المسرح‭ ‬أكثر‭ ‬الفنون‭ ‬التصاقا‭ ‬بالوعي‭ ‬والمقاومة

الجمعة 2016/07/01
لوحة: رندا مداح

لقد كان‭ ‬ولازال‭ ‬المسرح‭ ‬فعل‭ ‬إرادة‭ ‬ومقاومة،‭ ‬خاصة‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬نظرنا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬القاعدة‭ ‬الأساسية‭ ‬لمفهوم‭ ‬الدراما‭ ‬حسب‭ ‬التعريف‭ ‬الأرسطي‭ ‬هي‭ ‬‮«‬فعل‭ ‬نبيل‭ ‬تام‮»‬،‭ ‬فالفعل‭ ‬هو‭ ‬أساس‭ ‬وكيان‭ ‬المسرح‭ ‬مهما‭ ‬اختلفت‭ ‬المشارب‭ ‬والأغراض،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬المسرح‭ ‬منذ‭ ‬نشأته‭ ‬حمالا‭ ‬إلى‭ ‬الفعل‭ ‬الإنساني‭ ‬مع‭ ‬ذاته‭ ‬ومحيطه‭ ‬وحتى‭ ‬الآلهة،‭ ‬والذي‭ ‬تنزل‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬مسرحيات‭ ‬سوفوكل‭ ‬من‭ ‬الصراع‭ ‬الإنساني‭ ‬الإلهي‭ ‬إلى‭ ‬الصراع‭ ‬الإنساني‭ ‬المحض‭ ‬وخاصة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مسرحية‭ ‬أنتيجون‭ ‬التي‭ ‬حولت‭ ‬الصراع‭ ‬والمقاومة‭ ‬وبالتالي‭ ‬الفعل،‭ ‬إلى‭ ‬رفض‭ ‬السلطة‭ ‬والتوق‭ ‬إلى‭ ‬الحرية‭ ‬والتحريض‭ ‬إلى‭ ‬التمرد‭ ‬ضد‭ ‬القوى‭ ‬المكبلة‭ ‬للحرية‭ ‬الفردية‭ ‬والداعية‭ ‬إلى‭ ‬التحكم‭ ‬بحياة‭ ‬الآخرين‭.‬

و‭ ‬لعله‭ ‬ليس‭ ‬بغريب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬المسرح‭ ‬أكثر‭ ‬الفنون‭ ‬التصاقا‭ ‬بالوعي‭ ‬والمقاومة‭ ‬والدعوة‭ ‬إلى‭ ‬التغيير‭ ‬والنمو‭ ‬بالفكر‭ ‬الإنساني‭ ‬منذ‭ ‬عهد‭ ‬الإغريق‭ ‬ومرورا‭ ‬بالمسرح‭ ‬الروماني‭ ‬ثم‭ ‬محاولات‭ ‬الفرق‭ ‬الجوالة‭ ‬لفن‭ ‬الكوميديا‭ ‬دي‭ ‬لارتي‭ ‬الإيطالية‭ ‬وإعادة‭ ‬إنعاش‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬وإنقاذه‭ ‬من‭ ‬براثن‭ ‬الكنيسة‭ ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬المسرح‭ ‬الإليزابيثي‭ ‬أين‭ ‬سيعرف‭ ‬الازدهار‭ ‬والانتشار‭. ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬المسرح‭ ‬منذ‭ ‬وجوده‭ ‬قائما‭ ‬على‭ ‬الباث‭ ‬والمتقبل‭ ‬ومهددا‭ ‬بالتغيرات‭ ‬السياسية‭ ‬والمناخات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تمنعه‭ ‬حينا‭ ‬وتحرمه‭ ‬أحيانا‭ ‬لما‭ ‬يحتويه‭ ‬من‭ ‬آليات‭ ‬مؤثرة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬استنهاض‭ ‬ذوات‭ ‬وقيم‭ ‬الشعوب‭ ‬ولما‭ ‬يمتلكه‭ ‬من‭ ‬آليات‭ ‬لنقد‭ ‬السلطة‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬طبيعتها‭ ‬ولما‭ ‬يتسم‭ ‬به‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬طبيعة‭ ‬آنية‭ ‬واقعية‭.‬

يعرف‭ ‬المسرح‭ ‬بكلمة‭ ‬‮«‬الآن‭ ‬وهنا‮»‬‭ ‬فطبيعته‭ ‬المتجددة‭ ‬والمتطورة‭ ‬والمحيّنة‭ ‬بين‭ ‬العرض‭ ‬والآخر‭ ‬وبين‭ ‬المكان‭ ‬والآخر‭ ‬تجعله‭ ‬وسيلة‭ ‬ذات‭ ‬أهمية‭ ‬وخطورة‭ ‬لا‭ ‬يستهان‭ ‬بها‭ ‬للتأثير‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬المتلقي‭ ‬خاصة‭ ‬من‭ ‬المسرحيات‭ ‬التي‭ ‬تنفذ‭ ‬إلى‭ ‬عمق‭ ‬الذات‭ ‬البشرية‭ ‬وما‭ ‬تحتاجه‭ ‬من‭ ‬قيم‭ ‬وجودية‭ ‬جدّ‭ ‬ملحة‭ ‬مثل‭ ‬الحرية‭ ‬والعدالة‭ ‬والمساواة‭ ‬والحب‭.‬

لقد‭ ‬أصبح‭ ‬المسرح‭ ‬بوابة‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬تنطلق‭ ‬الأفكار‭ ‬لتحلق‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬الاختلاف‭ ‬والتنوع‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تغذية‭ ‬الذات‭ ‬الإنسانية‭ ‬بالهوية‭ ‬الحقيقية‭ ‬ألا‭ ‬وهي‭ ‬أنه‭ ‬كيان‭ ‬مفكر‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬الفعل‭ ‬والتغيير،‭ ‬ولعل‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬المحطات‭ ‬المسرحية‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نتوقف‭ ‬عندها‭ ‬في‭ ‬مسرح‭ ‬الفعل‭ ‬والمقاومة‭ ‬والتغيير‭ ‬والتمرد‭ ‬الفكري‭ ‬والفني،‭ ‬مؤلفات‭ ‬شكسبير‭ ‬وكل‭ ‬هذا‭ ‬الإرث‭ ‬والزخم‭ ‬الفكري‭ ‬الذي‭ ‬تركه‭ ‬مخلدا‭ ‬بذلك‭ ‬قدرة‭ ‬الإنسان‭ ‬ضد‭ ‬ذاته‭ ‬ومصيره‭ ‬وخاصة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مآسيه‭ ‬الأربع‭ ‬الشهيرة‭: ‬هاملت،‭ ‬الملك‭ ‬لير،‭ ‬عطيل،‭ ‬مكبث‭ ‬والتي‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬مهد‭ ‬لولادة‭ ‬مسرح‭ ‬يسائل‭ ‬الذات‭ ‬والوجود،‭ ‬ويحاكي‭ ‬الآخر‭ ‬سلطة‭ ‬كان‭ ‬أو‭ ‬قدرا‭ ‬متسما‭ ‬بالانفتاح‭ ‬والإنسانية‭ ‬في‭ ‬الطرح،‭ ‬متجاوزا‭ ‬في‭ ‬قضاياه‭ ‬كل‭ ‬الأمكنة‭ ‬والعصور‭.‬

وتتدافق‭ ‬التجارب‭ ‬والآراء‭ ‬والاتجاهات‭ ‬والتجارب‭ ‬في‭ ‬المسرح‭ ‬بالعصر‭ ‬الحديث،‭ ‬ويتحول‭ ‬ليصبح‭ ‬فنا‭ ‬قائما‭ ‬بذاته‭ ‬ومتخلصا‭ ‬من‭ ‬هيمنة‭ ‬سلطة‭ ‬الكاتب،‭ ‬إلى‭ ‬بناء‭ ‬متكامل‭ ‬تساهم‭ ‬فيه‭ ‬كل‭ ‬الوسائل‭ ‬والتقنيات‭ ‬والاختصاصات،‭ ‬فكان‭ ‬حاضرا‭ ‬ومحرضا‭ ‬في‭ ‬الثورات‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬وباحثا‭ ‬عن‭ ‬سبل‭ ‬وطرق‭ ‬أخرى‭ ‬لمخاطبة‭ ‬المتلقي‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬الحداثة‭ ‬ومناهضا‭ ‬للسياسة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المسرح‭ ‬البرشتي،‭ ‬ومتمردا‭ ‬ومغتربا‭ ‬في‭ ‬خطابه‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الحربين‭ ‬العالميتين‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تجارب‭ ‬مسرح‭ ‬العبث،‭ ‬ومفتاحا‭ ‬إلى‭ ‬المستقبل‭ ‬الجمالي‭ ‬والفكري‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التجريب‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بفترة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‭.‬

لقد‭ ‬احتوى‭ ‬المسرح‭ ‬دائما‭ ‬على‭ ‬الفعل‭ ‬الفلسفي‭ ‬والفكري‭ ‬والسياسي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬وكان‭ ‬دائما‭ ‬على‭ ‬اتصال‭ ‬وثيق‭ ‬بالمتلقي‭ ‬الذي‭ ‬تنوعت‭ ‬مراتبه‭ ‬ومشاربه‭ ‬ومستوياته،‭ ‬مثل‭ ‬مسرحيات‭ ‬لوركا‭ ‬الخالدة‭ ‬ومسرحيات‭ ‬الغرب‭ ‬الأميركي‭ ‬مثل‭ ‬تينيسي‭ ‬ويليامز،‭ ‬الذين‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬تنوع‭ ‬واختلاف‭ ‬أزمانهم‭ ‬وأوطانهم‭ ‬كان‭ ‬المسرح‭ ‬لهم‭ ‬سبيلا‭ ‬للمقاومة‭ ‬والتحريض‭ ‬على‭ ‬التغيير،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬الموروث‭ ‬الشرقي‭ ‬وملاحمه‭ ‬وفنونه‭ ‬التي‭ ‬اعتمدها‭ ‬كبار‭ ‬المخرجين‭ ‬المعاصرين‭ ‬أمثال‭ ‬بيتر‭ ‬بروك‭ ‬وأريان‭ ‬موشكين‭ ‬لتبيان‭ ‬الرقي‭ ‬البشري‭ ‬وعمق‭ ‬التفكير‭ ‬الإنساني‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬مأتاه‭ ‬وأينما‭ ‬وجد‭.‬

وأما‭ ‬فيما‭ ‬يخص‭ ‬اختلاف‭ ‬المسرح‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬الفنون،‭ ‬فأعتقد‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬اختلاف‭ ‬لأنه‭ ‬ببساطة‭ ‬أن‭ ‬المسرح‭ ‬هو كل‭ ‬الفنون‭ ‬مجتمعة فهو‭ ‬يحتوي‭ ‬الكتابة‭ ‬والموسيقى‭ ‬والديكور‭ ‬والتصوير‭ ‬والنحت‭ ‬السينوغرافي‭ ‬والحياكة‭ ‬للملابس‭ ‬والأزياء‭ ‬والنجارة‭ ‬والتقنيات‭ ‬الكهربائية‭ ‬والتكنولوجية‭ ‬واللياقة‭ ‬البدنية‭ ‬للممثل‭ ‬بالرقص‭ ‬وغيره‭ ‬من‭ ‬المهارات‭ ‬البهلوانية‭ ‬وقد‭ ‬تم‭ ‬استعمال‭ ‬الوسائل‭ ‬السمعية‭ ‬البصرية‭ ‬مؤخرا‭ ‬كذلك‭ ‬داخل‭ ‬الفرجة‭ ‬المسرحية‭ ‬بتوظيف‭ ‬وسائل‭ ‬العرض‭ ‬السينمائية‭ ‬الضخمة‭ ‬بالمسارح‭.‬

وإن‭ ‬أردنا‭ ‬المقارنة‭ ‬فسنجده‭ ‬فنا‭ ‬حيا‭ ‬نابضا‭ ‬متجددا‭ ‬ومتطورا‭ ‬حسب‭ ‬الزمن‭ ‬ونوعية‭ ‬الجمهور‭ ‬ومكان‭ ‬العرض‭ ‬وإن‭ ‬أردنا‭ ‬التدقيق‭ ‬أكثر‭ ‬فسنجده‭ ‬حاملا‭ ‬لرسائل‭ ‬وجودية‭ ‬إنسانية،‭ ‬فهو‭ ‬يهب‭ ‬الحياة‭ ‬و‮»‬هو‭ ‬الحياة‮»‬‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاتها‭ ‬حسب‭ ‬تعريف‭ ‬المخرج‭ ‬الكبير‭ ‬‮«‬بيتر‭ ‬بروك‮»‬‭.‬

فالمسرح‭ ‬بزخم‭ ‬مكوناته‭ ‬وآلياته‭ ‬وما‭ ‬يكتسبه‭ ‬من‭ ‬تمازج‭ ‬لفنون‭ ‬عدة‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬النفاذ‭ ‬بسهولة‭ ‬والتأثير‭ ‬للتغيير‭ ‬ولهذا‭ ‬اعتمد‭ ‬جل‭ ‬زعماء‭ ‬التاريخ‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬شعوبهم‭ ‬على‭ ‬المسرح‭ ‬ولا‭ ‬غرابة‭ ‬أن‭ ‬يسمى‭ ‬‮«‬بأبي‭ ‬الفنون‮»‬‭ ‬لأنه‭ ‬المعين‭ ‬والأسبق‭ ‬والشامل‭ ‬لجلها‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.