التوأم

الأحد 2016/05/01
لوحة: نهاد الترك

مددت بصري‭ ‬في‭ ‬فراغ‭ ‬الحجرة‭ ‬الخالية‭ ‬إلا‭ ‬منى،‭ ‬أجلس‭ ‬القرفصاء‭ ‬في‭ ‬ركن‭ ‬ركين. ‬فبدوت‭ ‬كعصفور‭ ‬جريح‭ ‬مكسور‭ ‬الجناح‭ ‬أخفق‭ ‬في‭ ‬الطيران‭ ‬فانكفأ‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬مستغرقا‭ ‬في‭ ‬أنينه‭.‬

شد‭ ‬انتباهي‭ ‬طائر‭ ‬جميل‭ ‬وغريب‭ ‬لم‭ ‬أر‭ ‬مثله حط‭ ‬على‭ ‬جدار‭ ‬نافذتي‭ ‬ونقر‭ ‬الزجاج‭ ‬ليقول‭ ‬لي‭ ‬لست‭ ‬وحدك،‭ ‬أنا‭ ‬بالداخل‭ ‬وهو‭ ‬بالخارج‭ ‬يفصل‭ ‬بيننا‭ ‬الزجاج‭.‬

عندما‭ ‬اقتربت‭ ‬منه‭ ‬طار‭ ‬فزعا‭ ‬وتركني‭ ‬وحيدة‭.‬

بدأ‭ ‬المطر‭ ‬ينقر‭ ‬زجاج‭ ‬النافذة‭ ‬نقرا‭ ‬خفيفا‭. ‬ثم‭ ‬ما‭ ‬لبث‭ ‬أن‭ ‬اشتد‭ ‬المطر‭.‬

كنت‭ ‬آمل‭ ‬أن‭ ‬أستضيف‭ ‬الطائر‭ ‬في‭ ‬حجرتي‭.‬

فتحت‭ ‬النافذة‭ ‬على‭ ‬مصراعيها،‭ ‬تدليت‭ ‬لأنظر‭ ‬إلى‭ ‬الشارع.. ‬بدأ‭ ‬المطر‭ ‬في‭ ‬الهطول‭ ‬حتى‭ ‬كاد‭ ‬يكون‭ ‬سيلا‭ ‬أحال‭ ‬الشارع‭ ‬إلى‭ ‬بركة‭ ‬من‭ ‬الوحل،‭ ‬هرول‭ ‬المارة‭ ‬يحتمون‭ ‬بمداخل‭ ‬البنايات‭ ‬والمظلات،‭ ‬اتجه‭ ‬نظري‭ ‬إلى‭ ‬رجل‭ ‬لا‭ ‬أخطئه‭. ‬هو‭ ‬بعينه‭ ‬بطول‭ ‬قامته‭ ‬المفرط‭ ‬وجثته‭ ‬الضخمة‭ ‬ولحيته‭ ‬الشعثاء‭ ‬وعبوسه‭ ‬المعتاد‭ ‬وعينيه‭ ‬الواسعتين‭ ‬لدرجة‭ ‬مخيفة‭.‬‭ ‬يقبض‭ ‬بيده‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬طفلة‭ ‬صغيرة‭ ‬رقيقة‭ ‬يجرّها‭ ‬جرّا‭ ‬خلفه‭ ‬كأنها‭ ‬كبش‭ ‬سيق‭ ‬للذبح،‭ ‬وهي‭ ‬بدورها‭ ‬تجر‭ ‬أوحال‭ ‬الطريق‭ ‬بأطراف‭ ‬ثوبها‭ ‬الطويل‭ ‬الجرجار،

بدا‭ ‬المشهد‭ ‬كأن‭ ‬الرجل‭ ‬ذئب‭ ‬متوحش‭ ‬يقبض‭ ‬على‭ ‬عصفور‭ ‬جريح‭ ‬بين‭ ‬مخالبه‭.‬

ناديت‭ ‬عليها‭ ‬بكل‭ ‬قوتي‭ ‬من‭ ‬بوقي‭ ‬الصدئ‭ ‬لأحذرها‭ ‬لكنها‭ ‬لم‭ ‬تسمعني‭.‬

لن‭ ‬أنتظر‭ ‬طويلا‭ ‬مكتوفة‭ ‬اليدين‭ ‬حتى‭ ‬تقع‭ ‬الكارثة‭.‬

لن‭ ‬أتركها.. ‬إنها‭ ‬توأمي‭ ‬السمراء‭.‬

صحت‭ ‬عليه: ‬قف،‭ ‬إياك‭ ‬أن‭ ‬تتزحزح‭ ‬عن‭ ‬مكانك‭ ‬أيها‭ ‬القرصان‭ ‬لن‭ ‬أتركك‭ ‬تفر‭ ‬بها،‭ ‬أعرفك‭ ‬جيدا‭ ‬مهما‭ ‬تخفيت‭ ‬وصبغت‭ ‬شعرك‭ ‬الأحمر‭ ‬الجني‭ ‬بهذا‭ ‬اللون‭ ‬الأسود‭ ‬الكئيب‭. ‬لن‭ ‬تخدعني‭ ‬مهما‭ ‬تنكرت‭.‬

***

أنا‭ ‬مصرة‭ ‬على‭ ‬استرجاع‭ ‬توأمي‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬مخالبك‭ ‬الحادة،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تنتهك‭ ‬حرمتها‭ ‬وتفترس‭ ‬براءتها‭ ‬وتقتلها،‭ ‬ثم‭ ‬تجلس‭ ‬هادئا‭ ‬تقلب‭ ‬جسدها‭ ‬الغض‭ ‬على‭ ‬الجمر‭ ‬بيدك‭ ‬الموشومة‭ ‬بالدماء‭ ‬في‭ ‬تمهل‭ ‬لتصنع‭ ‬من‭ ‬رفاتها‭ ‬كأسك‭ ‬الشهير‭ ‬وتحتسى‭ ‬فيه‭ ‬خمرك‭ ‬منتشيا‭ ‬وأنت‭ ‬تحتضنه‭ ‬بفرح‭ ‬ألق‭ ‬لأنك‭ ‬استحوذت‭ ‬عليها‭ ‬وحدك،‭ ‬فيصير‭ ‬وجهك‭ ‬وجسدك‭ ‬وشعرك‭ ‬أحمر‭ ‬وعيناك‭ ‬حمراوتين‭.‬

هل‭ ‬هذا‭ ‬عشق‭ ‬أم‭ ‬جنون؟

لو‭ ‬أني‭ ‬مت،‭ ‬ماذا‭ ‬ستفعل‭ ‬المسكينة؟

من‭ ‬سيحذرها‭ ‬لو‭ ‬كسر‭ ‬بوقي؟

من‭ ‬سيلملم‭ ‬رفاتها‭ ‬من‭ ‬بعدي؟

أراه‭ ‬واقفا‭ ‬والشمس‭ ‬حمراء‭ ‬فوق‭ ‬رأسه‭ ‬تزيده‭ ‬احمرارا‭ ‬يستند‭ ‬على‭ ‬عامود‭ ‬ضخم‭ ‬من‭ ‬الهواء،‭ ‬يراقبها‭ ‬عن‭ ‬بعد‭ ‬لا‭ ‬يرفع‭ ‬عينيه‭ ‬عنها‭ ‬كضبع‭ ‬يترقب‭ ‬فريسته،‭ ‬يتحين‭ ‬الفرصة‭ ‬للانقضاض‭ ‬عليها‭ ‬والإنفراد‭ ‬بها‭ ‬فلا‭ ‬يتركها‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يصنع‭ ‬من‭ ‬رمادها‭ ‬كأسه‭ ‬المشؤوم‭.‬

حتى‭ ‬لو‭ ‬مت‭ ‬ستهرب‭ ‬روحي‭ ‬من‭ ‬قبري‭ ‬وأختلس‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬ينام‭ ‬فيها‭ ‬رفاقي‭ ‬الموتى‭ ‬وأتسلل‭ ‬خارجة‭ ‬أبحث‭ ‬عنها‭.‬

لن‭ ‬أهدأ‭ ‬حتى‭ ‬أعيدها‭ ‬إلى‭ ‬أمي‭ ‬ونجلس‭ ‬سويا‭ ‬في‭ ‬البستان‭ ‬الشرقي‭.‬

لماذا‭ ‬فصلونا‭ ‬عن‭ ‬بعضنا‭ ‬عند‭ ‬توزيع‭ ‬التركة؟

أنا‭ ‬البيضاء‭ ‬الشقراء‭ ‬ذات‭ ‬العيون‭ ‬الزرقاء‭ ‬من‭ ‬نصيب‭ ‬أمي‭ ‬التي‭ ‬أشبهها‭ ‬تماما،‭ ‬وتوأمي‭ ‬السمراء‭ ‬التي‭ ‬تشبه‭ ‬أبي‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬التطابق‭ ‬من‭ ‬نصيب‭ ‬جدي‭ ‬الذي‭ ‬تشبث‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬الجنون‭ ‬بعد‭ ‬موت‭ ‬أبي‭.‬

وزعنا‭ ‬وقسمنا‭ ‬كما‭ ‬تقسم‭ ‬الأموال‭ ‬والأراضي‭ ‬وبقية‭ ‬الأشياء‭.‬

أنا‭ ‬اليوم‭ ‬أصبحت‭ ‬أتمتع‭ ‬بحنان‭ ‬أمي‭ ‬أما‭ ‬توأمي‮ ‬مع‭ ‬جدي

أراها‭ ‬‮ ‬تأفل‭ ‬ولن‭ ‬تصبح‭ ‬سوى‭ ‬جارية،‭ ‬لقد‭ ‬بلغ‭ ‬به‭ ‬هوس‭ ‬امتلاكها‭ ‬حد‭ ‬الجنون،‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬ألحق‭ ‬به‭ ‬قبل‭ ‬وقوع‭ ‬الانفجار‭.‬

***

هو‭ ‬لا‭ ‬يهدأ‭ ‬أبدا‭ ‬والكأس‭ ‬الذي‭ ‬بين‭ ‬يديه‭ ‬لن‭ ‬يروى‭ ‬عطشه‭ ‬مازال‭ ‬يطلب‭ ‬المزيد‭.‬

لماذا‭ ‬فصلونا‭ ‬نحن‭ ‬التوأمين؟‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬يكفى‭ ‬لنا‭ ‬نحن‭ ‬الاثنتين‭ ‬فلماذا‭ ‬قسمونا؟

المهم‭ ‬الآن‭ ‬أن‭ ‬ألحق‭ ‬بها‭ ‬سريعا‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬اغتيالها،‭ ‬لن‭ ‬أرحمه‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬مزقنا‭ ‬ونزع‭ ‬توأمي‭ ‬منى‭.‬

صرنا‭ ‬نقف‭ ‬على‭ ‬ضفتين‭ ‬كل‭ ‬منا‭ ‬ظهره‭ ‬للآخر‭ ‬لا‭ ‬ينظر‭ ‬بعضنا‭ ‬بعضا‭.‬

ولو‭ ‬انقلبنا‭ ‬أفقيا‭ ‬صارت‭ ‬إحدانا‭ ‬العليا‭ ‬والأخرى‭ ‬السفلي،‭ ‬هي‭ ‬الخائفة‭ ‬المرتابة‭ ‬دوما‭ ‬تجلس‭ ‬متقوقعة‭ ‬في‭ ‬ركن‭ ‬ركين. ‬وأنا‭ ‬المبتهجة‭ ‬دائما‭ ‬الجالسة‭ ‬على‭ ‬مقعدي‭ ‬الذهبي‭.‬

إنها‭ ‬قسمة‭ ‬جائرة. ‬صرخت‭ ‬وبكيتها‭ ‬حتى‭ ‬جفت‭ ‬دموعي،‭ ‬فأفهمتني‭ ‬أمي‭ ‬أنها‭ ‬ستزورني‭ ‬على‭ ‬هيئة‭ ‬طائر‭ ‬غريب،‭ ‬لكن‭ ‬الطائر‭ ‬فزع‭ ‬وطار‭ ‬بعيدا‭ ‬وتركني‭ ‬وحيدة‭.‬

لن‭ ‬أتركها‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬مرّت‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬نافذتي‭ ‬كأنها‭ ‬تستنجد‭ ‬بي‭.‬

هرعت‭ ‬أجرى‭ ‬خلفهما‭ ‬لألحق‭ ‬بهما‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يغيبا‭ ‬عن‭ ‬ناظري‮ ‬‭ ‬وتتكرر‭ ‬المأساة،‭ ‬ظللت‭ ‬أجري،‭ ‬أجري،‭ ‬أبحث‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬اتجاه،‭ ‬لم‭ ‬أعثر‭ ‬عليهما،‭ ‬لن‭ ‬أسامح‭ ‬نفسي‭ ‬إذا‭ ‬فشلت‭ ‬في‭ ‬العثور‭ ‬عليها،‭ ‬لن‭ ‬أعود‭ ‬إلا‭ ‬بتوأمي‭.‬

***

وقفت‭ ‬حائرة،‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬إلى‭ ‬أيّ‭ ‬اتجاه‭ ‬أتجه،‭ ‬لقد‭ ‬ضللت‭ ‬الطريق،‭ ‬لم‭ ‬أستدل‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬بيتي.. ‬ولا‭ ‬الطريق‭ ‬الذي‭ ‬سلكته‭ ‬توأمي‭ ‬تاهت‭ ‬عن‭ ‬ناظري،‭ ‬وجدت‭ ‬نفسي‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬غريبة‭.. ‬أين‭ ‬أنا؟‭ ‬ومن‭ ‬أيّ‭ ‬اتجاه‭ ‬جئت؟‭ ‬وإلى‭ ‬أيّ‭ ‬اتجاه‭ ‬أسير؟

الظلام‭ ‬يحيطني‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬جانب،‭ ‬لفّني‭ ‬الصمت‭ ‬الرهيب،‭ ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬أشقه‭ ‬بصراخي‭ ‬حتى‭ ‬بح‭ ‬صوتي‭ ‬وتحشرج،‭ ‬أصابني‭ ‬الرعب‭ ‬أكثر،‭ ‬أغرقني‭ ‬المطر‭ ‬فارتعش‭ ‬جسدي‭ ‬الأسمر‭ ‬النحيل‭ ‬بشده. ‬وجلست‭ ‬منكفئة‭ ‬أنظف‭ ‬الأوحال عن‭ ‬ثوبي‭ ‬الطويل‭ ‬الجرجار‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.