المِحْرَقَةُ

مجهول
الأحد 2016/05/01
تخطيط: محمد أبو الوفا

سَأُصَدِّقُ ذَلِكَ

اضْحَكِي لِي يَا أُمِّي

عِنْدَمَا أَعُودُ إِلَيْكِ مِنَ الحَرْبِ

كَيْ أَتَأَكَّدَ أَنَّ هَذَا العَالَمَ مَازَالَ بِخَيْرٍ

تَعْرِفِينَ أَنَّنِي غَبِيٌّ

وَسَأُصَدِّقُ ذَلِكَ.

وَإِنْ تَأَخَّرْتُ عَنْكِ

بِسَبَبِ زَحْمَةِ المَوْتَى عَلَى الطَّرِيقِ

وَأَرَدْتِ أَنْ تَنَامِي أَنْتِ أَيْضًا

عَلِّقِي ضِحْكَتكِ عَلَى شَجَرَةِ التِّينِ

التِي زَرَعَهَا جَدِّي

وَظَلَّتْ خَضْرَاءَ إِلَى الآنِ.

أَنَا غَبِيٌّ كَمَا تَعْرِفِينَ

وَسَأُصَدِّقُ حَتْمًا أنّ شَجَرةَ التِّينِ هِيَ أَنْتِ

مِثْلَمَا صَدَّقْتُ

أَنَّ العَالَمَ مَازَالَ بِخَيْرٍ.

لاَ شَيْءَ يَدُلُّ أَنَّنِي كُنْتُ مِنْ هُنَا

هَا أَنَا فِي تُونِسَ العَاصِمَةَ مِنْ جَدِيدٍ

أَمُرُّ مِنْ تَحْتِ أَقْوَاسِهَا

وَأَصْعَدُ شَوَارِعَهَا المَغْمُورَةَ بِالغُبَارِ وَالقُمَامَةِ

أَبْحَثُ عَنْ ذُنُوبِي القَدِيمَةِ، المَتْرُوكَةِ عَلَى الأَرْصِفَةِ وَالمَحَطَّاتِ

حَيْثُ كَانَتْ يَدُكِ الصَّغِيرَةُ تَتَعَرَّقُ بَيْنَ أَصَابِعِي

وَتَنْزَلِقُ فِي هُدُوءٍ كُلَّمَا حَاوَلْتُ تَقْبِيلَكِ.

الظِّلاَلُ البَاهِتَةُ تَتَكَسَّرُ عَلَى العَتَبَاتِ وَحَوَافِّ الضَّوْءِ

وَرَوَائِحِ القُنَّبِ الهِنْدِيِّ تَهْجُمُ عَلَى الهَوَاءِ

فَيَرْتَخِي عَلَى الأَشْجَارِ وَعَلَى وُجُوهِ البَاعَةِ المُنْهَكِين

تَمَامًا كَمَا رَأَيْتُهُمْ مِنْ قَبْلُ

بَيْنَمَا لاَ شَيْءَ آخَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّنِي كُنْتُ هُنَا

كَأَنَّ يَدَكِ الرَّطْبَةِ

ظَلَّتْ تُلاَحِقُنِي طِوَالَ الوَقْتِ

وَتَمْسَحُ أَيَّ أَثَرٍ لِي.

أَنْتَ

في اللّيل

كلّما دقّت الرّيحُ البابَ

أجري سعيدًا كيْ أفتحه

مُتخيّلاً أنّكَ أنتَ

الذي أتَيْتَ.

الرّيحُ نفسها

كلّما حرّكتُ مزلاجَ الباب

ترقصُ سعيدةً في الخارج

مُتخيّلةً أنّكَ أنتَ

الذي ستَفْتَحُ.

الأَشْجَارُ سَتُنْقِذُ العَالَمَ

الآنَ أَعْرِفُ

أَنَّنِي كُنْتُ رَجُلاً غَبِيًّا

عِنْدَمَا لَمْ أَذْهَبْ مَعَ أَهْلِي إِلَى الحَرْبِ

وَاشْتَغَلْتُ مُزَارِعًا

أَحْفِرُ الأَرْضَ فِي كُلِّ يَوْمٍ

مُعْتَقِدًا

أَنَّ الأَشْجَارَ سَتُنْقِذُ العَالَمَ مِنَ المِحْرَقَةِ.

لَقَدْ فَعَلْتُ مَا بِوِسْعِي

لَكِنَّ الأَعْدَاءَ جَاؤُوا مِنَ كُلِّ مَكَانٍ

وَأَفْسَدُوا كُلَّ شَيْءٍ

وَحَتَّى البِئْرُ التِي حَفَرْتُهَا بِأَظَافِرِي المُشَقَّقَةِ

طَمَرُوهَا بِجُثَثِ إِخْوَتِي

وَعَادُوا ضَاحِكِينَ إِلَى الحَرْبِ

تَارِكِينَ الغَابَةَ خَلْفَهُمْ تَمُوتُ مِنَ العَطَشِ.

وَهَا أَنَا اليَوْمَ

مُتَّكِئًا عَلَى غُصْنٍ يَابِسٍ

أَطِلُّ عَلَى الخَرَابِ

وَأَنْظُرُ إِلَى المِحْرَقَةِ وَهْيَ تَأْكُلُ العَالَمَ

حَزِينًا

حَزِينًا جِدًّا

لِأَنَّنِي وَفَّرْتُ لَهاَ مَزِيدًا مِنَ الحَطَبِ.

مَنَادِيلُ وَرَقِيَّةٌ

أُدْعَى “كَحْلَة”

وَأَنَا مِنْ حَيٍّ خَطِيرٍ وَمُظْلِمٍ

أُمِّي تُمْضِي كُلَّ اللَّيْلِ فِي البُكَاءِ

وَأَبِي خَلَعَ الحُزْنَ مِثْلَ حِذَاءٍ قَدِيمٍ وَخَرَجَ حَافِيًا

وَلَمْ يَعُدْ.

كُنْتُ جَائِعًا

وَبِلاَ إِخْوَةٍ

لِذَلِكَ كَانَ عَلَيَّ أَنْ أَتْرُكَ المَدْرَسَةَ

وَأَنْ أَبِيعَ مَنَادِيلَ الوَرَقِ فِي المَقَاهِي وَالمَحَطَّاتِ

مِنْ أَجْلِ تَوْفِيرِ رَغِيفَيْنِ مِنَ الخُبْزِ

وَعُلْبَةِ سَجَائِر

وَبَعْضَ القَمْحِ لِلْحَمَائِمِ التِي أُرَبِّيهَا عَلَى سَطْحِ بَيْتِنَا المَحْرُوق.

وَإِلَى الآنَ

مَازِلْتُ أَتَسَكُّعُ فِي تِلْكَ الشَّوَارِعِ

أُدَخِّنُ القُنَّبَ الهِنْدِيَّ

وَأَطِيِّرُ حَمَامَةً فِي كُلِّ يَوْمٍ كَيْ تَبْحَثَ عَنْ وَالِدِي

ثُمَّ أَظَلُّ أُنَادِيهَا: طِيرِي يَا صَدِيقَتِي البَيْضَاءَ

طِيرِي بَعِيدًا

لَقَدْ بِعْتُ مِنْ أَجْلِكِ كُلَّ مَا أَمْلِكُ

دُونَ أَنْ أَتْرُكَ مِنْدِيلاً وَاحِدًا

وَلَوْ وَاحِدًا فَقَطْ

كَيْ أَمْسَحَ بِهِ دُمُوعَ أُمِّي.. عَلَى الأَقَلّ!

مِنْفَضَةُ سَجَائِر

عِنْدَمَا تَتَعَلَّمُ التَّدْخِينَ

لاَ تَسْتَعْمِلُ مِنْفَضَةَ السَّجَائِر..

اِحْمِلْ عُلْبَةَ التَّبْغِ إِلَى شُرْفَةِ بَالاَصٍ عَالِيَةٍ

وَتَسَلَّى بِذَرِّ الرَّمَادِ فِي عُيُونِ العَالَمِ

لِأَنَّهُ يُحِبُّ ذَلِكَ..

فِي حَيَاةٍ سَابِقَةٍ

كُنْتُ طِفْلاً فَقِيرًا مِثْلَكَ

أُقضِّي الوَقْتَ مُخْتَبِئًا خَلْفَ الحُقُولِ البَعِيدَةِ

أُدَخِّنُ أَحْلاَمِي وَأَفْكَارِي الغَبِيَّة عَنِ الله

وَكُلّ تِلْكَ الأَشْيَاء التِي كَانَتْ تَنْمُو دَاخِلَ حَيَاتِي البَيْضَاء

حَتَّى عِنْدَمَا لَمْ يَبْقَ فِيهَا شَيْءٌ

عِنْدَهَا حَفِظْتُ الطَّرِيقَ إِلَى كُشْكِ السَّجَائِرِ.

وَكَمَا تَرَى الآنَ

هَا قَدْ صِرْتُ رَجُلاً مُدْمِنًا

أَلْهَثُ مِنْ أَجْلِ تَوْفِيرِ التَّبْغِ وَأَصَابِعِ القُنَّبِ الهِنْدِيِّ

وَأُدَخِّنُ فِي كُلِّ يَوْمٍ

فَقَطْ

مِنْ أَجْلِ أَنْ أَنْسَى

أَنَّ حَيَاتِي قَدْ تَحَوَّلَتْ إِلَى مِنْفَضَةِ سَجَائِر!

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.