ملوحة‭ ‬البحر‭ ‬ورائحة‭ ‬الغارقين

الجمعة 2016/07/01
تخطيط: حسن موسى

الصباحُ‭ ‬يوشكُ‭ ‬على‭ ‬مداهمتي،‭ ‬وها‭ ‬هي‭ ‬خطواتي‭ ‬تعبُرُ‭ ‬الممرات‭ ‬الضيقة‭ ‬من‭ ‬شارع‭ ‬الاستقلال‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬غلطة‭ ‬سراي‭ ‬حيثُ‭ ‬ينتظرني‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬وعمر،‭ ‬أحملُ‭ ‬على‭ ‬ظهري‭ ‬حقيبتي‭ ‬الصغيرة،‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرحلات‭ ‬نختصرُ‭ ‬أشياءَنا‭ ‬إلى‭ ‬الأقل،‭ ‬حيثُ‭ ‬الحياةُ‭ ‬تغدو‭ ‬حقيقةً‭ ‬لا‭ ‬مجازاً‭ ‬هي‭ ‬عبور‭ ‬البحر‭ ‬من‭ ‬ضفةٍ‭ ‬إلى‭ ‬أخرى،‭ ‬ذلكَ‭ ‬العبور‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬هاجسي،‭ ‬لا‭ ‬مناصَ‭ ‬من‭ ‬قطعِهِ‭ ‬أبداً،‭ ‬أتذكَّرُ‭ ‬أوراقي‭ ‬البيضاء‭ ‬وأنا‭ ‬أنزوي‭ ‬في‭ ‬ركنٍ‭ ‬قصيٍّ‭ ‬في‭ ‬الباص‭ ‬الطويل‭ ‬الذي‭ ‬سيقطعُ‭ ‬بنا‭ ‬المسافةَ‭ ‬كلها‭ ‬لستَّ‭ ‬عشرة‭ ‬ساعةٍ‭ ‬متتالية‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬بودروم،‭ ‬لديَّ‭ ‬مُتَّسَعٌ‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬كي‭ ‬أروي‭ ‬ما‭ ‬تبقَّى‭ ‬من‭ ‬القصةِ،‭ ‬قصة‭ ‬ذلك‭ ‬الشاب‭ ‬الذي‭ ‬خاضَ‭ ‬حرباً‭ ‬كان‭ ‬فيها‭ ‬الخاسرَ‭ ‬الوحيد،‭ ‬قضى‭ ‬حرباً‭ ‬أورثتهُ‭ ‬خيباتٍ‭ ‬كثيرة‭ ‬تركَها‭ ‬خلفَهُ‭ ‬لأول‭ ‬مرةٍ‭ ‬على‭ ‬الحدود،‭ ‬تلك‭ ‬الحدود‭ ‬التي‭ ‬تحتضنُ‭ ‬اليوم‭ ‬مجازرَ‭ ‬لا‭ ‬تنتهِ‭ ‬وآلاماً‭ ‬تُدفَنُ‭ ‬مع‭ ‬الجثث‭ ‬المتفسِّخةِ‭ ‬في‭ ‬شوارِعِها،‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬الثورةُ‭ ‬التي‭ ‬أدرنا‭ ‬لها‭ ‬ظهورنا‭ ‬لنعبر‭ ‬البحر،‭ ‬البحرُ‭ ‬كان‭ ‬أقربَ‭ ‬من‭ ‬الثورةِ‭ ‬لنا‭! ‬سنبكي‭ ‬مراراً‭ ‬على‭ ‬أسماءَ‭ ‬نقرؤُها‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬مفتوح‭ ‬لراحلينَ‭ ‬لم‭ ‬يتوقَّفوا‭ ‬في‭ ‬قافلةِ‭ ‬العمر‭ ‬ليشهدوا‭ ‬أحلامَهُم،‭ ‬نحن‭ ‬الخاسرون‭ ‬والمهزومون‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬لحظة‭ ‬وعلى‭ ‬كل‭ ‬الحدود،‭ ‬أولئكَ‭ ‬الراحلون‭ ‬الذين‭ ‬داهموني‭ ‬فجأةً‭ ‬حين‭ ‬غفلتُ‭ ‬مُقفِلاً‭ ‬عينيَّ‭ ‬عن‭ ‬مشاهدِ‭ ‬الجمالِ‭ ‬التي‭ ‬تتمتَّعُ‭ ‬بها‭ ‬المدن‭ ‬التركية‭ ‬الممتدة‭ ‬عبرَ‭ ‬الطريق‭ ‬بين‭ ‬إسطنبول‭ ‬وبودروم‭ ‬حيثُ‭ ‬وجهتنا‭ ‬الأخيرةُ‭ ‬على‭ ‬اليابسة‭ ‬التركية‭.‬

بودروم‭ ‬التركية،‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬أصلاً‭ ‬واضحة‭ ‬للتسمية‭ ‬ولكن‭ ‬قيل‭ ‬لي‭ ‬إنها‭ ‬تعني‭ ‬القبو‭ ‬أو‭ ‬الأرض‭ ‬المنخفضة،‭ ‬تتشابه‭ ‬بودروم‭ ‬كثيراً‭ ‬مع‭ ‬تلك‭ ‬المدن‭ ‬التي‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬السياحة‭ ‬الأجنبية‭ ‬والداخلية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬عند‭ ‬مدخلها‭ ‬جمع‭ ‬كثيف‭ ‬من‭ ‬الأشجار‭ ‬التي‭ ‬تتمنى‭ ‬لو‭ ‬أنك‭ ‬تقفز‭ ‬بينها‭ ‬لترمي‭ ‬كل‭ ‬حمولة‭ ‬الحرب‭ ‬الزائدة‭ ‬بين‭ ‬أغصانها،‭ ‬تلك‭ ‬المناظر‭ ‬للمياه‭ ‬المنتشرة‭ ‬على‭ ‬كتفيّ‭ ‬الطريق‭ ‬لوهلةٍ‭ ‬تشعر‭ ‬أنها‭ ‬قادمة‭ ‬من‭ ‬الجنة‭ ‬الموعودة‭ ‬المُغَيَّبة،‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬أيضاً‭ ‬أُجبِر‭ ‬السوريون‭ ‬على‭ ‬القيام‭ ‬بسياحةٍ‭ ‬حول‭ ‬مدن‭ ‬العالم‭ ‬هرباً‭ ‬من‭ ‬الموت،‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الباص‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعبّ‭ ‬الشارع‭ ‬الطويل‭ ‬متّجهاً‭ ‬نحو‭ ‬بودروم‭ ‬كانت‭ ‬مشاهدُ‭ ‬الحرب‭ ‬تخرجُ‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الأغصان‭ ‬متدفٌّقةً‭ ‬على‭ ‬شباك‭ ‬الذاكرةِ‭ ‬راسمةً‭ ‬لوحةً‭ ‬أخرى،‭ ‬أحاصرُ‭ ‬الألمَ‭ ‬بداخلي‭ ‬وأمضي‭ ‬إلى‭ ‬اللامكان،‭ ‬إنَّهُ‭ ‬طريقُ‭ ‬الآلام‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نمشيهِ‭ ‬حتى‭ ‬النهاية‭.‬

ما‭ ‬إن‭ ‬وصلتُ‭ ‬إلى‭ ‬المدينةِ‭ ‬حتى‭ ‬أدركتُ‭ ‬أنَّها‭ ‬قسمان،‭ ‬الأولُّ‭ ‬يقطنُهُ‭ ‬أكابرُ‭ ‬القوم‭ ‬والآخرُ‭ ‬للمعدمين‭ ‬الذين‭ ‬فرَضَ‭ ‬عليهم‭ ‬القدرُ‭ ‬أن‭ ‬يكونوا‭ ‬أبناء‭ ‬المدينة،‭ ‬بينما‭ ‬وقفَ‭ ‬بينهما‭ ‬العابرون‭ ‬أمثالنا،‭ ‬انتشروا‭ ‬على‭ ‬الطرقات‭ ‬وفي‭ ‬مداخل‭ ‬الأسواق،‭ ‬على‭ ‬أبواب‭ ‬الجوامع‭ ‬القديمة‭ ‬وعلى‭ ‬الأرصفة،‭ ‬كان‭ ‬العابرون‭ ‬هم‭ ‬وجهُ‭ ‬المدينةِ‭ ‬الجديد،‭ ‬منذ‭ ‬سنواتٍ‭ ‬وبودروم‭ ‬تحتفي‭ ‬بهؤلاء،‭ ‬تُلقيهِم‭ ‬للبحر‭ ‬في‭ ‬ظلمةِ‭ ‬الليل‭ ‬وتُكمِلُ‭ ‬نومَها‭ ‬على‭ ‬الشاطئ،‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬وهي‭ ‬تعدُّ‭ ‬العابرين‭ ‬واحداً‭ ‬واحداً‭ ‬وتتركُهُم‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تودِّعَهُم‭ ‬بصمتِ‭ ‬الذهول‭ ‬من‭ ‬عابرٍ‭ ‬وقفَ‭ ‬قليلاً‭ ‬فتورَّطَ‭ ‬بحبِّ‭ ‬المدينة،‭ ‬نتوقَّفُ‭ ‬في‭ ‬شوارِعِها،‭ ‬أحاولُ‭ ‬أن‭ ‬أبحثَ‭ ‬عن‭ ‬بقاياي‭ ‬هنا‭ ‬فلا‭ ‬أجد،‭ ‬الأصواتُ‭ ‬العربيةُ‭ ‬تذكِّرني‭ ‬بأنَّا‭ ‬عابرون‭ ‬لا‭ ‬أكثر،‭ ‬أتَّصِل‭ ‬بالمهرّب‭ ‬فيخبرني‭ ‬أنَّهُ‭ ‬سيعود‭ ‬للاتصال‭ ‬بي‭ ‬خلال‭ ‬ساعتين،‭ ‬تمتدَّ‭ ‬الساعات‭ ‬ومعها‭ ‬يخبو‭ ‬الأمل‭ ‬ويزيدُ‭ ‬الفراغ،‭ ‬نحاولُ‭ ‬أن‭ ‬نجترَّ‭ ‬تاريخنا‭ ‬الشخصي‭ ‬لمن‭ ‬التقينا‭ ‬بهم‭ ‬صُدفةً،‭ ‬كان‭ ‬الجميعُ‭ ‬يحملُ‭ ‬في‭ ‬داخلِهِ‭ ‬كمَّاً‭ ‬هائلاً‭ ‬من‭ ‬الفوضى‭ ‬والقصص‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنتهي‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الحرب‭ ‬بين‭ ‬الحدود،‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬المهرِّب‭ ‬لدينا‭ ‬وقتٌ‭ ‬كافٍ‭ ‬لإعادةِ‭ ‬شريط‭ ‬الحياة،‭ ‬هي‭ ‬أصعبُ‭ ‬اللحظات‭ ‬التي‭ ‬تحكي‭ ‬فيها‭ ‬لعابرين‭ ‬معكَ‭ ‬في‭ ‬رحلةِ‭ ‬البحر‭ ‬عن‭ ‬حياتِكَ،‭ ‬تلك‭ ‬التفاصيل‭ ‬الصغيرةُ‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تعنيهِم‭ ‬أبداً،‭ ‬أشياءٌ‭ ‬صغيرةٌ‭ ‬لا‭ ‬تعنيهم‭ ‬أبداً‭ ‬ولكنَّها‭ ‬تعني‭ ‬لكَ‭ ‬كلَّ‭ ‬العُمر،‭ ‬وحدي‭ ‬توقَّفتُ‭ ‬عند‭ ‬عبدالفتاح‭ ‬حينَ‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬إنَّهُ‭ ‬لا‭ ‬يجيدُ‭ ‬السباحة،‭ ‬نهضتُ‭ ‬لفوري‭ ‬أخبر‭ ‬عمر‭ ‬الذي‭ ‬ذهبَ‭ ‬لإحضار‭ ‬سُتَرِ‭ ‬النجاة‭ ‬ليأتِ‭ ‬بواحدةٍ‭ ‬لعبدالفتاح‭.‬

ساعاتٌ‭ ‬طويلةٌ‭ ‬حفظتُ‭ ‬خلالَها‭ ‬أسماء‭ ‬العابرين‭ ‬أو‭ ‬جلَّهُم،‭ ‬أسماءَ‭ ‬أولادِهِم،‭ ‬أماكنَ‭ ‬سكنِهِم،‭ ‬تفاصيلَ‭ ‬رحلتهم‭ ‬إلى‭ ‬هنا،‭ ‬المبالغ‭ ‬التي‭ ‬دفعوها،‭ ‬تلك‭ ‬الأشياء‭ ‬كانت‭ ‬تعنيني‭ ‬أكثرَ‭ ‬من‭ ‬الآخرين،‭ ‬ساعةٌ‭ ‬أخرى‭ ‬وانتصف‭ ‬الليل،‭ ‬رنَّ‭ ‬هاتفي‭ ‬ليخبرني‭ ‬المهرِّبُ‭ ‬أن‭ ‬نتحرك‭ ‬واحداً‭ ‬واحداً‭ ‬نحو‭ ‬مدخل‭ ‬السوق‭ ‬حيثُ‭ ‬تنتظرنا‭ ‬سيارةٌ‭ ‬بيضاء‭ ‬صغيرة‭ ‬يقف‭ ‬أمامها‭ ‬رجلٌ‭ ‬قصير‭ ‬القامة،‭ ‬كان‭ ‬اسمُهُ‭ ‬أبو‭ ‬خالد،‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬اقتربنا‭ ‬خمسة‭ ‬خمسة‭ ‬نحوه‭ ‬حتى أوحى‭ ‬إلينا‭ ‬أن‭ ‬نقتربَ‭ ‬أكثر‭ ‬فركبنا‭ ‬معهُ‭ ‬مُنحشِرين‭ ‬بقلب‭ ‬السيارة‭ ‬الصغيرة،‭ ‬تعبُّ‭ ‬بنا‭ ‬الخطوات‭ ‬كحصانٍ‭ ‬جامحٍ‭ ‬تمرّدَ‭ ‬على‭ ‬راكبِه،‭ ‬عشرون‭ ‬دقيقة‭ ‬قادَ‭ ‬بها‭ ‬أبو‭ ‬خالد‭ ‬السيارةَ‭ ‬كمجنونٍ‭ ‬هاربٍ‭ ‬من‭ ‬حُقنةِ‭ ‬المُهدِّئ‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬وصلَ‭ ‬إلى‭ ‬الشاطئ‭ ‬الصخري‭ ‬حتى‭ ‬رمانا‭ ‬جميعاً‭ ‬كمُخلَّفاتِ‭ ‬رحلةٍ‭ ‬بحريةٍ‭ ‬بقيَت‭ ‬أياماً‭ ‬تحت‭ ‬الشمس،‭ ‬الإعياءُ‭ ‬تمكَّنَ‭ ‬منَّا‭ ‬تماماً،‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬إلَّا‭ ‬ساعةٌ‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬حتى‭ ‬توقَّف‭ ‬قاربٌ‭ ‬خشبي‭ ‬صغير‭ ‬بين‭ ‬صخرتين،‭ ‬يقبعُ‭ ‬فيه‭ ‬رجلٌ‭ ‬تركي‭ ‬استخدمَ‭ ‬هاتفَهُ‭ ‬النقال‭ ‬لثواني‭ ‬معدودة‭ ‬قبلَ‭ ‬أن‭ ‬يصيحَ‭ ‬بنا‭ ‬أن‭ ‬نتقدَّمَ‭ ‬نحوَهُ،‭ ‬كان‭ ‬لزاماً‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نخوضَ‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نصلَ‭ ‬إليه،‭ ‬لحظتَها‭ ‬بدأ‭ ‬الجميعُ‭ ‬يقفزُ‭ ‬بين‭ ‬الصخور،‭ ‬رأيتُ‭ ‬نساءً‭ ‬ورجالاً‭ ‬لم‭ ‬أرَهُم‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬كانوا‭ ‬يُمسِكون‭ ‬الأمل‭ ‬بالنجاة،‭ ‬لحظاتٌ‭ ‬وتوزَّعنا‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬القارب‭ ‬الصغير،‭ ‬أربعةٌ‭ ‬وعشرون‭ ‬نفراً،‭ ‬أمامنا‭ ‬البحر‭ ‬وخلفنا‭ ‬الأمل،‭ ‬لحظاتٌ‭ ‬عصيبةٌ‭ ‬أخرى،‭ ‬اقترب‭ ‬التركي‭ ‬من‭ ‬شابٍّ‭ ‬وقفَ‭ ‬في‭ ‬مقدِّمةِ‭ ‬القارب،‭ ‬أخبرهُ‭ ‬بعربية‭ ‬ركيكةٍ‭ ‬آليةَ‭ ‬السيرِ‭ ‬فيه‭ ‬وهبطَ‭ ‬في‭ ‬مياه‭ ‬البحر‭ ‬الباردة‭ ‬سابحاً‭ ‬عائداً‭ ‬إلى‭ ‬صخور‭ ‬بودروم،‭ ‬كان‭ ‬السائقُ‭ ‬أوهمنا‭ ‬في‭ ‬وقتٍ‭ ‬سابقٍ‭ ‬أنَّهُ‭ ‬خرجَ‭ ‬في‭ ‬الرحلةِ‭ ‬البحرية‭ ‬مرَّاتٍ‭ ‬كثيرة‭ ‬لنكتشفَ‭ ‬بعد‭ ‬خمسِ‭ ‬دقائقَ‭ ‬أنَّهُ‭ ‬مثلُنا‭ ‬يطمحُ‭ ‬فقط‭ ‬بالوصول‭ ‬إلى‭ ‬الضفَّةِ‭ ‬الأخرى،‭ ‬لحظتها‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعنينا‭ ‬الانتقامُ‭ ‬من‭ ‬نذالتِهِ‭ ‬بقدرِ‭ ‬ما‭ ‬سعَينا‭ ‬للبحثِ‭ ‬عن‭ ‬حلولٍ‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ابتعدَ‭ ‬الشاطئُ‭ ‬عنَّا‭ ‬وابتلعنا‭ ‬البحر،‭ ‬سمعتُ‭ ‬أصواتَ‭ ‬البكاء‭ ‬بدأت‭ ‬تتعالى،‭ ‬كانت‭ ‬العودةُ‭ ‬مستحيلةً‭ ‬إلى‭ ‬الشاطئ‭ ‬فقد‭ ‬صرنا‭ ‬في‭ ‬عرض‭ ‬البحر‭ ‬وتبدو‭ ‬أضواء‭ ‬جزيرة‭ ‬كوس‭ ‬من‭ ‬بعيد،‭ ‬اكتشفنا‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬أنها‭ ‬أضواءُ‭ ‬باخرةٍ‭ ‬تعبُّ‭ ‬البحر‭ ‬بسبب‭ ‬حركتِها،‭ ‬هنا‭ ‬كان‭ ‬لزاماً‭ ‬أن‭ ‬نفتح‭ ‬الهواتف‭ ‬النقَّالة‭ ‬بعد‭ ‬أوامر‭ ‬صارمة‭ ‬بإغلاقها‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬المهرِّب‭ ‬الذي‭ ‬تركنا‭ ‬على‭ ‬الشاطئ‭ ‬ومضى،‭ ‬اكتشفنا‭ ‬أنَّ‭ ‬القارب‭ ‬يسير‭ ‬بطريقٍ‭ ‬خاطئ،‮ ‬جلس‭ ‬الجميعُ‭ ‬متوثِّبين‭ ‬فوق‭ ‬بعضهم،‭ ‬لا‭ ‬مكان‭ ‬للمستقبل،‭ ‬إنَّهُ‭ ‬الحاضرُ‭ ‬العبثي،‭ ‬يقودُ‭ ‬القاربَ‭ ‬واحدٌ‭ ‬من‭ ‬النفرات،‭ ‬ساعة‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬ولا‭ ‬جزيرةَ‭ ‬في‭ ‬الأفق،‭ ‬لقد‭ ‬أخطأ‭ ‬الطريق،‭ ‬تلعن‭ ‬الحظَّ،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬مناص‭ ‬هنا،‭ ‬فالبحرُ‭ ‬ككتيبةٍ‭ ‬عسكريةٍ‭ ‬يحاصر‭ ‬المقاتلين،‭ ‬ينفد‭ ‬الوقود،‭ ‬لحظاتٌ‭ ‬أخرى‭ ‬عصيبة‭ ‬وينقلب‭ ‬القارب،‭ ‬يغوص‭ ‬في‭ ‬الماء،‭ ‬يغيب‭ ‬تماماً،‭ ‬ويبقى‭ ‬الراحلون،‭ ‬يصيحون،‭ ‬يستغيثون،‭ ‬لا‭ ‬أحد،‭ ‬لا‭ ‬أحد،‭ ‬تسع‭ ‬ساعاتٍ‭ ‬متواصلة،‭ ‬أعيدَ‭ ‬فيها‭ ‬شريط‭ ‬العُمرِ‭ ‬مرَّاتٍ‭ ‬ومرّات،‭ ‬أستنجدُ‭ ‬بكل‭ ‬شيء،‭ ‬أتمسَّكُ‭ ‬بالحياة‭ ‬بينما‭ ‬فقدَها‭ ‬آخرون‭ ‬كانوا‭ ‬على‭ ‬متن‭ ‬الرحلة،‭ ‬تسع‭ ‬ساعاتٍ‭ ‬متواصلة‭ ‬حاصرني‭ ‬البحر‭ ‬فيها‭ ‬كما‭ ‬حاصرتُ‭ ‬سوريا‭ ‬بداخلي،‭ ‬سوريا‭ ‬الممتدةُ‭ ‬حرباً‭ ‬بين‭ ‬الحدود،‭ ‬حاصرتُ‭ ‬سوريا‭ ‬المُحاصَرَة‭ ‬بالحربِ‭ ‬بداخلي‭ ‬وحاصرني‭ ‬البحر‭ ‬الكبير،‭ ‬شايف‭ ‬البحر‭ ‬شو‭ ‬كبير،‭ ‬كبر‭ ‬البحر‭ ‬بحبك،‭ ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬البحر‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬كلِّ‭ ‬تصوراتي‭ ‬السابقة‭ ‬حينَ‭ ‬أقسمتُ‭ ‬مراراً‭ ‬بالحب،‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬نستعيدُ‭ ‬خيباتنا‭ ‬العشقيّة‭ ‬ونبحثُ‭ ‬عن‭ ‬خيوطَ‭ ‬وهميةٍ‭ ‬تربطنا‭ ‬بالسماء،‭ ‬نستدعي‭ ‬الخالقَ‭ ‬العظيم،‭ ‬نبحثُ‭ ‬عن‭ ‬نقاطٍ‭ ‬مُضيئةٍ‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬العمر‭ ‬المديد‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬وصلنا‭ ‬في‭ ‬خطواتِهِ‭ ‬إلى‭ ‬النهاية،‭ ‬أنا‭ ‬على‭ ‬مقربةٍ‭ ‬من‭ ‬النهاية‭ ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬أكثر،‭ ‬البحر‭ ‬يحاصرني‭ ‬فأهربُ‭ ‬إلى‭ ‬الغيوم،‭ ‬أستنجدُ‭ ‬بطائرةٍ‭ ‬أراها‭ ‬كنقطةٍ‭ ‬صغيرةٍ‭ ‬في‭ ‬السماء،‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬هنا،‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬هنا‭ ‬إلا‭ ‬البحر،‭ ‬واجهوا‭ ‬الموت‭ ‬بشرف‭ ‬أيها‭ ‬الغارقون،‭ ‬في‭ ‬الحقيقةِ‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تواجه‭ ‬الموت‭ ‬بشرف،‭ ‬الموت‭ ‬عدوّ‭ ‬جبانٌ‭ ‬أرعن‭ ‬يأتي‭ ‬غدراً‭ ‬ليسرق‭ ‬أجمل‭ ‬اللحظات‭ ‬وأجمل‭ ‬الأشياء‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تحدث‭ ‬بعد،‭ ‬يأتي‭ ‬على‭ ‬مهلٍ‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعطيك‭ ‬فرصةً‭ ‬لتقول‭ ‬للذين‭ ‬تُحبُّهم‭ ‬وداعاً‭ ‬لا‭ ‬لقاء‭ ‬بعده،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬مواجهة‭ ‬الموت‭ ‬فهو‭ ‬مُفترسٌ‭ ‬قاتلٌ‭ ‬مُحتَرِفٌ‭ ‬لا‭ ‬يترك‭ ‬أحداً‭ ‬وشأنه،‭ ‬كيف‭ ‬لهم‭ ‬أن‭ ‬يواجهوا‭ ‬الموت‭ ‬بشرفٍ‭ ‬وهم‭ ‬هاربون‭ ‬من‭ ‬الموت‭!‬،‭ ‬يصيحون‭ ‬واحداً‭ ‬تلو‭ ‬الآخر‭ ‬بأسماء‭ ‬الله‭ ‬الحسنى،‭ ‬أراهُم‭ ‬في‭ ‬عباب‭ ‬البحر‭ ‬منتشرين،‭ ‬لقد‭ ‬غابوا‭ ‬كما‭ ‬كل‭ ‬الغائبين‭ ‬لتبقى‭ ‬تفاصيلهُم‭ ‬التي‭ ‬رووها‭ ‬قبل‭ ‬وصول‭ ‬القارب‭ ‬الغارق،‭ ‬أتمايلُ‭ ‬كمطروبٍ‭ ‬بين‭ ‬موجةٍ‭ ‬وأخرى،‭ ‬أحاولُ‭ ‬أن‭ ‬أمسكَ‭ ‬السماء‭ ‬البعيدة،‭ ‬أرى‭ ‬الحقائبَ‭ ‬تنتشرُ‭ ‬بجانبي،‭ ‬حقائبُ‭ ‬الغارقين‭ ‬بينها‭ ‬حقيبتي‭ ‬التي‭ ‬ضمَّت‭ ‬ذاكرةَ‭ ‬المُعتَقَل،‭ ‬حملتُ‭ ‬أوراقي‭ ‬معي‭ ‬لتعبر‭ ‬البحر‭ ‬أيضاً،‭ ‬يعودُ‭ ‬الراحلون‭ ‬جميعاً‭ ‬زبداً‭ ‬في‭ ‬الأمواج،‭ ‬يولدون‭ ‬من‭ ‬الزَبَد‭ ‬ولا‭ ‬أحد،‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬إلَّا‭ ‬بقايا‭ ‬الوهم‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬الجديد،‭ ‬تسع‭ ‬ساعاتٍ‭ ‬متواصلة،‭ ‬تكوَّرتُ‭ ‬على‭ ‬جسدي‭ ‬ورجوتُ‭ ‬الله‭ ‬أن‭ ‬يأخُذني‭ ‬ولكنّ‭ ‬للسماء‭ ‬اختياراتُها،‭ ‬كما‭ ‬كل‭ ‬الأفلام‭ ‬الغريبة‭ ‬يظهرُ‭ ‬قاربٌ‭ ‬من‭ ‬بعيد،‭ ‬لا‭ ‬سبباً‭ ‬لوجودهِ‭ ‬هنا‭ ‬سوى‭ ‬رحلةٍ‭ ‬بحريةٍ‭ ‬تقومُ‭ ‬بها‭ ‬عائلةٌ‭ ‬إنكليزية،‭ ‬ظهر‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬كُتِبَت‭ ‬لي‭ ‬النجاة‭ ‬عبر‭ ‬حبلٍ‭ ‬رماهُ‭ ‬العابرون‭ ‬لأكون‭ ‬بعد‭ ‬قليل‭ ‬على‭ ‬ظهر‭ ‬البحر‭ ‬منتظراً‭ ‬وصول‭ ‬الناجين‭ ‬واحداً‭ ‬واحداً،‭ ‬ولا‭ ‬أحد،‭ ‬يروي‭ ‬عمر‭ ‬القصة‭ ‬الكاملة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬نعرفها،‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬غرِقَ‭ ‬القارب‭ ‬في‭ ‬الظلام‭ ‬حتى‭ ‬خلعَ‭ ‬عُمر‭ ‬سترةَ‭ ‬النجاةِ‭ ‬وراحَ‭ ‬يسبحُ‭ ‬تحت‭ ‬الموج،‭ ‬يقاومُ‭ ‬الموجَ‭ ‬بالاحتيال‭ ‬وصولاً‭ ‬بعد‭ ‬تسع‭ ‬ساعاتٍ‭ ‬إلى‭ ‬شاطئ‭ ‬جزيرةِ‭ ‬كوس‭ ‬منتصراً‭ ‬على‭ ‬البحر،‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬يصلُ‭ ‬عمر‭ ‬حتى‭ ‬يتلقّفَهُ‭ ‬رجل‭ ‬إنكليزي‭ ‬فيخبرهُ‭ ‬عمر‭ ‬بالغارقين،‭ ‬ينتفضُ‭ ‬الرجل‭ ‬متَّصلاً‭ ‬بخفر‭ ‬السواحل‭ ‬اليوناني‭ ‬مخبراً‭ ‬إيّاهُم‭ ‬بوجودِ‭ ‬مفقودين‭ ‬وبأنَّهُ‭ ‬سيقومُ‭ ‬بإحضارِهِم‭ ‬إلى‭ ‬الجزيرة،‭ ‬يرفضُ‭ ‬الإغريقُ‭ ‬وصول‭ ‬الغرقى‭ ‬مهدِّدين‭ ‬الرجل‭ ‬الإنكليزي‭ ‬بإدخالِهِ‭ ‬السجن‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬قام‭ ‬بالفعل،‭ ‬إنسانيتُهُ‭ ‬تنتصرُ‭ ‬ويأخذُ‭ ‬قرارَهَ‭ ‬بجمعِ‭ ‬الباقين،‭ ‬ساعةٌ‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬ويبدأ‭ ‬بجمع‭ ‬الغرقى‭ ‬المنتشرين‭ ‬بين‭ ‬الأمواج،‭ ‬ساعةٌ‭ ‬أخرى‭ ‬وتصلُ‭ ‬بارجةٌ‭ ‬تركيةٌ‭ ‬تقلُّنا‭ ‬عائدين‭ ‬إلى‭ ‬مركز‭ ‬الأمنيات‭ ‬في‭ ‬بودروم‭.‬

مركز‭ ‬الأمنيات‭ ‬في‭ ‬بودروم‭ ‬مقر‭ ‬للاعتقال‭ ‬للخارجين‭ ‬بطريقةٍ‭ ‬غير‭ ‬شرعية،‭ ‬تحقيقات‭ ‬سريعةٍ‭ ‬للناجين‭ ‬من‭ ‬الموت،‭ ‬يومٌ‭ ‬عصيبٌ‭ ‬آخر‭ ‬يمتدُّ‭ ‬حتى‭ ‬مطلع‭ ‬الصباح،‭ ‬بلا‭ ‬طعامٍ‭ ‬ولا‭ ‬لباس‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬التهمَ‭ ‬البحرُ‭ ‬كلَّ‭ ‬شيء‭ ‬مرَّةً‭ ‬واحدة،‭ ‬بصمتُ‭ ‬بكلتا‭ ‬يديَّ‭ ‬كما‭ ‬آخرين‭ ‬ألا‭ ‬نعيد‭ ‬الكرَّةً‭ ‬مرَّةً‭ ‬أخرى،‮ ‬بعد‭ ‬يومين‭ ‬خرجتُ‭ ‬من‭ ‬مركزِ‭ ‬الأمنيات،‭ ‬ذاكرةٌ‭ ‬جديدةٌ‭ ‬يكتسبُها‭ ‬السوريون‭ ‬أينما‭ ‬حلُّوا،‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬خرجتُ‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬الأمنيات‭ ‬حتى‭ ‬اتجَهت‭ ‬إلى‭ ‬فندق‭ ‬طومان‭ ‬باي‭ ‬في‭ ‬بودروم‭.‬

فندقٌ‭ ‬يقعُ‭ ‬على‭ ‬تلَّةٍ‭ ‬مرتفعةٍ‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬فندق‭ ‬حقَّان‭ ‬الشهير،‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الفندق‭ ‬أو‭ ‬لأقل‭ ‬إنه‭ ‬الدولة‭ ‬الطارئة‭ ‬الصغيرة‭ ‬التي‭ ‬تختصر‭ ‬كل‭ ‬الأحلام‭ ‬والآمال‭ ‬بحياة‭ ‬جديدة‭ ‬ترى‭ ‬كلّ‭ ‬من‭ ‬فيها‭ ‬منتقلاً‭ ‬على‭ ‬مهلٍ‭ ‬دون‭ ‬انتظار‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يحدث،‭ ‬إنها‭ ‬الحرب‭ ‬التي‭ ‬سببت‭ ‬عطباً‭ ‬أبدياً‭ ‬لا‭ ‬يزول،‭ ‬إنها‭ ‬الحرب‭ ‬التي‭ ‬أثقلتهم‭ ‬بكل‭ ‬القصص‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬تحدث‭ ‬في‭ ‬السجن‭ ‬وخارجه،‭ ‬لولا‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬لما‭ ‬مات‭ ‬من‭ ‬نُحِب،‭ ‬ولكنه‭ ‬قضاء‭ ‬الله،‭ ‬نعم‭ ‬ربما‭ ‬سلموا‭ ‬إذا‭ ‬كانوا‭ ‬مقاتلين‭!!!‬،‭ ‬ترى‭ ‬النزلاء‭ ‬ينظرون‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬باهتزاز،‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬دون‭ ‬تركيز،‭ ‬هناك‭ ‬إحساسٌ‭ ‬بالعجز،‭ ‬بالشلل،‭ ‬بانتظار‭ ‬المهرّب‭ ‬الكاذب‭ ‬الذي‭ ‬ينتقل‭ ‬بين‭ ‬الجميع‭ ‬زارعاً‭ ‬بسمةً‭ ‬هنا‭ ‬أو‭ ‬ضحكة‭ ‬هناك‭ ‬ليُنسي‭ ‬الناس‭ ‬وعوده‭ ‬بالخروج‭ ‬هذه‭ ‬الليلة،‭ ‬أو‭ ‬التي‭ ‬تليها،‭ ‬جلسنا‭ ‬في‭ ‬الفندق‭ ‬أربعة‭ ‬أيام‭ ‬متتالية‭ ‬كانت‭ ‬كافية‭ ‬لأسمع‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تُعد‭ ‬ولا‭ ‬تُحصى‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الحرب،‭ ‬ألم‭ ‬أقل‭ ‬إن‭ ‬كل‭ ‬واحدٍ‭ ‬من‭ ‬النزلاء‭ ‬قصّة‭ ‬كاملة‭ ‬متفرّدة‭ ‬لا‭ ‬تشبه‭ ‬غيرها‭ ‬أبداً‭!!‬

في‭ ‬كلِّ‭ ‬خطوةٍ‭ ‬كنتُ‭ ‬أستشعرُ‭ ‬ملوحةَ‭ ‬البحرِ‭ ‬في‭ ‬جسدي،‭ ‬حاولتُ‭ ‬مراراً‭ ‬الاتصال‭ ‬برفقة‭ ‬وداماس‭ ‬التي‭ ‬عبرت‭ ‬جسر‭ ‬الملك‭ ‬حسين‭ ‬باتجاه‭ ‬فلسطين‭ ‬التاريخية،‭ ‬كانت‭ ‬فلسطينُ‭ ‬أقربَ‭ ‬لابنتي‭ ‬من‭ ‬البحر،‭ ‬تعبرُ‭ ‬هيَ‭ ‬نحوَ‭ ‬الوطنِ‭ ‬السليب‭ ‬وأعبرُ‭ ‬أنا‭ ‬نحو‭ ‬اللاوطن،‭ ‬مفارقةٌ‭ ‬كبيرةٌ‭ ‬أن‭ ‬أقفَ‭ ‬مراقباً‭ ‬كلَّ‭ ‬ما‭ ‬يحدُث‭ ‬للحظةٍ‭ ‬واحدة‭ ‬وكأني‭ ‬خارجَ‭ ‬الصورة‭ ‬كلِّها،‭ ‬إنّه‭ ‬الجنون‭ ‬الذي‭ ‬أتى‭ ‬بنا‭ ‬ها‭ ‬هنا،‭ ‬مساءُ‭ ‬السابع‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬أغسطس‭ ‬لعام‭ ‬2014‭ ‬تجوَّلَ‭ ‬أبو‭ ‬حاتم‭ ‬المهرب‭ ‬الجديد‭ ‬بين‭ ‬النفرات‭ ‬مخبراً‭ ‬إياهم‭ ‬بطريقةٍ‭ ‬بوليسية‭ ‬أنَّ‭ ‬السفر‭ ‬اليوم،‭ ‬انتابني‭ ‬خوفٌ‭ ‬كبيرٌ‭ ‬من‭ ‬البحر،‭ ‬البحرُ‭ ‬الذي‭ ‬غدرنا‭ ‬مرَّةً‭ ‬واختطفَ‭ ‬من‭ ‬بيننا‭ ‬آخرين‭ ‬أصابهُم‭ ‬الموت‭ ‬وأخطأنا‭ ‬نحن،‭ ‬محاولةٌ‭ ‬أخرى‭ ‬بذات‭ ‬الطريقةِ،‭ ‬هذه‭ ‬المرةُ‭ ‬كنَّا‭ ‬خمسة‭ ‬وعشرين‭ ‬شخصاً،‭ ‬غاصَ‭ ‬بنا‭ ‬قائدُ‭ ‬المركب‭ ‬الباكستاني‭ ‬ساعتين‭ ‬ونصف‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يضعنا‭ ‬أمام‭ ‬كتلةٍ‭ ‬صخريَّةٍ‭ ‬مُخبراً‭ ‬إيَّانا‭ ‬أنَّ‭ ‬خلفَها‭ ‬القريةُ‭ ‬اليونانية‭ ‬وليغيبَ‭ ‬في‭ ‬ظلام‭ ‬الليل‭ ‬والبحر،‭ ‬مع‭ ‬الصباح‭ ‬سيكتشفُ‭ ‬الراحلون‭ ‬أنَّهُم‭ ‬في‭ ‬تركيا،‭ ‬جزيرةٌ‭ ‬صخريّةٌ‭ ‬صغيرةٌ‭ ‬تقعُ‭ ‬في‭ ‬مواجهةِ‭ ‬بودروم‭ ‬مباشرةً،‭ ‬يلعنون‭ ‬الحظ‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬مفرَّ‭ ‬من‭ ‬العودةِ‭ ‬إلى‭ ‬مركز‭ ‬الأمنيات‭ ‬بعد‭ ‬يومٍ‭ ‬طويلٍ‭ ‬سيأتي‭ ‬في‭ ‬نهايتِهِ‭ ‬خفر‭ ‬السواحل‭ ‬التركي‭ ‬ليقلَّهُم‭ ‬إلى‭ ‬مركز‭ ‬الاحتجاز،‭ ‬إجراءاتٌ‭ ‬سريعةٌ‭ ‬تُماثِلُ‭ ‬ما‭ ‬سبقها‭ ‬بأيّامٍ‭ ‬قليلة،‭ ‬ولتليها‭ ‬محاولةٌ‭ ‬ثالثةٌ‭ ‬بعد‭ ‬أيام‭ ‬أخرى‭ ‬مع‭ ‬مُهرّبٍ‭ ‬جديد‭.‬

فندقُ‭ ‬طومان‭ ‬باي‭ ‬مرةً‭ ‬أخرى‭ ‬يوم‭ ‬العشرين‭ ‬من‭ ‬آب،‭ ‬صارَ‭ ‬العابرون‭ ‬هنا‭ ‬مثل‭ ‬الأثاث،‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تهمُّني‭ ‬أسماؤهُم‭ ‬وتفاصيلهم،‭ ‬كنتُ‭ ‬وعبدالفتاح‭ ‬وعمر،‭ ‬ثلاثةٌ‭ ‬نختزل‭ ‬القصةَ‭ ‬كلها،‭ ‬نكتفي‭ ‬بالحديث‭ ‬عندما‭ ‬تتقاطعُ‭ ‬عيوننا،‭ ‬يتحرَّك‭ ‬الجميع،‭ ‬عائلات‭ ‬وشبابٌ‭ ‬وأطفالٌ‭ ‬ونساء،‭ ‬نحو‭ ‬المرسى‭ ‬أمام‭ ‬الشاطئ‭ ‬السياحي‭ ‬حيثُ‭ ‬توقَّفَ‭ ‬يختٌ‭ ‬كبير،‭ ‬هبطَ‭ ‬في‭ ‬قلبِهِ‭ ‬اثنان‭ ‬وخمسون‭ ‬نفراً،‭ ‬كنتُ‭ ‬بينهم‭ ‬مختبئاً‭ ‬بين‭ ‬أرجلِ‭ ‬آخرين،‭ ‬سبعُ‭ ‬ساعاتٍ‭ ‬كاملةٍ‭ ‬صارعنا‭ ‬الموت‭ ‬فيها‭ ‬كلما‭ ‬تمايلَ‭ ‬اليختُ‭ ‬يمنةً‭ ‬ويسرة،‭ ‬سبعُ‭ ‬ساعاتٍ‭ ‬كاملةٍ‭ ‬مشدود‭ ‬الأعصاب‭ ‬حتى‭ ‬وصلَ‭ ‬اليختُ‭ ‬إلى‭ ‬ساحلٍ‭ ‬رملي‭ ‬صغير‭ ‬ترتفعُ‭ ‬في‭ ‬نهايتِهِ‭ ‬سلسلةٌ‭ ‬جبليةٌ‭ ‬قال‭ ‬لنا‭ ‬السائقُ‭ ‬إنَّ‭ ‬خلفها‭ ‬اليونان‭ ‬ومضى‭ ‬في‭ ‬ظلام‭ ‬البحر،‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬هنا‭ ‬سوى‭ ‬البحر‭ ‬و‭ ‬الجبل،‭ ‬صعدنا‭ ‬الجبل‭ ‬لنكتشفَ‭ ‬سلسلةً‭ ‬لا‭ ‬منتهيةً‭ ‬من‭ ‬الجبال‭ ‬الكبيرة،‭ ‬لقد‭ ‬وقعنا‭ ‬في‭ ‬الفخِّ‭ ‬الحقيقي‭ ‬مرةً‭ ‬أخرى،‭ ‬سنموت‭ ‬هنا،‭ ‬صاح‭ ‬الجميعُ‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬صدى‭ ‬للصوت،‭ ‬إنَّهُ‭ ‬البحر‭ ‬الكبير،‭ ‬وشايف‭ ‬البحر‭ ‬شو‭ ‬كبير،‭ ‬كبر‭ ‬البحر‭ ‬بحبك،‭ ‬ثلاثةُ‭ ‬أيَّام‭ ‬كاملة‭ ‬قضاها‭ ‬الجميعُ‭ ‬بين‭ ‬السماءِ‭ ‬والأرض،‭ ‬إلى‭ ‬جوار‭ ‬البحر،‭ ‬ولا‭ ‬أحد،‭ ‬قبلَ‭ ‬أن‭ ‬تكتشِفنا‭ ‬سفينةٌ‭ ‬بعيدةٌ‭ ‬لاحظت‭ ‬لهيب‭ ‬النار‭ ‬التي‭ ‬أضرمَها‭ ‬الناجون‭ ‬على‭ ‬الرمل،‭ ‬في‭ ‬صباح‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬جاءَ‭ ‬خفر‭ ‬السواحل‭ ‬اليوناني‭ ‬مع‭ ‬قرب‭ ‬انتهاء‭ ‬حياةِ‭ ‬الأطفال‭ ‬ليُعيدوا‭ ‬ضخَّ‭ ‬المياهِ‭ ‬في‭ ‬دورتِهِم‭ ‬الدموية‭.‬

كانت‭ ‬الحياةُ‭ ‬تعني‭ ‬أن‭ ‬تأتِ‭ ‬السفينةُ‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬ظهر‭ ‬اليوم‭ ‬الرابع‭ ‬لتقلَّ‭ ‬العالقين‭ ‬بين‭ ‬جبلٍ‭ ‬وبحر،‭ ‬كانت‭ ‬الحياةُ‭ ‬تعني‭ ‬قارورةَ‭ ‬ماءٍ‭ ‬صغيرة،‭ ‬السفينةُ‭ ‬كانت‭ ‬تعبّ‭ ‬البحرَ‭ ‬متَّجهةً‭ ‬إلى‭ ‬جزيرةِ‭ ‬تيلوس،‭ ‬إنَّها‭ ‬الحربُ‭ ‬التي‭ ‬دارت‭ ‬رحاها‭ ‬على‭ ‬ساحاتٍ‭ ‬أخرى،‭ ‬هناك‭ ‬تجدُ‭ ‬الانكسار‭ ‬في‭ ‬عيون‭ ‬الهاربين،‭ ‬حالةٌ‭ ‬عصيَّةٌ‭ ‬على‭ ‬الفهم‭ ‬حين‭ ‬تمشي‭ ‬أولى‭ ‬خطواتِكَ‭ ‬باتجاهِ‭ ‬مخفر‭ ‬الشرطةِ‭ ‬اليوناني‭ ‬الصغير‭ ‬في‭ ‬جزيرة‭ ‬تيلوس،‭ ‬يتقدَّمُ‭ ‬الناجون‭ ‬واحداً‭ ‬واحداً‭ ‬للإدلاء‭ ‬ببياناتِهِم،‭ ‬ليلةٌ‭ ‬بالقربِ‭ ‬من‭ ‬البحر‭ ‬في‭ ‬أمانٍ‭ ‬من‭ ‬الخوف‭ ‬قبلَ‭ ‬أن‭ ‬نستيقِظَ‭ ‬صباحاً‭ ‬على‭ ‬وقعِ‭ ‬خطى‭ ‬الشرطةِ‭ ‬وهم‭ ‬يوزِّعون‭ ‬ورقةَ‭ ‬الطرد‭ ‬‮«‬الخارطية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬ستكون‭ ‬هويَّةً‭ ‬لنا‭ ‬خلال‭ ‬الفترة‭ ‬القادمة،‭ ‬كان‭ ‬الطريقُ‭ ‬إلى‭ ‬أثينا‭ ‬معبَّداً‭ ‬بالموج،‭ ‬دخلتُها‭ ‬مرورا‭ ‬برودس‭ ‬في‭ ‬الخامس‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬أغسطس‭ ‬بعد‭ ‬رحلةٍ‭ ‬مريرةٍ‭ ‬استنزفت‭ ‬منِّي‭ ‬الصبر‭ ‬كلّه‭.‬

أثينا‭ ‬لا‭ ‬تختلفُ‭ ‬كثيراً‭ ‬عن‭ ‬مدن‭ ‬الشرق‭ ‬العربي،‭ ‬هكذا‭ ‬انطباعي‭ ‬عنها،‭ ‬اعتدتُ‭ ‬الجلوس‭ ‬في‭ ‬مقاهيها،‭ ‬صارت‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬رحلتي،‭ ‬مناطقُها‭ ‬ذات‭ ‬الأبجدية‭ ‬المختلفةِ‭ ‬في‭ ‬أسمائِها‭ ‬صارت‭ ‬سهلةَ‭ ‬النطقِ‭ ‬عندي،‭ ‬كاتوباتيسيا،‭ ‬آخرنون،‭ ‬كومانيتسا،‭ ‬سالونيك،‭ ‬فكتوريا،‭ ‬أمونيا،‭ ‬إيتيكيه،‮ ‬تلك‭ ‬المناطقُ‭ ‬سترسمُ‭ ‬ملامحَ‭ ‬على‭ ‬وجهي،‭ ‬بدأتُ‭ ‬أرى‭ ‬العابرين‭ ‬وقد‭ ‬اتخذوا‭ ‬سبيلَهُم‭ ‬في‭ ‬رحلاتٍ‭ ‬غريبةٍ‭ ‬نحو‭ ‬المنافي‭ ‬البعيدة،‭ ‬حاولت‭ ‬العبور‭ ‬بأوراقٍ‭ ‬مزوَّرةٍ‭ ‬من‭ ‬المطار‭ ‬الرئيسي‭ ‬في‭ ‬أثينا‭ ‬ومن‭ ‬مطارات‭ ‬الجُزُر‭ ‬البعيدة‭ ‬والقريبة،‭ ‬اعتدت‭ ‬الجلوسَ‭ ‬في‭ ‬مقاهي‭ ‬شارع‭ ‬‮«‬‭ ‬آخرنون‮»‬‭ ‬و‮»‬أُمونيا‮»‬‭ ‬و‮»‬كاتوباتيسيا‮»‬‭ ‬و‮»‬سانتيغما‮»‬‭ ‬و‮»‬فكتوريا‮»‬‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أهتدي‭ ‬مع‭ ‬آخرين‭ ‬إلى‭ ‬رحلةِ‭ ‬شاحنةٍ‭ ‬بلغاريةٍ،‭ ‬أخفانا‭ ‬سائقُها‭ ‬فوق‭ ‬صندوقِ‭ ‬العدَّةِ‭ ‬بحاجزٍ‭ ‬مُصطَنَعٍ‭ ‬يفصلُ‭ ‬نهاية‭ ‬القاطرةِ‭ ‬عنه‭ ‬بخمسٍ‭ ‬وخمسين‭ ‬سنتيمترا‭ ‬ليمتدَّ‭ ‬على‭ ‬عرضِ‭ ‬الشاحنة،‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المسافةِ‭ ‬جلسَ‭ ‬خمسة‭ ‬عشرَ‭ ‬رجلاً،‭ ‬بعضُهُم‭ ‬أصابَهُم‭ ‬الإغماء‭ ‬خلال‭ ‬الرحلة‭ ‬وكادوا‭ ‬أن‭ ‬يفقدوا‭ ‬حياتَهُم،‭ ‬كنتُ‭ ‬واحداً‭ ‬منهم،‭ ‬في‭ ‬لحظاتي‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬الشاحنةِ‭ ‬هممتُ‭ ‬بالهبوطِ‭ ‬إلى‭ ‬الأرض‭ ‬ولكن‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬دفعني‭ ‬للبقاء‭ ‬رغمَ‭ ‬يقيني‭ ‬أنَّ‭ ‬الموت‭ ‬يتربَّصُ‭ ‬بأطراف‭ ‬الشاحنةِ‭ ‬التي‭ ‬اجتازت‭ ‬خطوط‭ ‬التفتيش‭ ‬في‭ ‬الميناء،‭ ‬ثلاثةُ‭ ‬حواجز‭ ‬خلف‭ ‬بعضها‭ ‬عبرنا‭ ‬منها،‭ ‬كنتُ‭ ‬على‭ ‬طرفِ‭ ‬الشاحنةِ‭ ‬أسمعُ‭ ‬حركةَ‭ ‬الشرطةِ‭ ‬وأحاديثَهُم‭ ‬الجانبية‭ ‬قبلَ‭ ‬أن‭ ‬ندخلَ‭ ‬في‭ ‬مرآبِ‭ ‬السيارات‭ ‬بقلبِ‭ ‬الباخرةِ‭ ‬الكبيرة،‭ ‬رحلةٌ‭ ‬بحريةٌ‭ ‬أخرى،‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬كانت‭ ‬السفينةُ‭ ‬تحمينا‭ ‬من‭ ‬البحر،‭ ‬الرطوبةُ‭ ‬الخانقةُ‭ ‬والظلامُ‭ ‬المهيمن‭ ‬وأصواتُ‭ ‬المحركات‭ ‬الكبيرة‭ ‬للباخرة‭ ‬تقتل‭ ‬الضجيج،‭ ‬وحدهُ‭ ‬الموت‭ ‬بدأ‭ ‬يتسلل‭ ‬عقِبَ‭ ‬مرور‭ ‬خمس‭ ‬ساعات‭ ‬في‭ ‬الرحلة،‭ ‬أحدُ‭ ‬العابرين‭ ‬أصابتهُ‭ ‬نوبةُ‭ ‬ربو،‭ ‬كان‭ ‬القرار‭ ‬بين‭ ‬الجميع‭ ‬أنَّ‭ ‬من‭ ‬يتعب‭ ‬لن‭ ‬ينقذه‭ ‬أحد،‭ ‬سيواجِهُ‭ ‬قدَرَهُ‭ ‬المحتوم،‭ ‬اختناقاتٌ‭ ‬داهمتنا‭ ‬جميعاً‭ ‬بقيَت‭ ‬آثارُها‭ ‬على‭ ‬حديد‭ ‬الشاحنةِ‭ ‬ربما‭ ‬حتى‭ ‬اليوم،‭ ‬نحن‭ ‬أبناءُ‭ ‬الشاحنةِ‭ ‬وأبناء‭ ‬البحر،‭ ‬تسعةَ‭ ‬عشرة‭ ‬ساعةً‭ ‬في‭ ‬الشاحنةِ‭ ‬المُغلَقةِ‭ ‬تماماً‭ ‬من‭ ‬أثينا‭ ‬إلى‭ ‬باري‭ ‬الإيطالية‭ ‬عبر‭ ‬كومينيتسا‭ ‬اليونانية،‭ ‬كان‭ ‬ذلكَ‭ ‬في‭ ‬الخامس‭ ‬من‭ ‬أكتوبر‭ ‬لعام‭ ‬2014‭.‬

في‭ ‬نقطة‭ ‬منسية‭ ‬على‭ ‬الطريق‭ ‬الدولي‭ ‬الواصل‭ ‬بين‭ ‬باري‭ ‬الإيطالية‭ ‬ومينائها‭ ‬الكبير‭ ‬فتحَ‭ ‬السائقُ‭ ‬صندوق‭ ‬العدَّةِ‭ ‬في‭ ‬خلفية‭ ‬السيارة‭ ‬لنهبطَ‭ ‬واحداً‭ ‬واحداً‭ ‬نحو‭ ‬الأرض،‭ ‬كانت‭ ‬الأرضُ‭ ‬تعني‭ ‬لنا‭ ‬الرحمَ‭ ‬الجديد،‭ ‬شعرتُ‭ ‬بعظامي‭ ‬تتفكَّكُ‭ ‬وأنا‭ ‬أفردُ‭ ‬قدمَّيَّ‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أختفي‭ ‬مع‭ ‬آخرين‭ ‬في‭ ‬الغابةِ‭ ‬الممتدةِ‭ ‬على‭ ‬كتفِ‭ ‬الطريقِ‭ ‬الواصلِ‭ ‬بين‭ ‬الميناء‭ ‬والمدينة،‭ ‬تلك‭ ‬المدينةُ‭ ‬تعادلُ‭ ‬ستة‭ ‬كيلومترات‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬بقليل‭ ‬قطعناها‭ ‬مشياً‭ ‬على‭ ‬الأقدام‭ ‬حتى‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬المحطةِ‭ ‬الرئيسة‭ ‬للقطارات،‭ ‬كان‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نحجزَ‭ ‬إلى‭ ‬ميلانو‭ ‬حيثُ‭ ‬المحطةِ‭ ‬الكبيرة‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬التي‭ ‬يتوزَّعُ‭ ‬منها‭ ‬العابرون‭ ‬نحو‭ ‬مدنِ‭ ‬الشتات،‭ ‬القطارُ‭ ‬يمتدُّ‭ ‬بنا‭ ‬ونحن‭ ‬مرميُّون‭ ‬في‭ ‬مقصوراتِهِ‭ ‬خائفينَ‭ ‬من‭ ‬مداهمةِ‭ ‬الشرطةِ‭ ‬للمكان،‭ ‬نحنُ‭ ‬العابرين‭ ‬بطريقةٍ‭ ‬غير‭ ‬شرعية،‭ ‬شرعيو‭ ‬الوجود‭ ‬و‭ ‬الهوية،‭ ‬عادَ‭ ‬بي‭ ‬الشريطُ‭ ‬الذي‭ ‬امتدَّ‭ ‬بين‭ ‬الثاني‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬أغسطس‭ ‬حتى‭ ‬السادس‭ ‬من‭ ‬أكتوبر‭ ‬خلال‭ ‬سبعِ‭ ‬ساعاتٍ‭ ‬هي‭ ‬المسافةُ‭ ‬الزمنية‭ ‬الفاصلةُ‭ ‬بين‭ ‬كورفو‭ ‬و‭ ‬ميلانو‭.‬


تخطيط: حسن موسى

أوراقي‭ ‬البيضاء،‭ ‬أسماء‭ ‬المهربين،‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يحالفهم‭ ‬الحظ‭ ‬بالوصول‭ ‬إلى‭ ‬الضفة‭ ‬الأخرى،‭ ‬فندق‭ ‬طومان‭ ‬باي،‭ ‬مراكزُ‭ ‬الأمنيات،‭ ‬الشرطةُ‭ ‬في‭ ‬كلِّ‭ ‬مكان،‭ ‬جسر‭ ‬الملك‭ ‬حسين،‭ ‬فلسطين،‭ ‬إسرائيل،‭ ‬سوريا،‭ ‬الثورة،‭ ‬المقاتلون،‭ ‬مفرداتٌ‭ ‬كثيرةٌ‭ ‬عادت‭ ‬كلها‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ابتلعها‭ ‬البحر‭.‬

في‭ ‬ميلانو‭ ‬بحثتُ‭ ‬عن‭ ‬ذاتي‭ ‬فلم‭ ‬أجدها،‭ ‬هناكَ‭ ‬أنا‭ ‬عابرٌ‭ ‬أيضاً،‭ ‬افترقَ‭ ‬الجميعُ‭ ‬ومضى‭ ‬كلٌّ‭ ‬إلى‭ ‬وجهتِهِ‭ ‬الجديدة،‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬يدفعني‭ ‬للانتظار‭ ‬هنا،‭ ‬أزمةٌ‭ ‬قلبيةٌ‭ ‬مفاجئةٌ‭ ‬أوقعتني‭ ‬أرضاً،‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تحضُر‭ ‬هكذا‭ ‬دون‭ ‬استئذان،‭ ‬يومٌ‭ ‬جديدٌ‭ ‬قضيتُهُ‭ ‬في‭ ‬المشفى‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أسعفني‭ ‬شابان‭ ‬مصريَّان‭ ‬أوجدهما‭ ‬القدرُ‭ ‬بالقربِ‭ ‬مني‭ ‬في‭ ‬مركزِ‭ ‬المدينة،‭ ‬في‭ ‬ميلانو‭ ‬لا‭ ‬مفاجأةَ‭ ‬باللسان‭ ‬العربي،‭ ‬كنتُ‭ ‬حينَها‭ ‬أسيرُ‭ ‬بمحاذاةِ‭ ‬الموت‭ ‬قبلَ‭ ‬أن‭ ‬أهرب‭ ‬من‭ ‬المشفى‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬سمعتُ‭ ‬الطبيبَ‭ ‬يتحدَّثُ‭ ‬مع‭ ‬الشرطةِ‭ ‬عن‭ ‬وجودِ‭ ‬مهاجرٍ‭ ‬غير‭ ‬شرعي‭.‬

أزقةُ‭ ‬ميلانو‭ ‬اليوم‭ ‬تعرفني‭ ‬وتُدرِكُ‭ ‬أنَّ‭ ‬خطواتي‭ ‬فيها‭ ‬عابرةٌ‭ ‬ككل‭ ‬العابرين،‭ ‬لا‭ ‬أحاولُ‭ ‬أن‭ ‬أتورَّطَ‭ ‬بحبِّ‭ ‬المدينةِ‭ ‬فهنا‭ ‬لا‭ ‬نتورَّطُ‭ ‬بحبِّ‭ ‬مدنٍ‭ ‬لا‭ ‬تجمعنا‭ ‬معها‭ ‬ذاكرة،‭ ‬الذاكرةُ‭ ‬التي‭ ‬احترقت‭ ‬مع‭ ‬مدننا‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬الشرق،‭ ‬وحيداً‭ ‬أعبرُ‭ ‬بوابةَ‭ ‬المطار‭ ‬الرئيسي‭ ‬في‭ ‬ميلانو‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬استخرجتُ‭ ‬هويَّةً‭ ‬مزوَّرةً‭ ‬باسم‭ ‬غريب،‭ ‬عندما‭ ‬تكون‭ ‬مهاجراً‭ ‬غير‭ ‬شرعيّ‭ ‬تعرفُ‭ ‬كيفَ‭ ‬تصلُ‭ ‬لما‭ ‬تريد‭ ‬فقد‭ ‬انتصرت‭ ‬على‭ ‬البحر‭ ‬والبر‭ ‬معاً،‭ ‬عندما‭ ‬تفقدُ‭ ‬بيتكَ‭ ‬كلُّ‭ ‬بيوت‭ ‬العالم‭ ‬تغدو‭ ‬بيتك،‭ ‬وعندما‭ ‬تفقدُ‭ ‬وطنكَ‭ ‬فكل‭ ‬الطرقِ‭ ‬مسموحةٌ‭ ‬كي‭ ‬تحصلَ‭ ‬على‭ ‬أرضٍ‭ ‬جديدة،‭ ‬ناموس‭ ‬العالم‭ ‬وسوريا‭ ‬في‭ ‬ميزانٍ‭ ‬واحد‭ ‬وحينَ‭ ‬خسر‭ ‬العالمُ‭ ‬سوريا‭ ‬خسِرَ‭ ‬نفسه،‭ ‬هذه‭ ‬المعادلةُ‭ ‬في‭ ‬ذهني‭ ‬وأنا‭ ‬أعبرُ‭ ‬بوابةَ‭ ‬مطارِ‭ ‬بروكسل‭ ‬الدولي‭ ‬في‭ ‬الواحدةِ‭ ‬بعد‭ ‬منتصفِ‭ ‬ليل‭ ‬السادس‭ ‬من‭ ‬أكتوبر‭.‬

مظاهرِ‭ ‬الإعياءِ‭ ‬تبدو‭ ‬واضحةً‭ ‬عليَّ‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬أرى‭ ‬الشرطةَ‭ ‬حتى‭ ‬أذهبُ‭ ‬نحوهُم،‭ ‬الأصواتُ‭ ‬في‭ ‬عقلي‭ ‬الباطن‭ ‬تتمازجُ‭ ‬مع‭ ‬بعضها‭ ‬فلا‭ ‬أدركُ‭ ‬حقيقةً‭ ‬ما‭ ‬يقول‭ ‬الشرطي‭ ‬بإنكليزيةٍ‭ ‬ركيكة،‭ ‬حريّة،‭ ‬إسقاط‭ ‬النظام،‭ ‬الثورة،‭ ‬المهرِّب،‭ ‬الشاحنة،‭ ‬الاختناق،‭ ‬البحر،‭ ‬الموج،‭ ‬الجوع،‭ ‬البرد،‭ ‬النار،‭ ‬الأوراق،‭ ‬أصواتٌ‭ ‬كثيرةٌ‭ ‬تعلو‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أفقدَ‭ ‬الوعي‭ ‬تماماً‭ ‬لأصحو‭ ‬بعد‭ ‬بضع‭ ‬ساعاتٍ‭ ‬في‭ ‬غرفةٍ‭ ‬صغيرةٍ‭ ‬مكتوبٌ‭ ‬على‭ ‬جدرانِها‭ ‬عباراتٌ‭ ‬عربية،‭ ‬أدركتُ‭ ‬لفوري‭ ‬أنَّ‭ ‬هناك‭ ‬عابرين‭ ‬مرُّوا‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬قبلي‭.‬

الخامسةُ‭ ‬والنصف‭ ‬فجراً‭ ‬يوقظني‭ ‬الشرطي‭ ‬ويرشدني‭ ‬عن‭ ‬إجراءات‭ ‬اللجوء‭ ‬وضرورةِ‭ ‬الذهابِ‭ ‬إلى‭ ‬مبنى‭ ‬‮«‬الكومساريات‮»‬‭ ‬في‭ ‬محطة‭ ‬الشمال‭ ‬ببروكسل،‭ ‬لم‭ ‬ينتهِ‭ ‬اليومُ‭ ‬إلا‭ ‬وكنتُ‭ ‬مع‭ ‬آخرين‭ ‬في‭ ‬مخيَّمِ‭ ‬بيرزيت‭ ‬لإيواء‭ ‬اللاجئين‭.‬

‮«‬أنا‭ ‬في‭ ‬مخيَّم‭ ‬إيواء‭ ‬اللاجئين‭ ‬في‭ ‬بيرزيت‮»‬‭!‬

‮ ‬ضربٌ‭ ‬من‭ ‬الجنون،‭ ‬إنَّهُ‭ ‬المستحيل‭ ‬تماماً،‭ ‬ذلكَ‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬أتوقَّع‭ ‬حدوثُهُ‭ ‬يوماً‭ ‬حتَّى‭ ‬لو‭ ‬أخبرني‭ ‬به‭ ‬هُدهُد‭ ‬سليمان‭ ‬بأنَّهُ‭ ‬خبرٌ‭ ‬يقين،‭ ‬فما‭ ‬الذي‭ ‬يأتي‭ ‬بي‭ ‬هنا‭ ‬أنا‭ ‬السوري‭ ‬الخارجُ‭ ‬من‭ ‬رحمِ‭ ‬الشرق‭ ‬حيثُ‭ ‬جذوري‭ ‬هناك،‭ ‬تلكَ‭ ‬الجذورُ‭ ‬التي‭ ‬ضُرِبَت‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬قبل‭ ‬ولادتي‭ ‬بأشهر‭ ‬في‭ ‬مدينةٍ‭ ‬اسمها‭ ‬حماه‭ ‬حيثُ‭ ‬أبصرتُ‭ ‬النور‭ ‬عقِبَ‭ ‬مذبحةٍ‭ ‬اجتاحت‭ ‬المدينة‭ ‬فبدأت‭ ‬حياتي‭ ‬بالخوفِ‭ ‬من‭ ‬الشوارع‭ ‬المُظلمة‭ ‬والمُضاءة‭ ‬في‭ ‬زواريب‭ ‬المدينة،‭ ‬تلكَ‭ ‬التي‭ ‬وشمَها‭ ‬الرصاصُ‭ ‬الذي‭ ‬داهمَ‭ ‬المدينة‭ ‬بعدَ‭ ‬أن‭ ‬حاصرها‭ ‬الموت‭ ‬فظلّت‭ ‬أرواحُ‭ ‬الساكنين‭ ‬والمنفيين‭ ‬والراحلين‭ ‬والقتلى‭ ‬تطوفُ‭ ‬راجلةً‭ ‬وراكبةً‭ ‬وسابحةً‭ ‬بأسماءٍ‭ ‬مُستعارة‭ ‬يُخفيها‭ ‬أهلُ‭ ‬المدينةِ‭ ‬تحت‭ ‬عباءتها‭.‬

إرباكُ‭ ‬المكان‭ ‬في‭ ‬ذاكرتي‭ ‬رافقني‭ ‬لسنواتٍ‭ ‬طويلة‭ ‬وها‭ ‬أنا‭ ‬اليوم‭ ‬أخطو‭ ‬خطواتي‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬مكانٍ‭ ‬لم‭ ‬أتوقَّع‭ ‬وصولي‭ ‬إليه‭ ‬يوماً،‭ ‬سياحةً‭ ‬أو‭ ‬عملاً،‭ ‬فبعدَ‭ ‬أن‭ ‬أكَلت‭ ‬عمري‭ ‬المنافي‭ ‬وأنا‭ ‬أُكمِلُ‭ ‬عامي‭ ‬الثاني‭ ‬بعد‭ ‬الثلاثين‭ ‬وصلتُ‭ ‬إلى‭ ‬هنا‭ ‬بعد‭ ‬رحلةٍ‭ ‬مجنونةٍ‭ ‬رافقني‭ ‬الموت‭ ‬فيها‭ ‬كظلِّي‭ ‬فكان‭ ‬حارساً‭ ‬للحياة‭ ‬في‭ ‬داخلي،‭ ‬الموتُ‭ ‬كانَ‭ ‬رفيقاً‭ ‬لا‭ ‬يُخطئني‭ ‬رافضاً‭ ‬اصطحابي‭ ‬عبر‭ ‬رحلاتِهِ‭ ‬التي‭ ‬أوقفها‭ ‬للسوريين‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأساليب‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة،‭ ‬حاملاً‭ ‬ذاكرتي‭ ‬المُرهَقَة‭ ‬بمشاهِد‭ ‬الزنازين‭ ‬وساحات‭ ‬المُعتَقل‭ ‬وشوارعَ‭ ‬وإناراتِ‭ ‬وأبنية‭ ‬وروائحَ‭ ‬المُدُن‭ ‬الكثيرة‭ ‬وغرف‭ ‬الفنادقِ‭ ‬رخيصة‭ ‬الثمن‭ ‬التي‭ ‬عبرتها‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب،‭ ‬لم‭ ‬يسحرني‭ ‬مكان‭ ‬فقد‭ ‬ظللتُ‭ ‬خارجَ‭ ‬إطاراتِهِ‭ ‬كلِّها،‭ ‬إلَّا‭ ‬هنا‭ ‬في‭ ‬مخيَّم‭ ‬بيرزيه‭ ‬الذي‭ ‬يُكتَبُ‭ ‬في‭ ‬الفرنسية‭ ‬بيرزيت‭ ‬بلفظٍ‭ ‬مُقاربٍ‭ ‬لمدينةٍ‭ ‬فلسطينية‭ ‬تضمُّ‭ ‬جامعةً‭ ‬أكاديمية‭ ‬عريقة،‭ ‬عندما‭ ‬أخبرني‭ ‬الموظَّفُ‭ ‬في‭ ‬مفوضيَّة‭ ‬اللجوء‭ ‬عن‭ ‬خط‭ ‬سيري‭ ‬الذي‭ ‬يبدأ‭ ‬من‭ ‬العاصمة‭ ‬بروكسل‭ ‬انتهاءً‭ ‬بمحطة‭ ‬بيرزيت،‭ ‬كانت‭ ‬مشاهدُ‭ ‬طريق‭ ‬الآلام‭ ‬الذي‭ ‬عبرته‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬هنا‭ ‬تمرُّ‭ ‬حاضرةً‭ ‬فتَزيدُ‭ ‬من‭ ‬إطباقِ‭ ‬الحاجب‭ ‬الحاجز‭ ‬على‭ ‬رئتيَّ،‭ ‬إنَّهُ‭ ‬العبث‭ ‬حين‭ ‬حملتُ‭ ‬حقيبتي‭ ‬الصغيرة‭ ‬بانتظار‭ ‬القطار‭ ‬متتبِّعاً‭ ‬خريطةً‭ ‬مرسومةً‭ ‬بدقَّةٍ‭ ‬سلَّمني‭ ‬إياها‭ ‬الموظَّفُ‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يهتمُّ‭ ‬عادةً‭ ‬بقصص‭ ‬العابرين،‭ ‬كنتُ‭ ‬أودُّ‭ ‬لو‭ ‬أصرخ‭ ‬بوجهِ‭ ‬كلِّ‭ ‬من‭ ‬قابلت‭: ‬لقد‭ ‬أتيتُ‭ ‬بالبحر،‭ ‬لقد‭ ‬غرق‭ ‬قاربنا‭ ‬وسبحتُ‭ ‬أربع‭ ‬عشر‭ ‬ساعةً‭ ‬متواصلة،‭ ‬لقد‭ ‬مات‭ ‬آخرون‭ ‬وأنقذني‭ ‬الموت‭ ‬من‭ ‬الوقوعِ‭ ‬فيه‭!‬،‭ ‬ولكنِّي‭ ‬اكتفيتُ‭ ‬بمشاهدةِ‭ ‬الطريق‭ ‬عبوراً‭ ‬إلى‭ ‬المحطّةِ‭ ‬الأخيرة‭.‬

قررتُ‭ ‬منذ‭ ‬اللحظةِ‭ ‬الأولى‭ ‬لصدمتي‭ ‬ألّا‭ ‬أتعاملَ‭ ‬مع‭ ‬المكان‭ ‬كسائحٍ‭ ‬جاء‭ ‬لالتقاط‭ ‬الصوَرِ،‭ ‬لستُ‭ ‬عابراً‭ ‬في‭ ‬رحلةٍ‭ ‬ستأتي‭ ‬بعد‭ ‬أسبوع،‭ ‬ذاكرتي‭ ‬تُحاوِلُ‭ ‬استنهاضَ‭ ‬نفسها‭ ‬وأمام‭ ‬ذلكَ‭ ‬أمارِسُ‭ ‬دكتاتوريتي‭ ‬عليها‭ ‬قامعاً‭ ‬إياها‭ ‬مُعيداً‭ ‬إحساسَها‭ ‬إلى‭ ‬اللحظةِ‭ ‬التي‭ ‬أعيشُها‭ ‬الآن‭ ‬حيثُ‭ ‬بدأتُ‭ ‬أهبِطُ‭ ‬بهدوءِ‭ ‬من‭ ‬أيقَنَ‭ ‬أنَّ‭ ‬لا‭ ‬عودةً‭ ‬أبداً‭ ‬لكلِّ‭ ‬الأماكنَ‭ ‬التي‭ ‬عبرها‭ ‬يوماً،‭ ‬من‭ ‬ضفَّةٍ‭ ‬إلى‭ ‬أخرى‭ ‬كنتُ‭ ‬أنتقلُ‭ ‬رفقةَ‭ ‬آخرين‭ ‬لم‭ ‬أحفظ‭ ‬أسماءَهُم‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬سيارة‭ ‬بيضاءَ‭ ‬تحملُ‭ ‬شعارَ‭ ‬الصليب‭ ‬الأحمر‭ ‬الدولي،‭ ‬وقفَ‭ ‬أمامها‭ ‬شابٌّ‭ ‬يحملُ‭ ‬أوراقاً‭ ‬تتضمن‭ ‬أسماءَ‭ ‬الواصلين‭ ‬الجُدُد‭ ‬مع‭ ‬حلول‭ ‬الظلام‭ ‬تماماً‭ ‬حيثُ‭ ‬لم‭ ‬أستطع‭ ‬استكشاف‭ ‬المكان‭ ‬والسيارةُ‭ ‬الكبيرةُ‭ ‬تعبُّ‭ ‬الشارعَ‭ ‬كحصانٍ‭ ‬عرَفَ‭ ‬مضاربَ‭ ‬قبيلته‭.‬

عشر‭ ‬دقائقَ‭ ‬أو‭ ‬أقلَّ‭ ‬من‭ ‬ذلكَ‭ ‬كان‭ ‬جسدي‭ ‬يحاول‭ ‬مراراً‭ ‬خلالها‭ ‬التخلُّص‭ ‬من‭ ‬ملوحة‭ ‬البحر‭ ‬ورائحة‭ ‬الغارقين‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬عبرنا‭ ‬بوابة‭ ‬ما‭ ‬سيُعرَف‭ ‬لاحقاً‭ ‬‮«‬الكامب‮»‬،‭ ‬شارعٌ‭ ‬طويلٌ‭ ‬لم‭ ‬أتميَّز‭ ‬جوانبهُ‭ ‬ليلاً‭ ‬لأقف‭ ‬بعد‭ ‬لحظاتٍ‭ ‬أمام‭ ‬موظَّفةٍ‭ ‬حاولت‭ ‬بكلِّ‭ ‬اللباقةِ‭ ‬الممكنةِ‭ ‬التخفيفَ‭ ‬من‭ ‬وحشةِ‭ ‬المكان‭ ‬وغربته‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬طرحِ‭ ‬بعض‭ ‬القوانين‭ ‬الأساسية‭ ‬للحياةِ‭ ‬في‭ ‬أرجائِه‭ ‬الواسعة،‭ ‬لتقودني‭ ‬بعد‭ ‬ذلكَ‭ ‬إلى‭ ‬غرفةٍ‭ ‬تشاركتُها‭ ‬مع‭ ‬خمسةِ‭ ‬أشخاصٍ‭ ‬غيري،‭ ‬كانت‭ ‬الليلة‭ ‬الأولى‭ ‬الأشدّ‭ ‬رهبةً‭ ‬ووجعاً‭ ‬فقد‭ ‬قطعها‭ ‬سيلٌ‭ ‬من‭ ‬الكوابيس‭ ‬المتلاحقة‭ ‬في‭ ‬غرفةٍ‭ ‬تمتدُّ‭ ‬لستَّةِ‭ ‬أمتار‭ ‬طولاً‭ ‬وخمسةٍ‭ ‬عرضاً‭ ‬توزَّعت‭ ‬بها‭ ‬الأسرَّةُ‭ ‬فوق‭ ‬بعضها‭ ‬البعض،‭ ‬لينقسمِ‭ ‬قاطنوها‭ ‬إلى‭ ‬أعراقٍ‭ ‬لا‭ ‬تتحدَّثُ‭ ‬أبجدبَّةً‭ ‬واحدة‭ ‬فكنتُ‭ ‬خلال‭ ‬الوقت‭ ‬المستقطعِ‭ ‬بين‭ ‬كابوسين‭ ‬أتلصَّصُ‭ ‬على‭ ‬الآخرين،‭ ‬أُراقِبُ‭ ‬هيئاتهم‭ ‬ناظراً‭ ‬إلى‭ ‬جدران‭ ‬هذه‭ ‬الغرفة‭ ‬التي‭ ‬عبرها‭ ‬آخرون‭ ‬قبلي‭ ‬من‭ ‬عشرات‭ ‬السنين،‭ ‬كلُّهُم‭ ‬كانت‭ ‬لهم‭ ‬قصصٌ‭ ‬عن‭ ‬القدوم‭ ‬وأحلامٌ‭ ‬عريضةٌ‭ ‬للمستقبل،‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬كان‭ ‬مفتاحُ‭ ‬اكتشاف‭ ‬المكان،‭ ‬قرّرتُ‭ ‬أن‭ ‬أتعامل‭ ‬معهُ‭ ‬مجدّداً‭ ‬كعابرٍ‭ ‬يسعى‭ ‬لأرضيَّةٍ‭ ‬ثابتة‭ ‬فرُحتُ‭ ‬صباحاً‭ ‬أمشي‭ ‬في‭ ‬شوارعِهِ‭ ‬المتوازية‭ ‬طولاً‭ ‬الملتفَّةُ‭ ‬في‭ ‬نهايتِها‭ ‬حول‭ ‬سبعةِ‭ ‬أبنية‭ ‬حملت‭ ‬أرقاماً‭ ‬متنوِّعة‭ ‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬نهايتِهِ‭ ‬أكواخٌ‭ ‬متراميةٌ‭ ‬تقطنها‭ ‬العائلات‭.‬

لم‭ ‬يستغرق‭ ‬الصباحُ‭ ‬طويلاً‭ ‬لأكتشِفَ‭ ‬أنَّ‭ ‬الكامب‭ ‬كانَ‭ ‬مقرَّاً‭ ‬لوحداتٍ‭ ‬عسكريَّةٍ‭ ‬قبلَ‭ ‬أن‭ ‬يتحوَّل‭ ‬إلى‭ ‬مركز‭ ‬لإيواء‭ ‬اللاجئين‭ ‬من‭ ‬كلِّ‭ ‬بقاعِ‭ ‬الأرض،‭ ‬ولأنَّ‭ ‬علاقتي‭ ‬مع‭ ‬الحياةِ‭ ‬العسكرية‭ ‬تقومُ‭ ‬على‭ ‬التضاد‭ ‬والتنافر‭ ‬زادَ‭ ‬ذلكَ‭ ‬الأمر‭ ‬وحشةَ‭ ‬المكان‭ ‬في‭ ‬داخلي،‭ ‬فكلَّما‭ ‬مررتُ‭ ‬بالقربِ‭ ‬من‭ ‬سارية‭ ‬العلم‭ ‬تخيَّلتُ‭ ‬أولئكَ‭ ‬اللابسين‭ ‬للبدلة‭ ‬العسكرية‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬حيثُ‭ ‬يعيثونَ‭ ‬فساداً‭ ‬ونشراً‭ ‬للموت‭ ‬في‭ ‬فضاءاتِهِ‭ ‬الواسعة،‭ ‬رائحةُ‭ ‬الذكورةِ‭ ‬أزكمت‭ ‬أنفي‭ ‬فتفاصيلُ‭ ‬الجيشِ‭ ‬لا‭ ‬تحتملُ‭ ‬الأنوثة‭ ‬في‭ ‬عقلي‭ ‬الباطن‭ ‬وفي‭ ‬محاولةٍ‭ ‬لبناءِ‭ ‬علاقةٍ‭ ‬مع‭ ‬المكان‭ ‬ذهبتُ‭ ‬إلى‭ ‬مكتبِ‭ ‬الاستقبال‭ ‬وطلبتُ‭ ‬دفتراً‭ ‬وقلماً‭ ‬وشرعتُ‭ ‬بكتابةِ‭ ‬روايةٍ‭ ‬جديدة‭!‬

محاولةٌ‭ ‬لبناءِ‭ ‬مكانٍ‭ ‬جديدٍ‭ ‬على‭ ‬الورق‭ ‬يضمُّ‭ ‬بين‭ ‬جنباتِهِ‭ ‬الجانب‭ ‬المضيء‭ ‬من‭ ‬الحمولة‭ ‬الزائدة‭ ‬للذاكرة‭ ‬وأحلامَها‭ ‬الوردية‭ ‬في‭ ‬اتِّصالِها‭ ‬الأولِّي‭ ‬مع‭ ‬القارَّةِ‭ ‬الأوروبية،‭ ‬أرضُ‭ ‬الحريَّات،‭ ‬صفحةٌ،‭ ‬اثنتان،‭ ‬خمسة،‭ ‬عشرة،‭ ‬لأتوقَّفَ‭ ‬نهائياً‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اكتشفتُ‭ ‬بمحضِ‭ ‬الصدفة‭ ‬المطلقة‭ ‬أنَّ‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬كان‭ ‬أيضاً‭ ‬مقرَّاً‭ ‬للنازيَّةِ‭ ‬خلال‭ ‬الهولوكست،‭ ‬الهولوكوست‭ ‬الذي‭ ‬حمَلنا‭ ‬وِزرَهُ‭ ‬رغمَ‭ ‬أنَّ‭ ‬لا‭ ‬علاقةَ‭ ‬مُباشرةً‭ ‬لنا‭ ‬به،‭ ‬رائحةُ‭ ‬شواء‭ ‬الأجساد‭ ‬تسيطر‭ ‬على‭ ‬المكان‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬صرخاتُ‭ ‬الضعفاء‭ ‬المكلومين،‭ ‬أطفالٌ،‭ ‬رجالٌ،‭ ‬نساءٌ،‭ ‬شيوخ،‭ ‬الكذبةُ‭ ‬التاريخية‭ ‬للهولوكست،‭ ‬هل‭ ‬حدَث،‭ ‬لم‭ ‬يحدُث،‭ ‬أسألُ‭ ‬الترابَ،‭ ‬النصب‭ ‬التذكاري‭ ‬للمحرقة،‭ ‬أنظُرُ‭ ‬في‭ ‬وجوهِ‭ ‬الموجودين،‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يعلم،‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يهتم،‭ ‬وحدي‭ ‬كنتُ‭ ‬أحاولُ‭ ‬اكتشافَ‭ ‬كل‭ ‬التفاصيل‭ ‬التي‭ ‬يكمُنُ‭ ‬فيها‭ ‬الشيطان،‭ ‬التفاصيل‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تعني‭ ‬سواي،‭ ‬تلك‭ ‬التفاصيل‭ ‬التي‭ ‬ستتوهُ‭ ‬لاحقاً‭ ‬في‭ ‬زحمةِ‭ ‬المكان‭ ‬وتراخي‭ ‬الزمان،‭ ‬الزمان‭ ‬مكوِّنٌ‭ ‬آخرَ‭ ‬للمكان‭ ‬يمرُّ‭ ‬هنا‭ ‬ثقيلاً‭ ‬بطيئاً‭ ‬من‭ ‬المُمكِنِ‭ ‬إمساكُهُ‭ ‬في‭ ‬وجوهِ‭ ‬العابرين‭ ‬وفي‭ ‬قصص‭ ‬الحبِّ‭ ‬الرخوة‭ ‬والعداواتُ‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬سبَبَ‭ ‬لها،‭ ‬إنَّها‭ ‬اختناقات‭ ‬المكان‭ ‬وتضاؤل‭ ‬الزمان،‭ ‬وحدَها‭ ‬الثرثرةُ‭ ‬تبقى‭ ‬في‭ ‬موجات‭ ‬العدد‭ ‬الهائلِ‭ ‬للقابعين‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭.‬

على‭ ‬عجلٍ‭ ‬تُبنى‭ ‬الصداقات‭ ‬بين‭ ‬الأشجار‭ ‬العالية‭ ‬المحيطةِ‭ ‬بالمكان،‭ ‬وسريعاً‭ ‬يبدأ‭ ‬البوحُ‭ ‬عن‭ ‬أحلامِ‭ ‬المستقبل‭ ‬والشوقِ‭ ‬للقيا‭ ‬الغائبين،‭ ‬كنتُ‭ ‬كلَّ‭ ‬صباحٍ‭ ‬أنظر‭ ‬إلى‭ ‬المرآةِ‭ ‬أسألُ‭ ‬نفسي‭ ‬عن‭ ‬حالِها،‭ ‬أُلاحظُ‭ ‬بعض‭ ‬الشعرات‭ ‬البيضاء‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬تشتعلُ‭ ‬في‭ ‬رأسي،‭ ‬وزني‭ ‬أيضاً‭ ‬انخفضَ‭ ‬إلى‭ ‬النصف،‭ ‬أنا‭ ‬جزءٌ‭ ‬من‭ ‬المكان‭ ‬الآن‭ ‬مهما‭ ‬حاولتُ‭ ‬التجرُّدَ‭ ‬منهُ‭ ‬وافتراض‭ ‬كونه‭ ‬مرحلة‭ ‬عابرة‭ ‬سيليها‭ ‬ما‭ ‬أُريد،‭ ‬في‭ ‬الواقِعِ‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬كذلكَ‭ ‬فقد‭ ‬أحرقتني‭ ‬بقايا‭ ‬الجمرُ‭ ‬في‭ ‬أفران‭ ‬الهولوكست‭ ‬الضائعة‭.‬

الأيام‭ ‬تتشابَهُ‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬القطعة‭ ‬الجغرافية‭ ‬التي‭ ‬تقعُ‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬لييج‭ ‬بين‭ ‬مركزَي‭ ‬‮«‬أونص‮»‬‭ ‬و‮»‬ورام‮»‬،‭ ‬طوابيرُ‭ ‬الطعامِ‭ ‬في‭ ‬الوجباتِ‭ ‬الثلاث،‭ ‬الثقافاتُ‭ ‬الاجتماعية‭ ‬وعاداتُها‭ ‬المختلفة‭ ‬بين‭ ‬شعوب‭ ‬الأرض‭ ‬الطارئة‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأرض،‭ ‬اللهجات‭ ‬والألسنُ‭ ‬التي‭ ‬ستُحاولُ‭ ‬مراراً‭ ‬حفظَ‭ ‬كلماتِ‭ ‬التحيَّةِ‭ ‬فيها‭ ‬وستفشل‭ ‬مراراً‭ ‬لأنَّ‭ ‬الأرضَ‭ ‬مهزوزة‭ ‬غير‭ ‬ثابتة‭ ‬ومستقرة،‮ ‬ستحاولُ‭ ‬أيضاً‭ ‬أن‭ ‬تُغيِّرَ‭ ‬من‭ ‬عاداتِك‭ ‬وستفشل،‭ ‬مثلاً‭ ‬ستجرِّب‭ ‬أن‭ ‬تتكلم‭ ‬بصوتٍ‭ ‬منخفِض‭ ‬ولن‭ ‬تضبِط‭ ‬نفسك،‭ ‬ستحاولُ‭ ‬أن‭ ‬تضحكَ‭ ‬بطريقةِ‭ ‬الابتسام‭ ‬ولن‭ ‬تنجح،‭ ‬جغرافية‭ ‬الفكر‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬ستفرِضُ‭ ‬نفسها‭ ‬عليك‭ ‬ولن‭ ‬تستطيع‭ ‬إخراجَكَ‭ ‬من‭ ‬جلدك‭ ‬مهما‭ ‬حاولت‭ ‬التصنُّع‭ ‬فأنت‭ ‬طارئٌ‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬أكثر‭ ‬ولا‭ ‬أقل‭.‬

العلاقةُ‭ ‬مع‭ ‬القائمين‭ ‬على‭ ‬المكان‭ ‬أيضاً‭ ‬جزءٌ‭ ‬من‭ ‬الجغرافية،‭ ‬تلكَ‭ ‬الرحلةُ‭ ‬التي‭ ‬تبدأ‭ ‬بترتيب‭ ‬الأوراق‭ ‬والمقابلات‭ ‬والفحص‭ ‬الطبّي‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬محاولاتِكَ‭ ‬بناءَ‭ ‬علاقاتٍ‭ ‬صحيَّةٍ‭ ‬تمتدُّ‭ ‬طويلاً‭ ‬مع‭ ‬العاملين‭ ‬فتصطدِم‭ ‬بقوانين‭ ‬صارمةٍ‭ ‬تُحذِّرهُم‭ ‬من‭ ‬لقائكَ‭ ‬خارجَ‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يراكَ‭ ‬إلا‭ ‬تفصيلاً‭ ‬عابراً‭ ‬فيه‭ ‬بينما‭ ‬ترى‭ ‬نفسكَ‭ ‬حين‭ ‬يسكن‭ ‬الليل‭ ‬طريداً‭ ‬وحيداً‭ ‬دون‭ ‬صداقاتٍ‮ ‬‭ ‬لتناجي‭ ‬الراحلين‭ ‬البعيدين‭ ‬وتسأل‭ ‬نفسكَ‭ ‬كعربيٍّ‭ ‬مراراً‭ ‬‮«‬لماذا‭ ‬أبوابُ‭ ‬مخيَّم‭ ‬إيواء‭ ‬اللاجئين‭ ‬في‭ ‬بيرزيت‭ ‬أقربُ‭ ‬لي‭ ‬من‭ ‬أبواب‭ ‬مكَّةَ‭ ‬المكرَّمة‮»‬،‭ ‬لن‭ ‬تجدَ‭ ‬جواباً‭ ‬واحداً‭ ‬وإلَّا‭ ‬فماذا‭ ‬تعني‭ ‬العروبة؟

مراراً‭ ‬و‭ ‬أنت‭ ‬تقطَعُ‭ ‬الطريقَ‭ ‬ذاهباً‭ ‬وعائداً‭ ‬إلى‭ ‬العاصمة‭ ‬بروكسل‭ ‬لإنجاز‭ ‬الأوراق‭ ‬المطلوبة‭ ‬للاعتراف‭ ‬بكَ‭ ‬كجزءٍ‭ ‬من‭ ‬المكان،‭ ‬ستسأل‭ ‬نفسَك‭ ‬‮«‬لو‭ ‬قالَ‭ ‬لكَ‭ ‬أحدُهُم‭ ‬منذ‭ ‬خمس‭ ‬سنواتٍ‭ ‬أنَّكَ‭ ‬ستكون‭ ‬هنا‭ ‬في‭ ‬مخيّمٍ‭ ‬لإيواء‭ ‬اللاجئين،‭ ‬لرددتَ‭ ‬عليه‭ ‬فوراً‭: ‬ما‭ ‬كلُّ‭ ‬هذا‭ ‬الجنون‮»‬،‭ ‬ستبتسمُ‭ ‬وتخبِر‭ ‬نفسَكَ‭ ‬أنَّ‭ ‬الجنونَ‭ ‬غدا‭ ‬حقيقةً‭ ‬وصار‭ ‬واقعاً‭ ‬وعبَرتَ‭ ‬ككلِّ‭ ‬العابرين‭ ‬من‭ ‬ذلكَ‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬مرَّ‭ ‬عليهِ‭ ‬آخرون‭ ‬وتعاقبَ‭ ‬عليهِ‭ ‬اللاجئون‭.‬

لن‭ ‬تكون‭ ‬انتقائياً‭ ‬في‭ ‬ذاكرتِكَ‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬المكان،‭ ‬مثلي‭ ‬تماماً،‭ ‬ستفتحُ‭ ‬الذاكرةَ‭ ‬على‭ ‬مصراعيها‭ ‬لتُشبِعها‭ ‬بكلِّ‭ ‬الصور‭ ‬وحين‭ ‬سيمرُّ‭ ‬بعد‭ ‬ذلكَ‭ ‬ذكرُ‭ ‬الكامب‭ ‬ستأتي‭ ‬المشاهدُ‭ ‬دفعةً‭ ‬واحدةً‭ ‬كالصلوات‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يُمكنُ‭ ‬تأديتُها‭ ‬بنقصان،‭ ‬فكيفَ‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أنسى‭ ‬أنِّي‮ ‬استقبلتُ‭ ‬ابني‭ ‬حمزة‭ ‬في‭ ‬المنفى‭ ‬بينما‭ ‬وُلِدَ‭ ‬هوَ‭ ‬في‭ ‬منفى‭ ‬آخر‭ ‬بعيداً‭ ‬هناك‭ ‬حيثُ‭ ‬حمَّلتُهُ‭ ‬وجعَ‭ ‬غيابي‭ ‬الأوَّل‭ ‬حين‭ ‬أبصرَ‭ ‬النور،‭ ‬كيفَ‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أنسى‭ ‬أنّ‭ ‬الكامب‭ ‬كان‭ ‬شاهداً‭ ‬على‭ ‬فصول‭ ‬روايتي‭ ‬الأخيرة‭ ‬‮«‬طريق‭ ‬الآلام‮»‬،‭ ‬كيفَ‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أختزلَ‭ ‬كلَّ‭ ‬تلك‭ ‬التفاصيل‭ ‬وأحلُمَ‭ ‬بعودةٍ‭ ‬وكلُّ‭ ‬الذينَ‭ ‬أُحبِّهُم‭ ‬ماتوا‭ ‬في‭ ‬الحرب‭.‬

لم‭ ‬أُخبِركُم‭ ‬أيضاً‭ ‬أنِّي‭ ‬وصلتُ‭ ‬الكامب‭ ‬‮«‬مخيَّم‭ ‬إيواء‭ ‬اللاجئين‭ ‬في‭ ‬بيرزيت‮»‬‭ ‬في‭ ‬السادس‭ ‬من‭ ‬تشرين،‭ ‬أكتوبر‭ ‬لعام‭ ‬2014م،‭ ‬السادسُ‭ ‬من‭ ‬تشرين‭ ‬الذي‭ ‬ارتبطَ‭ ‬في‭ ‬عقلي‭ ‬الباطن‭ ‬بحربِ‭ ‬تشرين‭ ‬على‭ ‬الجبهةِ‭ ‬السورية‭ ‬والمصرية،‭ ‬والسادسُ‭ ‬من‭ ‬تشرين‭ ‬هوَ‭ ‬يوم‭ ‬زواجي،‭ ‬وقد‭ ‬صادَفَ‭ ‬حينَ‭ ‬وصلتُ‭ ‬إلى‭ ‬بيرزيت‭ ‬يومَ‭ ‬الوقوفِ‭ ‬في‭ ‬جبل‭ ‬عرفة‭ ‬حيثُ‭ ‬يؤدِّي‭ ‬المسلمون‭ ‬فريضةَ‭ ‬الحجِّ‭ ‬في‭ ‬مكة‭!!‬

وصلتُ‭ ‬إلى‭ ‬المخيَّم‭ ‬بحقيبةٍ‭ ‬صغيرةٍ‭ ‬اشتريتُها‭ ‬من‭ ‬بروكسل،‭ ‬لم‭ ‬أضع‭ ‬فيها‭ ‬شيئاً‭ ‬سوى‭ ‬ملفّ‭ ‬اللجوء‭ ‬الذي‭ ‬حملَ‭ ‬رقمي‭ ‬واسمي‭ ‬الكامل‭ ‬وورقةً‭ ‬فيها‭ ‬صورتي‭ ‬الشخصية‭ ‬وبياناتٌ‭ ‬أوليّة‭ ‬لأكون‭ ‬رقماً‭ ‬في‭ ‬متتاليةً‭ ‬عبرَت‭ ‬وستظلُّ‭ ‬تعبُرَ‭ ‬ذلكَ‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬شهِدَ‭ ‬الهولوكست‭ ‬على‭ ‬أرضِهِ‭ ‬ويشهَدُ‭ ‬نتائجَ‭ ‬الهولوكست‭ ‬الذي‭ ‬يحدُثُ‭ ‬على‭ ‬أرضِ‭ ‬آخرين،‭ ‬قناعةٌ‭ ‬واحدةٌ‭ ‬نقلتُها‭ ‬معي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الشواطئ‭ ‬التي‭ ‬غزوتُها،‭ ‬قناعةٌ‭ ‬واحدةٌ‭ ‬ظلَّت‭ ‬عالقةً‭ ‬فوق‭ ‬ملوحةِ‭ ‬البحر‭ ‬هي‭ ‬أنَّ‭: ‬كل‭ ‬الأوطانِ‭ ‬أرضُنا‭ ‬بعدَ‭ ‬أن‭ ‬ضاعَت‭ ‬سوريا‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.