‬الصراع‭ ‬الهوياتي

الأحد 2016/05/01
لوحة: عمار النحاس

أتناول‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬قضية‭ ‬الهوية‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتنا‭. ‬سأشرع‭ ‬أولا‭ ‬بتقديم‭ ‬تمهيد‭ ‬نظري‭ ‬أعتبره‭ ‬ضروريا‭ ‬لأن‭ ‬التنظير‭ ‬للهوية‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‭ ‬نادر‭ ‬فعلا،‭ ‬حيث‭ ‬أن‭ ‬أغلب‭ ‬ما‭ ‬يدعى‭ ‬بالمشاريع‭ ‬الفكرية‭ ‬النقدية‭ ‬العربية‭ ‬الكبرى‭ ‬تتجنب‭ ‬هذا‭ ‬البعد‭ ‬النظري. ‬أذكر‭ ‬هنا‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬مشاريع‭ ‬كلّ‭ ‬من‭ ‬أدونيس‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬“الثابت‭ ‬والمتحول”‭ ‬الذي‭ ‬يركز‭ ‬تركيزا‭ ‬انتقائيا‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أدعوه‭ ‬بالأنساق‭ ‬“الحضرية‭ ‬العليا‭ ‬”‭ ‬للسياسة‭ ‬والأيديولوجيا‭ ‬والثقافية‭ ‬العربية‭ ‬الاسلامية‭ ‬معتبرا‭ ‬إياها،‭ ‬بدون‭ ‬وعي‭ ‬أو‭ ‬بوعي‭ ‬منه،‭ ‬البنية‭ ‬الفوقية‭ ‬المركزية‭ ‬التي‭ ‬تنهض‭ ‬عليها،‭ ‬وتتشكل‭ ‬منها‭ ‬الهوية‭ ‬وهو‭ ‬بذلك‭ ‬يقصي‭ ‬ما‭ ‬أدعوه‭ ‬بالبنية‭ ‬الشعورية‭ ‬الثقافية‭ ‬الشعبية‭ ‬التي‭ ‬تعد‭ ‬ناظما‭ ‬أساسيا‭ ‬آخر‭ ‬للهوية‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الجانب‭ ‬اللاواعي‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬البنية‭.‬

هناك أيضا‭ ‬مشروع‭ ‬محمد‭ ‬أركون‭ ‬في‭ ‬نقده‭ ‬للفكر‭ ‬الإسلامي‭ ‬الذي‭ ‬حاول‭ ‬فيه‭ ‬تحليل‭ ‬المخيال‭ ‬الديني‭ ‬الإسلامي‭ ‬باعتباره‭ ‬بعد‭ ‬ثقافيا‭ ‬فكريا‭ ‬وذلك‭ ‬قصد‭ ‬نزع‭ ‬الأسطورة‭ ‬والخرافة‭ ‬عنه،‭ ‬ولكنه‭ ‬لم‭ ‬يدرس‭ ‬أيضا‭ ‬كيف‭ ‬تحول‭ ‬هذا‭ ‬المخيال‭ ‬الديني‭ ‬الأسطوري‭ ‬والخرافي‭ ‬إلى‭ ‬بنية‭ ‬ثقافية‭ ‬شعبية‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وإلى‭ ‬نظام‭ ‬حكم‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى. ‬ثم‭ ‬هناك‭ ‬مشروع‭ ‬محمد‭ ‬عابد‭ ‬الجابري‭ ‬الذي‭ ‬انتهى‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬تحديد‭ ‬للهوية‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬أرضية‭ ‬قومية‭ ‬عربية‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وإلى‭ ‬حكم‭ ‬قيمة‭ ‬ذي‭ ‬طبيعة‭ ‬اختزالية‭ ‬خاصة‭ ‬عندما‭ ‬يتمسك‭ ‬بفرضية‭ ‬يحوّلها‭ ‬إلى‭ ‬قناعة‭ ‬تظهر‭ ‬في‭ ‬زعمه‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الهوية‭ ‬تنهض‭ ‬على‭ ‬وتتشكل‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬بالثقافة‭ ‬العالمة‭ ‬وبهذا‭ ‬نجده‭ ‬متشابها‭ ‬في‭ ‬النتائج‭ ‬الاختزالية‭ ‬مع‭ ‬أدونيس،‭ ‬فهما‭ ‬يهملان‭ ‬معا‭ ‬ثقافات‭ ‬الإثنيات‭ ‬والأعراق‭ ‬من‭ ‬المحيط‭ ‬إلى‭ ‬الخليج‭ ‬باعتبارها‭ ‬مكونا‭ ‬أساسيا‭ ‬للهوية‭ ‬المركبة‭ ‬على‭ ‬المستويات‭ ‬الوطنية‭ ‬وعلى‭ ‬المستوى‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي‭ ‬في‭ ‬منطقتنا‭ ‬الممتدة‭ ‬من‭ ‬المحيط‭ ‬إلى‭ ‬الخليج‭.‬

لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬ذكر‭ ‬مشروع‭ ‬مهم‭ ‬آخر‭ ‬وهو‭ ‬مشروع‭ ‬علي‭ ‬زيعور‭ ‬الذي‭ ‬يتميز‭ ‬بتوظيفه‭ ‬للتحليل‭ ‬النفسي‭ ‬لقراءة‭ ‬تضاريس‭ ‬اللاوعي‭ ‬الأسطوري‭ ‬والخرافي‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬وركيزتها‭ ‬الدينية‭ ‬وعلاقة‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬بإنتاج‭ ‬الهوية‭ ‬الخرافية‭ ‬والأسطورية،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬مساهمة‭ ‬زيعور،‭ ‬على‭ ‬أهميتها،‭ ‬تركز‭ ‬بدورها‭ ‬على‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الوعي‭ ‬واللاوعي‭ ‬الثقافي‭ ‬والديني،‭ ‬ولا‭ ‬تشمل‭ ‬أجزاء‭ ‬أخرى‭ ‬مثل‭ ‬مكونات‭ ‬الهوية‭ ‬كالفنون‭ ‬ومنها‭ ‬المعمار،‭ ‬والأغنية،‭ ‬والأجناس‭ ‬الأدبية‭ ‬وغيرها. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬نجد‭ ‬المشروع‭ ‬النقدي‭ ‬عند‭ ‬حسين‭ ‬مروة‭ ‬ينصبّ‭ ‬على‭ ‬التحليل‭ ‬الماركسي‭ ‬للعناصر‭ ‬الثقافية‭ ‬والدينية‭ ‬والمادية‭ ‬المكوّنة‭ ‬لهوية‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬منطقتنا،‭ ‬ولكنه‭ ‬يكرر‭ ‬بدوره‭ ‬المنظور‭ ‬الذي‭ ‬يهمّش‭ ‬مختلف‭ ‬أشكال‭ ‬ومضامين‭ ‬التعبير‭ ‬الشعبي‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬دون‭ ‬تحليلها‭ ‬إدراك‭ ‬كيف‭ ‬تكونت‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬تتكون‭ ‬الهوية‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتنا. ‬وأكثر‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تقدم‭ ‬فإنه‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المشاريع‭ ‬لا‭ ‬تقدم‭ ‬لنا‭ ‬نظرية‭ ‬تقودنا‭ ‬إلى‭ ‬فهم‭ ‬كيف‭ ‬تتشكل‭ ‬الذاتية‭ ‬وطبقاتها‭ ‬الواعية‭ ‬واللاواعية‭ ‬معا‭ ‬باعتبار‭ ‬الذاتية،‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬ذات‭ ‬محمول‭ ‬ديني،‭ ‬أو‭ ‬ثقافي،‭ ‬هي‭ ‬الطريق‭ ‬الملكي‭ ‬نحو‭ ‬إدراك‭ ‬مكونات‭ ‬الهوية‭ ‬وأزمات‭ ‬نموها‭ ‬وتطورها‭ ‬وانفتاحها‭ ‬على‭ ‬الهويات‭ ‬الأخرى‭.‬

لا‭ ‬شك‭ ‬أنه‭ ‬ينبغي‭ ‬دراسة‭ ‬تصورات‭ ‬هذه‭ ‬المشاريع‭ ‬للهوية‭ ‬ولكنني‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬سأركز‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬ثلاث‭ ‬مسائل‭ ‬تبدو‭ ‬للوهلة‭ ‬الأولى‭ ‬غير‭ ‬مترابطة‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬متبادلة‭ ‬التأثير،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬يمكن،‭ ‬في‭ ‬تقديرنا،‭ ‬فهم‭ ‬إحداها‭ ‬دون‭ ‬فهم‭ ‬الأخريين‭ ‬والعكس‭ ‬صحيح‭ ‬أيضا. ‬من‭ ‬الملاحظ‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬المناقشات‭ ‬الساخنة‭ ‬الدائرة‭ ‬حول‭ ‬الهوية‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الفكري‭ ‬والثقافي‭ ‬والسياسي‭ ‬في‭ ‬بلداننا‭ ‬تدور‭ ‬حول‭ ‬عنقود‭ ‬من‭ ‬الثنائيات‭ ‬مثل‭ ‬ثنائيات‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭/‬الدولة‭ ‬القومية‭ ‬الكبرى،‭ ‬الدين‭/‬العلمانية،‭ ‬الدين‭/‬الدنيوية،‭ ‬الذكورة‭/‬الأنوثة،‭ ‬الديمقراطية‭/‬الدكتاتورية،‭ ‬الأصالة‭/‬المعاصرة،‭ ‬“النحن”‭/‬”الهم”،‭ ‬والأنا‭ ‬والآخر،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الثنائيات‭.‬

من‭ ‬الملاحظ‭ ‬أيضا‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬ينظر‭ ‬إليها‭ ‬إما‭ ‬أنها‭ ‬منعزلة‭ ‬عن‭ ‬بعضها‭ ‬وتقوم‭ ‬على‭ ‬التوازي‭ ‬وليس‭ ‬التناص‭ ‬أو‭ ‬الهجنة،‭ ‬أو‭ ‬أنها‭ ‬متضادة‭ ‬متصارعة. ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬الفهم‭ ‬الأخير‭ ‬قد‭ ‬أدى‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬يؤدي‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬إلى‭ ‬انفجار‭ ‬الاختلاف،‭ ‬وإلى‭ ‬التنافر‭ ‬في‭ ‬وجهات‭ ‬النظر‭ ‬وفي‭ ‬المواقف‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬التنظير‭ ‬الفكري‭ ‬المحض،‭ ‬وإلى‭ ‬التشرذم‭ ‬والتناقض‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الأيديولوجي،‭ ‬وإلى‭ ‬الصدام‭ ‬العنيف‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الممارسة‭ ‬التطبيقية‭ ‬للأفكار‭ ‬والمعتقدات‭ ‬المتناقضة‭ ‬ذات‭ ‬الصلة‭ ‬بالهوية‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬الممتد‭ ‬من‭ ‬المحيط‭ ‬إلى‭ ‬الخليج‭ ‬في‭ ‬نهايات‭ ‬القرن‭ ‬الواحد‭ ‬والعشرين‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭.‬

الأدهى‭ ‬والأمرّ‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬المناقشات‭ ‬الدائرة‭ ‬منذ‭ ‬سنين‭ ‬طويلة‭ ‬حول‭ ‬الهوية‭ ‬ما‭ ‬فتئت‭ ‬تعلك‭ ‬قضايا‭ ‬يغلب‭ ‬عليها‭ ‬التجريد‭ ‬حينا‭ ‬والسقوط‭ ‬في‭ ‬فخَ‭ ‬الاستعادة‭ ‬المطلقة‭ ‬للماضي‭ ‬واعتبارها‭ ‬النموذج‭ ‬المطلق‭ ‬حينا‭

تتمثل‭ ‬المسألة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬سأناقشها‭ ‬في‭ ‬الملابسات‭ ‬المحيطة‭ ‬بمفهوم‭ ‬الهوية‭ ‬ذاته. ‬وبالفعل‭ ‬فإن‭ ‬مفهوم‭ ‬الهوية‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬التحليل‭ ‬لأن‭ ‬الفهم‭ ‬الخاطئ‭ ‬للمفاهيم‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬نتائج‭ ‬وخيمة‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مجتمع. ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬فهما‭ ‬نظريا‭ ‬للهوية‭ ‬عندنا‭ ‬ينطلق‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬أنها‭ ‬ظاهرة‭ ‬ثقافية‭ ‬واجتماعية‭ ‬وحضارية،‭ ‬وأنها‭ ‬نتاج‭ ‬التفاعل،‭ ‬والتأثر‭ ‬التاريخيين،‭ ‬ويقف‭ ‬التيار‭ ‬الذي‭ ‬يعتنق‭ ‬هذا‭ ‬الفهم‭ ‬على‭ ‬تنوع‭ ‬المنظورات‭ ‬بداخله‭ ‬في‭ ‬خندق‭ ‬المقاومة‭ ‬ضد‭ ‬الفهم‭ ‬النظري‭ ‬السائد‭ ‬والمهيمن‭ ‬بشكل‭ ‬قويّ‭ ‬للهوية‭ ‬لدى‭ ‬أبرز‭ ‬التيارات‭ ‬الفكرية‭ ‬والسياسية‭ ‬عندنا‭ ‬والتي‭ ‬تتمسك‭ ‬بالاعتقاد‭ ‬بأنها‭ ‬ماهية‭ ‬ثابتة‭ ‬معطاة‭ ‬قبليا‭ ‬ولها‭ ‬جوهر‭ ‬متطابق‭ ‬مع‭ ‬نفسه،‭ ‬وأن‭ ‬هذا‭ ‬الجوهر‭ ‬يبقى‭ ‬قائما‭ ‬خارج‭ ‬سياج‭ ‬التحولات‭ ‬التاريخية،‭ ‬ويظل‭ ‬ثابتا‭ ‬مهما‭ ‬تغيرت‭ ‬الظروف‭ ‬حوله. ‬أما‭ ‬المسألة‭ ‬الثانية‭ ‬التي‭ ‬سأنظر‭ ‬فيها‭ ‬فتتلخص‭ ‬في‭ ‬الإجابة‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬السؤال: ‬ما‭ ‬هي‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬التيارات‭ ‬الفاعلة‭ ‬في‭ ‬بلداننا‭ ‬بخصوص‭ ‬مسألة‭ ‬الهوية‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتنا؟‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬وجه‭ ‬الاختلاف‭ ‬أو‭ ‬الاتفاق‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بينها؟

أبدأ‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬مفهوم‭ ‬الهوية‭ ‬كمدخل‭ ‬أوّلي‭ ‬وعلى‭ ‬ضوئه‭ ‬سأقوم‭ ‬بتحليل‭ ‬ومناقشة‭ ‬أطروحات‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬التيارات‭ ‬الفكرية‭ ‬العربية‭ ‬مع‭ ‬تسجيل‭ ‬إشارات‭ ‬سريعة‭ ‬لبعض‭ ‬ممثّليها‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬العربي،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬سأستعرض‭ ‬التجربة‭ ‬الجزائرية‭ ‬باعتبار‭ ‬الهوية‭ ‬فيها‭ ‬تختزل‭ ‬غالبا‭ ‬في‭ ‬المسألة‭ ‬اللغوية‭ ‬مع‭ ‬العلم‭ ‬أن‭ ‬عناصر‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬أزمة‭ ‬الهوية‭ ‬الوطنية‭ ‬الجزائرية‭ ‬العميقة،‭ ‬مثل‭ ‬حسم‭ ‬هوية‭ ‬الانتماء،‭ ‬وهوية‭ ‬الخيار‭ ‬السياسي،‭ ‬والأيديولوجي‭ ‬تهمّش‭ ‬كلها‭ ‬دائما‭ ‬ولا‭ ‬يفتح‭ ‬الحوار‭ ‬حولها‭.‬

في‭ ‬دراسته‭ ‬المهمة‭ ‬“حول‭ ‬مسألة‭ ‬الهوية‭ ‬الثقافية‭ ‬”‭ ‬يميز‭ ‬المفكر‭ ‬البريطاني‭ ‬الجنسية‭ ‬والجامايكي‭ ‬الأصول‭ ‬ستيوارت‭ ‬هول‭ ‬بين‭ ‬ثلاثة‭ ‬مفاهيم‭ ‬مختلفة‭ ‬للهوية‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬الغربي،‭ ‬ويتمثل‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬مفهوم‭ ‬الذاتية‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬التنوير‭ ‬الأوروبي‭/‬الغربي،‭ ‬أما‭ ‬الثاني‭ ‬فيدعوه‭ ‬بالمفهوم‭ ‬السوسيولوجي‭ ‬للذاتية،‭ ‬أما‭ ‬الثالث‭ ‬فيسميه‭ ‬بالمفهوم‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثي‭ ‬للذاتية‭. ‬إنه‭ ‬يمكن‭ ‬لنا‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬نغيّر‭ ‬فقط‭ ‬الصيغة‭ ‬شكليا‭ ‬ونقول‭ ‬بأنه‭ ‬بقدرتنا‭ ‬تحديد‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬‮ ‬مفاهيم‭ ‬الهوية‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي‭ ‬وهي‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭: ‬المفهوم‭ ‬القبلي،‭ ‬والإثني،‭ ‬والمفهوم‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والسياسي،‭ ‬والمفهوم‭ ‬الديني‭ ‬وما‭ ‬يشتق‭ ‬منه‭ ‬من‭ ‬الطائفية‭ ‬والمذهبية‭ ‬وهلم‭ ‬جرا‭. ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬الذات‭ ‬وفقا‭ ‬لعصر‭ ‬التنوير‭ ‬الغربي‭ ‬تحاط‭ ‬بسياج‭ ‬دوغماطي‭ ‬حيث‭ ‬ينظر‭ ‬إليها‭ ‬أنها‭ ‬ذكورية‭ ‬غالبا،‭ ‬وأنها‭ ‬واعية،‭ ‬وعاقلة،‭ ‬وفاعلة،‭ ‬ومتمركزة‭ ‬ذاتيا،‭ ‬وأنها‭ ‬تبقى‭ ‬محصّنة‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬مهما‭ ‬حدث‭ ‬لها‭. ‬ويرى‭ ‬ستيوارت‭ ‬هول‭ ‬أن‭ ‬الذات‭ ‬السوسيولوجية‭ ‬تتميز‭ ‬بأنها‭ ‬غير‭ ‬مستقلة،‭ ‬أو‭ ‬مكتفية‭ ‬بنفسها،‭ ‬بل‭ ‬فإنها‭ ‬تتشكل‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬“العلاقة‭ ‬مع‭ ‬الآخرين”،‭ ‬و”القيم،‭ ‬والمعاني‭ ‬الرمزية‭ ‬‭(‬الثقافات‭)‬‭ ‬التي‭ ‬تتوسط‭ ‬علاقة‭ ‬هذه‭ ‬الذات‭ ‬بالعالم”. ‬ويعني‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬تقديره‭ ‬أن‭ ‬الهوية،‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬فردية‭ ‬أو‭ ‬جماعية،‭ ‬هي‭ ‬إفراز‭ ‬للتفاعل‭. ‬وفي‭ ‬الحقيقة‭ ‬فإن‭ ‬تقدم‭ ‬الفكر‭ ‬قد‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬فهم‭ ‬مختلف‭ ‬للهوية‭ ‬حيث‭ ‬أصبحت‭ ‬تفهم‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬منقسمة،‭ ‬ومتحولة،‭ ‬وأنها‭ ‬مكونة‭ ‬من‭ ‬الوعي‭ ‬واللاوعي‭. ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬قد‭ ‬صرنا‭ ‬ندرك،‭ ‬وخاصة‭ ‬مع‭ ‬فتوحات‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي،‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬نسميه‭ ‬بالثقافة‭ ‬له‭ ‬جانب‭ ‬لا‭ ‬نعيه‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬موجود‭ ‬بداخلنا،‭ ‬ويحرك‭ ‬مواقفنا،‭ ‬وسلوكنا‭ ‬وكثيرا‭ ‬ما‭ ‬يتحكم‭ ‬في‭ ‬رؤيتنا‭ ‬للأشياء‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬نجد‭ ‬المحلل‭ ‬النفسي‭ ‬المصري‭ ‬البارز‭ ‬مصطفى‭ ‬صفوان‭ ‬يؤكد‭ ‬بحصافة،‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬ألفه‭ ‬بمعية‭ ‬المحلل‭ ‬النفسي‭ ‬اللبناني‭ ‬حب‭ ‬الله‭ ‬وعنوانه‭ ‬“مشكلات‭ ‬المجتمع‭ ‬العربي”،‭ ‬أن‭ ‬بنية‭ ‬الهوية‭ ‬الفردية‭ ‬والجماعية‭ ‬للإنسان‭ ‬العربي،‭ ‬وبالتالي‭ ‬للثقافة‭ ‬العربية‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تشكلها‭ ‬بقايا‭ ‬النزعات‭ ‬القبلية،‭ ‬والطائفية‭ ‬التي‭ ‬تعتبر‭ ‬الناظم‭ ‬الثقافي‭ ‬المهيمن‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬نعيه‭ ‬في‭ ‬الغالب‭. ‬وبمعنى‭ ‬آخر‭ ‬فإن‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬لم‭ ‬تتخلّص‭ ‬بعد‭ ‬من‭ ‬هيمنة‭ ‬التراث‭ ‬القبلي،‭ ‬والطائفي‭ ‬الذي‭ ‬يحدد‭ ‬بنية‭ ‬الهوية،‭ ‬وتداعياتها‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬وفي‭ ‬العلاقات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬علما‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬تتكرر‭ ‬نمطيا‭ ‬دون‭ ‬وعي‭ ‬منَا‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭.‬

على‭ ‬ضوء‭ ‬هذا‭ ‬أرى‭ ‬أن‭ ‬محمود‭ ‬أمين‭ ‬العالم‭ ‬محقّ‭ ‬في‭ ‬قوله‭ ‬بأن‭ ‬علاقتنا‭ ‬بتراثنا‭ ‬ملتبسة‭ ‬وجدّ‭ ‬معقدة‭ ‬لأنه‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يصنعنا‭ ‬في‭ ‬غفلة‭ ‬منَا. ‬ولاشك‭ ‬أن‭ ‬النظرية‭ ‬التي‭ ‬تقول‭ ‬بأن‭ ‬الهوية‭ ‬قيد‭ ‬الصنع‭ ‬دائما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تفيدنا‭ ‬في‭ ‬اختراق‭ ‬سياج‭ ‬الهويات‭ ‬الثابتة،‭ ‬والمتمركزة‭ ‬ذاتيا،‭ ‬والنافية‭ ‬للآخر،‭ ‬ولكن‭ ‬ينبغي‭ ‬أيضا‭ ‬أن‭ ‬نحذر‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬المزاعم‭ ‬التي‭ ‬تردّد‭ ‬أن‭ ‬الهوية‭ ‬مجرد‭ ‬وهم،‭ ‬أو‭ ‬أنها‭ ‬مصنوعة‭ ‬لنا‭ ‬مسبقا‭ ‬ممّا‭ ‬ينفي‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬المطاف‭ ‬قدرة‭ ‬الإنسان‭ ‬على‭ ‬ممارسة‭ ‬الفاعلية،‭ ‬وإقامة‭ ‬المسافة‭ ‬النقدية‭ ‬مع‭ ‬الثقافة‭ ‬التي‭ ‬يتحرك‭ ‬داخل‭ ‬تقاليدها،‭ ‬ومختلف‭ ‬أشكال‭ ‬سجلّها‭ ‬الرمزي. ‬يبدو‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬منطق‭ ‬الجبرية‭ ‬المفروض‭ ‬على‭ ‬مفهوم‭ ‬الهوية‭ ‬نظريا‭ ‬وإجرائيا‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬من‭ ‬المحيط‭ ‬إلى‭ ‬الخليج‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يكرّس‭ ‬ظاهرة‭ ‬الصراع‭ ‬أو‭ ‬الاقتتال‭ ‬الطائفي‭ ‬والقبلي‭ ‬والإثني،‭ ‬والفهم‭ ‬القاصر‭ ‬لمنطق‭ ‬تحوّل‭ ‬وتطوّر‭ ‬الهويات‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭. ‬وفي‭ ‬الواقع‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬هي‭ ‬نتيجة‭ ‬لغياب‭ ‬الفاعلية‭ ‬والواقعية‭ ‬لدى‭ ‬التيارات‭ ‬السياسية‭ ‬والفكرية‭ ‬عندنا‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الميداني‭ ‬والنظري،‭ ‬ونقصد‭ ‬هنا‭ ‬دوران‭ ‬مختلف‭ ‬التيارات‭ ‬وتنوعها،‭ ‬والتي‭ ‬تلبس‭ ‬لبوس‭ ‬العلمانية‭ ‬المتطرفة،‭ ‬أو‭ ‬لدى‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تتخذ‭ ‬الدين‭ ‬أيديولوجية‭ ‬أصولية‭ ‬مغلقة،‭ ‬أو‭ ‬عند‭ ‬تلك‭ ‬الشرائح‭ ‬المتواجدة‭ ‬في‭ ‬دوائر‭ ‬صنع‭ ‬القرارات‭ ‬والتي‭ ‬تعرقل‭ ‬رسم‭ ‬وتفعيل‭ ‬مشروع‭ ‬واقعي‭ ‬منبثق‭ ‬من‭ ‬الطاقات‭ ‬التي‭ ‬يتوفر‭ ‬لديها‭ ‬الاندفاع‭ ‬الحيوي‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ربح‭ ‬رهان‭ ‬النهضة‭ ‬العلمية‭ ‬والثقافية‭ ‬والفكرية‭ ‬والفنية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬التي‭ ‬تطمح‭ ‬الشرائح‭ ‬الشعبية‭ ‬المحرومة‭ ‬أن‭ ‬تتحقق‭ ‬في‭ ‬حياتها‭ ‬اليومية. ‬والأدهى‭ ‬والأمرّ‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬المناقشات‭ ‬الدائرة‭ ‬منذ‭ ‬سنين‭ ‬طويلة‭ ‬حول‭ ‬الهوية‭ ‬ما‭ ‬فتئت‭ ‬تعلك‭ ‬قضايا‭ ‬يغلب‭ ‬عليها‭ ‬التجريد‭ ‬حينا‭ ‬والسقوط‭ ‬في‭ ‬فخَ‭ ‬الاستعادة‭ ‬المطلقة‭ ‬للماضي‭ ‬واعتبارها‭ ‬النموذج‭ ‬المطلق‭ ‬حينا‭ ‬آخر‭ ‬حيث‭ ‬انحصرت‭ ‬هذه‭ ‬المناقشات‭ ‬في‭ ‬النبش‭ ‬في‭ ‬التراث‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬تقديسه،‭ ‬وفي‭ ‬المعاصرة‭ ‬التي‭ ‬تربط‭ ‬باستمرار‭ ‬بما‭ ‬تم‭ ‬إنجازه‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الغربي‭ ‬من‭ ‬تحديث‭ ‬وتطور‭ ‬للنظم‭ ‬السياسية،‭ ‬والفكر،‭ ‬والتصنيع‭ ‬ومختلف‭ ‬الإنجازات‭.‬

من‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬رؤية‭ ‬هذه‭ ‬التيارات‭ ‬للتراث‭ ‬تخلو‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬من‭ ‬الروح‭ ‬النقدية‭ ‬خاصة‭ ‬وأنها‭ ‬تعتبر‭ ‬متونه‭ ‬الصفراء‭ ‬المكتوبة‭ ‬والمكفّنة‭ ‬في‭ ‬الأرشيف‭ ‬أرض‭ ‬الميعاد‭ ‬المقدسة،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬تعتبر‭ ‬المعاصرة‭ ‬صنما‭ ‬مستوردا‭ ‬من‭ ‬الغرب‭ ‬وليست‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬التراث‭ ‬ذاته. ‬لا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬محوري‭ ‬التراث‭ ‬والمعاصرة‭ ‬هما‭ ‬أكثر‭ ‬المحاور‭ ‬التي‭ ‬استقطبت‭ ‬عندنا‭ ‬المثقفين‭ ‬والمفكرين‭ ‬والسياسيين‭ ‬بمختلف‭ ‬مللهم‭ ‬ونحلهم،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬ذاته‭ ‬فقد‭ ‬نُظر‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬يُنظر‭ ‬إلى‭ ‬التراث‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي،‭ ‬وإلى‭ ‬تراث‭ ‬الأقليات‭ ‬الإثنية‭ ‬والعرقية‭ ‬المختلفة‭ ‬في‭ ‬فضائنا‭ ‬الجغرافي‭ ‬الممتد‭ ‬من‭ ‬المحيط‭ ‬إلى‭ ‬الخليج‭ ‬على‭ ‬أنهما‭ ‬ثنائيتان‭ ‬متصارعتان‭ ‬ومتناحرتان‭ ‬وليس‭ ‬كظاهرتين‭ ‬نابعتين‭ ‬من‭ ‬تجاربنا‭ ‬التاريخية‭ ‬والحضارية‭ ‬وكمكوّنين‭ ‬لهويات‭ ‬مواطنينا‭ ‬ومواطناتنا‭ ‬التي‭ ‬باتت‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬قلق‭ ‬وهي‭ ‬تبحث‭ ‬لنفسها‭ ‬عن‭ ‬مرفأ‭ ‬الأمان. ‬المشكلة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬واجهت‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬تواجه‭ ‬ما‭ ‬يدعى‭ ‬بالأنتلجنسيا‭ ‬المفكرة‭ ‬في‭ ‬بلداننا‭ ‬–‭ ‬والتي‭ ‬هي‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬نخب‭ ‬من‭ ‬الدارسين‭ ‬والباحثين‭ ‬المشتتين،‭ ‬ومن‭ ‬أصحاب‭ ‬المواقع‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬السلطة‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬المعارضة‭ ‬–‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬أطر‭ ‬ومؤسسات‭ ‬حرة‭ ‬ومستقلة‭ ‬تجمعهم‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وفي‭ ‬تعدد‭ ‬مشاربهم‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬التي‭ ‬تسيطر‭ ‬عليها‭ ‬النزعات‭ ‬القبلية‭ ‬أو‭ ‬الطائفية،‭ ‬أو‭ ‬الإثنية،‭ ‬أو‭ ‬العرقية‭ ‬الانفصالية،‭ ‬أو‭ ‬الجهوية‭ ‬المغرقة‭ ‬في‭ ‬الشللية‭.‬

بناء‭ ‬أسس‭ ‬أيّ‭ ‬تركيبة‭ ‬لا‭ ‬يتم‭ ‬ميكانيكيا‭ ‬أو‭ ‬بمجرّد‭ ‬رغبة،‭ ‬بل‭ ‬فإنها‭ ‬مشروطة‭ ‬بالحاجة‭ ‬التاريخية،‭ ‬وكثيرا‭ ‬ما‭ ‬يرافقها‭ ‬إسقاط‭ ‬عناصر‭ ‬من‭ ‬الموروث‭ ‬والتخلّي‭ ‬عنها‭ ‬عندما‭ ‬تكون‭ ‬غير‭ ‬قادرة‭ ‬أن‭ ‬تتلاءم‭ ‬مع‭ ‬بنية‭ ‬التركيبة‭ ‬الجديدة

إنه‭ ‬يمكن‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نصنف‭ ‬أربعة‭ ‬تيارات‭ ‬أساسية‭ ‬بارزة‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬النقاش‭ ‬حول‭ ‬الهوية‭ ‬وقضايا‭ ‬التراث‭ ‬والمعاصرة‭ ‬في‭ ‬بلداننا،‭ ‬إذ‭ ‬هناك‭ ‬التيار‭ ‬التراثي‭ ‬الأصولي‭ ‬المتطرف‭ ‬الذي‭ ‬ما‭ ‬فتئ‭ ‬ينادي‭ ‬بأنّ‭ ‬هويتنا‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬البعيد،‭ ‬وأن‭ ‬ما‭ ‬يحث‭ ‬لنا‭ ‬من‭ ‬ضياع‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نتخلص‭ ‬منه‭ ‬إلا‭ ‬بالعودة‭ ‬المطلقة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬التراث‭ ‬التاريخي‭ ‬الموغل‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬التراث‭ ‬مؤسسا‭ ‬على‭ ‬المعطى‭ ‬الديني‭ ‬أو‭ ‬العرقي،‭ ‬أو‭ ‬الإثني. ‬إنه‭ ‬جراء‭ ‬هذا‭ ‬التطرف‭ ‬في‭ ‬الموقف‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬ظهرت‭ ‬فكرة‭ ‬الوصاية‭ ‬الاستحواذية‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النمط‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التراث‭ ‬أو‭ ‬ذاك‭ ‬وبسبب‭ ‬ذلك‭ ‬فقد‭ ‬تفرّق‭ ‬المتصارعون‭ ‬إلى‭ ‬ملل‭ ‬ونتيجة‭ ‬لذلك‭ ‬حوّلوا‭ ‬التراث‭ ‬نفسه‭ ‬إلى‭ ‬حلبة‭ ‬صراع،‭ ‬واقتتال‭ ‬مادي‭ ‬أو‭ ‬سياسي‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬التعامل‭ ‬معه‭ ‬كإرث‭ ‬يحق‭ ‬للجميع‭ ‬أن‭ ‬ينهل‭ ‬من‭ ‬عناصره‭ ‬الحية‭ ‬والمستنيرة. ‬ولقد‭ ‬برز‭ ‬ضمن‭ ‬هذا‭ ‬التيار‭ ‬فريق‭ ‬آخر‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬الدينية‭ ‬هي‭ ‬الضمانة‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬تضمن‭ ‬تحقيق‭ ‬العدالة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬وترسيخ‭ ‬الأصالة‭ ‬فيه،‭ ‬وتجنّب‭ ‬شتى‭ ‬أشكال‭ ‬الاغتراب‭ ‬والسقوط‭ ‬في‭ ‬تقليد‭ ‬حداثة‭ ‬الغرب‭ ‬التي‭ ‬تنعت‭ ‬بالملحدة. ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬الإسلامي‭ ‬المتطرف‭ ‬يؤكد‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬السخافة‭ ‬الفصل‭ ‬بين‭ ‬الفكر‭ ‬الغربي‭ ‬وإنجازاته‭ ‬وبين‭ ‬تجاوزات‭ ‬الرأسمالية‭ ‬وهيمنتها‭ ‬وسيطرتها‭ ‬على‭ ‬مقدّرات‭ ‬الشعوب‭ ‬الإسلامية‭ ‬وشعوب‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭. ‬ولكن‭ ‬يلاحظ‭ ‬أيضا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الفريق‭ ‬يندمج‭ ‬فور‭ ‬وصوله‭ ‬إلى‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬اللعبة‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الغربية،‭ ‬والدليل‭ ‬واضح‭ ‬في‭ ‬عدة‭ ‬تجارب‭ ‬مثل‭ ‬التجربة‭ ‬القصيرة‭ ‬للإخوان‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يقطعوا‭ ‬مع‭ ‬الرأسمالية‭ ‬فور‭ ‬وصولهم‭ ‬إلى‭ ‬الحكم‭. ‬أما‭ ‬التيار‭ ‬الأصولي‭ ‬الثاني‭ ‬فأجده‭ ‬متمثّلا‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الدعوات‭ ‬إلى‭ ‬الماضي‭ ‬السابق‭ ‬للمرحلة‭ ‬الإسلامية‭ ‬الذي‭ ‬يرفض‭ ‬قطعيا‭ ‬أطروحات‭ ‬العروبة،‭ ‬وكذلك‭ ‬الكونية‭ ‬الإسلامية‭. ‬إنَ‭ ‬أيديولوجيا‭ ‬هذا‭ ‬التيار‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬استعادة‭ ‬الهويات‭ ‬الثقافية‭ ‬والتاريخية‭ ‬مثل‭ ‬الفرعونية‭ ‬والأمازيغية‭ ‬والمارونية،‭ ‬والفينيقية‭ ‬والكردية..‬‭ ‬الخ،‭ ‬وينظر‭ ‬إليها‭ ‬كمقوم‭ ‬وحيد‭ ‬لأصالتها‭ ‬وفرادتها،‭ ‬وهكذا‭ ‬نرى‭ ‬هذا‭ ‬التيار‭ ‬يعيد‭ ‬إنتاج‭ ‬مفهوم‭ ‬الهوية‭ ‬الجاهزة‭ ‬والثابتة،‭ ‬ويكرّر‭ ‬منطق‭ ‬نفي‭ ‬التناص‭ ‬مع‭ ‬الهويات‭ ‬الأخرى،‭ ‬ويذهب‭ ‬بعيدا‭ ‬أحيانا‭ ‬في‭ ‬اعتبار‭ ‬حتى‭ ‬تجاور‭ ‬الهويات‭ ‬خطرا‭ ‬محدقا‭ ‬على‭ ‬وجوده‭ ‬ووجود‭ ‬أتباعه‭. ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬يحاجج‭ ‬في‭ ‬مرافعاته‭ ‬السياسية‭ ‬والثقافية‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭-‬‭ ‬الأمة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭ ‬لها‭ ‬قائمة‭ ‬دون‭ ‬تثبيت‭ ‬الأصول‭ ‬العرقية‭ ‬أو‭ ‬الإثنية. ‬والحال،‭ ‬فإن‭ ‬النظرة‭ ‬الموضوعية‭ ‬لهذا‭ ‬النمط‭ ‬من‭ ‬الطرح‭ ‬تستدعي‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬الفرعونية‭ ‬والأمازيغية‭ ‬والفينيقية‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاتها‭ ‬عناصر‭ ‬خارج‭ ‬بنيان‭ ‬الهويات‭ ‬الوطنية،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬جزء‭ ‬منها،‭ ‬علما‭ ‬أن‭ ‬نزعة‭ ‬تجاهل‭ ‬حقائق‭ ‬الهجنة‭ ‬كواقع‭ ‬تاريخي‭ ‬وثقافي‭ ‬ودموي،‭ ‬وحقيقة‭ ‬التأثر‭ ‬المتبادل‭ ‬عبر‭ ‬مسار‭ ‬التاريخ‭ ‬الطويل‭ ‬هي‭ ‬نزعة‭ ‬تتنكر‭ ‬لأبسط‭ ‬المعارف‭ ‬والحقائق‭ ‬العلمية‭ ‬والأنثروبولوجية‭.‬

إن‭ ‬بلداننا‭ ‬محكومة‭ ‬تاريخيا‭ ‬وتنوعا‭ ‬بشريا‭ ‬ولغويا‭ ‬بضرورة‭ ‬القبول‭ ‬بالهوية‭ ‬المركبة‭ ‬المتطورة‭ ‬والمفتوحة‭ ‬على‭ ‬الإضافات‭. ‬وفي‭ ‬الحقيقة‭ ‬فإن‭ ‬الحنين‭ ‬إلى‭ ‬الصفاء‭ ‬العرقي‭ ‬أيديولوجية‭ ‬غير‭ ‬مبررة‭ ‬تاريخيا‭ ‬وعلميا،‭ ‬وهي‭ ‬تتنافر‭ ‬مع‭ ‬طبيعة‭ ‬الثقافة‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬تتميز‭ ‬بأنها‭ ‬تنشد‭ ‬التلاقح،‭ ‬والتناص،‭ ‬والتنوع‭ ‬لكي‭ ‬تضمن‭ ‬التطور‭ ‬والبقاء. ‬لا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬مبررات‭ ‬هذا‭ ‬التيار‭ ‬وقوّته‭ ‬على‭ ‬الاستقطاب‭ ‬تعودان‭ ‬إلى‭ ‬عدم‭ ‬وجود‭ ‬الديمقراطية‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬والاقتصادية،‭ ‬والسياسية‭ ‬والثقافية‭ ‬ببلداننا‭ ‬التي‭ ‬تعترف‭ ‬بالتنوع‭ ‬الثقافي‭ ‬واللغوي‭ ‬الأهلي،‭ ‬وبحقوق‭ ‬المواطنة‭ ‬حيث‭ ‬يحوّل‭ ‬من‭ ‬يطالب‭ ‬بالاعتراف‭ ‬بلغته‭ ‬وثقافته‭ ‬إما‭ ‬إلى‭ ‬عدوَ‭ ‬انعزالي‭ ‬أو‭ ‬يدفع‭ ‬به‭ ‬ليصبح‭ ‬شهيد‭ ‬اللغة‭ ‬والثقافة‭.‬

ومقابل‭ ‬هذا‭ ‬التيار‭ ‬نجد‭ ‬تيارا‭ ‬آخر‭ ‬يحدد‭ ‬الحلول‭ ‬لمجتمعاتنا‭ ‬في‭ ‬إجراء‭ ‬عمليات‭ ‬توفيقية‭ ‬للعمل‭ ‬على‭ ‬صياغة‭ ‬تركيبية‭ ‬تصالح‭ ‬بين‭ ‬القيم‭ ‬التنويرية‭ ‬للحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬وبين‭ ‬معطيات‭ ‬المدنية‭ ‬والحضارية‭ ‬الغربية‭ ‬مع‭ ‬التشديد‭ ‬على‭ ‬الإيجابي‭ ‬منها. ‬وبطبيعة‭ ‬الحال،‭ ‬فإن‭ ‬أطروحات‭ ‬هذا‭ ‬التيار‭ ‬تتميز‭ ‬بالتبسيط‭ ‬وبكثير‭ ‬من‭ ‬السذاجة،‭ ‬حيث‭ ‬أن‭ ‬بناء‭ ‬أسس‭ ‬أيّ‭ ‬تركيبة‭ ‬لا‭ ‬يتم‭ ‬ميكانيكيا‭ ‬أو‭ ‬بمجرّد‭ ‬رغبة،‭ ‬بل‭ ‬فإنها‭ ‬مشروطة‭ ‬بالحاجة‭ ‬التاريخية،‭ ‬وكثيرا‭ ‬ما‭ ‬يرافقها‭ ‬إسقاط‭ ‬عناصر‭ ‬من‭ ‬الموروث‭ ‬والتخلّي‭ ‬عنها‭ ‬عندما‭ ‬تكون‭ ‬غير‭ ‬قادرة‭ ‬أن‭ ‬تتلاءم‭ ‬مع‭ ‬بنية‭ ‬التركيبة‭ ‬الجديدة. ‬إن‭ ‬المنطلق‭ ‬البراغماتي‭ ‬يلفّ‭ ‬منطق‭ ‬هذا‭ ‬التيار،‭ ‬حيث‭ ‬تقول‭ ‬البديهيات‭ ‬بأن‭ ‬استيراد‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬الغريبة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬عملية‭ ‬معزولة‭ ‬معايير‭ ‬وآثارا‭ ‬عن‭ ‬القيم‭ ‬والآليات‭ ‬الثقافية‭ ‬التي‭ ‬أنتجتها‭ ‬وتنتجها‭. ‬و‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬استيراد‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬الغربية‭ ‬ليست‭ ‬عملية‭ ‬محايدة،‭ ‬بل‭ ‬إنها‭ ‬تفرض‭ ‬تغييرات‭ ‬في‭ ‬النفسية‭ ‬وفي‭ ‬العلاقات‭ ‬وفي‭ ‬أسلوب‭ ‬العيش،‭ ‬وكذلك‭ ‬فإنها‭ ‬تخلق‭ ‬تغييرات‭ ‬وتحويلات‭ ‬في‭ ‬أسلوب‭ ‬الإنتاج‭ ‬وعلاقات‭ ‬الإنتاج،‭ ‬أي‭ ‬أنها‭ ‬تخلق‭ ‬تغييرات‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬والبنية‭ ‬الثقافية‭.‬

ويمكن‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬هذه‭ ‬التيارات‭ ‬التي‭ ‬تعرضنا‭ ‬بإيجاز‭ ‬لأفكارها‭ ‬وتوجهاتها‭ ‬تساعد‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬ترسيخ‭ ‬الأزمة‭ ‬وتكرّس‭ ‬النقاش‭ ‬داخلها‭ ‬ووفقا‭ ‬لمنطقها‭ ‬الهووي‭ ‬المغلق‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬تعمل‭ ‬خارجها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تجاوزها‭ ‬بعد‭ ‬فهم‭ ‬واستيعاب‭ ‬وإدراك‭ ‬إشكالية‭ ‬بنية‭ ‬الأزمة‭ ‬نفسها. ‬وهكذا‭ ‬لا‭ ‬نفاجأ‭ ‬من‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬يقولون‭ ‬بأن الفكر‭ ‬العربي‭ ‬السائد‭ ‬عندنا‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬وضعه‭ ‬الحالي‭ ‬يتميز‭ ‬أنه‭ ‬إما‭ ‬هو‭ ‬صدى‭ ‬‮ ‬للأزمة،‭ ‬أو‭ ‬هو‭ ‬جزء‭ ‬منها،‭ ‬أو‭ ‬أنه‭ ‬فكر‭ ‬يسيّرها‭ ‬ولا‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬البدائل‭ ‬التي‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬الخروج‭ ‬منها‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.