قصـــتان

الجمعة 2016/07/01
لوحة: بهرام حاجو

لاعب‭ ‬الريشة

لا‭ ‬يطيق‭ ‬لاعب‭ ‬الريشة‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬نفسه‭ ‬وحيداً،‭ ‬لذلك‭ ‬فهو‭ ‬يتنقل‭ ‬بين‭ ‬الحدائق‭ ‬باحثاً‭ ‬عمّن‭ ‬يشاركه‭ ‬اللعب،‭ ‬قدماه‭ ‬تقودانه‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬يقبع‭ ‬الرجال‭ ‬صحيحو‭ ‬البنية‭ ‬الذين‭ ‬أنهوا‭ ‬منذ‭ ‬فترة‭ ‬معركتهم‭ ‬الأخيرة،‭ ‬وتقاعدوا‭ ‬لكنهم‭ ‬ما‭ ‬زالوا‭ ‬بانتظار‭ ‬أن‭ ‬تندلع‭ ‬حرب‭ ‬جديدة‭ ‬حتى‭ ‬يخرجوا‭ ‬بنادقهم‭ ‬الصدئة‭ ‬ويعودوا‭ ‬إلى‭ ‬المكان‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬يستطيعون‭ ‬أن‭ ‬يرفعوا‭ ‬فيه‭ ‬أًصواتهم‭ ‬عالياً،‭ ‬ويجمعوا‭ ‬الجنود‭ ‬حولهم،‭ ‬كان‭ ‬وقوفه‭ ‬بينهم‭ ‬غريباً،‭ ‬لكنهم‭ ‬كانوا‭ ‬يستمتعون‭ ‬بهذا‭ ‬الرجل‭ ‬الغريب‭ ‬الذي‭ ‬يحمل‭ ‬مضربه‭ ‬ويرسل‭ ‬الريشة‭ ‬بعيداً‭ ‬ثم‭ ‬يركض‭ ‬ليلتقطها،‭ ‬شاركه‭ ‬أحدهم‭ ‬اللعب،‭ ‬وتحلق‭ ‬الباقون‭ ‬حولهما‭ ‬يتابعون‭ ‬تغلب‭ ‬لاعب‭ ‬الريشة‭ ‬بسهولة‭ ‬على‭ ‬الجنرال،‭ ‬وجعله‭ ‬يتصبّب‭ ‬عرقاً،‭ ‬فسخر‭ ‬منه‭ ‬الآخرون،‭ ‬لكن‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يغير‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الحال‭ ‬شيئاً‭ ‬ظل‭ ‬الجنرال‭ ‬قادراً‭ ‬على‭ ‬إصدار‭ ‬الأوامر‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬لاعب‭ ‬الريشة‭ ‬أن‭ ‬يركض‭ ‬ليحضر‭ ‬الريشة‭ ‬من‭ ‬المستنقع‭ ‬القريب،‭ ‬ومن‭ ‬أعلى‭ ‬شجرة‭ ‬السنديان،‭ ‬لقد‭ ‬تسلق‭ ‬الشجرة‭ ‬مثل‭ ‬قرد‭ ‬والتقط‭ ‬الريشة‭ ‬بأسنانه‭ ‬ثم‭ ‬عاد‭ ‬راكضاً‭ ‬والجنرال‭ ‬واقف‭ ‬في‭ ‬مكانه‭ ‬عاقداً‭ ‬ذراعيه‭ ‬القويين،‭ ‬كان‭ ‬الخجل‭ ‬بادياً‭ ‬على‭ ‬وجهه‭ ‬بسبب‭ ‬خسارته‭ ‬النقاط،‭ ‬لكنه‭ ‬ظل‭ ‬جنرالاً‭.‬

حين‭ ‬اندلعت‭ ‬الحرب‭ ‬الأخيرة‭ ‬كان‭ ‬الجنرال‭ ‬واقفاً‭ ‬في‭ ‬المقدمة،‭ ‬وكان‭ ‬الجنود‭ ‬يقفون‭ ‬خلفه‭ ‬ينتظرون‭ ‬إشارة‭ ‬منه‭ ‬لينطلقوا،‭ ‬لكن‭ ‬إشارته‭ ‬تأخّرت،‭ ‬لأن‭ ‬لاعب‭ ‬الريشة‭ ‬كان‭ ‬يتقافز‭ ‬على‭ ‬التل‭ ‬المقابل،‭ ‬يلاعب‭ ‬أحد‭ ‬جنود‭ ‬العدو،‭ ‬كان‭ ‬الجنرال‭ ‬يتابع‭ ‬المباراة‭ ‬بينهما،‭ ‬وهو‭ ‬متأكد‭ ‬أن‭ ‬لاعب‭ ‬الريشة‭ ‬سيفوز‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬الجندي،‭ ‬كان‭ ‬جنود‭ ‬الأعداء‭ ‬يتابعون‭ ‬المباراة‭ ‬ويهتفون‭ ‬مشجّعين‭ ‬صديقهم‭ ‬الجندي‭ ‬هزيل‭ ‬الجسم‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يلهث‭ ‬بسبب‭ ‬الضربات‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يوجهها‭ ‬لاعب‭ ‬الريشة،‭ ‬إنه‭ ‬يحرز‭ ‬نقاطاً‭ ‬متتالية،‭ ‬هكذا‭ ‬فكر‭ ‬الجنرال،‭ ‬وهو‭ ‬يبتسم،‭ ‬استدار‭ ‬إلى‭ ‬جنده‭ ‬وأخبرهم‭ ‬أن‭ ‬لاعب‭ ‬الريشة‭ ‬صديقه،‭ ‬وأنهما‭ ‬كانا‭ ‬يلعبان‭ ‬الريشة‭ ‬معاً‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬السلم،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يخبرهم‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يخسر‭ ‬دائماً‭.‬

سقطت‭ ‬الريشة‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬واندفعت‭ ‬أولى‭ ‬القذائف‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬العدو،‭ ‬أِشار‭ ‬الجنرال‭ ‬لجنوده‭ ‬فهجموا،‭ ‬وابتدأت‭ ‬المعركة،‭ ‬استمرّت‭ ‬يوماً‭ ‬يومين،‭ ‬شهراً‭ ‬شهرين،‭ ‬سنة‭ ‬سنتين،‭ ‬كان‭ ‬لاعب‭ ‬الريشة‭ ‬قد‭ ‬أصبح‭ ‬عجوزاً‭ ‬حين‭ ‬وضعت‭ ‬الحرب‭ ‬أوزارها‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ثمة‭ ‬حدائق‭ ‬ليلعب‭ ‬فيها،‭ ‬وكانت‭ ‬خوذة‭ ‬الجنرال‭ ‬وحدها‭ ‬معلقة‭ ‬على‭ ‬شجرة‭ ‬السنديان،‭ ‬حمل‭ ‬لاعب‭ ‬الريشة‭ ‬مضربه‭ ‬وسار‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬حديقة،‭ ‬وعن‭ ‬عسكريين‭ ‬متقاعدين،‭ ‬وهناك‭ ‬على‭ ‬التل،‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬الجندي‭ ‬ينتظر،‭ ‬وكان‭ ‬مضربه‭ ‬مكسوراً،‭ ‬وكان‭ ‬يلهث،‭ ‬لأن‭ ‬المعركة‭ ‬ستبدأ‭ ‬بعد‭ ‬قليل‮…‬

وهو‭ ‬يترنم

الهزيمة‭ ‬تثقل‭ ‬ظهري،‭ ‬لا‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أحمل‭ ‬هزائم‭ ‬أكثر،‭ ‬دعوني‭ ‬وحيداً‭ ‬وارحلوا،‭ ‬ارحلوا‭ ‬جميعاً،‭ ‬دعوني‭ ‬ألملم‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬لي‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬في‭ ‬كيس‭ ‬عتيق‭ ‬وأمضي‭ ‬إلى‭ ‬النهر،‭ ‬هناك‭ ‬سأجد‭ ‬ضالتي،‭ ‬هناك‭ ‬حيث‭ ‬لن‭ ‬يراني‭ ‬أحد،‭ ‬سأخرج‭ ‬خيبتي‭ ‬وألقيها‭ ‬في‭ ‬الماء،‭ ‬لن‭ ‬يراني‭ ‬أحد،‭ ‬لن‭ ‬يراني‭ ‬أحد‭.‬

أعلم‭ ‬أني‭ ‬عشت‭ ‬طويلاً،‭ ‬لكنّي‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أريد‭ ‬ذلك،‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أعيش‭ ‬هذه‭ ‬السنوات‭ ‬كلها،‭ ‬كنت‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أزوّج‭ ‬أبنائي‭ ‬ثم‭ ‬أغادر‭ ‬الحياة‭ ‬بهدوء‭ ‬كما‭ ‬عشتها‭ ‬بهدوء،‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أريد‭ ‬رؤية‭ ‬أحفادي،‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أريد‭ ‬ذلك،‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬سأخسره‭ ‬بعد‭ ‬الآن؟

يا‭ ‬الله،‭ ‬أنا‭ ‬لم‭ ‬أغادر‭ ‬هذا‭ ‬البيت،‭ ‬عشت‭ ‬فيه‭ ‬ثمانين‭ ‬عاماً،‭ ‬يا‭ ‬الله‭ ‬كان‭ ‬بيت‭ ‬أبي،‭ ‬وقد‭ ‬مات‭ ‬فيه،‭ ‬هناك‭ ‬قرب‭ ‬شجرة‭ ‬التين‭ ‬تلك،‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬قبل‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة،‭ ‬وهناك‭ ‬في‭ ‬الزاوية‭ ‬ماتت‭ ‬أمي،‭ ‬كانت‭ ‬تصلّي‭ ‬صلاة‭ ‬الفجر،‭ ‬ركعت‭ ‬ولم‭ ‬تنهض،‭ ‬وهنا،‭ ‬هنا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬كنت‭ ‬أقف‭ ‬حين‭ ‬سمعت‭ ‬خبر‭ ‬ولادة‭ ‬أول‭ ‬أبنائي،‭ ‬ابني‭ ‬الأكبر‭ ‬الذي‭ ‬صار‭ ‬جَدّاً،‭ ‬يا‭ ‬الله،‭ ‬يا‭ ‬الله،‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أريد‭ ‬هذا‭ ‬كله،‭ ‬كنت‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أراهم‭ ‬رجالاً‭ ‬فقط،‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أريد‭ ‬رؤية‭ ‬أولادهم،‭ ‬هنا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬يا‭ ‬الله‭ ‬سمعت‭ ‬خبر‭ ‬استشهاد‭ ‬ابن‭ ‬ابني‭ ‬الأكبر،‭ ‬وهناك‭ ‬قرب‭ ‬الباب‭ ‬الخشبي‭ ‬سمعت‭ ‬باستشهاد‭ ‬ابن‭ ‬ابنتي،‭ ‬وبعدها‭ ‬بيومين‭ ‬فقط‭ ‬يا‭ ‬الله،‭ ‬أبلغوني‭ ‬بوفاة‭ ‬ابنتي‭ ‬حزناً‭ ‬على‭ ‬وحيدها‭ ‬الذي‭ ‬مات‭ ‬في‭ ‬المعتقل،‭ ‬وهناك‭ ‬هناك‭ ‬قرب‭ ‬شجرة‭ ‬الجوز‭ ‬ماتت‭ ‬زوجتي،‭ ‬سقط‭ ‬عليها‭ ‬صاروخ‭ ‬وقتلها،‭ ‬لقد‭ ‬زرعت‭ ‬شجرة‭ ‬الجوز‭ ‬بيديها‭ ‬منذ‭ ‬ثلاثين‭ ‬عاماً‭ ‬حين‭ ‬رزقنا‭ ‬الله‭ ‬بثالث‭ ‬أولادنا،‭ ‬يا‭ ‬الله،‭ ‬لقد‭ ‬استشهد‭ ‬هو‭ ‬أيضاً‭ ‬وهو‭ ‬يحاول‭ ‬سحب‭ ‬أمه‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬الأنقاض،‭ ‬يا‭ ‬الله،‭ ‬يا‭ ‬الله،‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أعيش‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬كله،‭ ‬كنت‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أراهم‭ ‬رجالاً،‭ ‬رجالاً،‭ ‬لقد‭ ‬كانوا‭ ‬يلعبون‭ ‬حولي‭ ‬في‭ ‬صغرهم،‭ ‬هنا‭ ‬في‭ ‬الحوش‭ ‬كانت‭ ‬أرضه‭ ‬ترابية‭ ‬وقتها،‭ ‬وكنت‭ ‬أصرخ‭ ‬موبّخاً‭ ‬كلما‭ ‬أثاروا‭ ‬الغبار‭ ‬بحركات‭ ‬أقدامهم،‭ ‬هنا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الحوش،‭ ‬هنا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬انهمرت‭ ‬عليه‭ ‬القذائف‭ ‬فسقطوا‭ ‬جميعاً‭ ‬بينما‭ ‬كانوا‭ ‬يستعدون‭ ‬لتشييع‭ ‬أخيهم‭ ‬الأصغر‭ ‬الذي‭ ‬استشهد‭ ‬وهو‭ ‬يدافع‭ ‬عن‭ ‬بيته،‭ ‬يا‭ ‬الله،‭ ‬يا‭ ‬الله،‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أعيش‭ ‬هذه‭ ‬السنوات‭ ‬كلها،‭ ‬يا‭ ‬الله‮…‬‭. ‬يا‭ ‬الله‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.