يان ياب دو راوتر الاستشراق والإسلاموفوبيا
كيف ترى الاستشراق راهنا كمؤسسة أكاديمية أو جهاز معرفة وسيطرة؟
راوتر: الاستشراق كمصطلح لم يعد يتطابق مع الباحثين في مواضيع الإسلام والثقافة العربية والسياسة في الشرق الأوسط، ولم يعد يعني ما عناه في الماضي. المستشرقون في القرن التاسع عشر، كانوا يسافرون إلى الشرق الأوسط ويقدمون شروحات وتفسيرات لما يحدث هناك من وجهة نظر غربية. هذه كانت روح القرن التاسع عشر عندما كانت أوروبا أكبر قوة في العالم، وبها قوّتان عظميان، هما إنكلترا وفرنسا، وكانت وجهة نظرنا هي السائدة. في تلك الحقبة، كنا نعتبر الشرقيين أطفالا ونحن نقدّم لهم العلم والمعرفة والمساعدة، ونعتبر ثقافتنا الأفضل. الآن اختلف الأمر، رغم أنه ما زال هناك باحثون لديهم نفس النظرة الفوقية، لكن أكثر الباحثين يعرفون اليوم أن أوروبا فقدت بريقها، وأنوارها، خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية. هناك الآن قوى صاعدة كثيرة: روسيا، الصين..
وأوروبا، لا تزال قوة اقتصادية وازنة، لكنها ليست القوة الوحيدة، نرى صعود روسيا، والصين، والبرازيل، والهند.
أوروبا تغيرت
من الواضح أن تراجع مكانة أوروبا كقوة عظمى على مواقفها من قضايا العالم العربي؟
راوتر: الباحثون الأوروبيون الذين يرفضون الاعتراف بأن أوروبا لم تعد كما كانت، ولم تعد القوة السائدة أو المسيطرة الوحيدة، يعيشون خارج الحقيقة، وبعضهم لا يزال يملك نفس النظرة الراديكالية، لكنهم أقلية. الباحثون عموما يعون أن أوروبا تغيرت، لكن السياسيين لا يزالون يعيشون وهم أوروبا العظمى، أوروبا التي تقود العالم، وتنيره وتعلّمه كيف يعيش.
ما دور الباحثين في هذه الحالة؟ لماذا لا ينصحون السياسيين؟ من يردم الفجوة بين الموقف السياسي وموقف النخبة المثقفة؟
راوتر: الباحثون لم يجدوا صعوبة في التخلي عن هذه الفكرة لأنهم أكثر واقعية. لأنهم يتابعون السيرورة التاريخية للوجود، ويعرفون أن العالم يتغير، لكنّ السياسيين يجدون صعوبة بحكم تعودهم على وضعية القويّ وسايكولوجيته. والآن يرون كلا من أميركا وروسيا، والصين وتركيا ينافسون ويتقدمون. أردوغان وحده مصدر إزعاج لأوروبا، لأنه لا يوليها أيّ أهمية. أوروبا تجد صعوبة في قبول ذلك. وهذا هو الفرق. لكن الباحثين الجيدين يعترفون بالحقيقة، ويتعايشون معها فكريا وأدبيا.
هل تنصحون السياسيين، هل تلعبون عمليا هذا الدور؟
راوتر: نعم طبعا. الأمر يتوقف على نوعية السياسيين، يسار أم يمين. اليسار يستعين بمواقف النخبة المثقفة ويحاول أن يستدل برأيها، لكن الشعبويين مثل فيلدرز في هولندا ولوبان في فرنسا، هؤلاء لا يزالون يرون أن ثقافتهم الأفضل، ومجتمعهم أرقى، وتاريخهم أثرى، ويحاولون التدليل على أن الثقافة الإسلامية متخلفة. لكن السياسة العالمية تحددها أميركا وروسيا، وليس أوروبا.
هل يساهم الاستشراق كمؤسسة في تأجيج الإسلاموفوبيا أم في تقليصها؟
راوتر: الاستشراق في أصله يعبّر عن وجهة نظر معينة من الثقافة الشرقية الشاملة، وليس فقط الإسلام، أو الدين، بل الثقافة والتقاليد، ومختلف جوانب الحياة. إلا أن الإسلاموفوبيا ترتبط بالدين فقط. ويمكن القول إلى حدّ ما إن الاستشراق يتضمن شيئا من الإسلاموفوبيا لكنه لا يتساوى معها، بل هناك درجة من الإسلاموفوبيا داخله. الاستشراق، وإن أصبح اليوم تهمة، إلا أنه لا يصل إلى حد تحفيز الإسلاموفوبيا، التي هي رفض تام للإسلام. الاستشراق يتضمن رفضا بالبداهة، لكنه ليس رفضا متطرفا.
أحد أبرز المستشرقين الغربيين، وأولهم، هو سنوب هرخونيا، من لايدين الهولندية، سافر إلى الجزيرة العربية، وأقام هناك في القرن 19، وكتب بشكل سلبي جدا عن الإسلام، رغم أنه اعتنق الإسلام، وكتب أيضا بإعجاب عنه. وهذا يختلف عن الإسلاموفوبيا التي هي كره حقيقي للإسلام ورفض تام له. لكن بالتأكيد هناك في تاريخ الاستشراق بوادر إسلاموفوبيا الاستشراق لا ينطبق عليّ، مثلا، بالمعنى القديم، فأنا مستعرب، لكن عقلية الاستشراق، بالمفهوم التقليدي له، ليست لديّ، وهي عقلية يحاول المستعربون اليوم الفكاك منها.عندما أتحدث عن الإسلام في الإعلام، أحاول دائما أن أمسك العصا من الوسط. لا أتطرف، هذه طريقة هولندية. أحاول أن أظهر كل الجوانب من منظورات مختلفة، السلبية والإيجابية. فيما يتعلق بالإسلام أظهر كم هو دين جميل، أظهر الإسلام المدافع عن المرأة والمثليين، لكن في المقابل أظهر أيضا إسلام داعش، والإسلام السلفي، وغيره.
أنا مستعرب، لكن عقلية الاستشراق، بالمفهوم التقليدي له، ليست لديّ، وهي عقلية يحاول المستعربون اليوم الفكاك منها.عندما أتحدث عن الإسلام في الإعلام، أحاول دائما أن أمسك العصا من الوسط
نقد الإسلام
لماذا تمسك العصا من الوسط؟
راوتر: لأننا نعيش في نظام ديمقراطي والديمقراطية الحقيقية ليست في النتائج والاستخلاصات لكن في الجدل والخلاف، والنقاش، هذا ما نفعله داخل نظام ديمقراطي. الجدل ثم الجدل حد الاختلاف، والاحتداد، والصراع، لكن دائما من دون عنف. هذا ما يميز الديمقراطية عن باقي الأنظمة، فطالما نحن نتكلم لا نتقاتل، ولا نبحث عن نتائج أو نهايات، نحن نتناقش لغرض النقاش في حدّ ذاته، بالطبع في النهاية لا بد من أن تتخذ بعض القرارات من قبل الحكومة، لكن غرض النقاش هو أن لا نتحارب أو نصل إلى العنف، الجميع لديه حق، والجميع مهم، والجميع يشارك، النتائج ليست مهمة، وهذا ينطبق أيضا على المسلمين في أوروبا، على اختلاف وجهات نظرهم، الجميع لهم الحق في التعبير عن آرائهم. الجدل في هولندا متطرف، الشعبويون التابعون لفيلدرز متطرفون جدا، السلفيون أيضا. دوري كمثقف، أن أوازن وأن أقف في وسطهم رافعا داعيا إلى النقاش. الديمقراطية الحقيقة لا تأتي بحل، بل بحلول، ولا تصل إلى نتيجة، بل نتائج، جميعها صحيح، وجميعها نسبي.
لكن مسك العصا من الوسط ليس موقفا، ألا تحتاج بعض القضايا موقفا واضحا، وانحيازا لخيار معين؟ أو بمعنى آخر، هل ترى أنه على المثقف أن ينأى بنفسه عن هذا الجدل السياسي، أم يجب أن يكون طرفا فيه؟
راوتر: أتحدث عن نفسي هنا، ولا أعرف إن كان هذا ينطبق على الآخرين، لكن زملائي من المستعربين مثلا، بعضهم ينحاز إلى الإسلام بشكل مبالغ فيه ولا يرغب في رؤية الجوانب السلبية، وهناك من يتطرف إلى الجهة الأخرى مثل يانس هانسن، (مستعرب هولندي عرف بمعاداته للإسلام)، في اعتقادي، لا بد أن نجرؤ على نقد الإسلام.
الربيع العربي
هل فهم الاستشراق ما يسمّى الربيع العربي وساعد على جعل الغرب يفهمه أم لا؟
راوتر: في بداية سنة 2011، اتصل بي راديو بلجيكي وقال هناك مشاكل في تونس ما رأيك؟ قلت لا شيء، قليل من الشغب، أو المظاهرات، سيأخذون القليل من الخبز من الحكومة وينتهي الأمر، لكن بعد أسبوع سقط بن علي وهرب. في الحقيقة ألوم نفسي إلى اليوم، لأنني لم أر الأمر على حقيقته. رغم أنّني طوال سنوات كنت أزور مصر وأستغرب لماذا لا ينهضون؟ لماذا يقبلون هذا الوضع؟ والإجابة كانت مثلا إنهم لا يجرأون أو تعودوا، لكن في النهاية فعلوها وثاروا.
كيف تقيّم مسار الثورة؟
راوتر: في مصر الوضع أسوأ، تحت مبارك كان هناك حد أدنى من الحرية، الآن الوضع أسوأ بكثير.
في تونس الأمور أفضل، الثورة نجحت إلى حد ما، نعم هناك مشاكل، وانقسام وجدل وخلاف، لكن هذا عادي، هذا ما يدعى ديمقراطية، مرت على هولندا من 2000 إلى 2010 أربع حكومات، وانتخابات، وحكومات تسقط. الديمقراطية فوضى داخل قوانين معينة وحدود واضحة، هذا طبيعي، وهذا يستوجب النضج، وهو صعب. لكن في مصر، التي تعتبر من أهم دول المنطقة، جاءت الانتخابات بمرسي، بشكل ديمقراطي، لكنه قال: أنا رئيس بـ51 بالمئة انتخبوني، ونسي أن 49 بالمئة لم يفعلوا، كان رئيسا للإخوان وليس لمصر كلها، وطالب بأسلمة البلاد.
قلت دائما إن التغيير يأتي من هناك؟ لكن لديّ مشكل في هذا الطرح أيضا: أنا مع الديمقراطية وأعرف أن واحدا من مشاكل العالم الإسلامي أنه لا يوجد تفريق بين الدين والدولة
هل فشل الربيع العربي، حسب رأيك؟
راوتر: في مصر نعم، في ليبيا فوضى، في تونس نجح. لكن المؤكد أن روح الديمقراطية خرجت من عنق الزجاجة ولا تزال موجودة رغم أننا تقريبا لا نشعر بوجودها.
الشباب في المنطقة ينشطون، وسيسمعون صوتهم، في لبنان، وفي تركيا أيضا. هناك حرب حقيقية خفية بين الشباب الذي يطمح إلى الديمقراطية والشباب المتطرف، وهذه الحرب مستمرة وإن كانت لا تتخذ الأشكال العادية للحرب، وستنتهي بالتأكيد إلى نتيجة ما، غير أن المؤكد أن روح الحرية والديمقراطية غادرت الزجاجة وتجوب المنطقة الآن.
سيحدث شيء في مصر لكن خلال 10 سنوات على الأقل. أنظري إلى الثورة الفرنسية مثلا، نجحت وكل شيء تغير، ثم اندلعت فوضى، وحرب وإرهاب، ثم نابليون وعودة إلى الملكية، وبعد سبعين سنة استقرت الأمور ونجحت الثورة، لأن الروح غادرت الزجاجة، وهذا ما حدث في المنطقة العربية.
شرق/غرب
حوار الشرق والغرب، كيف يبدو لك الآن؟
راوتر: حوار الثقافات والأديان مهمّ جدا وأنا أشجعه في كل أشكاله، لكن الصور السلبية عن الإسلام موجودة بقوة في أوروبا وأثّرت على حوار الشرق والغرب. هناك مجهودات صغيرة لجمعيات إسلامية، ومنظمات شبابية ولجان صغيرة أحيانا مختلطة الديانات، وتضم اليهود حتى. وهناك حوار، على مستوى المؤسسات والأكاديميات، وفي جامعة لايدين هناك ندوات وحوارات ونقاشات. ويدعون المفتي في رسالة من دون إجابة.
ماذا تقدم هذه اللقاءات، والندوات، هل تغيّر من بعض المواقف الغربية تجاه العرب مثلا؟
راوتر: كارن أرمسترونغ مثلا، تحاول أن تخرج عن مركزية أوروبا وتنظر إلى المرأة في الإسلام بطريقة محايدة، وأيضا من داخل العالم العربي نفسه هناك مبادرات لناشطات حقوقيات مثل منى طحاوي، يغيرن نظرة العرب عن المرأة، التغيير لا نقوم به نحن في أوروبا، بل يأتي من هناك. ليست مهمة أوروبا أن تصنع أفكارها عن العرب، النظرة تأتي من الداخل ونحن نعكسها. الطحاوي مثلا تقوم بدور مهم.
قلت دائما إن التغيير يأتي من هناك؟ لكن لديّ مشكل في هذا الطرح أيضا: أنا مع الديمقراطية وأعرف أن واحدا من مشاكل العالم الإسلامي أنه لا يوجد تفريق بين الدين والدولة، ليس في مصر وليس في دول كثيرة والدين يتّصف بكونه غير متسامح، سواء تعلق الأمر بالمسيحية أو الإسلام أو اليهودية، الدين عموما متعصب، فإذا لم نفصل الدين عن الدولة نحصل على دولة متعصبة، هذا باختصار.
المشكل أنه إذا تلقّينا المفاهيم من الداخل فإنها تكون مشبعة بدينية ما.
لوحة: أسامة النصار
لكن هذه ديمقراطية غربية؟ فصل الدين عن الدولة، هناك من يرفض النموذج الغربي، أو الإملاء الغربي لمفهومه للديمقراطية.
راوتر: وما الفرق إن كانت أوروبية أو إغريقية، هذا منتج فكري وتوجه يفيد الإنسانية كلها، ولا يجب أن يصنف على أنه الوضع السوري.
النخب الغربية والمأساة السورية
لماذا لا نسمع صوت النخبة المثقفة الغربية من الثورة السورية؟
راوتر: ليس صحيحا أنهم لا يقولون شيئا، أعتقد أن الدعم الذي يحصل عليه بشار الأسد من روسيا وأميركا وأوروبا خطأ كبير. بشار مسؤول عن النصف مليون قتيل. وأغلب أصدقائي من السوريين يسألونني نفس السؤال: لماذا تقاتلون داعش المسؤولة عن أربعة آلاف قتيل فقط، وتتركون بشار المسؤول عن نصف مليون؟ طبعا التقديرات والظروف السياسية هي التي تتحكم في المواقف، لأن الغرب خائف من الإسلام خصوصا إسلام داعش، وإذا اضطروا للاختيار بين داعش وبشار للحكم في دمشق سيختارون يشار.
هل الخيارات هي إما داعش أو بشار؟
راوتر: نعم للأسف.
هل لأنه يحمي مصالح وحدود إسرائيل؟
راوتر: مصلحة إسرائيل أن يدوم القتال إلى الأبد في سوريا، وكلّما امتدت هذه الحرب أكثر استفادت منها إسرائيل أكثر. نعم الغرب يحمي بشار لأنه يدافع عن مصالح إسرائيل، هذا صحيح إلى حد ما. لأنه في وقت ما قبل الحرب لم يكن لبشار أي مشاكل مع إسرائيل، حافظ على مصالحها. فالإجابة نعم.
استقبل الغرب اللاجئين، لكن هل كان هناك بدائل، مثلا مساعدتهم على البقاء هناك وحمايتهم؟ هناك 4 ملايين سوري يعيشون في تركيا ولبنان وقرابة مليون في أوروبا، ألم يكن من الممكن تفادي هذا؟
راوتر: الآن أوروبا تساعدهم على البقاء هناك لكن أوروبا ليست قادرة على السيطرة على كل شيء. نطالب أوروبا بأكثر مما هو في وسعها، ونكلفها بدور لم تعد قادرة عليه. نعود الآن إلى موضوع أوروبا التي لم تصبح ما هي عليه. ترين. هذا هو التفكير الذي تحدثنا عنه سابقا. أوروبا باختصار عاجزة عن حل مشكل اللاجئين. لأنها لم تعد تلك القوة السابقة.
هناك أصوات كثيرة تطرح حلولا مختلفة، لكن أوروبا ليس بوسعها فعل الكثير. تركيا تلعب دورا ثنائيا. تفتح الحدود وتتركهم يمرون، واليونان دراما في حد ذاتها.
يعتقد بعض السوريين أن الغرب خانهم وأنه جعلهم طعما للدب الروسي. ما تعليقك؟
راوتر: لا أعرف، وما هي مسؤولية السوريين؟
من تقصد بالسوريين بشار الأسد، أم داعش؟
راوتر: إذا كانوا يقولون إن ما يحدث في سوريا هو لعبة تلعبها القوى الكبيرة، فأين مسؤوليتهم هم؟ لكن دعيني مع ذلك أقول لك إن هذا صحيح أيضا إلى حد ما. كل صراع في العالم هو لعبة قوى سياسية عالمية. الصومال، البلقان روسيا أميركا، دائما هناك معركة وهناك من يديرها لمصلحة كذا أو كذا. لكن لا يجب أن نرمي كل شيء على هذه النقطة. بشار الأسد الذي تجلس عائلته في الحكم منذ 40 سنة هو السبب الأول في الأزمة بسوريا. هو من خلق الاضطهاد والقهر.
مشكلة الإسلام، أنه خاتم الديانات، وأن الكلمة الأخيرة له، وكان على الجميع الانصياع له، والانضمام تحته، لم يحدث هذا، وربما لهذا لا يزال الإسلام يعاني من هذا الرفض، ويتحايل عليه
الصراع في الشرق
تحت حماية غربية، أليس كذك؟ من يحمي الدكتاتوريات؟
راوتر: ليس صحيحا. التسليم بأن أوروبا لم تعد قوة مركزية مهمة، يعني أيضا أنها ليست مسؤولة عن الدكتاتوريات في سوريا والعراق ومصر، وغيرها.
هم المسؤولون عن الفوضى، الدكتاتوريات. وأنا في الحقيقة أغضب من الادعاء بأننا أوجدنا هذه الدكتاتوريات وحميناها. هذا ادعاء سهل للتهرب من المسؤولية. قمنا مرة واحدة بإسقاط دكتاتور هو صدام حسين، ماذا حدث؟ هل كان الشعب العراقي سعيدا بذلك؟ ربما قليلا، لأنه تخلص من صدام، لكنه حمّلنا مسؤولية الفوضى والانقسام والمعارك والحرب، والطائفية التي نتجت عن ذلك؟ إذا أسقطنا الدكتاتور نلام، وإذا لم نزله نلام. ماذا يجب أن نفعل؟ الحل هو أن تحل المنطقة بنفسها مشاكلها.
الجديد: تقصد أن تتقاتل المنطقة إلى ما لا نهاية؟
راوتر: لا طبعا أقصد أن تجلس الأطراف المختلفة وتتحاور. الحل هو الحوار.
لا توجد ثقافة حوار. إضافة إلى أن الأيدي الخفية التي تعطل الحوار كثيرة، ومنها أيادي الغرب، عن أيّ حوار تتحدث والجثث والدم يغطيان المنطقة؟
راوتر: الحوار ممكن وضروري. عندما تفهم الأطراف أن لا أحد سيبقى، سيكتشفون أهمية الحوار. خذي لبنان. الحرب امتدت به 15 سنة، مسيحيون، شيعة، وطوائف تتحارب لمدة 15 سنة. في آخر المطاف اكتشفوا أن لا أحد سيخرج كاسبا من هذه الحرب وجلسوا إلى طاولة الحوار، والآن هناك توازن معين. في أوروبا، في القرن 17، حرب على مدى 30 عاما في ألمانيا والسويد، بين الكاثوليك والبروتستانت، في آخر الأمر، بعد 25 سنة من القتال والحرب مات 20 بالمئة من الشعب الألماني، ولا أحد كان قادر على أن ينتصر نصرا حاسما ونهائيا، فقرروا الحوار.
يعني أنت تقول نتركهم يتقاتلون إلى أن يصلوا إلى التسليم بضرورة الحوار، أن يموت مليون أو مليونان ليس مشكلا؟
راوتر: لا. لا أقول هذا. أقول يجب أن يجلسوا اليوم للحوار. الآن. لكنّهم لا يفعلون، لا يريدون، يظنون أن الفوز ممكن، وبالتالي يصرّون عليه. والحقيقة أمام هذا الإصرار لا أوروبا ولا روسيا ولا أيّ قوة قادرة على إقناعهم بأن لا أحد يفوز في الحرب، أوروبا جرّبت مع أفغانستان، لم ينجح الأمر. هل انتهت الحرب؟ في العراق أيضا لم ينجح التدخل الغربي. رأيي أن تنسحب القوى الغربية من أي تدخل في المنطقة وتترك أمر أهل المنطقة بين أيديهم.
من حرّك هؤلاء الذين يتقاتلون؟ أليست داعش صناعة غربية؟
راوتر: هذا كلام فارغ، حتى وإن كان سلاحهم من الغرب، فهذا لا يعني أن الغرب أوجد داعش؟ في التّاريخ الإسلامي نحن نعلم أنه كان هناك دائما تيارات مثل داعش، حتى في أوروبا. يهدفون إلى بناء الجنة. ثم جاءت الحرب في العراق وسقط صدام وكان هناك فوضى في العراق. لكن الذين سبقوا داعش، ومن بينهم القاعدة، أوجدوا أرضية خصبة في المنطقة للجماعات الإرهابية، لتتطور وتنمو. يمكنك أن تقولي إن هجوم الغرب على العراق أدى لازدهار داعش نعم. لكن لا يمكن القول إن داعش صناعة غربية.
منذ سنة قلت إن داعش سيأتي سقوطها من داخلها، بدأوا ينقسمون عن الإسلام، عن مفهومهم للدين، والحرب، وهذا ما يحدث الآن. يقتلون الآن جهاديين في صفوفهم، إضافة إلى تعرضهم إلى القذائف، وسد الطريق عنهم إلى آبار النفط من قبل الروس. كما أن الذين يلتحقون بهم بدؤوا أيضا يتذمرون من ممارسات داخلية لا ترضي الكل. وفي اعتقادي داعش ستنتهي بسبب خلاف وانشقاق داخلي.
دور المثقف الغربي
قلت في واحد من تصريحاتك للصحف الهولندية: الثورة تأكل أبناءها، ماذا تقصد؟
راوتر: الثورة الفرنسية فعلت نفس الشيء، التغيير ليس سهلا ويكلّف أرواحا، وسقوط أفكار. لا بد من النقاش. لكن في الثورات هناك الكثير من الحساسية التي ترافق الجدل، وبالتالي يتحول إلى صراع عنيف. وقتل، وهكذا تأكل الثورة أبناءها.
المثقف الغربي، يتبنى وجهة نظر سياسية وليست أخلاقية مما يحدث في المنطقة، ماذا يحدث هل هذا يعني انهيار المنظومة الأخلاقية العالمية؟
راوتر: أعتقد شخصيا، أنني جد ناشط فيما يتعلق بالجدل الموجود على الساحة، تتصل بي الصحف الهولندية الكبرى لتطلب رأيي في قضايا آنية، وأخرى مستقبلية. دائما أقول ما أفكر وما أعتقد به، ولا يهمّني إن كان هذا ما يتمنون سماعه أم لا. لا يمكنني أن أعدل رأيي وموقفي وفق وجهة النظر السائدة لدى الأغلبية أو لدى الأجهزة السياسية، لأنني ساعتها أفقد مصداقيتي. الجدل السياسي يستوجب موقفا واضحا، هناك من المثقفين الغربيين من يصطفون خلف الموقف السياسي، هذا موجود ولا يجب نكرانه. لكن هناك كثيرون غيرهم يجرؤون على قول رأيهم بصراحة. لكن من الصعب تحديد إذا كان صوتهم يصل ورأيهم يعتمد من قبل السّاسة، لكن إذا أردت أن أوصل رأيي وأمارس نفوذا حقيقيا، فإنني أمرّر ذلك عبر أحد السياسيين، وهو ما يستوجب شبكة علاقات واسعة أيضا.
مثلا الجدل الذي كان دائرا في الفترة الأخيرة حول حظر السلفية في هولندا، كان هناك مذكرة برلمان للمطالبة بحظر السلفية، وتمت مناقشة الأمر بين السياسيين والبرلمانيين، واتجهت النية بالفعل إلى إمكانية حظر الأنشطة السلفية، ساعتها تدخلت وقلت: إياكم أن تفعلوا، الأمر سيصبح أسوأ، بالطبع سرّبت رأيي عبر أحد السياسيين، وهو ما تم بالفعل، فقد تراجعوا عن حظر السلفية. لا أجزم أنني الوحيد الذي فعل ذلك، ربما هناك كثيرون غيري، لكن المؤكد اليوم أن المثقف يمارس دورا فعالا داخل المجتمع وعليه أن يمرر أفكاره عبر اللاعبين في الساحة السياسية.
لا يمكننا القول إن المثقفين يساندون السياسيين أو يدعمونهم في أفكارهم، أو يوجّهونهم، فالسياسة كما تعرفين لعبة معقدة تتم وفق توازنات معينة، لا يمكن للمثقف أن يغيرها.
الجديد: هل تستعين بكم الأحزاب السياسية ومؤسسات الثنك تانك، كخبراء عن المنطقة العربية؟
راوتر: نعم، يفعلون، لكن في النهاية هم يأخذون وجهة نظرنا، ضمن وجهات نظر كثيرة أخرى، ويحدّدون موقفهم وفق خريطة مصالح معينة، نحن لا نملك القدرة على التدخل فيها. يطلبون نصيحتنا فنمنحها لهم. لكن مثلا موضوع السلفية خير دليل. قلنا إن السلفية إذا تم حظرها ستتحول أكثر إلى التطرف وربما الإرهاب، فالأفضل أن تشرك في العملية الديمقراطية، كطرف يلعب ورقة مكشوفة على الطاولة، من ضمن الورقات المطروحة.
الإسلام في أوروبا، تقول إنه البديل المستقبلي للإسلام، ماذا تقصد؟
راوتر: إذا أخذنا هولندا كمثال، هناك تيارات إسلامية كثيرة تراوح بين الشدة أو التطرف والتسامح، هناك المسلم الذي يؤمن ولا يطبّق الشرائع، هناك المسلم الممارس للشرائع، السلفي، المتطرف، الشيعي، السني، الأحمدي.. وقس على ذلك تيارات كثيرة تعيش جميعها في هولندا وتمارس حياتها، وأفكارها ودينها بشكل حر تماما، ومن دون خلاف أو اصطدام بينها. لماذا يحدث هذا؟ لأن الجو العام، أو الغطاء العام الذي تنشط تحته، مظلة ديمقراطية واسعة، تشمل الكل، وتسمح للكل بالتعايش داخلها بشكل سلمي، هذا الإسلام الموسع، المتعدد، هو النموذج المستقبلي للإسلام، وهو إسلام ديمقراطي، ويعيش داخل دولة علمانية، الدين فيها مفصول عن السياسة لهذا قلت إن مستقبل الإسلام في الغرب. لأن كل أشكال الإسلام ممكنة، وهذا ليس موجودا في الدول الإسلامية.
لكنهم أقلية، يتصفون بصفات الأقلية، التي لا يمكنها أن تغير أو تؤثر؟
راوتر: نعم، لكن السبب الرئيس هو فصل الدين عن الدولة، هذا ما يجعل كل أشكال الدين ممكنة. لماذا لا نطبّق هذا المثال فصل الدين عن الدولة في مصر، مثلا، وفي العراق، والعربية السعودية؟ هذه الدول عليها بتبني هذا الفصل وتطبيقه داخلها، بمبادرات شخصية، وإن كلفها ذلك مئة عام، لكنه ممكن، ومن دون فرض من الغرب.
حضرت منذ سنتين مؤتمرا في روما عن وضع الأئمة في أوروبا، وكان من تنظيم شباب مسلمين أوروبيين، وتقريبا النتيجة التي خلص إليها المؤتمر هي أن مستقبل الإسلام في أوروبا، وليس في أيّ مكان آخر من العالم، وذلك، بسبب الفصل بين الدين والدولة، ومساحة الحرية.
لا يمكننا، نحن في الغرب، أن نملي هذا الخيار، أو المطلب الضروري، على الدول الإسلامية، هي من سيجد طريقها إليه بنفسها، وبقناعات داخلية.
وماذا عن الاعتقاد بأن الغرب في الحقيقة لا يرغب في رؤية العرب يتقدمون، ويتحولون إلى الديمقراطية، ويفضل أن يراهم متخلفين، تابعين، هل هذا موجود أيضا؟
راوتر: كان هناك دائما صراع بين الأديان على مدى التاريخ الإنساني، وتنافس بينها وتفاضل، لهذا فالدين منطقة احتقان، وانفعال شديد، لكن الدولة إن تأسست بمعزل عن الدين، فإن حدة الصراع مع الحضارات الأخرى تقل، لان المصالح الإنسانية، والكونية مشتركة ومتقاربة.
الصراع الديني لا يزال مستمرا، لكن لا يجب على العرب أن يفكروا أنهم ورقة تلعب بها القوى الكبرى وتحرّكها وفق مصالحها. الاستشراق كفكرة موجود أكثر في العقل العربي. العرب يشعرون أنهم عاجزون، تابعون، وأن أوروبا أقوى، عليهم أن يتوقفوا عن التفكير على هذا النحو وينظروا إلى أنفسهم كند وشريك مواز للغرب. من هنا يبدأ التغيير، العقل العربي عقل تابع، وعليه أن يخرج من هذه التبعية الفكرية، ويتحول بفكره إلى مستوى أعلى، هو مستوى الشريك.
تحدثت عن تروما (trauma) في القرآن، ماذا تقصد؟
راوتر: تحدثت عن تروما في الإسلام، وأقصد بها التالي: الرسول كان يحاول إقناع المسيحيين واليهود بالإسلام، لكنهم رفضوا. في نفس الوقت الرسول قال إنه خاتم الأنبياء، ولا نبي بعده. اليهود والمسيحيون قالوا دياناتنا أقدم وأعرق فرفضوا الالتحاق بالإسلام. هذا الرفض استمر في إزعاج المسلمين إلى حد اليوم، وغضبهم تجاه المسيحيين واليهود لا يزال مستمرا. المسلمون عليهم أن يعيشوا ديانتهم، وأن يدعوا الآخرين يمارسون شعائرهم وديانتهم كما يرغبون.
الجديد: ألا تفعل المسيحية نفس الشيء؟ التبشير موجود في المسيحية أيضا؟
راوتر: صحيح، لكن مشكلة الإسلام، أنه خاتم الديانات، وأن الكلمة الأخيرة له، وكان على الجميع الانصياع له، والانضمام تحته، لم يحدث هذا، وربما لهذا لا يزال الإسلام يعاني من هذا الرفض، ويتحايل عليه. هذه تروما عميقة في الإسلام. في النصوص الدينية، هناك دائما مقارنات بين الإسلام وباقي الديانات. أعتقد أن الإسلام يجب أن يتوقف عن مقارنة نفسه مع الديانات التي سبقته، ويتأقلم مع فكرة أنه ليس الدين الوحيد، والعالمي، والأوحد.
الجديد: هل تزور المنطقة العربية؟
راوتر: لا أجرؤ على زيارة مصر بعد الأحداث الأخيرة بها، للأسف.
أجري الحوار في هولندا