حكاية الروح التائهة في أوروبا

الأحد 2016/05/01
لوحة: عدي أتاسي

لثلاث أو أربع سجائر تقريباً وأنا أرمق ببلاهة وصمت من بين الدخان المتصاعد ــ مرتاباً ــ ثيابي المعلقة بشكلٍ عشوائي هناك، على المشجب جانب باب غرفتي، لا أتذكر أنّني قد علقتها ظهراً بهذا الشكل المرتب! أظنّ أنّ أحدهم يعبث بثيابي المعلقة، أتكون أمي؟ يجوز. زفرتُ بلا مبالاة ثمَّ سمعتها تناديني من المطبخ لأشاركها طعام العشاء، يئستْ معدتي من الحساء الفقير لأمي كل مساء، شكرتها على دعوتها الكريمة بصوتٍ عال.

نهضتُ عن سريري لأمشي بملل حتى الكرسي، ثمَّ جلستُ خلف طاولتي التي تتناثر فوقها روايات كثيرة، دخنتُ سيجارة أخرى.. حتى هذه السجائر فقدتْ طعمها، هذا الملل يفتك بروحي منذ أشهر، أكاد أختنق.. يبدو أنّ روحي هي الوجبة المفضلة لدى كل الملل في هذا الكون.

تخرجتُ منذ سنتين من كلية الآداب قسم اللغة الإنكليزيّة، ولم أعثر حتى الآن على فرصة عمل، لولا الراتب التقاعدي للمرحوم أبي لكنّا ــ أنا وأمي ــ قد متنا جوعاً في بيتنا الكئيب هذا.

أخجل دائماً من أمي، لو أنّني أستطيع مساعدتها في تحسين أوضاع بيتنا وحياتنا ولو قليلاً، علّها تفرح قليلاً وترتاح هذه العجوز، وتنسى لأسبوعٍ واحدٍ أن تجرّني من أذني إلى الحمام.. كم أكره الماء، لماذا؟ لا أعرف، أكرهه وفقط.

مرّتْ سنتان، في الصباح أتجوّل – مستعيناً بدراجتي الهوائية- في المدينة بين الشركات والمؤسسات والمدارس الخاصّة بحثاً عن فرصة عمل، ولو كمستخدم، لا مشكلة.. وفي المساءات أتسلّى بقراءة الروايات.

تذكرت.. لماذا لا أكتب رواية؟ ثمّة فكرة جميلة تجول في عقلي منذ زمن وأعتقد أنها قد نضجتْ، أشعر بأنها سوف تكون رواية مميزة، خصوصاً أنّه لا يوجد فيها ماء، ولنفترض أنها قد تكون عادية، على الأقل أثناء كتابتها أحمي روحي من هذا التشرد في مساءات الملل والحساء الفقير.

لم أتريث حتى لدقيقة، التقطتُ قلمي وبدأتُ بالكتابة على دفترٍ متواضع.. كنتُ متحمساً للغاية، حتى أنا شخصياً استغربتُ جداً من هذا الحماس الذي لا أعرف من أين جاءني.

بعد ثلاثة أشهرٍ ونصف أنهيتُ كتابتها، كل يوم وبعد قيلولة الظهر مستعيناً بفناجين القهوة والسجائر أبدأ بالكتابة حتى ساعةٍ متأخرة من الليل، بينما أمي طوال هذه الأسابيع كانت تراقبني عن كثب بخوف، استمتعتُ كثيراً بكتابتها.. متعة حقيقية، تمنيتُ لو أنها لم تنتهِ معي، رسم كلماتها على الأوراق منحني سعادة لا توصف.

في المساء الذي أنهيتُ فيه كتابتها لم أصدق بدايةً، أَمعقولٌ أنّ فاشلاً مثلي كتب رواية! يا إلهي. سرعان ما طار عقلي من الفرح، قفزتُ لمنتصف غرفتي وبدأتُ أغنّي وأرقص وأصفق بفرح مثل مجنون مخمور، صحيح أنّني فشلتُ في العثور على عمل لكنني كتبت رواية، يبدو أنّني منذورٌ فقط للأشياء العظيمة.

هذه مناسبة تاريخيّة ويجب أنْ نحتفل بها، أين أنتِ يا أمي؟ ابنك الوحيد كتب رواية، يجب أن تزغردي عالياً.. أسرعتُ إليها في المطبخ، كانت واقفة أمام الغاز تقوم بطهي هذا الحساء البائس، التقطتُ يدها ورحتُ أراقصها وكأننا عاشقان في فيلمٍ فرنسي كلاسيكي، أخذتُ عن الطاولة كأساً ساخناً لشرابٍ غريب تعدّه أمي لنفسها من نباتات منوعة يفيدها بتحمل آلام أمراض شيخوختها، رفعته إلى الأعلى وأنا أصرخ أمامها: (نخبكِ يا أمي.. نخب الروايات الجميلة) وأخذتُ رشفةً منه، يا إلهي كم هو مرٌّ طعمه، لوّحتُ بكفي مودعاً أمي وأنا أضع يديّ على بطني ورجعتُ إلى غرفتي.

خلف طاولتي بدأتُ بتوضيب صفحات روايتي بعناية، وكأنها أنثى جميلة مفاتنها هي هذه الصفحات، أداعبها بملامسة الزوايا برقة و.. فجأةً ارتطمتْ بتفكيري حقيقة مرّة، دهستْ على إثرها ملامح وجهي.

أنا أعرف جيداً كتّابَ هذه البلاد التعيسة ونقّادها وصحفييها، لن يكون لديهم أيُّ وقتٍ للاهتمام بروايةٍ لشابٍ مغمور مهما كانتْ مهمة، كل اهتمامهم ينصبّ على الكاتبات والشاعرات الناشئات، وكلّما قَصُرَتْ تنوّرة إحداهنّ ازدادت ْ في الجرائد والمجلات عددُ الدراسات النقديّة التي تتناول أهمية إبداعاتها.

تنهدتُ وهذا الحزن في صدري يشتهي سيجارة فأشعلتُ واحدة، عندئذٍ خطرتْ في بالي فكرة جميلة يمكن أن تنقذ روايتي من الموت.. أتذكر أنّني قد قرأتُ منذ سنوات في قصة قصيرة من الأدب الروسي عن مبدع يكتب روايات لكن لا أحد يكترث بها، وبجنونٍ غريب بدأ بطباعة رواياته تحت اسم أجنبي على أنها من الأدب الأجنبي لتلقى رواجاً غير طبيعي.

سأفعل مثله.. جنوني ليس بأقل من جنونه، المهم أن تعيش روايتي.. نويتُ في سري أنْ أقدمها إلى إحدى دور النشر على أنها رواية مترجمة عن الأدب الإنكليزي، لروائي اسمه (باتريك جيمبسون)، وقد قمتُ أنا (عيسى زكريا) بترجمتها.. راقتْ لي كثيراً هذه الفكرة، عندئذٍ اتّصلتُ بدارٍ معروفة للنشر، لتحدّد ليّ السكرتيرة موعداً مع مدير الدار.

في ظهر اليوم التالي ارتديتُ ثيابي وتأبّطتُ ظرفاً كبيراً أصفر اللون فيه مخطوط الرواية، ثمَّ ركبتُ دراجتي الهوائيّة لأقودها عبر الشوارع إلى دار النشر. أخبرتُ السكرتيرة أنّني المترجم عيسى زكريا، وذكّرتها بموعدي مع الأستاذ باسم علاء، الناقد المعروف وصاحب هذه الدار.

عندما دخلتُ مكتبه كدتُ أنفجر ضاحكاً، بدا لي من خلف مكتبه أشبه بالفقمة، ابتلعتُ ضحكتي ثمَّ جلستُ أمامه لأحدثه عن هذه الرواية التي ترجمتها بأمانة عن الأدب الإنكليزي.

سألني عن اسم كاتبها فأجبته: (باتريك جيمبسون)، مطَّ شفته السفلى وهو يمسح بكفه على صلعته ثمَّ قال مستغرباً:


رسمة: أمل بشير

ـــ لم يسبق لي أنْ سمعتُ باسم هذا الروائي!!..

ومثلما خطّطتُ سابقاً، شرحتُ له بثقة المثقفين:

ـــ هذا الروائي عاش في إنكلترا أواسط القرن الثامن عشر.. لكن أصوله تعود لأيرلندا الشماليّة.. وهو من أنصار الجيش الجمهوري الأيرلندي، لهذا.. هناك في إنكلترا يحاولون دائماً تجاهل تجربته الروائيّة لأسباب قوميّة ودينيّة و…..

ـــ هل الجيش الجمهوري الأيرلندي موجود منذ القرن الثامن عشر؟!..

سألني متعجّباً، فأردفتُ له:

ـــ موجود منذ القرن الرابع عشر.. وآنذاك كانت هناك مراسلاتٌ مشهورة بينه وبين جماعة (إخوان الصفا) في منطقتنا، وهذه المراسلات محفوظة كمخطوطٍ أثري حتى الآن كوثيقة تاريخيّة مهمة في مكتبة الكونغرس بواشنطن تحت اسم (مراسلات إخوان الصفا)..

عبث قليلاً بربطة عنقه وهو يهزّ برأسه ليوحي لي أنّه يعرف هذه المعلومات، ثمَّ طلب مخطوط الرواية فناولته إياه.

تأمل عنوانها قلَّب صفحاتها، قرأ هنا سطراً وهناك سطرين.. ابتسم، يبدو أنها قد تنال إعجابه.. وضعها على مكتبه بين مخطوطات كثيرة أخرى وقال لي:

ـــ بعد شهر نتصل بك لنخبرك إن كنّا سنطبعها أمْ لا.. يجب أن تطّلع عليها لجنة الدار.. أتمنّى لك يوماً جميلاً أخ عيسى..

فهمتُ من تمنيه لي يوماً جميلاً أن أنصرف، وقفتُ لأصافحه بحرارة ثم خرجت.

كتبت السكرتيرة رقم هاتفي وأنا أختلس النظر إلى نهديها الممتلئين والمسجونين بقسوة خلف هذه البلوزة الضيقة جداً.

عندما رجعتُ إلى البيت، رميتُ دراجتي الهوائيّة خلف الباب ثمَّ رميتُ جسدي على السرير، زفرتُ بانزعاج، شعرتُ بأن لجنة الدار لن تعجبها الرواية لهذا لن تطبعها، وأيضاً سوف يكتشفون أنّ باتريك جيمبسون ليس حقيقياً وإنّما هو من اختراعات خيالي.. ويمكن أن يُصدر الجيش الجمهوري الأيرلندي بياناً يدين فيه تصريحاتي هذه بعد وقت. مرّتْ الأيام وهذه المخاوف وحساء أمّي يعبثان بروحي ومعدتي.

في اليوم السابع رنَّ جرس الهاتف، إنّه باسم علاء.. قال لي بحرارة على السماعة:

ـــ مساء الخير أستاذ عيسى.. لجنة الدار وافقتْ على طباعة الرواية التي ترجمتها، الأساتذة وصفوها بأنّها من أجمل الروايات في الأدب الغربي.. إذا سمحت تفضّل الآن إلى مكتبي لنوقع العقد و..

ـــ الآن؟! أعتذر صديقي، لديّ هذا المساء بعض المواعيد.. غداً ظهراً سوف أمرّ بمكتبك..

طبعاً لا مواعيد عندي، كذبتُ عليه لأشبع رغبتي بالشعور بأنّني إنسان مهم.

لم أنمْ ليلتها، إنما -على عشرات الأوراق البيضاء- رحتُ أتدرب على التوقيع وكتابة الإهداءات.

قبل الدار بشارعين وضعتُ دراجتي الهوائيّة، خفتُ أن يراها أحدٌ من العاملين في الدار.. إنّها لا تليق بمترجم كبير مثلي، قلتُ للسكرتيرة الجميلة وأنا أدخل مكتب باسم علاء:

ـــ قهوتي دون سكر..

ـــ أعتذر على التأخر.. ظللتُ طويلاً حتى عثرتُ على مكان أضع فيه سيارتي، أفٍ من الشوارع الضيقة لسوق هذه المدينة.

قلتُ لباسم علاء وأنا أجلس بنزق لأشعل سيجارة، ابتلعتُ ضحكاتي بعد دخولي وأنا أصافح عدة رجال حول مكتب السيد علاء، يبدو أنّهم اللجنة الاستشارية للدار.. كلهم يشبهون الفقمات، إلا واحداً.. يشبه بطريقاً.

شربتُ القهوة وأنا أضع ساقاً على أخرى، ثمَّ وقعنا العقد لأقبض فوراً مبلغاً جيداً واتفقنا على نسبة الأرباح.

خلال أسبوعين كانت الرواية قد طبعتْ ووزعتْ على كل المكتبات، مع بعض الإعلانات عنها في المجلات والجرائد.

مبيعاتها خلال شهرين جعلتنا نشهق مندهشين، كانت أعلى مما خمنّا، وثمّة العديد من المقالات والدراسات كتبتْ عنها ونشرتْ في عدة مجلات وجرائد.

بعد أشهرٍ قليلة طبعتِ الرواية للمرة الثانية مع عقدٍ جديد ينص على أرباح أعلى، وأول كلّ أسبوع كان السيد باسم علاء يرسل لي المال مع سائقه الخاص.

هذا المال الوفير جعلني سعيداً للغاية، اشتريتُ لأمي كلّ ما تحتاجه وكل ما حلمتْ به، واشتريتُ لنفسي ثياباً جديدةً وأحذيةً وقبعاتٍ وغليوناً وزينةً حلوةً لدراجتي الهوائيّة، وصوراً جميلة لعارضات أزياء ونجمات هوليوود ثمَّ علقتها على جدران غرفتي.

في أكثر من مناسبة استطعتُ بذكاء التهرب من صحفيين ومذيعين أرادوا إجراء مقابلات معي حول الرواية، خفتُ أن تنكشف كذبتي بخصوص (باتريك جيمبسون) في زحمة الأسئلة والأجوبة.

ذات مساءٍ ارتديتُ “بيجامتي” الفخمة الجديدة ثمَّ جلستُ على الأريكة أمام التلفاز لأتسلّى بتناول المكسّرات وشرب العصير وتدخين الغليون بمتعة، هذه المكسرات لذيذة جداً. ثمّة نشوة روحية داهمتْ كياني وأنا أمضغها، عندئذٍ قررت:

ـــ يجب أن أترجم رواية ثانية لباتريك جيمبسون..

صارتْ معدتي ترقص داخل جسدي، فجأةً رنَّ جرس الهاتف، وضعتُ السماعة بلا مبالاة على أذني، خاطبني صوتٌ غامض:

ـــ ألو.. هل أستطيع التحدّث مع عيسى..

هذه أوّل مرّة منذ أنّ طُبعتِ الرواية يخاطبني شخصٌ غريب بعيسى دون أستاذ قبلها!

ـــ عيسى معك.. لكنّني أعتذر عن أيّ لقاءٍ صحفي أو إذاعي أو تلفزيوني و…

ـــ من الضروري أن نقابل بعضنا عزيزي عيسى..

هذه الثقة المزعجة في صوته طردتْ عن لساني نكهة المكسرات، قلتُ له بصوتٍ جاف:

ـــ ولماذا تريد أنّ تقابلني؟

ـــ أنا.. أنا باتريك جيمبسون، مؤلّف الرواية التي ترجمتها.. وأريد الآن حصتي من الأرباح..

شهقتُ غير مصدقٍ هذه الكلمات التي ثقبتْ أذني، لأركل عن غير قصد الطاولة، صرختُ به:


تخطيط: إبراهيم الصلحي

ـــ أنت كاذب.. أنت غير حقيقي، أنا اخترعتك، إنها روايتي يا وغد..

ـــ أنا قادمٌ إليك أيُّها الحقير.. إن كنت رجلاً انتظرني، أريد حصتي من الأرباح غصباً عنك.. أنت مجرّد مترجم..

وأغلق الخط، كلّ جسدي كان يرتجف، اللعنة على هذا المساء، أَمعقولٌ أن يكون هذا الباتريك حقيقياً؟! مستحيل، إنّه كذبة.. ثمّة شيطانٌ صرخ داخل رأسي: (إنّه قادمٌ إليكَ مع كل الجيش الجمهوري الأيرلندي)، انتبهتُ للزجاج المكسور على الأرض للصحن والكأس والغليون، خيّل لي أنْ حياتي هي التي سقطتْ عن الطاولة لتتحطم فوق البلاط، نويتُ أن أشعل سيجارةً على نية الهدوء، لكن سيجارتي وقلبي سقطا معاً مني عندما بدأتْ خبطاتٌ لئيمة تنهمر على باب بيتنا، مع صراخٍ حاد.

أسرعتُ إلى النافذة لأختلس النظر منها إلى الزقاق فلمحته بصعوبة في عتمة الليل يركل الباب بعنف ويزعق:

ـــ اخرج أيُّها الغبي.. أين أنت يا محتال؟ أعطني حصتي من الأرباح، أنا صاحب هذه الرواية وأنت مجرّد مترجم..

ثمّة أضواءٌ بدأتْ تُنار من داخل عدة نوافذ في الزقاق، هنالك فضيحة كبيرة تقترب وهي تنوي أن تفترس بيتنا الشاحب أمام كلِّ بيوت زقاقنا، صعدتُ إلى السطح وأنا أتعثر برجلي، قفزتُ عبر أسطح بيوت الجيران حتى زقاقٍ بعيد، لأركض فيه مبتعداً عن الحارة وعن هذا الكابوس، من حسن حظّي أنّ أمي في زيارة لبيت خالتي.

التجأتُ إلى بيت صديقي أدهم، قال لي مستغرباً بعد أن فتح بابه:

ـــ أهمُّ مترجم في البلد يزور أصدقاءه ليلاً وهو حافٍ! غريب..

اللعنة على أدهم، أنا لستُ مترجماً.. اتصلتُ من هاتفه بالبيت، قالتْ لي أمي:

ـــ أين أنت يا بني؟.. صديقك باتريك هنا في بيتنا.. إنّه ينتظرك ويريد أن يراك ليعطيك روايته الثانيّة حتى تترجمها، إنّه لطيف جداً ومعجب بك.. يحبك كثيراً، لقد أعطيته غرفتك..

حتى أنتِ يا أمي تظنين أنّ ابنك مجرّد مترجم! شعرتُ أنّ الله ذاته سوف يحاسبني يوم القيامة بوصفي مترجماً لا روائيّاً.

أخبرتُها أنّني سأسافر لأسابيع قليلة، ووعدتها أن أرسل لها كل شهر ما تحتاجه من أموال، ثمَّ أغلقتُ الهاتف قبل أن تناقشني بأيّ شيء.

لم أخرج من بيت أدهم خلال هذه الأسابيع إلا بضع مرّات، خلالها أرهق روحي باتريك بمطاردته لي من شارعٍ إلى آخر ومن زقاقٍ إلى ثانٍ في دمشق، يا إلهي، من أين طلع لي هذا الكائن، صار كشبحٍ بين الشوارع يُعِدُّ لي الكمائن ويلحقني.. هذا الشبح حول حياتي لكابوسٍ لا يحتمل.

ذات ليلة وبعد تفكيرٍ طويلٍ ومتعب ابتسمتُ بخبث، وأخيراً عثرتُ على طريقة تخلّصني من باتريك نهائياً، همستُ في سري: (سوف أسجن باتريك في هذه البلاد إلى الأبد). ليلتها شربتُ نبيذاً للمرة الأولى بعد هروبي من بيتي، وأنا أتنفس الصعداء.

استطعتُ بمساعدة خال أدهم المقيم في أوروبا الشرقيّة أنّ أحصل على جواز سفر مزور بإتقان، خال أدهم على تواصل مع هذه العصابات الدوليّة.. كلفني هذا الجواز مالاً كثيراً، جواز سفر غربي على صفحته الأولى صورتي الجميلة بابتسامتي الساحرة، لكنّه لم يكن باسمي.. كنتُ قد طلبتُ سابقاً أن يكون باسم باتريك جيمبسون، فكرة جهنميّة.. لم أشرح شيئاً لأدهم، كنت طوال السهرة أتأمل الجواز وأضحك بجنون.. لقد هزمته.

حجزتُ ليلتها في طائرةٍ ذاهبة إلى لندن، صباحاً ذهبتُ إلى المطار.. خلال الشوارع تمنيتُ لو أعثر على باتريك وهو يعدُ لي كميناً حتى أودعه بشماتة لكنّني لم أشاهده، من نافذة الطائرة لوحتُ بكفي موّدعاً البلاد، وموّدعاً بحزن طيف أمي، وموّدعاً بابتسامةٍ خبيثة طيف باتريك وأنا أتمتم بثقة:

ـــ وداعاً يا باتريك الحقير.. سوف تظلُّ سجين هذه البلاد إلى الأبد، أنتَ لا تستطيع أن تغادرها مرّتين..

وضحكتُ من بين المسافرين في الطائرة وهو يلتفتون مستغربين نحوي وأنا أهذي منتشياً:

ـــ لن تستطيع أنّ تغادرها مرّتين.. لن تستطيع أنّ تغادرها مرّتين..

في طائرةٍ منتصف سماءٍ لا متناهيّة قررتُ أنّ أنسى نهائيّاً عيسى زكريا، وبدأتُ أتدرب خلال هذه السماء بين الغيوم كيف أكون باتريك جيمبسون.

يا إلهي كم هو رائعٌ ضباب لندن، يثير شهية الخيال، يجعله عالياً ليحلق بحرية إلى عوالم أخرى. مرّتْ سنتان وإعجابي بضباب لندن لا ينتهي، الضباب روحي.

عندما وصلتُ إلى لندن عثرتُ على عملٍ مقبول، إتقاني للغة الإنكليزيّة ساعدني كثيراً، وهكذا.. لسنتين هادئتين وأنا أغسل الأطباق في هذا المطعم المتواضع، ومساءً أتسلى على سريري في غرفةٍ صغيرة فوق المطعم بقراءة الروايات الإنكليزيّة بلغتها الأم، وفي أيام العطل أتمشى سعيداً مع خيالاتي التي لا تنتهي في ضباب لندن، وكأنّني ألعب لعبة “الغميضة” مع شخصٍ من اختراع خيالي، وأيضاً أطعم الإوزات في الحدائق اللندنيّة كأيّ إنكليزي عادي.

مرّةً، ربّتَ السيد هنري صاحب المطعم بلطفٍ على كتفي، متأملاً لمعان الأطباق وهو يقول لي فرحاً:

ـــ أنتَ إنسان جيد يا باتريك.. إنكلترا فخورة بك..

ذات مساءٍ جميل لوحتُ معه ومع بشرٍ كثر للملكة إليزابيث وهي تمرُّ من أمامنا بعربةٍ فاخرة تجرها الخيول، يومها قرصني من ساعدي الجميل مايكل ــ زميلي في غسل الأطباق- غمزني بخبث، وهو يقول لي:

ـــ صاحبة الجلالة نظرتْ إليك طويلاً يا باتريك.. يبدو أنّك تروق لها..

وضحكنا كأطفالٍ صغار، أنّا والسيد هنري ومايكل الجميل والفتى جاك.. الضابط مارك آخر الحراس في موكب الملكة سمعنا هو الآخر، لم يعتقل أحد منّا، إنّما ابتسم بصمت.

الصيف الماضي عشتُ قصة حبٍ ملتهبة، كانت مرهقة جداً لسريري مع الحلوة مارغريت، لكن والدها اللورد تشارلز رفض فكرة الخطوبة بيننا، لأنّني – بحسب مزاجه الغريب- لستُ مثلهم من السلالات النبيلة، وملامحي تدل على أنّني من أصولٍ أيرلنديّة، ولا أجيد شيئاً في هذه الحياة سوى غسل الأطباق. قال بغضبٍ لابنته:

ـــ عزيزتي مارغريت.. أنتِ لست طبقاً..

يا إلهي كم كان كلامه هذا مهيناً لذاتي عندما وصلني، هذا الكلام المؤلم جعلني سجين غرفتي لأيامٍ عديدة أفكر بأرقٍ كيف أثبت للورد تشارلز أنّني لست بقليل كما يظن.

عندئذٍ خطرتْ في بالي فكرة رائعة جعلتْ كل خلايا جسدي تقشعر، قلتُ في سري:

ـــ لماذا لا أطبع هنا في لندن تلك الروايّة الجميلة، التي كتبتها عندما كنت عيسى في دمشق؟

فكرتُ طوال الليل، ثمَّ قررتُ فجراً.. سوف أعيد كتابة روايتي تلك لكن هذه المرّة باللغة الإنكليزيّة، وبما أنّ النقاد هنا أذكياء جداً لن أكتب على غلافها أنها من تأليفي أنا باتريك جيمبسون، فيحاولون اكتشافي ثمَّ يعرفون أنّني لست إنكليزيّ الأصل، فأجلب بهذا لنفسي المتاعب.. سأدعي أنّني مترجمها، وأنّ هذه الرواية لروائي شاب مات منتحراً في دمشق واسمه عيسى زكريا.


لوحة: عدي أتاسي

خلال ليالي شهرين ونصف كتبتها مجدداً باللغة الإنكليزيّة، انتبه السيد هنري لتراجع درجة لمعان الأطباق التي أغسلها فصار ينزعج منّي.

انتهيتُ من كتابتها، جمعتُ أوراقها بسعادةٍ أخذتْ روحي لأعلى سماء، ثمَّ ذهبتُ إلى دارٍ مشهورة بطباعة الكتب الأدبيّة في وسط لندن، رحّب بي اللورد جيمس صاحب الدار في مكتبه، جلستُ أمامه وأنا أناوله الأوراق.. شرحتُ له:

ـــ لقد ترجمتُ هذه الرواية وهي لروائيّ دمشقيّ شاب، انتحر شاباً في القرن الثامن عشر و…

ـــ هل كان العرب يعرفون فن الرواية في القرن الثامن عشر؟!…

قاطعني اللورد جيمس مندهشاً فأردفتُ له:

ـــ نعم سيدي.. هنالك بعض التجارب المهمّة، لكنّها أهملتْ لأسباب دينية وسياسية تخصّ الشرق وطبيعة عقله ومزاجه..

ـــ لا مشكلة عزيزي باتريك.. خلال شهر سوف أطلع على هذه الرواية ثمَّ أتصل بك وأعلمك بقراري النهائي حولها.

لم يستطع مزاجي تحمل الملامح الغليظة لكلب اللورد جيمس، خلال كلامي كان يرمقني بشكلٍ غريب، شعرتُ وكأنّه يعرف أن كلّ كلامي كذب، اكتشاف جديد: يبدو أنّ هذه الحيوانات وكما تعرف الزلازل قبل حدوثها، تعرف أيضاً الأكاذيب بعد وقوعها. حظّي جيد أن هذا الكلب الغليظ لا يجيد الإنكليزيّة وإلا كان قد فضحني، عندما عانقني اللورد مودعاً ومن فوق كتفه مددت لساني لهذا الكلب حتى أغيظه.

مرّت أربعة أيام، السيد هنري لم يعدْ يحتمل تراجع درجة لمعان الأطباق التي أغسلها، في اليوم الرابع وقبل أن يوبخني السيد هنري بدقيقة واحدة، اتّصل بي اللورد جيمس على هاتف المكتب في المطعم:

ـــ عزيزي باتريك.. الرواية رائعة جداً، قد أذهلتني فعلاً.. رواية عظيمة لا يمكن أنّ تبدعها سوى روحٍ شابة تنوي الانتحار بعيداً عن هذا العالم.. هل من الممكن أن تأتي الآن إلى مكتبي حتى نوقع العقد؟

ـــ أعتذر صديقي.. الآن لا أستطيع، لديّ بعض الأطباق ويجب أنّ.. عفواً لديّ بعض المواعيد، نلتقي صباح الغد.

تجاهلتُ دهشة السيد هنري أمامي على مكتبه، لم أرجع إلى الأطباق، صعدتُ إلى غرفتي.. مايكل شرح له مشروع ترجمتي لرواية من الشرق.

بعد أنْ وقّعنا العقد بأسبوع صدرتْ الرواية ووزعتْ على كل المكتبات في المدن الإنكليزيّة، المرابيح كانت خياليّة والرواية حققتْ نسبة مبيعات عالية، لتتصدر قائمة الروايات الأكثر مبيعاً ضمن قوائم خاصة بالفن الروائي، سرعان ما صدرتْ طبعة ثانية وثالثة لها خلال أشهر قليلة وصارتْ توزع أيضاً في البلدان الناطقة بالإنكليزيّة.

أحد المخرجين السينمائيين المهمين من ويلز، اتّصل بي وحدثني حول رغبته لتحويل هذه الرواية إلى فيلمٍ سينمائي عالمي.

الصحفيون هنا مزعجون للغاية، رغم هذا كنت بارعاً في التهرب منهم، أسئلتهم الذكية مخيفة، قد تفضح إجاباتي كذبتي.

أهديتُ السيد هنري نسخة من الرواية وأنا أعانقه بحرارة، كان بمثابة أب حقيقي لي لأكثر من سنتين، مايكل بكى وهو يودعني.. قال من بين دموعه:

ـــ أطباقنا البيضاء سوف تشتاق ليديك كثيراً يا صاحبي باتريك..

تركتُ العمل في المطعم لأسكن في شقة جميلة استأجرتها في ضاحية فخمة من الضواحي الراقيّة شمال لندن.. شرفتها تطلُ على ضبابٍ ساحر، الضباب روحي التي أعشقها، ثمَّ اشتريتُ سيارةً حديثة، كنتُ أتمنى لو أنّ لديّ مدير أعمال ليرد هو على اتصال مارغريت، اضطررت لأنْ أرد أنا على مكالمتها.. طلبتْ منّي بإلحاح أنّ نرجع لبعضنا، أكيد أنْ أخبار الشهرة لحبيبها السابق قد وصلتها، اعتذرتُ منها ورفضتُ حتى طلبها أن أزورها، وقبل أن أنهي المكالمة وعدتها أنّني سأزورها يوماً ما لأعزيها بموت والدها اللورد تشارلز.

ذات مساءٍ جميل أشعلتُ سيجاراً كوبياً فاخراً بعد أن تناولت طبق معكرونة شهياً، لأعبّ منه وأنا أشرب من هذا النبيذ الباريسي وأتابع على شاشة التلفاز تقريراً مصوراً في القناة الإنكليزيّة الأولى عنّي وعن الروايّة التي ترجمتها، ثمّة صورٌ لي التقطها خلسةً الصحفيون المشاغبون وأنا أمشي في الشوارع أو أتجول في المتاجر، وواحدة وأنا على شرفة بيتي، ثمَّ حوارٌ سريع مع اللورد جيمس ومداخلة مقتضبة للسيد هنري بوصفه صديقي، أعجبتني مداخلته لأنه لم يذكر فيها سيرة الأطباق.

رشفتُ من النبيذ مع نفسٍ عميقٍ من هذا السيجار، همستُ بزهوٍ لنفسي منتشياً وأنا أغوص في هذه الأريكة:

ـــ يجب أنّ أترجم رواية ثانيّة لعيسى زكريا..

رنّ جرس الهاتف، اللعنة على الصحفيين المشاغبين.. أنا الآن بحالة نشوة روحيّة يا أغبياء، أخذتُ السماعة إلى أذني:

ـــ مرحبا.. هل الأخ باتريك موجود..

ـــ نعم.. باترك معك..

ـــ كيفك أبا البواتريك.. أنا عيسى زكريا مؤلّف الرواية التي ترجمتها، أريد حصتي من الأرباح حالاً، وأيضاً أمّي تسلم عليك يا أحلى أزعر..

قفزتُ بخوف هزّ كل كياني عن الأريكة، لتسقط زجاجة النبيذ والكأس والسيجار على الأرض.

ـــ لا يوجد أحد اسمه عيسى زكريا.. إنّه كذبة من أكاذيبي أيُّها المحتال..

ــ أنت الكاذب.. انتظرني، أنا قادمٌ إليك يا باتريك الحقير..

وأقفل الخط، هذا الخوف العظيم صرخ عالياً داخل قلبي: عيسى قادم.

ارتديتُ ثيابي على عجل وخرجتُ دون ربطة عنق وأنّا أتعثر برجليّ لأركب في سيارتي.

في مرآتها الأماميّة العلويّة لمحتُ شاباً قادماً من بعيد على دراجة هوائيّة، وثمّة عصا غليظة يلوّح بها مهدداً بصراخٍ عالٍ نصفه شتائم لا ثياب فيها، وقبل أنّ يصل إلى سيارتي شغلتها وهربتُ مبتعداً عنّه.

كان يجب أنّ أدهسه فأقتله تحت العجلات لأخلص منه نهائياً، خفتُ من تهمة قتل مواطن أجنبي يمكن أنّ أظلّ بسببها خلف القضبان عشرين عاماً.

مضتْ ليالٍ موحشة وأنا أعيش هارباً متنقلاً بين فنادق لندن، وكلّ غرفة أحجزها بمجرد أنّ أدخلها يأتيني اتصال من عيسى فيه ألف شتيمة بذيئة وتهديد بالقتل، وكيفما قدتُ سيارتي يطلع لي من شارعٍ فرعي على دراجته التافهة وهو يلوح لي بعصاه.. ليالٍ كلها كوابيس، بلا نومٍ أقود سيارتي ويقودنّي الخوف.. كوابيس مرعبة فيها ألف عيسى وعيسى يهوون على رأسي بعصيّهم الغليظة، لأنزف أنهاراً من الخوف.

في هذه الليالي التعيسة كبرتُ ألف عام، كنت أموتُ ببطءٍ.. ما عادتْ روحي قادرة على تحمّل هذه الكوابيس التي تكفي كلّ البشر من دمشق حتى لندن.

يا إلهي ساعدني.. أتوسل إليك أنقذني من هذه الورطة الفظيعة التي تورطتُ بها، أنا ابنك البار باتريك الوفي، لأجل كل غيومك وسمائك ارحمني من هذا العذاب، وخلصني من هذه الفضيحة السوداء التي تهمّ بافتراسي.

البشر المتناثرون في شوارع التيه اللندني لروحي، مالتْ أعناقهم حزناً لأجل ملامحي التي تحتضر ببطء، دون ربطة عنق كنت أهيم على وجهي كل ليلة بين حانات لندن.

لم يستجب الله لدعائي بين الغرف الشاحبة لهذه الفنادق، صار الخمر هو إلهي.

هذه الليلة شربتُ كثيراً بينما تعاسة مؤلمة تشربني وكأنّني نبيذها المفضل، كنت مخموراً للغاية عندما همس لي النادل بأن شخصاً اسمه عيسى زكريا يريدني على الهاتف لأمرٍ ضروري. لم أهرب هذه المرّة، شيءٌ ما داخلي استسلم نهائياً.

ساعدني النادل اللطيف لأصل إلى سماعة الهاتف وأنا أترنح، لو أنّني ظللت أغسل الأطباق. قال لي عيسى بثقة عبر سماعة الهاتف:

ـــ لا يوجد لديك شخصيّة ثالثة لتهرب إليها.. لا مفر أمامك يا باتريك، أنصحك أنْ تقابلني لنتفاوض ونحصل معاً على تسويةٍ عادلة.. ما رأيكَ؟..

تعبي وتعاستي وحزني قالوا له معاً:

ـــ موافق.. أين ومتى تريدنا أنّ نلتقي يا عيسى؟

ـــ بعد ثلاث ساعات.. عند منتصف الليل، تحت جسر لندن.. لا تجلب سلاحاً.. حتى ولو جلبت مسدساً عصاي ستقتلك..

وقهقه بوحشيّة، النادل اللطيف ذاته ساعدني لأصل إلى غرفتي في الطابق الثاني، كان يتأمل ملامح وجهي، لم يقلْ شيئاً، كان في عينيه رثاءٌ صامت لروحي.

شعرتُ وكأنّه يودّعني، كلّ الأشياء كانت تدور في رأسي كعواصف عاتية، وروحي تتأرجح كبندول ساعةٍ قديمة بين آلامٍ رهيبة.

رميتُ بجسدي على السرير، لم أعرف المدة التي نمتها.. شعوري بالزمن تلاشى كلياً. لم يكن نوماً كاملاً، كنت أغرق خلاله في جحيمٍ من العذابات، ثمّة مخالبُ لكائن غريب افترستْ فجأةً روحي.

استيقظتُ فاختفتْ في اللحظة ذاتها كلُّ آلامي، تأملتُ الغرفة حولي.. إنّها صامتة جداً، حتى أثاثها بات بغير ألوان. ثمّة سكونٌ رهيب يلف المكان.

انتبهتُ لعقارب الساعة، إنّها تشير لمنتصف الليل، تذكرتُ الموعد.. خرجتُ مسرعاً وعندما أعطيتُ مفتاح غرفتي لموظف الاستقبال لم ينتبه لي، يبدو أنّه مخمور.

حاولتُ أن أقود سيارتي، ثمّة عطلٌ غريب أصابها.. هي الأخرى أظن أنّها مخمورة، لوّحتُ بساعدي لسائقي سيارات الأجرة، ولا واحد منهم توقف.. أكيد أنّهم جميعاً مخمورون، بدا لي الكون منتصف هذه الليلة كلّه مخموراً.

لا حلًّ أمامي سوى أن أمشي حتى جسر لندن، رغم ازدحام الشوارع بالناس والسيارات لكنّني لم أكن أسمع أيّ شيء. مشيتُ بهدوء.. بلا خوفٍ، دون سيارة أو حتى دراجة هوائيّة.

وصلتُ الجسر متأخراً عن موعدنا بنصف ساعة، نزلتُ أسفله بهدوئي الذي استغربته كثيراً.

تحت الجسر ورغم الضباب لمحتُ عن كثب شبحين بجانب ضفة النهر، انحنيتُ لأختبئ بين الشجيرات وأنا أراقبهما وأقترب منهما خلسة.

شهقتُ شهقة عظيمة، أمامي كان عيسى وباتريك واقفين وجهاً لوجه.

لم أصدق في الثانيّة الأولى، أمعنتُ نظري فيهما.. إنهما بكل ملامحي عيسى وباتريك، أنا أعرفهما جيداً.. أكثر من أيّ كائنٍ آخر، لطالما تأملتهما في المرايا الدمشقيّة واللندنيّة.

يا إلهي كم يشبهان بعضهما، يصعب للوهلة الأولى التمييز بينما.

فجأةً علا صوتهما وأطرافهما تتشنج وثمّة غضب مكبوت يستبيح ملامحهما، على حين غرة بدآ بتوجيه اللكمات القويّة والركلات القاسيّة لبعضهما، كطفلين بتربيةٍ سيئة انخرطا في مشاجرةٍ رهيبة لا لغة فيها سوى لغة الشتائم، بعد دقائق قليلة كانت ملامح وجهيهما قد ضاعتْ تحت دماءٍ غزيرة.

في زحمة صراعهما الوحشي والدامي صرخ عيسى:

ـــ هذه الرواية لي.. أنا من أبدعها، أنت مجرد مترجم أيُّها الحقير..

رماه باتريك أرضاً وهو يبصق عليه، ثمَّ ردَّ بغضبٍ:

ـــ إنّها روايتي.. واحدٌ حقيرٌ مثلك هو المترجم أيُّها الوغد..

كان باتريك أقوى قليلاً من عيسى، انتبهتُ لهذا.. لكن عيسى أيضاً لم يكن قليلاً.. يا إلهي.. سيقتلان بعضهما، يجب أنْ أساعدهما وأنْهي هذه المشاجرة الداميّة، حاولتُ لكنّني فشلتُ وكأنّني تمثال.

سقطا فوق بعضهما ليتدحرجا مع دمائهما جانب ضفة النهر، ازداد صراعهما وحشيةً.. لم ينتبها لي أبداً وأنا أراقبهما عن قرب بحياديّة وببلاهة.

أيضاً لم ينتبها للماء وهو يجرّهما بهدوءٍ حتى منتصف النهر، وكأنهما قاربان اصطدما ببعضهما بسبب الضباب.


تخطيط: نصر ورور

ركضتُ بلهفة إلى الضفة وأنا أصرخ بهما، حاولتُ أن أخلصهما من بعضهما وأنهي صراعهما القاسي، لكنني للأسف لا أجيد السباحة.. أخاف من الماء، لديّ عقد نفسيّة قديمة منه عمرها قرون، كلُّ الأشياء في هذا الكون تحبّني وأحبّها إلا الماء.. لا نحبّ بعضنا.

عندما انتبها إلى أنهما صارا في منتصف النهر نسيا صراعهما الدامي، وصارا يخبطان الماء ويصرخان كطفلين تائهين.

ماء النهر غسل دماءهما عن وجهيهما، وبدأ يبتلعهما كوحشٍ جائعٍ غير مكترثٍ لصراخهما.. جدتي قالتْ لي ذات حكاية: (ليس للأنهار لغة.. إنّها لا تجيد اللغات التي اخترعها البشر)، تذكرتُ حكاية جدتي لكن لم أتذكر أين حكتها لي.. في دمشق أم في لندن؟

الآن فقط وهما يغرقان انتبها لي، وبرعبٍ ورغبةٍ غرائزيّة للبقاء مدّا ساعديهما إليّ.

ترجّاني عيسى بخوف:

ـــ أرجوك يا سيدي أنقذني.. أنا أنتَ..

توسل لي باتريك بهلع:

ـــ يا سيدي أتوسل لك أنقذني، ليس هو، أنتَ أنا..

تمنيتُ بحسرة أنَ أنقذهما، على الأقل أنّ أنقذ أحدهما.. للأسف أنا لا أجيد السباحة في الماء، يبدو أنّني منذ منتصف هذه الليلة لن أجيد أيّ شيء سوى المراقبة.

بكيتُ بمرارة وأنا أسقط لأجثو جانب الضفة كراهبٍ هزمه الإيمان بالآخرين، كان صراعهما مع الماء فظيعاً.. وكأن صراعهما مع الماء، هو صراع كل الكون مع هذا النهر خلال الضباب، سرعان ما هزمهما.

لوحتُ لهما بين دمعتين موحشتين وأنا أستسلم بهدوءٍ لمشيئة موتهما:

ـــ وداعاً عيسى.. وداعاً باتريك.. كنتُ سعيداً يوم ارتديتك أنتَ، وكنتُ سعيداً أيضاً يوم ارتديتك أنتَ أيضاً..

ودعتهما وهما يختفيان تحت الماء، ودعتُ خلال غرقهما كلّ شيءٍ فيّ، كانت هذه أوّل مرّة أبكي فيها وأيضاً المرّة الأخيرة، غرقا معاً لتستقر جثتاهما بعد أنْ تشابكتْ أصابعها في قاع نهر لندن، معدةُ النهر متخمة الآن بجثتين أنيقتين.

لم يتبقَّ شيءٌ منّي، سوى دراجة هوائيّة في دمشق، وسيارة حديثة في لندن.. ليحطَّ عليهما منذ الليلة الغبار العابر للقارات، وأيضاً.. رواية لها كاتبان ومترجمان في بلدين مختلفين.

ومرَّ عليَّ زمن طويل لم يكن لديّ خلاله أيّ وسيلة لقياسه، وأنا أتجول في فضاءٍ كوني من الصمت والسكون، كروحٍ تائهة بلا بشريٍ يستر وحشتها، بلا هدفٍ كروحٍ لا ترى.. تعبر المدن الأوروبيّة مع نسائم الهواء.

أحياناً كنت أشتم عيسى، وأحياناً أخرى كنت أشتم باتريك، وأتسلّى بكآبةٍ دائمة أثناء لا زمني هذا، في محطات القطارات ومكاتب الشركات، في المقاهي والحانات والمطاعم، في المدارس والبيوت.. أتسلى بلا مبالاةٍ بأنْ أقترب من المشاجب وأتأمل بسخريةٍ ما قد علّق البشر عليها من ثيابهم، لألهو وأنا أعبث بها متحسراً، خلال ضياعي اللانهائي هذا.. متحاشياً كأيّ لاشيء، عدم الاقتراب من الماء.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.