحرب‭ ‬المدمرة‭ ‬بين‭ ‬العراق‭ ‬وإيران،‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬أثناءها‭ ‬استنزاف‭ ‬قدرات‭ ‬النظامين،‭ ‬ثم‭ ‬المواجهات‭ ‬القائمة‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬والعراق‭ ‬واليمن‭.‬

الطائفية‭ ‬جاءت‭ ‬كإحدى‭ ‬النتائج‭ ‬غير‭ ‬المتوقعة‭ ‬وغير‭ ‬المباشرة‭ ‬للثورة‭ ‬الإيرانية،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬لقيت‭ ‬ترحيبا‭ ‬جماهيريا‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬بلدان‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي،‭ ‬فإن‭ ‬الأمر‭ ‬ليس‭ ‬كذلك‭ ‬بالضرورة‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الأنظمة

وغنيّ‭ ‬عن‭ ‬البيان‭ ‬أن‭ ‬الانتماء‭ ‬الطائفي‭ ‬ذاته‭ ‬ليس‭ ‬هو‭ ‬المشكلة‭ ‬بالضرورة،‭ ‬فهو‭ ‬على‭ ‬أيّ‭ ‬حال‭ ‬نتاج‭ ‬تراكم‭ ‬تاريخي‭ ‬يجد‭ ‬الفرد‭ ‬نفسه‭ ‬متأثرا‭ ‬به،‭ ‬يصيغ‭ ‬وجدانه،‭ ‬بهذه‭ ‬الدرجة‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬رغما‭ ‬عنه‭. ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬الأساس‭ ‬فهو‭ ‬إرث‭ ‬يرثه‭ ‬الفرد‭ ‬من‭ ‬ماضي‭ ‬مجتمعه‭ ‬كما‭ ‬يرث‭ ‬اللغة‭ ‬مثلا. ‬ولكنه‭ ‬يصبح‭ ‬مشكلة‭ ‬حقيقية،‭ ‬عندما‭ ‬يتم‭ ‬تسييسه‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬وفي‭ ‬إيران‭ ‬أيضا،‭ ‬خصوصا‭ ‬وأن‭ ‬الطائفية‭ ‬كانت‭ ‬منذ‭ ‬البدء‭ ‬مشكلة‭ ‬سياسية‭ ‬في‭ ‬الجوهر‭. ‬ومما‭ ‬ساهم‭ ‬في‭ ‬جعل‭ ‬العودة‭ ‬القوية‭ ‬للهوية‭ ‬الإسلامية‭ ‬تفرز‭ ‬الحالة‭ ‬الطائفية‭ ‬السائدة‭ ‬اليوم‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬إيران‭ ‬بعد‭ ‬التحول‭ ‬من‭ ‬الثورة‭ ‬إلى‭ ‬الدولة‭ ‬وما‭ ‬صاحب‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬ظهور‭ ‬مصالح‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬قومي‭ ‬استدعت‭ ‬استخدام‭ ‬الهوية‭ ‬الطائفية‭ ‬بوصفها‭ ‬أداة‭ ‬من‭ ‬أدوات‭ ‬النفوذ‭ ‬الخارجي،‭ ‬يعني‭ ‬كسلاح‭ ‬سياسي،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تستخدم‭ ‬كما‭ ‬يجري‭ ‬اليوم‭ ‬كسلاح‭ ‬عسكري‭.‬

ويمكن‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬تسييس‭ ‬الهوية‭ ‬الطائفية‭ ‬هو‭ ‬وجه‭ ‬من‭ ‬أوجه‭ ‬تسييس‭ ‬الإسلام‭ ‬كدين،‭ ‬فالظاهرة‭ ‬الطائفية‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬موجودة‭ ‬مثلا‭ ‬أيام‭ ‬هيمنة‭ ‬الخطاب‭ ‬الهويّاتي‭ ‬القومي. ‬لكن‭ ‬منذ‭ ‬انتصار‭ ‬الثورة‭ ‬الإسلامية‭ ‬الإيرانية،‭ ‬وما‭ ‬أفرزته‭ ‬من‭ ‬تبعات‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬المنطقة،‭ ‬أصبحت‭ ‬الهويات‭ ‬الوطنية‭ ‬أو‭ ‬الجغرافية‭ ‬واقعة‭ ‬تحت‭ ‬تهديد‭ ‬خطر‭ ‬مكوّناتها‭ ‬الطائفية،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬ذلك‭ ‬وحدتها‭ ‬الترابية،‭ ‬خصوصا‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬والعراق‭ ‬وسوريا،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الهوية،‭ ‬أيا‭ ‬كانت،‭ ‬تملك‭ ‬القابلية،‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬ظروف‭ ‬معينة‭ ‬كالتي‭ ‬تعيشها‭ ‬اليوم‭ ‬بعض‭ ‬بلدان‭ ‬المنطقة،‭ ‬على‭ ‬الانشقاق‭ ‬عن‭ ‬غيرها‭ ‬والاستقلال‭ ‬بذاتها‭ ‬لتأسيس‭ ‬دولتها،‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬ذلك،‭ ‬مثلا،‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يعرف‭ ‬بالاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬ويوغسلافيا،‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬ليس‭ ‬بعد‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الراهن‭ ‬غير‭ ‬خطر‭ ‬يلوح‭ ‬في‭ ‬الأفق،‭ ‬فإن‭ ‬الآثار‭ ‬السلبية‭ ‬لتسييس‭ ‬الهوية‭ ‬الطائفية‭ ‬هي‭ ‬أمر‭ ‬واقع،‭ ‬كما‭ ‬يتجلى‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬إفراغ‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والمواطنة‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬محتوى‭ ‬حقيقي‭ ‬‭(‬لبنان،‭ ‬العراق‭..‬‭)‬‭ ‬وفي‭ ‬تهميش‭ ‬الهوية‭ ‬الوطنية،‭ ‬يعني‭ ‬للهوية‭ ‬العابرة‭ ‬للهويات‭ ‬الجزئية،‭ ‬وما‭ ‬ينجر‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬تبعية‭ ‬طائفية‭ ‬للخارج،‭ ‬سواء‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الشعبي‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬النخب‭ ‬السياسية‭ ‬الحاكمة‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬الحاكمة‭ ‬‭(‬لبنان‭ ‬والعراق‭ ‬نموذجا‭)‬‭.‬

الخروج‭ ‬عن‭ ‬سلطة‭ ‬الهوية‭ ‬الجماعية

لكن‭ ‬وكما‭ ‬انتكس‭ ‬الخطاب‭ ‬الهويّاتي‭ ‬القومي‭ ‬وبعده‭ ‬الخطاب‭ ‬الهويّاتي‭ ‬القطري،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬الخطاب‭ ‬الهويّاتي‭ ‬الإسلامي‭ ‬العائد‭ ‬إلى‭ ‬الواجهة‭ ‬يعرف‭ ‬بدوره،‭ ‬اليوم،‭ ‬حالة‭ ‬تأزم،‭ ‬لعل‭ ‬الهوية‭ ‬الطائفية‭ ‬وخروجها‭ ‬عن‭ ‬سلطة‭ ‬الهوية‭ ‬المركزية‭ ‬‭(‬الإسلام‭)‬،‭ ‬تمثل‭ ‬أبرز‭ ‬مظهر‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬هذه‭ ‬الأزمة‭. ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬الهوية‭ ‬الإسلامية‭ ‬تحيل‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬إلى‭ ‬مفهوم‭ ‬الأمة،‭ ‬أي‭ ‬إلى‭ ‬واقع‭ ‬متجاوز‭ ‬للحدود‭ ‬القطرية‭ ‬والقومية،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬جلب‭ ‬للإسلاميين‭ ‬عموما‭ ‬تهمة‭ ‬الكوسمبولوتية‭ ‬بما‭ ‬يعنيه‭ ‬من‭ ‬ضعف‭ ‬الانتماء‭ ‬الوطني،‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬الباحث‭ ‬الجزائري‭ ‬علي‭ ‬الكنز،‭ ‬مثلا،‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬“خمسة‭ ‬دروس‭ ‬حول‭ ‬الأزمة”،‮ ‬‭ ‬فإنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تحقيق‭ ‬هذه‭ ‬الهوية‭ ‬عمليا‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية،‭ ‬نتيجة‭ ‬زوال‭ ‬نظام‭ ‬الخلافة‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬أرغم‭ ‬الخطاب‭ ‬الهويّاتي‭ ‬الإسلامي‭ ‬على‭ ‬الأخذ‭ ‬بعين‭ ‬الاعتبار‭ ‬للهوية‭ ‬الوطنية‭ ‬بمختلف‭ ‬مقوماتها،‭ ‬الجغرافية‭ ‬والتاريخية‭ ‬والثقافية‭ ‬والدينية‭. ‬فاليوم‭ ‬لا‭ ‬وجود‭ ‬لهويّة‭ ‬إسلامية‭ ‬إلا‭ ‬وكانت‭ ‬بالضرورة‭ ‬مقترنة‭ ‬بجنسية‭ ‬بلد‭ ‬معين‭. ‬وهذا‭ ‬الاقتران‭ ‬الحتمي‭ ‬بالجنسية‭ ‬الوطنية‭ ‬يؤثر‭ ‬وجدانيا‭ ‬وبالضرورة‭ ‬على‭ ‬معايشة‭ ‬الفرد‭ ‬لهويته‭ ‬الدينية‭ ‬المجاوزة‭ ‬لجغرافية‭ ‬بلده،‭ ‬مثلما‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة‭ ‬سوف‭ ‬تؤثر‭ ‬على‭ ‬نمط‭ ‬معايشته‭ ‬لهويته‭ ‬القطرية‭ ‬أيضا‭. ‬وعليه‭ ‬فإن‭ ‬حديثنا‭ ‬عن‭ ‬انبعاث‭ ‬الشعور‭ ‬الهوياتي‭ ‬الإسلامي‭ ‬وهيمنته‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬بالضرورة‭ ‬نهاية‭ ‬تأثير‭ ‬الهوية‭ ‬الوطنية‭.‬

‮ ‬في‭ ‬محدودية‭ ‬الهوية‭ ‬الدينية

وقد‭ ‬حدا‭ ‬وجود‭ ‬الدولة‭-‬الوطن،‭ ‬بوصفها‭ ‬نمط‭ ‬وجود‭ ‬“الأمة”‭ ‬الوحيد‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬بالخطاب‭ ‬الهويّاتي‭ ‬الإسلامي‭ ‬إلى‭ ‬الانفتاح‭ ‬أيضا‭ ‬على‭ ‬مفاهيم‭ ‬وتصوّرات‭ ‬الآخر،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬التكيف‭ ‬مع‭ ‬قيم‭ ‬العصر،‭ ‬بل‭ ‬أيضا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬استيعاب‭ ‬معطيات‭ ‬وتعقيد‭ ‬الواقع‭ ‬الوطني‭ ‬الذي‭ ‬تعجز‭ ‬الهوية‭ ‬الإسلامية‭ ‬بمعناها‭ ‬التقليدي‭ ‬الماضوي‭ ‬التعامل‭ ‬معه‭ ‬كمعطى‭ ‬موضوعي‭ ‬ينبغي‭ ‬أخذه‭ ‬بعين‭ ‬الحسبان‭. ‬ولهذا‭ ‬الغرض‭ ‬تبنّى‭ ‬الخطاب‭ ‬الهويّاتي‭ ‬المتأثر‭ ‬بالدين،‭ ‬كالذي‭ ‬جسده‭ ‬الرئيس‭ ‬المصري‭ ‬محمد‭ ‬مرسي‭ ‬المطاح‭ ‬به،‭ ‬أثناء‭ ‬تجربته‭ ‬القصيرة‭ ‬في‭ ‬الحكم،‭ ‬مفهوم‭ ‬الديمقراطية‭ ‬المرتبط‭ ‬بالثقافة‭ ‬الغربية،‭ ‬يعني‭ ‬بثقافة‭ ‬الآخر،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعني‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد‭ ‬حلا‭ ‬لمعضلة‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الهويّة‭ ‬الدينية‭ ‬والدولة‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬كما‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬فشل‭ ‬تجربة‭ ‬مصر‭ ‬بعد‭ ‬الثورة. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬أحد‭ ‬عوامل‭ ‬هذا‭ ‬الإخفاق‭ ‬مرتبط‭ ‬بوجود‭ ‬توجه‭ ‬سعى‭ ‬إلى‭ ‬تحييد‭ ‬الدولة‭ ‬دينيا‭ ‬وحصر‭ ‬الهوية‭ ‬الدينية‭ ‬في‭ ‬الإطار‭ ‬الشخصي،‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬معمول‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬وأيضا‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬إسلامي‭ ‬كتركيا‭ ‬حيث‭ ‬العلمانية‭ ‬المعلنة‭ ‬تقضي‭ ‬بغياب‭ ‬هوية‭ ‬دينية‭ ‬خاصة‭ ‬بالدولة. ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬أحد‭ ‬عوامل‭ ‬فشل‭ ‬بلدان‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭ ‬كان‭ ‬مرتبطا‭ ‬بالخلاف‭ ‬حول‭ ‬تصوّر‭ ‬هويّة‭ ‬الدولة،‭ ‬أي‭ ‬بالخلاف‭ ‬بين‭ ‬تصور‭ ‬يمنح‭ ‬للدولة‭ ‬هويّة‭ ‬دينية‭ ‬معينة‭ ‬تؤدي‭ ‬بالضرورة‭ ‬إلى‭ ‬تهميش‭ ‬مواطنين‭ ‬ذنبهم‭ ‬الوحيد‭ ‬أنهم‭ ‬لا‭ ‬ينتمون‭ ‬إلى‭ ‬الهوية‭ ‬المهيمنة،‭ ‬كما‭ ‬يرى‭ ‬معارضو‭ ‬هذا‭ ‬التوجه‭ ‬على‭ ‬الأقل،‭ ‬وآخر‭ ‬يدعو‭ ‬أنصاره‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬تكون‭ ‬تعبيرا‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬المواطنين،‭ ‬وبالتالي‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬ليس‭ ‬لها‭ ‬هويّة‭ ‬دينية‭ ‬معينة‭. ‬وبتعبير‭ ‬آخر،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الصراع‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬والسياسي‭ ‬الذي‭ ‬دار‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬بين‭ ‬العلمانيين‭ ‬والإسلاميين‭ ‬غير‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬صراع‭ ‬حول‭ ‬هويّة‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬ظن‭ ‬كثيرون‭ ‬أنها‭ ‬ستكون‭ ‬مرحلة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الاستبداد‭.‬

‬الانتماء‭ ‬الآخر‭ ‬الذي‭ ‬يشكل‭ ‬أحد‭ ‬مكوّنات‭ ‬الهوية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬هو‭ ‬الانتماء‭ ‬القبلي. ‬وهو‭ ‬أقدم‭ ‬مرجع‭ ‬هويّاتي‭ ‬عربي،‭ ‬إذ‭ ‬أن‭ ‬جذوره‭ ‬تمتد‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬مجيء‭ ‬الإسلام،‭ ‬أي‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬قيام‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬ربوع‭ ‬هذا‭ ‬الدين

القبيلة: ‬الهوية‭ ‬العربية‭ ‬الأبدية

‬الانتماء‭ ‬الآخر‭ ‬الذي‭ ‬يشكل‭ ‬أحد‭ ‬مكوّنات‭ ‬الهوية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬هو‭ ‬الانتماء‭ ‬القبلي. ‬وهو‭ ‬أقدم‭ ‬مرجع‭ ‬هويّاتي‭ ‬عربي،‭ ‬إذ‭ ‬أن‭ ‬جذوره‭ ‬تمتد‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬مجيء‭ ‬الإسلام،‭ ‬أي‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬قيام‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬ربوع‭ ‬هذا‭ ‬الدين،‭ ‬فلا‭ ‬الإسلام‭ ‬ولا‭ ‬القومية‭ ‬ولا‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬أيّا‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬اجتثت‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬التي‭ ‬استمرت‭ ‬تفعل‭ ‬فعلها،‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬إلى‭ ‬اليوم،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬المستويات‭. ‬فهذه‭ ‬الهويّة‭ ‬الجماعية،‭ ‬الأولى‭ ‬ربما‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬البشرية،‭ ‬التي‭ ‬اختفت‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الأمم‭ ‬الحديثة،‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تشكل‭ ‬أحد‭ ‬مصادر‭ ‬وأعمدة‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬ففي‭ ‬كتابه‭ ‬المعنون‭ ‬“صراع‭ ‬القبيلة‭ ‬والديمقراطية‭: ‬حالة‭ ‬الكويت”،‭ ‬يقول‭ ‬خلدون‭ ‬النقاب‭ ‬بهذا‭ ‬الشأن‭ ‬“أستطيع‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬المصدر‭ ‬الرئيس‭ ‬لشرعية‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬تتوقف‭ ‬على‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬العناصر‭ ‬المتأتية‭ ‬جميعها‭ ‬من‭ ‬مفهوم‭ ‬واحد‭ ‬قديم‭ ‬وممل‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬القبيلة‭ ‬السياسية”‭.‬

ولا‭ ‬يقتصر‭ ‬استمرار‭ ‬تأثير‭ ‬الانتماء‭ ‬القبلي‭ ‬على‭ ‬نظام‭ ‬حكم‭ ‬معين‭ ‬دون‭ ‬آخر،‭ ‬إذ‭ ‬نجده‭ ‬حاضرا‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬الأنظمة‭ ‬“الجمهورية”‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬فيها‭ ‬الظاهرة‭ ‬القبلية‭ ‬أحد‭ ‬أعمدة‭ ‬الاستبداد،‭ ‬ففي‭ ‬مؤلفهL’Etat‭ ‬et‭ ‬la‭ ‬tribu‭ ‬dans‭ ‬le‭ ‬monde ‭ ‬arabe‭. ‬Deux‮ ‬‭ ‬systèmes‭ ‬pour‭ ‬une‭ ‬seule‭ ‬société،‭ ‬يقول‭ ‬محمد‭ ‬زيدان‭ ‬بهذا‭ ‬الصدد‭ ‬متحدثا‭ ‬عن‭ ‬علي‭ ‬عبدالله‭ ‬صالح‭ ‬في‭ ‬اليمن‭ ‬ومعمر‭ ‬القذافي‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬“لقد‭ ‬تركا‭ ‬عن‭ ‬عمد‭ ‬بلديهما‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬قبلية‭ ‬بدائية،‭ ‬الأول‭ ‬خلال‭ ‬30‭ ‬سنة‭ ‬والثاني‭ ‬خلال‭ ‬40‭ ‬سنة،‭ ‬وذلك‭ ‬قصد‭ ‬تكريس‭ ‬سيطرتهما‭ ‬المطلقة،‭ ‬جاعلين‭ ‬الحوار‭ ‬مع‭ ‬شيوخ‭ ‬القبائل‭ ‬نمط‭ ‬حكم،‭ ‬بل‭ ‬ذهبت‭ ‬بهما‭ ‬الميكيافيلية‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬تقديم‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬الشعبوي‭ ‬كنموذج‭ ‬للديمقراطية‭ ‬المباشرة”. ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أنه‭ ‬مثلما‭ ‬تعرضت‭ ‬الهوية‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬الانتماء‭ ‬الطائفي،‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬تتعرض،‭ ‬للتوظيف‭ ‬السياسي،‭ ‬فإنه‭ ‬حدث‭ ‬نفس‭ ‬الشيء‭ ‬للهوية‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬القبيلة‭. ‬على‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التوظيف‭ ‬وهذا‭ ‬التسييس‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬ليتم‭ ‬اللجوء‭ ‬إليهما‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬هذين‭ ‬المصدرين‭ ‬الفرعيين‭ ‬من‭ ‬مصادر‭ ‬الهوية‭ ‬العربية‭ ‬المركبة‭ ‬والمعقدة‭ ‬والمتداخلة‭ ‬لم‭ ‬يكونا‭ ‬فاعلين‭ ‬ومؤثرين‭ ‬في‭ ‬مجتمعات‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭. ‬فالهويات‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬لا‭ ‬تتطور‭ ‬ولا‭ ‬تحلّ‭ ‬الواحدة‭ ‬منها‭ ‬محل‭ ‬الأخرى،‭ ‬كما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نلاحظ‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬العالم،‭ ‬بل‭ ‬تتراكم‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ،‭ ‬ويضاف‭ ‬بعضها‭ ‬إلى‭ ‬البعض‭ ‬الآخر،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬الهوية،‭ ‬آخر‭ ‬المطاف،‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬تتكون‭ ‬من‭ ‬هويات‭ ‬متعددة‭ ‬لا‭ ‬تعمل‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬واحد،‭ ‬يعيق‭ ‬بعضها‭ ‬بعضا،‭ ‬وذلك‭ ‬ما‭ ‬يفسر،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬عوامل‭ ‬أخرى‭ ‬بالتأكيد،‭ ‬هشاشة‭ ‬البنية‭ ‬المدنية‭ ‬للمجتمعات‭ ‬العربية،‭ ‬واستفحال‭ ‬الاستبداد. ‬وربما‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬يفسر‭ ‬أيضا‭ ‬هشاشة‭ ‬الإنسان‭ ‬العربي‭ ‬نفسه‭ ‬وما‭ ‬يتميز‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬تمزق‭ ‬وتقلب‭ ‬وتناقض،‭ ‬فتراه،‭ ‬مثلا،‭ ‬طبيبا،‭ ‬لكن‭ ‬تعشّش‭ ‬فيه‭ ‬القبيلة‭ ‬أو‭ ‬الطائفة،‭ ‬أو‭ ‬حداثيا‭ ‬وعلمانيا‭ ‬لكنه‭ ‬مستبد‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد،‭ ‬أو‭ ‬وحدويا‭ ‬وقوميا‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬أسير‭ ‬القبيلة،‭ ‬أو‭ ‬إسلاميا،‭ ‬لكن‭ ‬ولاءه‭ ‬لطائفته‭ ‬قبل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.