مثقف‭ ‬اللحظة‭ ‬الراهنة

الجمعة 2016/07/01
لوحة: خالد عقيل

أن يختلف‭ ‬ويتقاتل‭ ‬البسطاء‭ ‬ممن‭ ‬تحركهم‭ ‬الطائفية‭ ‬والمناطقية‭ ‬والعرقية،‭ ‬فهذا‭ ‬مفهوم‭. ‬الغرائزية‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تتسلل‭ ‬بسهولة‭ ‬إلى‭ ‬عقول‭ ‬البسطاء‭. ‬الأمثلة‭ ‬كثيرة‭ ‬على‭ ‬قدرة‭ ‬زعامات‭ ‬ساذجة‭ ‬في‭ ‬تحريك‭ ‬جموع‭ ‬البسطاء‭ ‬وتوجيههم‭ ‬كما‭ ‬تريد‭. ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬هذه‭ ‬الجموع‭ ‬إلا‭ ‬كلمات‭ ‬تستحث‭ ‬الغرائز‭ ‬لتجد‭ ‬مدا‭ ‬“جماهيريا”‭ ‬وصاحب‭ ‬قضية‭ ‬قادرا‭ ‬على‭ ‬إحداث‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الضرر‭.‬

الغرائز،‭ ‬من‭ ‬حبّ‭ ‬وكراهية‭ ‬أو‭ ‬تخويف‭ ‬من‭ ‬الآخر‭ ‬أو‭ ‬ترغيب‭ ‬بفكرة،‭ ‬تسهّل‭ ‬المهمة‭. ‬جرّب‭ ‬أن‭ ‬توزع‭ ‬مع‭ ‬الكلمات‭ ‬بعض‭ ‬الطعام‭ ‬والحلوى،‭ ‬فتتظافر‭ ‬غرائز‭ ‬العقل‭ ‬مع‭ ‬غرائز‭ ‬البطن‭ ‬وشاهد‭ ‬النتيجة‭. ‬مذهلة‭! ‬جرب‭ ‬أن‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬الحرب‭ ‬والدم‭ ‬والانتقام،‭ ‬سترى‭ ‬عجبا‭.‬

لكنهم‭ ‬بسطاء‭. ‬كيف‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نلومهم‭. ‬مقدما‭ ‬حكمنا‭ ‬عليهم‭ ‬بالسذاجة‭ ‬والانقياد‭ ‬الأعمى‭. ‬فهل‭ ‬نلومهم؟

ماذا‭ ‬عن‭ ‬المثقفين؟‭ ‬هؤلاء‭ ‬مهنتهم‭ ‬الوعي‭. ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬مثقف‭ ‬ساذج‭. ‬الصفتان‭ ‬لا‭ ‬تتطابقان‭ ‬جنب‭ ‬بعضهما‭ ‬البعض‭.‬

كيف‭ ‬نصف‭ ‬غرائزية‭ ‬المثقف؟‭ ‬إنها‭ ‬مهمة‭ ‬عسيرة‭. ‬المثقف‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يطلسم‭ ‬تلك‭ ‬الغرائزية‭. ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يبرر‭ ‬طائفيته‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬السكّر‭ ‬اللفظي‭ ‬ليخفي‭ ‬مرارة‭ ‬الحقيقة‭. ‬بوسعه‭ ‬أن‭ ‬يتحدى‭ ‬الآخرين‭ ‬ويقول‭ ‬إنه‭ ‬فوق‭ ‬المناطقية‭ ‬وفوق‭ ‬الأعراق‭ ‬وإنه‭ ‬تجاوز‭ ‬الاختلاف‭ ‬في‭ ‬الأديان‭ ‬والمذاهب‭. ‬ولكننا‭ ‬نعرف‭ ‬أن‭ ‬الكثير‭ ‬منهم‭ ‬إنما‭ ‬تسيّرهم‭ ‬الغرائز‭ ‬ذاتها‭ ‬التي‭ ‬تسيّر‭ ‬من‭ ‬يصفونهم‭ ‬هم‭ ‬بالرعاع‭.‬

مثقفنا‭ ‬العربي‭ ‬للأسف‭ ‬غير‭ ‬متسامح‭. ‬والقضية‭ ‬أقدم‭ ‬من‭ ‬عصر‭ ‬الغرائز‭ ‬الحالي‭.‬

التنافس‭ ‬شيء‭ ‬طبيعي‭ ‬ولا‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يتجاوزه‭ ‬المثقف،‭ ‬أسوة‭ ‬بالجميع‭. ‬من‭ ‬المألوف‭ ‬أن‭ ‬يتبادل‭ ‬المثقفون‭ ‬سهام‭ ‬الانتقاد‭ ‬والنقد‭. ‬هذا‭ ‬في‭ ‬صميم‭ ‬دورهم‭. ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬غير‭ ‬طبيعي‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يتحول‭ ‬التنافس‭ ‬إلى‭ ‬بغضاء‭ ‬وأن‭ ‬يتحول‭ ‬النقد‭ ‬إلى‭ ‬شطب‭ ‬للآخر‭.‬

المثقف‭ ‬العربي‭ ‬هو‭ ‬مثقف‭ ‬ناقل‭ ‬وقليل‭ ‬الابتكار‭. ‬لهذا‭ ‬فإن‭ ‬التنافس‭ ‬كان‭ ‬عادة‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬سباق‭ ‬غير‭ ‬مرئي‭ ‬لمن‭ ‬يستكشف‭ ‬أفكار‭ ‬الغرب‭ ‬‭(‬وبعض‭ ‬الشرق‭)‬‭ ‬ويقدمها‭ ‬للقارئ‭ ‬العربي‭ ‬قبل‭ ‬الآخر‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يقولبها‭ ‬عربيا‭ ‬ويخفي‭ ‬معالم‭ ‬النقل‭. ‬لهذا‭ ‬كان‭ ‬التباغض‭ ‬عبثيا‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭ ‬لأنه‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬فلك‭ ‬فكري‭ ‬لا‭ ‬يمتّ‭ ‬للواقع‭ ‬بصلة‭.‬

أين‭ ‬تكشفت‭ ‬العيوب‭ ‬أكثر؟‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬مع‭ ‬صعود‭ ‬موجة‭ ‬الطائفية‭ ‬والعرقية‭ ‬وصراع‭ ‬الأديان‭ ‬والمذاهب‭. ‬ما‭ ‬عاد‭ ‬مثقفنا‭ ‬قادرا‭ ‬على‭ ‬الإتيان‭ ‬بمفردات‭ ‬رفيعة‭ ‬تنقذه‭ ‬من‭ ‬عقده،‭ ‬ولهذا‭ ‬سارع‭ ‬إلى‭ ‬الاستعانة‭ ‬بقاموس‭ ‬الغرائز‭ ‬بكلّ‭ ‬ما‭ ‬يحمله‭ ‬من‭ ‬انحطاط‭.‬

اكتشف‭ ‬المثقف‭ ‬العربي‭ ‬شيعيّته‭ ‬وسنيّته‭ ‬ومسيحيّته‭ ‬وكرديته‭ ‬‭(‬مثقفنا‭ ‬الكردي‭ ‬يستخدم‭ ‬العربية‭)‬‭. ‬صار‭ ‬أشبه‭ ‬بخطيب‭ ‬المنابر‭ ‬في‭ ‬محاجاته‭. ‬قطع‭ ‬الطريق‭ ‬الذي‭ ‬يربطه‭ ‬بعالم‭ ‬أكثر‭ ‬تنويرا‭ ‬واختار‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬عقلية‭ ‬القطيع‭.‬

هل‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬تحامل‭ ‬على‭ ‬المثقف‭ ‬العربي؟‭ ‬نعم‭. ‬لأنه‭ ‬خدعنا‭. ‬باعنا‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأفكار‭ ‬وصدقناه‭ ‬ومشينا‭ ‬خلفه‭ ‬لنراه‭ ‬الآن‭ ‬مرتدا‭ ‬عنصريا‭ ‬يستخدم‭ ‬تركة‭ ‬الثقافة‭ ‬لتبرير‭ ‬انعدام‭ ‬الثقافة‭.‬

أنظروا‭ ‬المثقفين‭ ‬الذي‭ ‬يبررون‭ ‬هدم‭ ‬المدن‭ ‬على‭ ‬رؤوس‭ ‬ساكنيها‭. ‬ليسوا‭ ‬أفرادا‭ ‬قلائل،‭ ‬بل‭ ‬تيارات‭ ‬كاملة‭ ‬ومجموعات‭ ‬تكرر‭ ‬وتردد‭ ‬نفس‭ ‬الكلام‭ ‬في‭ ‬تبرير‭ ‬الخراب‭. ‬لعلهم‭ ‬يبررون‭ ‬أيضا‭ ‬فشلهم‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يكونوا‭ ‬صانعي‭ ‬الفرق‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يغير‭ ‬مسارات‭ ‬الشعوب،‭ ‬كما‭ ‬شهدنا‭ ‬وعرفنا‭ ‬عند‭ ‬الآخرين‭ ‬ومنهم‭.‬

أنظروا‭ ‬التحيز‭ ‬والتطرف‭ ‬في‭ ‬العبارات‭ ‬التي‭ ‬صرنا‭ ‬نسمعها‭ ‬من‭ ‬مثقفينا‭. ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬معنا‭ ‬فأنت‭ ‬ضدنا‭. ‬مثقفنا‭ ‬تشبّه‭ ‬بالرئيس‭ ‬الأميركي‭ ‬السابق‭ ‬جورج‭ ‬بوش‭ ‬في‭ ‬نظرته‭. ‬بل‭ ‬صار‭ ‬لا‭ ‬يسمح‭ ‬حتى‭ ‬بتوبة‭ ‬المثقف‭ ‬الآخر‭ ‬إن‭ ‬هو‭ ‬وجد‭ ‬أن‭ ‬طريقه‭ ‬كان‭ ‬ضلالا‭ ‬وأن‭ ‬عليه‭ ‬تصحيح‭ ‬المسيرة‭. ‬إذا‭ ‬انعدمت‭ ‬قدرة‭ ‬المثقف‭ ‬على‭ ‬قبول‭ ‬“توبة”‭ ‬المثقف‭ ‬الآخر،‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يقبل‭ ‬“توبة”‭ ‬البسطاء‭ ‬والسذج؟

أنظروا‭ ‬إلى‭ ‬التقارب‭ ‬غير‭ ‬الصحي‭ ‬بين‭ ‬المثقف‭ ‬والسياسي‭. ‬مدرسة‭ ‬الانتهازية‭ ‬والتبرير‭ ‬صارت‭ ‬تضم‭ ‬أعدادا‭ ‬إضافية‭ ‬تزاحم‭ ‬السياسيين‭ ‬وتتقرب‭ ‬إليهم‭ ‬طمعا‭ ‬في‭ ‬مال‭ ‬وجاه‭ ‬وسلطة‭. ‬أنظروا‭ ‬الفارق‭ ‬بين‭ ‬دخول‭ ‬المثقفين‭ ‬من‭ ‬أوروبا‭ ‬الشرقية‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬السياسة‭ ‬بعد‭ ‬انهيار‭ ‬الشيوعية‭ ‬ودخول‭ ‬مثقفينا‭ ‬عالم‭ ‬السياسة‭ ‬بعد‭ ‬انهيار‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭. ‬كم‭ ‬كان‭ ‬الأوروبيون‭ ‬بناة‭ ‬وكم‭ ‬كنا‭ ‬مخرّبين‭.‬

المثقف‭ ‬الذي‭ ‬يتحدث‭ ‬بلغة‭ ‬العنف‭ ‬والدم‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬أنهى‭ ‬دوره‭ ‬الثقافي‭ ‬وصار‭ ‬أيّ‭ ‬شيء‭ ‬إلاّ‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مثقفا‭. ‬التسامح‭ ‬أساس‭ ‬من‭ ‬أسس‭ ‬الثقافة‭. ‬ولا‭ ‬دم‭ ‬مع‭ ‬التسامح‭. ‬لا‭ ‬دم‭ ‬مع‭ ‬الثقافة‭.‬

اللحظة‭ ‬المصيرية‭ ‬التي‭ ‬نعيشها‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬أساسها‭ ‬هي‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الخروج‭ ‬منها‭. ‬مصائرنا‭ ‬أكبر‭ ‬وأهم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تترك‭ ‬ليسيّرها‭ ‬الحظ‭ ‬والصدفة‭ ‬والأهواء‭.‬

هذه‭ ‬دعوة‭ ‬للخروج‭ ‬وأن‭ ‬يتسامح‭ ‬الخارجون‭ ‬مع‭ ‬الخارجين‭ ‬وأن‭ ‬يتساموا‭ ‬على‭ ‬غرائزهم‭ ‬لعلهم‭ ‬يحفرون‭ ‬نوافذ‭ ‬أمل‭ ‬في‭ ‬جدران‭ ‬العزل‭ ‬التي‭ ‬قسّمت‭ ‬البلدان‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.