‮ ‬جردة‭ ‬حساب‭ ‬للثورات‭ ‬العربية

الأحد 2016/05/01

‬الناشط ‭ ‬والباحث‭ ‬السياسي‭ ‬كويريت‭ ‬ديبوف‭ ‬‭(‬مواليد‭ ‬27‭ ‬أيار‭/‬مايو‭ ‬1974‭)‬‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬أبناء‭ ‬جيله‭ ‬الأوروبيين‭ ‬الذين‭ ‬انخرطوا‭ ‬في‭ ‬تناول‭ ‬شؤون‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية،‭ ‬وهو‭ ‬يشغل‭ ‬منصب‭ ‬ممثّل‭ ‬تحالف‭ ‬الليبراليين‭ ‬والديمقراطيين‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬،‭ ‬درس‭ ‬التاريخ‭ ‬القديم‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬لوفان‭ ‬وبولونيا،‭ ‬كما‭ ‬شغل‭ ‬منصب‭ ‬المستشار‭ ‬السياسي‭ ‬لرئيس‭ ‬بلدية‭ ‬لوفين‭ ‬وللبرلمان‭ ‬الفلمنكي‭ ‬والبرلمان‭ ‬البلجيكي‭ ‬والبرلمان‭ ‬الأوروبي‭ ‬كذلك،‭ ‬كما‭ ‬شغل‭ ‬منصب‭ ‬المستشار‭ ‬السياسي‭ ‬والناطق‭ ‬باسم‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬البلجيكي‭ ‬جاي‭ ‬فيرهوفشتات‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬الممتدة‭ ‬بين‭ ‬2003‭ ‬حتى‭ ‬عام‭ ‬2008،‭ ‬وأسس‭ ‬سنة‭ ‬2008‭ ‬مركز‭ ‬أبحاث‭ ‬ليبرالي‭ ‬يدعى‭ ‬مركز‭ ‬بروميثيوس‭.‬

جاي‭ ‬فيرهوفشتات،‭ ‬رئيس‭ ‬تحالف‭ ‬الليبراليين‭ ‬والديمقراطيين‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أوروبا،‭ ‬ورئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬البلجيكي‭ ‬السابق‭ ‬لبلجيكا‭ ‬‭(‬1999‭-‬‭ ‬2008‭)‬،‭ ‬والمنظّر‭ ‬للرؤية‭ ‬الجديدة‭ ‬للتعاون‭ ‬الأوروبي‭ ‬المتوسّطي‭.‬

‮ ‬في‭ ‬مقدّمته‭ ‬الطويلة‭ ‬للكتاب‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬تقلّ‭ ‬أهميّةً‭ ‬عن‭ ‬محتواه،‭ ‬يتقاطع‭ ‬جاي‭ ‬فيرهوفشتات‭ ‬رئيس‭ ‬تحالف‭ ‬الليبراليين‭ ‬والديمقراطيين‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أوروبا‭ ‬ورئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬السابق‭ ‬لبلجيكا‭ ‬‭(‬1999‭-‬‭ ‬2008‭)‬،‭ ‬والمنظّر‭ ‬للرؤية‭ ‬الجديدة‭ ‬للتعاون‭ ‬الأوروبي‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬يذهب‭ ‬إليه‭ ‬المؤلّف‭ ‬في‭ ‬عالمية‭ ‬الحدث‭ ‬العربي‭ ‬وأهميّته‭ ‬التاريخية‭ ‬مستعرِضاً‭ ‬الأحداث‭ ‬التي‭ ‬مثّلت‭ ‬علاماتٍ‭ ‬يمكن‭ ‬العودة‭ ‬لها‭ ‬بالخطف‭ ‬خلفاً‭ ‬لمراجعةِ‭ ‬التغييرات‭ ‬التي‭ ‬طرأت‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الجزء‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬بدءاً‭ ‬من‭ ‬سنة‭ ‬2009‭ ‬حين‭ ‬وقف‭ ‬باراك‭ ‬أوباما‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة‭ ‬وألقى‭ ‬كلمته‭ ‬التي‭ ‬حملت‭ ‬عنوان‭ ‬“بداية‭ ‬جديدة”‭ ‬وكيف‭ ‬أنّ‭ ‬أحداً‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يتوقع‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬تلاها،‭ ‬لم‭ ‬تنقض‭ ‬سنتان‭ ‬إلاّ‭ ‬وكانت‭ ‬عاصفة‭ ‬التغيير‭ ‬تضرب‭ ‬المنطقة‭ ‬مقتلعةً‭ ‬نظام‭ ‬الرئيس‭ ‬التونسي‭ ‬زين‭ ‬العابدين‭ ‬بن‭ ‬علي‭ ‬في‭ ‬سابقةٍ‭ ‬عربية‭ ‬فتحت‭ ‬الباب‭ ‬أمام‭ ‬سلسلة‭ ‬أحداث‭ ‬اضطرّت‭ ‬طائرات‭ ‬حلف‭ ‬الناتو‭ ‬لاحقاً‭ ‬لمغادرة‭ ‬مدرجاتها‭ ‬لأول‭ ‬مرّةٍ‭ ‬منذ‭ ‬أحداث‭ ‬كوسوفو‭ ‬نهاية‭ ‬التسعينات‭.‬

لقد‭ ‬ألهمت‭ ‬موجة‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭ ‬‭-‬كما‭ ‬يرى‭ ‬فيرهوفشتات‭-‬‭ ‬حراكاً‭ ‬عالمياً،‭ ‬فشاهدنا‭ ‬المظاهرات‭ ‬في‭ ‬البرازيل‭ ‬وفي‭ ‬تركيا‭ ‬وتايلاند‭ ‬والسودان‭ ‬والمكسيك‭ ‬وفنزويلا‭ ‬وأوكرانيا‭ ‬حتى‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬قلب‭ ‬نيويورك‭ ‬المالي‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬عُرِف‭ ‬بحركة‭ ‬احتلال‭ ‬وول‭ ‬ستريت‭ ‬احتجاجاً‭ ‬على‭ ‬انعدام‭ ‬الأخلاق‭ ‬في‭ ‬أسواق‭ ‬المال‭ ‬في‭ ‬مشهدٍ‭ ‬أعاد‭ ‬إلى‭ ‬الأذهان‭ ‬موجة‭ ‬الاحتجاجات‭ ‬التي‭ ‬شهدها‭ ‬العالم‭ ‬سنة‭ ‬1968‭ ‬ضدّ‭ ‬النخب‭ ‬العسكرية‭ ‬والسياسية‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬الرأسمالية‭.‬

كان‭ ‬تراجع‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وانكفائها‭ ‬عن‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬أبلغ‭ ‬تجليّات‭ ‬التغيّر‭ ‬في‭ ‬ميزان‭ ‬القوى‭ ‬العالمي‭ ‬بحسب‭ ‬فيرهوفشتات،‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬فقدت‭ ‬أمريكا‭ ‬رغبتها‭ ‬بالاهتمام‭ ‬بالاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬وفضّلت مبدأ‭ ‬“القيادة‭ ‬من‭ ‬الخلف”‮ ‬كما‭ ‬ظهر‭ ‬في‭ ‬الحملة‭ ‬الجويّة‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬الناتو‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬حيثُ‭ ‬وافقت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬على‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬اللحظة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬كما‭ ‬عكست‭ ‬الحرب‭ ‬الدائرة‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬تغيّر‭ ‬خارطة‭ ‬القوى‭ ‬العالمية،‭ ‬فبينما‭ ‬كانت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬توجيه‭ ‬ضربة‭ ‬عسكرية‭ ‬للنظام‭ ‬السوري‭ ‬في‭ ‬آب‭ ‬أغسطس‭ ‬سنة‭ ‬2013،‭ ‬دخلت‭ ‬روسيا‭ ‬على‭ ‬الخط‭ ‬لتغيّر‭ ‬الموقف‭ ‬بشكل‭ ‬دراماتيكي،‭ ‬فيما‭ ‬اعتُبِرَ‭ ‬دلالةً‭ ‬على‭ ‬أنّه‭ ‬ليس‭ ‬بإمكان‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬التصرف‭ ‬بمفردها‭ ‬وأن‭ ‬أيّ‭ ‬حلّ‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬يقتضي‭ ‬الموافقة‭ ‬الروسية‭ ‬وربما‭ ‬الإيرانية‭ ‬أيضاً،‭ ‬ومن‭ ‬المهم‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬مَيْل‭ ‬فيرهوشتات‭ ‬لتفسير‭ ‬الانكفاء‭ ‬الأميركي‭ ‬عن‭ ‬المنطقة‭ ‬على‭ ‬أنّه‭ ‬في‭ ‬جوهره‭ ‬انقلابٌ‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬الأميركية‭ ‬نحو‭ ‬الداخل‭ ‬إثر‭ ‬الأزمة‭ ‬المالية‭ ‬العالمية‭ ‬التي‭ ‬ضربت‭ ‬الاقتصاد‭ ‬العالمي‭ ‬وفي‭ ‬مقدمته‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الأميركي‭ ‬سنة‭ ‬2008‭.‬

بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬أوروبا‭ ‬كما‭ ‬يرى‭ ‬جاي‭ ‬فيرهوفشتات،‭ ‬فإنّها‭ ‬ظلّت‭ ‬متردّدة‭ ‬وحائرة‭ ‬أمام‭ ‬هذه‭ ‬الموجة‭ ‬العارمة‭ ‬من‭ ‬الحراك‭ ‬الشعبي،‭ ‬فتأخّرت‭ ‬عن‭ ‬إدراك‭ ‬ومواكبة‭ ‬الأحداث‭ ‬الدائرة‭ ‬في‭ ‬جوارها‭ ‬الجنوبي‭ ‬كما‭ ‬يسمّيه،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬استدركت‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬متأخر‭ ‬مع‭ ‬تطوّر‭ ‬الأمور‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬استجابتها‭ ‬وفق‭ ‬تقييمه‭ ‬ظلّت‭ ‬دون‭ ‬مستوى‭ ‬الحدث‭ ‬إذ‭ ‬اكتفت‭ ‬بإضافة‭ ‬بضعة‭ ‬ملايين‭ ‬إلى‭ ‬ميزانيتها‭ ‬المخصصة‭ ‬لدعم‭ ‬التغيير‭ ‬والدمقرطة‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬لقد‭ ‬توقّعت‭ ‬شعوب‭ ‬المتوسط‭ ‬الشريكة‭ ‬كما‭ ‬يسمّيها‭ ‬دعماً‭ ‬حقيقياً‭ ‬من‭ ‬جيرانها‭ ‬الأوروبيين‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬تناضل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬قيم‭ ‬يفترض‭ ‬أنها‭ ‬أوروبية‭ ‬بالمحصلة،‭ ‬وبدلاً‭ ‬من‭ ‬مناصرته‭ ‬العلنية‭ ‬للمتظاهرين‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬التحرير‭ ‬اكتفى‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬بتكرار‭ ‬دعوته‭ ‬كافة‭ ‬الأطراف‭ ‬لنبذ‭ ‬العنف‭! ‬يقول‭ ‬فيرهوفشتات‭ ‬“ليس‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نتفاجأ‭ ‬إذن‭ ‬حين‭ ‬يقال‭ ‬عن‭ ‬سياستنا‭ ‬إنها‭ ‬مزدوجة‭ ‬المعايير”،‭ ‬لقد‭ ‬كانَ‭ ‬من‭ ‬نتائج‭ ‬هذا‭ ‬التخلّف‭ ‬عن‭ ‬الانخراط‭ ‬الفعلي‭ ‬في‭ ‬إزاحة‭ ‬الدكتاتوريات‭ ‬التي‭ ‬لطالما‭ ‬حالت‭ ‬دون‭ ‬انتشار‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬تبشّر‭ ‬بها‭ ‬الشراكة‭ ‬الأوروبية‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الأمر؛‭ ‬أنْ‭ ‬تدخلت‭ ‬أطراف‭ ‬أخرى‭ ‬بأجندات‭ ‬لا‭ ‬تولي‭ ‬عملية‭ ‬التغيير‭ ‬الديمقراطي‭ ‬أولوية‭ ‬في‭ ‬حساباتها،على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬شرعت‭ ‬قطر‭ ‬في‭ ‬دعمها‭ ‬لتيار‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمين‭ ‬وشبكاته‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬بأسرها‭ ‬من‭ ‬المغرب‭ ‬إلى‭ ‬سوريا،‭ ‬ووقفت‭ ‬وراء‭ ‬الإخوان‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وقدّمت‭ ‬لهم‭ ‬دعماً‭ ‬مالياً‭ ‬سخيّاً،‭ ‬وحين‭ ‬فشلوا‭ ‬في‭ ‬الانتخابات‭ ‬الليبية‭ ‬تكفّلت‭ ‬بدعم‭ ‬الميليشيات‭ ‬المسلحة‭ ‬التي‭ ‬ستقف‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬الحكومة‭ ‬الجديدة‭.‬

تكمن أهمية الكتاب في طابعه الميداني أولا كونه يقدم مسحا شاملا لخارطة الحراك العربي الذي دشنته لحظة "البوعزيز" من وجهة نظر غربية

ويرى‭ ‬فيرهوفشتات‭ ‬بأنّ‭ ‬الأمر‭ ‬مختلف‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الأوروبيين،‭ ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬لدى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬ترف‭ ‬الانسحاب‭ ‬الطوعي‭ ‬من‭ ‬المنطقة،‭ ‬فإنّ‭ ‬أوروبا‭ ‬محكومة‭ ‬بالبقاء‭ ‬فيها‭ ‬إذْ‭ ‬أنّها‭ ‬تشكّل‭ ‬حديقتها‭ ‬الخلفية‭ ‬وعليها‭ ‬أن‭ ‬تبادر‭ ‬لمواجهة‭ ‬التحديات‭ ‬التي‭ ‬أثارتها‭ ‬أحداث‭ ‬السّنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬بدءاً‭ ‬من‭ ‬طوفان‭ ‬الهجرات‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬التحديات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والأمنية،‭ ‬علينا‭ ‬إذن‭ ‬أن‭ ‬نسبح‭ ‬ضدّ‭ ‬التيار‭-‬كما‭ ‬يقول‭-‬‭ ‬ويختتم‭ ‬فيرهوفشتات‭ ‬مقدّمته‭ ‬التي‭ ‬امتدّت‭ ‬على‭ ‬مساحة‭ ‬14‭ ‬صفحة‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬إلى‭ ‬التأكيد‭ ‬على‭ ‬حيوية‭ ‬مفهوم‭ ‬‭(‬المجتمع‭ ‬المتوسطي‭ ‬للجوار‭ ‬الجنوبي‭)‬‭ ‬والذي‭ ‬تتبنّاه‭ ‬كتلة‭ ‬تحالف‭ ‬الليبراليين‭ ‬والديمقراطيين‭ ‬في‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬حيثُ‭ ‬يعتبر‭ ‬فيرهوفشتات‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬منظّريه‭.‬

يختتم‭ ‬فيرهوفشتات‭ ‬تقديمه‭ ‬للكتاب‭ ‬بالتأكيد‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬ما‭ ‬نشهده‭ ‬اليوم‭ ‬ليس‭ ‬سوى‭ ‬بداية‭ ‬التحوّل‭ ‬نحو‭ ‬الديمقراطية‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬وأن‭ ‬الشعوب‭ ‬التي‭ ‬ثارت‭ ‬لن‭ ‬تقبل‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الأوضاع‭ ‬السابقة‭ ‬مهما‭ ‬كلّفها‭ ‬الأمر،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬التحدّيات‭ ‬التي‭ ‬تواجه‭ ‬تلك‭ ‬الشعوب‭ ‬ليست‭ ‬بالسهلة،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬وأنّ‭ ‬الدكتاتوريات‭ ‬التي‭ ‬حكمتها‭ ‬أمعنت‭ ‬في‭ ‬إنهاك‭ ‬اقتصادياتها‭ ‬وأحالتها‭ ‬بلداناً‭ ‬محطّمة،‭ ‬لذا‭ ‬فإنّ‭ ‬التعليم‭ ‬بحسب‭ ‬فيرهوفشتات‭ ‬أولوية‭ ‬أساسية‭ ‬لتأهيل‭ ‬تلك‭ ‬البلدان‭ ‬وانخراطها‭ ‬في‭ ‬المشروع‭ ‬الأوروبي‭ ‬المتوسّطي،‭ ‬مع‭ ‬إشارته‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الجانب‭ ‬هو‭ ‬أكثر‭ ‬التحديات‭ ‬تعقيداً‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭.‬

تونس‭ ‬كما‭ ‬يراها‭ ‬فيرهوفشتات‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تشكّل‭ ‬نموذج‭ ‬انطلاق‭ ‬في‭ ‬الشراكة‭ ‬المقترحة‭ ‬ويمكنه‭ ‬جذب‭ ‬الدول‭ ‬الأخرى‭ ‬تماماً‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬سلوفينيا‭ ‬بعد‭ ‬تفكّك‭ ‬يوغوسلافيا،‭ ‬وكما‭ ‬شكّلت‭ ‬خطة‭ ‬مارشال‭ ‬أفضل‭ ‬استثمار‭ ‬أميركي‭ ‬في‭ ‬أوروبا،‭ ‬كذلك‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مشروع‭ ‬المجتمع‭ ‬المتوسطي‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬سوف‭ ‬تشكّله‭ ‬وهي‭ ‬الدول‭ ‬التالية‭: ‬المغرب،‭ ‬الجزائر،‭ ‬ليبيا،‭ ‬تونس،‭ ‬فلسطين،‭ ‬الأردن،‭ ‬لبنان‭ ‬وسوريا‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭.‬

يستهّلُّ‭ ‬ديبوف‭ ‬كتابه‭ ‬بالتأكيد‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬ما‭ ‬يشهده‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬هو‭ ‬ثورةٌ‭ ‬حقيقية‭ ‬وبأنّ‭ ‬الرّكون‭ ‬إلى‭ ‬وصف‭ ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬التاريخي‭ ‬بأنّه‭ ‬مجرّد‭ ‬ربيع‭ ‬عربي‭ ‬إنّما‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬مغالطة‭ ‬منهجية‭ ‬إذْ‭ ‬أنّ‭ ‬هذه‭ ‬الموجة‭ ‬التغييرية‭ ‬ليست‭ ‬موسمية‭ ‬ولا‭ ‬ترتبط‭ ‬بحدثٍ‭ ‬مباشر‭ ‬بعينه‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬الحال‭ ‬حين‭ ‬بدأ‭ ‬الإعلام‭ ‬يتداول‭ ‬مصطلح‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭ ‬لأوّل‭ ‬مرّة‭ ‬إثر‭ ‬اغتيال‭ ‬الزعيم‭ ‬اللبناني‭ ‬رفيق‭ ‬الحريري‭ ‬سنة‭ ‬2005‭ ‬وصعود‭ ‬تيّار‭ ‬قوى‭ ‬14‭ ‬آذار‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬فإنّ‭ ‬ما‭ ‬نشهده‭ ‬الآن‭ ‬‭-‬وفقاً‭ ‬لديبوف‭-‬‭ ‬ثورة‭ ‬تاريخية‭ ‬لا‭ ‬تنقصها‭ ‬العالمية‭ ‬أبداً‭ ‬ولا‭ ‬تختلف‭ ‬بجوهريّتها‭ ‬عن‭ ‬لحظة‭ ‬سقوط‭ ‬برلين‭ ‬سنة‭ ‬1989،‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬مفاجئةً‭ ‬وصادِمةً‭ ‬وسط‭ ‬ارتباكٍ‭ ‬عالميّ‭ ‬حينَ‭ ‬عَبَرَ‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬المواطنين‭ ‬برلين‭ ‬الشرقية‭ ‬مساء‭ ‬التاسع‭ ‬من‭ ‬نوفمبر‭ ‬وأسقطوا‭ ‬ذلك‭ ‬الرمز‭ ‬الذي‭ ‬لطالما‭ ‬كرّس‭ ‬الفصل‭ ‬والظلم‭ ‬والدكتاتورية،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الانهيار‭ ‬مجرّد‭ ‬انهيار‭ ‬جدارٍ‭ ‬فقط،‭ ‬إذْ‭ ‬تداعت‭ ‬إثره‭ ‬الدكتاتوريات‭ ‬الشيوعية‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬الشرقية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬بولندا‭ ‬والمجر‭ ‬وتشيكوسلوفاكيا‭ ‬ويوغوسلافيا‭ ‬ورومانيا‭ ‬وبلغاريا‭ ‬وليتوانيا‭ ‬ولاتفيا‭ ‬وأستونيا‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬نفسه‭ ‬سنة‭ ‬1991‭ ‬في‭ ‬لحظةٍ‭ ‬وضعت‭ ‬حدّاً‭ ‬لحرب‭ ‬تاريخية‭ ‬بين‭ ‬الشيوعية‭ ‬والرأسمالية‭ ‬وبين‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والدكتاتورية‭ ‬وألهمت‭ ‬عالم‭ ‬السياسة‭ ‬والاقتصاد‭ ‬فرانسيس‭ ‬فوكوياما‭ ‬لكتابة‭ ‬مؤلّفه‭ ‬العظيم‭ ‬“نهاية‭ ‬التاريخ‭ ‬والإنسان‭ ‬الأخير”‭ ‬وقد‭ ‬بدا‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬الحين‭ ‬بأنّ‭ ‬المسألة‭ ‬ستحتاج‭ ‬بعض‭ ‬الوقت‭ ‬ريثما‭ ‬تتحوّل‭ ‬تلك‭ ‬البلدان‭ ‬نحو‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والانفتاح‭ ‬والأسواق‭ ‬الحرّة،‭ ‬وفي‭ ‬الواقع‭ ‬فإنّ‭ ‬الأمر‭ ‬لم‭ ‬يستغرِق‭ ‬سوى‭ ‬سنوات‭ ‬قليلة‭ ‬حتى‭ ‬انطلقت‭ ‬الموجة‭ ‬الثورية‭ ‬الثانية‭ ‬من‭ ‬بلغراد‭ ‬وطالت‭ ‬ديكتاتور‭ ‬جورجيا‭ ‬شيفرنادزه‭ ‬لتثبت‭ ‬صدق‭ ‬نبوءة‭ ‬فوكوياما‭.‬


لوحة: محمد أبو الوفا

لا‭ ‬يتحدّث‭ ‬الكاتب‭ ‬كباحثٍ‭ ‬يقطن‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬الأوروبي‭ ‬ويرصد‭ ‬مشاكل‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬نافذة‭ ‬مكتبه‭ ‬الدافئ‭ ‬مستعجلاً‭ ‬إطلاقَ‭ ‬الأحكام‭ ‬التنميطيّة‭ ‬أو‭ ‬مأخوذاً‭ ‬بتلفيقات‭ ‬الميديا‭ ‬ومركزّيّتها‭ ‬الانتقائية،‭ ‬إنّما‭ ‬كخبير‭ ‬ميداني‭ ‬وصاحب‭ ‬رأي‭ ‬ملتزم،‭ ‬قرّر‭ ‬‭-‬كما‭ ‬يقول‭-‬‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬يفوته‭ ‬هذا‭ ‬الحدث‭ ‬التاريخي‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬فحزم‭ ‬حقائبه‭ ‬ومضى‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬ونزل‭ ‬إلى‭ ‬ميدان‭ ‬التحرير‭ ‬مع‭ ‬المتظاهرين،‭ ‬كذلك‭ ‬غامر‭ ‬في‭ ‬الاندفاع‭ ‬إلى‭ ‬الخطوط‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬الأحداث‭ ‬السورية‭ ‬وتنقّل‭ ‬بين‭ ‬مناطق‭ ‬الشمال‭ ‬السوري،‭ ‬وقف‭ ‬مع‭ ‬المقاتلين‭ ‬على‭ ‬خطوط‭ ‬النار‭ ‬وعايش‭ ‬اللاجئين‭ ‬في‭ ‬مخيماتهم‭ ‬ليرصد‭ ‬هذا‭ ‬التسونامي‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬اجتاح‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬والعالم،‭ ‬كما‭ ‬لا‭ ‬يفوته‭ ‬أن‭ ‬يسجّل‭ ‬في‭ ‬مقدّمة‭ ‬كتابه‭ ‬شكراً‭ ‬لشخصياتٍ‭ ‬عربية‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬إغناء‭ ‬محتوى‭ ‬كتابه‭ ‬كما‭ ‬يقول،‭ ‬ومنها‭ ‬عمرو‭ ‬موسى،‭ ‬أحمد‭ ‬الحريري،‭ ‬فواز‭ ‬تلّو‭ ‬وآخرون‭.‬

يدرك‭ ‬الكاتب‭ ‬جيّداً‭ ‬حسب‭ ‬ما‭ ‬يشير‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬مستهلّ‭ ‬كتابه‭ ‬أنّ‭ ‬التحولات‭ ‬التاريخية‭ ‬كالتي‭ ‬يشهدها‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬ستتطلّب‭ ‬وقتاً‭ ‬كي‭ ‬تؤتي‭ ‬أُكُلَها‭ ‬مستنداً‭ ‬إلى‭ ‬تجارب‭ ‬بلدان‭ ‬أوروبا‭ ‬الشرقية‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تتحول‭ ‬لبلدان‭ ‬ديمقراطية‭ ‬بين‭ ‬عشيّة‭ ‬وضحاها،‭ ‬لقد‭ ‬اقتضى‭ ‬الأمر‭ ‬وقتاً‭ ‬وجهداً‭ ‬حتى‭ ‬تمكّن‭ ‬البولنديون‭ ‬من‭ ‬اختيار‭ ‬مرشّحيهم‭ ‬للبرلمان‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬تسعين‭ ‬حزباً‭ ‬سياسيّاً‭ ‬بينها‭ ‬حزبٌ‭ ‬لشاربي‭ ‬البيرة‭! ‬وعليه‭ ‬فإنّه‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬تفهّمه‭ ‬للخلفيّة‭ ‬التي‭ ‬دفعت‭ ‬بالسفارة‭ ‬المصرية‭ ‬في‭ ‬بروكسيل‭ ‬للاتصال‭ ‬به‭ ‬بعد‭ ‬وصوله‭ ‬مع‭ ‬عائلته‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬في‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬سبتمبر‭ ‬عام‭ ‬2011‭ ‬‭(‬بعد‭ ‬مرور‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬سبعة‭ ‬أشهر‭ ‬على‭ ‬سقوط‭ ‬حكم‭ ‬حسني‭ ‬مبارك‭)‬‭ ‬وذلك‭ ‬لإبلاغه‭ ‬بعدم‭ ‬ارتياح‭ ‬السلطات‭ ‬المصرية‭ ‬لنشاطاته‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وكيف‭ ‬أبلغه‭ ‬أحد‭ ‬أصدقائه‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬صلة‭ ‬جيدة‭ ‬بوزيرة‭ ‬التعاون‭ ‬الدولي‭ ‬المصرية‭ ‬بأنّ‭ ‬السلطات‭ ‬المصرية‭ ‬تعرف‭ ‬كلّ‭ ‬شيء‭ ‬عنه،‭ ‬بدءاً‭ ‬من‭ ‬المدارس‭ ‬التي‭ ‬اختارها‭ ‬لأولاده‭ ‬وليس‭ ‬انتهاء‭ ‬بموقع‭ ‬البيت‭ ‬الذي‭ ‬سينزل‭ ‬فيه،‭ ‬وبأنّ‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يحزم‭ ‬حقائبه‭ ‬ويغادر‭ ‬مصر،‭ ‬لم‭ ‬يفاجئ‭ ‬حصولُ‭ ‬ذلك‭ ‬ديبوف‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬مرور‭ ‬سبعة‭ ‬أشهر‭ ‬على‭ ‬سقوط‭ ‬نظام‭ ‬حسني‭ ‬مبارك‭.‬

“كنتُ‭ ‬ما‭ ‬أزال‭ ‬في‭ ‬السادسة‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬عمري‭ ‬يوم‭ ‬سقط‭ ‬جدار‭ ‬برلين”‭ ‬‭-‬يقول‭ ‬ديبوف‭-‬‭ ‬لذلك‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬لي‭ ‬فرصة‭ ‬قيادة‭ ‬سيّارتي‭ ‬إلى‭ ‬الحدود‭ ‬الألمانية‭ ‬لمشاركة‭ ‬آلاف‭ ‬الناس‭ ‬الذين‭ ‬توافدوا‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬أوروبا‭ ‬للاحتفال‭ ‬بهذا‭ ‬الحدث‭ ‬التاريخيّ،‭ ‬إلاّ‭ ‬أنني‭ ‬قرّرت‭ ‬ومنذ‭ ‬أن‭ ‬أبلغني‭ ‬صديقي‭ ‬التونسيّ‭ ‬فيما‭ ‬كنّا‭ ‬نتناول‭ ‬القهوة‭ ‬في‭ ‬أمستردام‭ ‬بأنّ‭ ‬الشخص‭ ‬الذي‭ ‬تحدّث‭ ‬إليه‭ ‬على‭ ‬الهاتف‭ ‬منذ‭ ‬قليل‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬سوى‭ ‬والده‭ ‬يبلغه‭ ‬بأنّ‭ ‬الرئيس‭ ‬التونسي‭ ‬زين‭ ‬العابدين‭ ‬بن‭ ‬علي‭ ‬سيعلن‭ ‬استقالته‭ ‬من‭ ‬منصبه‭ ‬خلال‭ ‬الساعات‭ ‬القادمة،‭ ‬وبالفعل‭ ‬كنّا‭ ‬ما‭ ‬نزال‭ ‬في‭ ‬قطار‭ ‬العودة‭ ‬من‭ ‬أمستردام‭ ‬إلى‭ ‬بروكسيل‭ ‬حين‭ ‬وصلتنا‭ ‬الأخبار‭ ‬بفرار‭ ‬بن‭ ‬علي‭ ‬من‭ ‬تونس،‭ ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬اللحظة‭ ‬صادمةً‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليّ،‭ ‬لم‭ ‬نتوقّع‭ ‬نحن‭ ‬الذين‭ ‬تابعنا‭ ‬ما‭ ‬وصلنا‭ ‬على‭ ‬أنّه‭ ‬“أبناء‭ ‬كاذبة”‭ ‬حول‭ ‬احتجاجات‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬محدودة‭ ‬من‭ ‬المدن‭ ‬التونسية،‭ ‬كانت‭ ‬اللحظة‭ ‬فارِقة‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬المؤلّف‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يعُد‭ ‬في‭ ‬السادسة‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬العمر،‭ ‬ولم‭ ‬يستغرق‭ ‬الأمر‭ ‬وقتاً‭ ‬طويلاً‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تصل‭ ‬موجة‭ ‬الاحتجاجات‭ ‬إلى‭ ‬مختلف‭ ‬أرجاء‭ ‬الشارع‭ ‬العربي،‭ ‬فمن‭ ‬مصر‭ ‬إلى‭ ‬اليمن‭ ‬وليبيا‭ ‬والبحرين‭ ‬والمغرب‭ ‬والأردن‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬سوريا،‮ ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬المنطقي‭ ‬جدّاً‭ ‬وصف‭ ‬هذه‭ ‬الأحداث‭ ‬بالموجة‭ ‬الثورية‭ ‬الثالثة التي‭ ‬تضرب‭ ‬النظام‭ ‬الدكتاتوري‭ ‬الذي‭ ‬هيمن‭ ‬على‭ ‬دول‭ ‬عربية‭ ‬عديدة‭ ‬تحت‭ ‬عباءة‭ ‬الحلم‭ ‬الاشتراكي‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬وإزاحة‭ ‬الملك‭ ‬فاروق‭ ‬وبزوغ‭ ‬الناصرية‭ ‬سنة‭ ‬1952‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬فصلها‭ ‬جميعاً‭ ‬عن‭ ‬قيام‭ ‬النظام‭ ‬العسكري‭ ‬الاشتراكي‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬وهيمنة‭ ‬دكتاتوريات‭ ‬العسكرتارية‭ ‬البعثية‭ ‬على‭ ‬سوريا‭ ‬والعراق‭ ‬ممثلةً‭ ‬بنظامي‭ ‬حافظ‭ ‬الأسد‭ ‬وصدام‭ ‬حسين‭.‬

يسوق‭ ‬المؤلف‭ ‬مقارنات‭ ‬بين‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية‭ ‬عام‭ ‬1789‭ ‬والثورات‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬انطلقت‭ ‬عام‭ ‬2011،‭ ‬ليقول‭ ‬بأنّ‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية‭ ‬احتاجت‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬86‭ ‬عاماً‭ ‬و14‭ ‬دستورا‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬ديمقراطية‭ ‬مستقرّة،‮ ‬كذلك‭ ‬تشترك‭ ‬الثورات‭ ‬العربية‭ ‬مع‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية‭ ‬في‭ ‬كونها‭ ‬جاءت‭ ‬ردّاً‭ ‬على‭ ‬الفساد‭ ‬والاستبداد‭ ‬والدولة‭ ‬البوليسية‭ ‬القمعية،‭ ‬تتشاطر‭ ‬الثورتان‭ ‬حلماً‭ ‬مشروعاً‭ ‬في‭ ‬المطالبة‭ ‬بإنهاء‭ ‬الاستبداد‭ ‬وتكريس‭ ‬الحرية‭ ‬والكرامة‭ ‬والعدالة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬ليعاود‭ ‬التأكيد‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭ ‬الفارقة‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬أهميةً‭ ‬عن‭ ‬لحظة‭ ‬الثورة‭ ‬ضد‭ ‬الاستبداد‭ ‬الشيوعي‭ ‬قبل‭ ‬نحو‭ ‬مئتي‭ ‬سنة،‭ ‬لذا‭ ‬فإنّه‭ ‬يبثُّ‭ ‬نداءً‭ ‬علنيّاً‭ ‬بضرورة‭ ‬مساندة‭ ‬الربيع‭ ‬العربيّ‭ ‬ومنحه‭ ‬المساعدة‭ ‬والوقت‭.‬

بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬أوروبا‭ ‬كما‭ ‬يرى‭ ‬جاي‭ ‬فيرهوفشتات،‭ ‬فإنّها‭ ‬ظلّت‭ ‬متردّدة‭ ‬وحائرة‭ ‬أمام‭ ‬هذه‭ ‬الموجة‭ ‬العارمة‭ ‬من‭ ‬الحراك‭ ‬الشعبي

كما‭ ‬يذكّرنا‭ ‬ديبوف‭ ‬بحقائق‭ ‬ديموغرافية‭ ‬لها‭ ‬دلالاتها‭ ‬المؤثّرة‭ ‬في‭ ‬تأمين‭ ‬قوّة‭ ‬الدفع‭ ‬لهذه‭ ‬الموجة‭ ‬التغييرية،‭ ‬إذ‭ ‬أنّ‭ ‬نصف‭ ‬سكّان‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬هم‭ ‬دون‭ ‬سن‭ ‬الخامسة‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬العمر،‭ ‬تبدو‭ ‬التركيبة‭ ‬السكانية‭ ‬مسألةً‭ ‬حاسمةً‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬شكّلَت‭ ‬كتلةً‭ ‬حرجةً‭ ‬لانتفاضة‭ ‬الشعوب‭ ‬وانقلابها‭ ‬على‭ ‬واقعها‭ ‬المتردّي،‭ ‬يتطلّع‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشباب‭ ‬إلى‭ ‬وظائف‭ ‬وحياة‭ ‬كريمة،‭ ‬كما‭ ‬يمسكون‭ ‬بأدواتٍ‭ ‬بالغة‭ ‬التأثير‭ ‬تتمثّل‭ ‬في‭ ‬إمكانية‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬شبكة‭ ‬الإنترنت‭ ‬واستخدام‭ ‬أداتها‭ ‬الأكثر‭ ‬فعاليةً‭ ‬اليوم‭ ‬وهي‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬تشكّل‭ ‬أداة‭ ‬تعبئة‭ ‬سياسيّة‭ ‬حاسمة‭ ‬وكان‭ ‬لها‭ ‬الدور‭ ‬البارز‭ ‬في‭ ‬مراكمة‭ ‬وتجميع‭ ‬الأصوات‭ ‬الفردية‭ ‬التي‭ ‬نحتت‭ ‬لحظة‭ ‬الخروج‭ ‬إلى‭ ‬الشارع‭ ‬والمطالبة‭ ‬بالتغيير‭ ‬والحقوق‭ ‬المسلوبة‭ ‬ودشَّنَت‭ ‬بداية‭ ‬مرحلةٍ‭ ‬من‭ ‬التحولات‭ ‬التاريخية‭ ‬العميقة‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬والعالم‭ ‬على‭ ‬حدّ‭ ‬سواء‭.‬

ينتقل‭ ‬الكتاب‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬سرد‭ ‬التسلسل‭ ‬الزمني‭ ‬للثورات‭ ‬العربية‭ ‬منذ‭ ‬أضرم‭ ‬محمد‭ ‬البوعزيزي‭ ‬النار‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬17‭ ‬ديسمبر‭ ‬عام‭ ‬2010،‭ ‬مقدّماً‭ ‬حياته‭ ‬قرباناً‭ ‬للثورات‭ ‬وحتى‭ ‬اندلاع‭ ‬الحرب‭ ‬السورية‭ ‬الشرسة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬مارس‭ ‬النظام‭ ‬السوري‭ ‬كافة‭ ‬أشكال‭ ‬القمع‭ ‬والتنكيل‭ ‬ضد‭ ‬الاحتجاجات‭ ‬السلمية‭ ‬مروراً‭ ‬بفشل‭ ‬تجربة‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وعودة‭ ‬العسكر‭ ‬إلى‭ ‬الحكم‭ ‬عبْر‭ ‬الرئيس‭ ‬الجديد‭ ‬عبدالفتاح‭ ‬السيسي‭.‬

يفرِد‭ ‬الكتاب‭ ‬مساحته‭ ‬الأبرز‭ ‬للثورة‭ ‬المصرية‭ ‬وما‭ ‬تلاها‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬مقدّماً‭ ‬قراءات‭ ‬تحليلية‭ ‬في‭ ‬تجربة‭ ‬حكم‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمين‭ ‬والرئيس‭ ‬محمد‭ ‬مرسي‭ ‬واستشرافات‭ ‬ترصد‭ ‬النشاط‭ ‬السياسي‭ ‬آنذاك‭ ‬وتداعياته‭ ‬الدراماتيكية‭ ‬مؤكّداً‭ ‬مراراً‭ ‬على‭ ‬قناعته‭ ‬بأنّ‭ ‬الانتصار‭ ‬سيكون‭ ‬للديمقراطية‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الأمر‭ ‬وأنّ‭ ‬ما‭ ‬بدأ‭ ‬في‭ ‬“ثورة‭ ‬تويتر”‭ ‬سوف‭ ‬يقود‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬إلى‭ ‬“ديمقراطية‭ ‬تويتر”،‭ ‬كما‭ ‬يناقش‭ ‬الكتاب‭ ‬أبعاد‭ ‬الصراع‭ ‬السياسي‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬من‭ ‬مصر‭ ‬وتونس‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ينتقل‭ ‬إلى‭ ‬المسألة‭ ‬السورية‭ ‬كمحور‭ ‬رئيسي‭ ‬آخر‭.‬

‮ ‬في‭ ‬الشأن‭ ‬السوري‭ ‬فإنّ‭ ‬الكاتب‭ ‬يحثُّ‭ ‬المجموعة‭ ‬الأوروبية‭ ‬على‭ ‬ضرورة‭ ‬تقديم‭ ‬الدعم‭ ‬للجيش‭ ‬الحرّ‭ ‬وتزويده‭ ‬بوسائل‭ ‬مضادّة‭ ‬للطائرات‭ ‬لمواجهة‭ ‬الدعم‭ ‬اللاّمحدود‭ ‬الذي‭ ‬يتلقّاه‭ ‬النظام‭ ‬من‭ ‬حلفائه‭ ‬روسيا‭ ‬وإيران‭ ‬وبضرورة‭ ‬إقامة‭ ‬مناطق‭ ‬حظر‭ ‬طيران‭ ‬تشكّل‭ ‬جزر‭ ‬آمنة‭ ‬للسوريين‭ ‬الذين‭ ‬فرّوا‭ ‬من‭ ‬ويلات‭ ‬الحرب‭ ‬المدمّرة،‭ ‬إذْ‭ ‬أنّه‭ ‬دون‭ ‬مناطق‭ ‬حظر‭ ‬الطيران‭ ‬التي‭ ‬تمّ‭ ‬فرضها‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬لكنّا‭ ‬شاهدنا‭ ‬مجازر‭ ‬كتلك‭ ‬التي‭ ‬شاهدناها‭ ‬في‭ ‬سراييفو‭ ‬وسربرنيتشا،‭ ‬وأنّ‭ ‬التردد‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬هذا‭ ‬الدعم‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يغذّي‭ ‬القوى‭ ‬المتطرفة‭ ‬التي‭ ‬تتطلّع‭ ‬للهيمنة‭ ‬على‭ ‬مجريات‭ ‬الأمور‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬وبأنّ‭ ‬تخلّي‭ ‬الغرب‭ ‬عن‭ ‬مساعدة‭ ‬الجيش‭ ‬الحرّ‭ ‬لصالح‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬محاربة‭ ‬تنظيم‭ ‬داعش‭ ‬إنّما‭ ‬كان‭ ‬بمثابة‭ ‬مساعدة‭ ‬للأسد‭ ‬الذي‭ ‬يعتبر‭ ‬المشكلة‭ ‬وليس‭ ‬الحلّ‭ ‬في‭ ‬سوريا‭.‬

ربما‭ ‬تكمن‭ ‬أهمية‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬طابعه‭ ‬الميداني‭ ‬أوّلاً‭ ‬كونه‭ ‬يقدِّم‭ ‬مسحاً‭ ‬شاملاً‭ ‬لخارطة‭ ‬الحراك‭ ‬العربي‭ ‬الذي‭ ‬دشّنته‭ ‬لحظة‭ ‬“البوعزيزي”‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظرٍ‭ ‬غربية؛‭ ‬وفي‭ ‬كون‭ ‬مؤلّفه‭ ‬غير‭ ‬عربي‭ ‬ثانياً،‭ ‬كما‭ ‬أنّه‭ ‬لا‭ ‬يأتي‭ ‬من‭ ‬الهامش‭ ‬النظري‭ ‬لمادّته،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬فاعل‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬السياسة‭ ‬الشرق‭-‬أوسطية‭ ‬لتحالف‭ ‬الليبراليين‭ ‬الديمقراطيين‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أوروبا‭ ‬ومندوبها‭ ‬إلى‭ ‬المنطقة،‭ ‬كما‭ ‬أنّه‭ ‬وإلى‭ ‬جانب‭ ‬ما‭ ‬يرصده‭ ‬من‭ ‬تفاعلاتٍ‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع،‭ ‬يقدّم‭ ‬مساهمةً‭ ‬هامة‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬النظرة‭ ‬الأوروبية‭ ‬لظاهرة‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭ ‬وثوراته‭ ‬اللاحقة،‭ ‬وإنْ‭ ‬كان‭ ‬يؤخذ‭ ‬على‭ ‬محتواه‭ ‬وعلى‭ ‬تقديمه‭ ‬الذي‭ ‬وضعه‭ ‬فيرهوفشتات‭ ‬وروّج‭ ‬لفكرة‭ ‬المجتمع‭ ‬المتوسطي؛‭ ‬غياب‭ ‬نقاشٍ‭ ‬حقيقيّ‭ ‬لا‭ ‬مفرّ‭ ‬منه‭ ‬حول‭ ‬مركزية‭ ‬المسألة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬وحول‭ ‬السياسات‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬التي‭ ‬تسير‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬مغاير‭ ‬تماماً‭ ‬لمفهوم‭ ‬الشراكة‭ ‬المقترحة‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.