العشاق‭ ‬لا‭ ‬يسرقون

الجمعة 2016/07/01
لوحة: جبران هدايا

كان‭ ‬الجاويش‭ ‬عبدالجبار‭(‬Abdel‭ ‬Jabbar‭)‬‭ ‬ أول‭ ‬القادمين،‭ ‬بدأت‭ ‬حركة‭ ‬حذرة‭ ‬تدب‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬النائم‭ ‬على‭ ‬حافة‭ ‬الفوضى‭. ‬تسللت‭ ‬خيوط‭ ‬ضوء‭ ‬الصباح‭ ‬في‭ ‬الميدان‭ ‬الضخم‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬المدينة‭. ‬وارتفعت‭ ‬معها‭ ‬أصوات‭ ‬محركات‭ ‬العربات‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬المكان،‭ ‬مختلطة‭ ‬بصياح‭ ‬الديكة‭ ‬والحمير،‭ ‬وغناء‭ ‬بعض‭ ‬السكارى‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يستطيعوا‭ ‬النوم‭ ‬طويلا‭ ‬بسبب‭ ‬الجوع‭ ‬وأشياء‭ ‬أخرى‭ ‬ففضلوا‭ ‬الحضور‭ ‬للتفرّج‭ ‬على‭ ‬المسافرين‭. ‬إنها‭ ‬الرحلة‭ ‬الشهرية‭ ‬الثانية‭ ‬للشاويش‭ ‬عبدالجبّار‭ ‬التي‭ ‬يحضر‭ ‬فيها‭ ‬للعاصمة‭ ‬لاستلام‭ ‬مرتبات‭ ‬رجال‭ ‬الشرطة‭ ‬في‭ ‬منطقته‭. ‬قبل‭ ‬أشهر‭ ‬توفي‭ ‬الجاويش‭ ‬عوض‭ ‬الكريم‭ ‬Awadh‭ ‬al-Karim‭ ‬مدير‭ ‬نقطة‭ ‬الشرطة‭ ‬العتيد‭ ‬في‭ ‬القرية،‭ ‬وأصبح‭ ‬هو‭ ‬بالتالي‭ ‬الرئيس،‭ ‬الموت‭ ‬ليس‭ ‬سيئا‭ ‬دائما،‭ ‬فكّر‭ ‬وهو‭ ‬يتسلم‭ ‬خطاب‭ ‬تعيينه‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬الجاويش‭ ‬عوض‭ ‬الكريم‭ ‬رئيسا‭ ‬لنقطة‭ ‬الشرطة،‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬يشعر‭ ‬أن‭ ‬مهمة‭ ‬جلب‭ ‬المرتبات‭ ‬ليست‭ ‬عملا‭ ‬يليق‭ ‬بفترة‭ ‬عمله‭ ‬الطويلة‭ ‬في‭ ‬الشرطة،‭ ‬والتي‭ ‬اشتهر‭ ‬فيها‭ ‬كجندي‭ ‬منضبط‭ ‬وكمحارب‭ ‬سابق‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭. ‬لكنه‭ ‬وجدها‭ ‬فرصة‭ ‬لزيارة‭ ‬شهرية‭ ‬للعاصمة‭ ‬على‭ ‬نفقة‭ ‬الحكومة‭ ‬كان‭ ‬يقوم‭ ‬فيها‭ ‬بزيارة‭ ‬شقيقة‭ ‬له‭ ‬تعيش‭ ‬هناك،‭ ‬وتعمل‭ ‬مع‭ ‬زوجها‭ ‬في‭ ‬عيادة‭ ‬طبية‭ ‬لطبيب‭ ‬عيون‭ ‬مشهور،‭ ‬كانت‭ ‬أخته‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬تأخذه‭ ‬للطبيب‭ ‬لإجراء‭ ‬كشف‭ ‬للنظر‭ ‬مجانا،‭ ‬وذات‭ ‬مرة‭ ‬قام‭ ‬الطبيب‭ ‬بتغيير‭ ‬النظارة‭ ‬الطبية‭ ‬له‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يدفع‭ ‬قرشا‭ ‬واحدا،‭ ‬بنظارة‭ ‬جديدة،‭ ‬أعطته‭ ‬مظهر‭ ‬ضابط‭ ‬برتبة‭ ‬كبيرة‭ ‬كما‭ ‬أكد‭ ‬له‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬يعملون‭ ‬معه‭ ‬من‭ ‬جنود‭.‬

يحمل‭ ‬الجاويش‭ ‬عبدالجبّار‭ ‬مظروفا‭ ‬ضخما‭ ‬من‭ ‬الورق‭ ‬به‭ ‬مرتبات‭ ‬جنود‭ ‬الشرطة،‭ ‬في‭ ‬المرة‭ ‬الأولى‭ ‬كان‭ ‬محظوظا،‭ ‬لم‭ ‬يوجد‭ ‬لص‭ ‬بين‭ ‬المسافرين،‭ ‬كان‭ ‬معظمهم‭ ‬حجاجا‭ ‬قادمين‭ ‬من‭ ‬الأراضي‭ ‬المقدسة‭ ‬ولم‭ ‬تبد‭ ‬عليهم‭ ‬العجلة‭ ‬بعد‭ ‬لارتكاب‭ ‬ذنوب‭ ‬جديدة،‭ ‬خاصة‭ ‬وأن‭ ‬تكلفة‭ ‬غسل‭ ‬الذنوب‭ ‬أصبحت‭ ‬عالية‭ ‬بسبب‭ ‬ارتفاع‭ ‬نفقات‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬الحج‭. ‬وضع‭ ‬لفافة‭ ‬النقود‭ ‬آنذاك‭ ‬تحت‭ ‬رأسه‭ ‬ونام‭ ‬بعمق،‭ ‬تستغرق‭ ‬الرحلة‭ ‬ليلة‭ ‬واحدة‭. ‬يقضيها‭ ‬الركاب‭ ‬في‭ ‬الصحراء‭ ‬وصبيحة‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬تصل‭ ‬الشاحنة‭ ‬إلى‭ ‬وجهتها‭. ‬بدأ‭ ‬الركاب‭ ‬في‭ ‬الوصول،‭ ‬عرف‭ ‬بحاسته‭ ‬السادسة‭ ‬التي‭ ‬تكونت‭ ‬بفضل‭ ‬تعامله‭ ‬طوال‭ ‬سنوات‭ ‬مع‭ ‬اللصوص،‭ ‬أنّ‭ ‬ثمة‭ ‬لصّا‭ ‬بين‭ ‬الركاب‭!‬

يا‭ ‬للكارثة،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إخفاء‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم،‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬خبر‭ ‬حمله‭ ‬للمرتبات‭ ‬قد‭ ‬انتشر‭ ‬وأثار‭ ‬شهية‭ ‬بعضهم‭ ‬لجني‭ ‬أرباح‭ ‬سريعة‭ ‬من‭ ‬مال‭ ‬الحكومة،‭ ‬والذي‭ ‬يعتقد‭ ‬البعض‭ ‬أن‭ ‬سرقته‭ ‬لا‭ ‬تدخل‭ ‬في‭ ‬باب‭ ‬الحرام‭ ‬لأنه‭ ‬مال‭ ‬عام‭ ‬يخص‭ ‬الشعب‭ ‬كله‭ ‬وكل‭ ‬فرد‭ ‬من‭ ‬الشعب‭ ‬لديه‭ ‬حصة‭ ‬في‭ ‬المال‭ ‬العام،‭ ‬ولحسن‭ ‬الحظ‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬قانون‭ ‬يستثني‭ ‬اللصوص‭ ‬من‭ ‬عضوية‭ ‬الشعب‭.‬

عرف‭ ‬أنه‭ ‬ربما‭ ‬لن‭ ‬يستطيع‭ ‬ممارسة‭ ‬هوايته‭ ‬الأثيرة‭: ‬النوم‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬متحرك،‭ ‬مثل‭ ‬الطفل،‭ ‬كان‭ ‬يشعر‭ ‬بالتعب‭ ‬بسرعة‭ ‬ويصعب‭ ‬عليه‭ ‬بسبب‭ ‬السن‭ ‬وأشياء‭ ‬أخرى‭ ‬أن‭ ‬يظل‭ ‬طوال‭ ‬الليل‭ ‬مستيقظا‭. ‬حاول‭ ‬تحديد‭ ‬اللص‭ ‬بين‭ ‬الركاب‭ ‬الذين‭ ‬جلسوا‭ ‬فوق‭ ‬البضاعة‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬تحميلها‭ ‬فوق‭ ‬الشاحنة‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬السابق‭. ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬فتى‭ ‬يحمل‭ ‬طمبورا،‭ ‬عرف‭ ‬من‭ ‬حياد‭ ‬حاسته‭ ‬السادسة‭ ‬أن‭ ‬الفتى‭ ‬كان‭ ‬شخصا‭ ‬طيبا‭ ‬رغم‭ ‬الحزن‭ ‬في‭ ‬وجهه‭. ‬ثم‭ ‬أنه‭ ‬يبدو‭ ‬عاشقا،‭ ‬العشاق‭ ‬لا‭ ‬يسرقون‭ ‬حسب‭ ‬خبرته‭ ‬الطويلة‭ ‬مع‭ ‬اللصوص،‭ ‬عاشق‭ ‬واحد‭ ‬سرق‭ ‬مرة‭ ‬حذاء‭ ‬رئيس‭ ‬الشرطة‭ ‬أثناء‭ ‬أداء‭ ‬الصلاة‭ ‬في‭ ‬مسجد‭ ‬القرية،‭ ‬لكن‭ ‬تبين‭ ‬لاحقا‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬عاشقا‭ ‬حقيقيا‭ ‬بل‭ ‬مرابيا‭ ‬وصل‭ ‬القرية‭ ‬بسبب‭ ‬معلن‭ ‬هو‭ ‬الحب‭ ‬وسبب‭ ‬غير‭ ‬معلن‭ ‬هو‭ ‬رغبته‭ ‬في‭ ‬الزواج‭ ‬من‭ ‬امرأة‭ ‬التقاها‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬القطار‭ ‬وعرف‭ ‬أنها‭ ‬سترث‭ ‬من‭ ‬والدها‭ ‬الميت‭ ‬بضعة‭ ‬أفدنة‭ ‬والآلاف‭ ‬من‭ ‬أشجار‭ ‬النخيل‭ ‬والموالح‭.‬

العاشق‭ ‬لا‭ ‬يسرق‭ ‬قال‭ ‬عبدالجبّار‭ ‬في‭ ‬سرّه‭ ‬ثم‭ ‬تحول‭ ‬بنظره‭ ‬إلى‭ ‬راكب‭ ‬آخر،‭ ‬رجل‭ ‬ملتح‭ ‬يحمل‭ ‬مسبحة‭ ‬في‭ ‬يده،‭ ‬ركز‭ ‬نظره‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬البداية،‭ ‬ثمة‭ ‬مقولة‭ ‬شعبية‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬من‭ ‬يطلق‭ ‬العنان‭ ‬للحيته‭ ‬يطلق‭ ‬العنان‭ ‬أيضا‭ ‬لأشياء‭ ‬أخرى،‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬اللحية‭ ‬ستارا‭ ‬للطمع،‭ ‬ترك‭ ‬الرجل‭ ‬المسن،‭ ‬ثمة‭ ‬امرأة‭ ‬جلست‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬الرجال،‭ ‬النساء‭ ‬لا‭ ‬يسرقن‭ ‬إلا‭ ‬نادرا،‭ ‬قد‭ ‬يضربن‭ ‬رجالهن‭ ‬أحيانا‭ ‬إذا‭ ‬شربوا‭ ‬كثيرا‭ ‬وخاصة‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يتمكنوا‭ ‬من‭ ‬العودة‭ ‬للبيت‭ ‬آخر‭ ‬الليل‭ ‬وساعدهم‭ ‬شخص‭ ‬ما‭ ‬على‭ ‬الحضور،‭ ‬تلك‭ ‬فضيحة‭ ‬تعالج‭ ‬بالضرب‭. ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬قانون‭ ‬يمنع‭ ‬إعادة‭ ‬تربية‭ ‬رجل‭ ‬متقدم‭ ‬في‭ ‬السن‭. ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬سرقت‭ ‬امرأة‭ ‬فستانا‭ ‬لابنتها‭ ‬الصغيرة‭ ‬من‭ ‬السوق،‭ ‬لم‭ ‬يحرر‭ ‬لها‭ ‬الجاويش‭ ‬عبدالجبّار‭ ‬بلاغا‭ ‬حين‭ ‬أمسك‭ ‬بها‭ ‬البائع‭ ‬وفي‭ ‬حوزتها‭ ‬الفستان‭ ‬المسروق،‭ ‬قام‭ ‬الجاويش‭ ‬عبدالنبي‭ ‬بتسوية‭ ‬الأمر‭ ‬مع‭ ‬البائع‭ ‬ودفع‭ ‬له‭ ‬ثمن‭ ‬الفستان،‭ ‬لأن‭ ‬المرأة‭ ‬كانت‭ ‬فقيرة‭ ‬جدا،‭ ‬لكنها‭ ‬استجابت‭ ‬لبكاء‭ ‬ابنتها‭ ‬الصغيرة‭ ‬التي‭ ‬تريد‭ ‬ارتداء‭ ‬فستان‭ ‬جديد‭ ‬يوم‭ ‬عيد‭ ‬الفطر،‭ ‬قال‭ ‬في‭ ‬سره‭ ‬“لو‭ ‬كنت‭ ‬مكانها‭ ‬لفعلت‭ ‬الشيء‭ ‬نفسه‭. ‬ليس‭ ‬للفقراء‭ ‬من‭ ‬شيء‭ ‬سوى‭ ‬الانتظار،‭ ‬انتظار‭ ‬الفرج”‭. ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬كان‭ ‬فقيرا،‭ ‬المرتب‭ ‬الذي‭ ‬يحصل‭ ‬عليه‭ ‬يكفي‭ ‬بالكاد‭ ‬جزءا‭ ‬قليلا‭ ‬من‭ ‬مصروفات‭ ‬بيته‭ ‬القليلة‭ ‬ورغم‭ ‬ذلك‭ ‬يضطر‭ ‬في‭ ‬الشتاء‭ ‬لزراعة‭ ‬حقل‭ ‬صغير‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يضطر‭ ‬لشراء‭ ‬القمح‭.‬

حين‭ ‬يمر‭ ‬به‭ ‬بعض‭ ‬الناس‭ ‬وهو‭ ‬يعمل‭ ‬بهمّة‭ ‬في‭ ‬حقله،‭ ‬يقول‭ ‬له‭ ‬البعض‭ ‬“ومن‭ ‬سيحرسنا‭ ‬من‭ ‬اللصوص‭ ‬حتى‭ ‬تفرغ‭ ‬من‭ ‬زراعتك؟”‭.‬

كان‭ ‬يحلو‭ ‬له‭ ‬مداعبة‭ ‬محدثه‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬مشكلة،‭ ‬هناك‭ ‬لص‭ ‬واحد‭ ‬في‭ ‬القرية،‭ ‬وهو‭ ‬موجود‭ ‬الآن‭ ‬بجانبي‭ ‬لحسن‭ ‬الحظ،‭ ‬ويضيف‭ ‬ضاحكا‭ ‬“وما‭ ‬دمت‭ ‬أنت‭ ‬بجانبي‭ ‬فإنني‭ ‬أؤدي‭ ‬عملي‭ ‬أيضا‭ ‬كشرطي‭ ‬بجانب‭ ‬عملي‭ ‬كمزارع‭!‬”‭.‬

مرة‭ ‬غضب‭ ‬أحدهم‭ ‬حين‭ ‬داعبه‭ ‬بأنه‭ ‬لص‭ ‬وهدّده‭ ‬أنه‭ ‬سيشكوه‭ ‬لرؤسائه‭ ‬لأنه‭ ‬يمارس‭ ‬عملا‭ ‬آخر‭ ‬يخل‭ ‬بانضباطه‭ ‬كشرطي،‭ ‬ضحك‭ ‬وقال‭ ‬لمحدثه‭ ‬“ومن‭ ‬قال‭ ‬لك‭ ‬إنه‭ ‬يوجد‭ ‬انضباط،‭ ‬إنني‭ ‬حين‭ ‬أمارس‭ ‬عملا‭ ‬آخر،‭ ‬أعمل‭ ‬مزارعا،‭ ‬أقوم‭ ‬بذلك‭ ‬بتأجيل‭ ‬سرقة‭ ‬مال‭ ‬الشرطة‭! ‬بعض‭ ‬الجنود‭ ‬يسطون‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬أوقات‭ ‬فراغهم،‭ ‬يصبحون‭ ‬رؤساء‭ ‬للبلاد‭ ‬ويصدرون‭ ‬أوامر‭ ‬جمهورية‭ ‬ينفذها‭ ‬الجميع،‭ ‬عسكريون‭ ‬ومدنيون‭!‬”‭.‬


لوحة: جبران هدايا

قال‭ ‬محدثه‭ ‬“لكن‭ ‬لم‭ ‬نسمع‭ ‬برجل‭ ‬شرطة‭ ‬قام‭ ‬بانقلاب‭!‬”‭.‬

تأكد‭ ‬عبدالجبّار‭ ‬من‭ ‬وجود‭ ‬لفافة‭ ‬النقود‭ ‬تحت‭ ‬إبطه‭ ‬وعاد‭ ‬لتفقد‭ ‬الركاب،‭ ‬رأى‭ ‬فتاتين‭ ‬جلستا‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬الركاب‭ ‬قريبا‭ ‬من‭ ‬المرأة‭ ‬المسنة،‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أنهما‭ ‬عائدتان‭ ‬إلى‭ ‬القرية‭ ‬بعد‭ ‬زيارة‭ ‬أحد‭ ‬أقاربهما،‭ ‬يعرف‭ ‬إحداهما،‭ ‬فتاة‭ ‬طيبة‭ ‬لا‭ ‬تسيء‭ ‬معاملة‭ ‬الكلاب‭ ‬الضالة،‭ ‬تقوم‭ ‬برعايتها‭ ‬وإطعامها،‭ ‬وتزيح‭ ‬الشوك‭ ‬والأحجار‭ ‬من‭ ‬الطريق،‭ ‬رغم‭ ‬فقر‭ ‬أسرتها‭ ‬وذهابها‭ ‬دائما‭ ‬لرعي‭ ‬الغنم‭ ‬خارج‭ ‬القرية‭ ‬لكنها‭ ‬كانت‭ ‬تجد‭ ‬دائما‭ ‬وقتا‭ ‬لرعاية‭ ‬الكلاب‭ ‬الضالة،‭ ‬وللسمر‭ ‬مع‭ ‬حماد‭ ‬الأعرج‭ ‬‭(‬Hammad‭)‬‭ ‬الذي‭ ‬يقضي‭ ‬سحابة‭ ‬نهاره‭ ‬تحت‭ ‬أشجار‭ ‬الجميز‭ ‬أو‭ ‬يطارد‭ ‬الكلاب‭ ‬الضالة،‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬ألقم‭ ‬كلبا‭ ‬حجرا،‭ ‬تحطمت‭ ‬بعض‭ ‬أسنان‭ ‬الكلب‭ ‬الذي‭ ‬ساعدته‭ ‬الفتاة‭ ‬الصغيرة‭ ‬وأخرجت‭ ‬له‭ ‬الحجر‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬فكيه‭.‬

إنه‭ ‬ليس‭ ‬رجلا‭ ‬سيئا،‭ ‬رغم‭ ‬فقره‭ ‬ومطاردته‭ ‬للكلاب‭ ‬الضالة،‭ ‬لكنه‭ ‬يصبح‭ ‬عدوانيا‭ ‬أحيانا‭ ‬بسبب‭ ‬الملل‭ ‬وكراهيته‭ ‬لثمر‭ ‬الجميز،‭ ‬الغذاء‭ ‬الرئيسي‭ ‬له‭.‬‭ ‬ليس‭ ‬هنالك‭ ‬في‭ ‬القانون‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬حال‭ ‬ما‭ ‬يمنع‭ ‬ضرب‭ ‬الكلاب‭ ‬الضالة‭ ‬بالحجارة‭.‬

إذن‭ ‬إنه‭ ‬هو،‭ ‬قال‭ ‬عبدالجبّار‭ ‬حين‭ ‬رأى‭ ‬شخصا‭ ‬له‭ ‬شارب‭ ‬ضخم‭ ‬يجلس‭ ‬على‭ ‬مبعدة‭ ‬ويحاول‭ ‬ألا‭ ‬يبدو‭ ‬مباليا‭ ‬بمن‭ ‬حوله‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يتفحص‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬إنه‭ ‬الصافي‭ ‬‭(‬Alsafi‭)‬‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬له‭ ‬أحد‭ ‬في‭ ‬القرية‭ ‬عملا،‭ ‬لكنه‭ ‬رغم‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬يرتدي‭ ‬دائما‭ ‬ملابس‭ ‬جديدة‭ ‬ويعيش‭ ‬في‭ ‬رغد‭ ‬ويمتلك‭ ‬جهاز‭ ‬تسجيل‭ ‬يرتفع‭ ‬صوته‭ ‬ليلا‭ ‬بأغاني‭ ‬الطمبور‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬الصبية‭ ‬كانوا‭ ‬يتجمعون‭ ‬قريبا‭ ‬من‭ ‬بيته‭ ‬للاستماع‭ ‬إلى‭ ‬الغناء‭. ‬يسافر‭ ‬كثيرا،‭ ‬البعض‭ ‬يقولون‭ ‬إنه‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬العاصمة‭ ‬ليقامر‭ ‬هناك‭ ‬وإنه‭ ‬يحب‭ ‬المقامرة‭ ‬وحظه‭ ‬ممتاز‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬جميع‭ ‬من‭ ‬يلعبون‭ ‬معه‭ ‬كان‭ ‬الفقر‭ ‬يصيبهم‭ ‬بينما‭ ‬تتحسن‭ ‬أحواله‭ ‬هو‭ ‬تدريجيا‭.‬

تحركت‭ ‬بوصلة‭ ‬حاسته‭ ‬السادسة‭ ‬تجاه‭ ‬الصافي،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يهمل‭ ‬أيضا‭ ‬مراقبة‭ ‬راكب‭ ‬آخر‭ ‬لم‭ ‬يتعرف‭ ‬عليه،‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أنه‭ ‬أحد‭ ‬الذين‭ ‬يحضرون‭ ‬إلى‭ ‬القرية‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬إحدى‭ ‬القرى‭ ‬المجاورة‭ ‬في‭ ‬موسم‭ ‬قطع‭ ‬التمور‭ ‬ليتسلم‭ ‬حصته‭ ‬من‭ ‬التمر‭ ‬ويعود‭ ‬للمدينة‭.‬

بدأت‭ ‬الرحلة،‭ ‬مضى‭ ‬الوقت‭ ‬بطيئا‭ ‬فيما‭ ‬العربة‭ ‬الضخمة‭ ‬تقطع‭ ‬التلال‭ ‬الرملية،‭ ‬درجة‭ ‬الحرارة‭ ‬عالية‭ ‬جدا‭ ‬لكن‭ ‬النسيم‭ ‬الناجم‭ ‬عن‭ ‬حركة‭ ‬العربة‭ ‬يجعل‭ ‬الجو‭ ‬معتدلا،‭ ‬تفقد‭ ‬الجاويش‭ ‬عبدالجبّار‭ ‬الركاب‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬سرا‭ ‬من‭ ‬موقعه‭ ‬خلف‭ ‬جوال‭ ‬مليء‭ ‬بالأحذية‭ ‬المطاطية‭. ‬اكتشف‭ ‬أن‭ ‬الصافي‭ ‬كان‭ ‬يراقبه،‭ ‬يا‭ ‬للكارثة‭! ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أنه‭ ‬يفكر‭ ‬في‭ ‬طريقة‭ ‬لسرقة‭ ‬النقود‭ ‬ليلا،‭ ‬لو‭ ‬نجح‭ ‬الرجل‭ ‬في‭ ‬سرقة‭ ‬النقود‭ ‬سيفقد‭ ‬عبدالجبار‭ ‬دون‭ ‬شك‭ ‬وظيفته،‭ ‬وربما‭ ‬يضطر‭ ‬للعمل‭ ‬طوال‭ ‬حياته‭ ‬ليسدد‭ ‬المال‭ ‬للحكومة‭.‬

استغرقت‭ ‬المرأة‭ ‬العجوز‭ ‬في‭ ‬النوم‭ ‬وتبعتها‭ ‬الفتاتان‭ ‬بعد‭ ‬قليل‭. ‬وبسبب‭ ‬التراب‭ ‬الخفيف‭ ‬فوق‭ ‬شعر‭ ‬الفتاتين‭ ‬ووجهيهما‭ ‬بدتا‭ ‬وكأنهما‭ ‬تقدمتا‭ ‬فجأة‭ ‬في‭ ‬السن‭ ‬بسبب‭ ‬جلوسهما‭ ‬جوار‭ ‬المرأة‭ ‬المسنة‭!‬

توقفت‭ ‬العربة‭ ‬في‭ ‬مقهى‭ ‬صحراوي‭ ‬ليتناول‭ ‬الركاب‭ ‬طعامهم،‭ ‬كانت‭ ‬الشمس‭ ‬قد‭ ‬مالت‭ ‬للمغيب،‭ ‬نزل‭ ‬جميع‭ ‬الركاب‭ ‬الذين‭ ‬شعروا‭ ‬بالإرهاق‭ ‬الشديد‭ ‬للأكل‭ ‬والراحة‭ ‬وقضاء‭ ‬الحاجة،‭ ‬بقي‭ ‬الجاويش‭ ‬عبدالجبار‭ ‬قليلا‭ ‬بزعم‭ ‬بحثه‭ ‬عن‭ ‬شيء‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬حقيبته‭ ‬حتى‭ ‬نزل‭ ‬الركاب‭ ‬جميعا‭ ‬واتجهوا‭ ‬إلى‭ ‬داخل‭ ‬المقهى‭ ‬فيما‭ ‬انتشر‭ ‬بعضهم‭ ‬لقضاء‭ ‬حاجتهم‭ ‬في‭ ‬الخلاء‭. ‬عرف‭ ‬الجاويش‭ ‬عبدالجبار‭ ‬أنه‭ ‬بسبب‭ ‬إرهاقه‭ ‬الشديد‭ ‬لن‭ ‬يستطيع‭ ‬منع‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬النوم،‭ ‬وأن‭ ‬النقود‭ ‬ستسرق‭ ‬دون‭ ‬شك‭ ‬إن‭ ‬نام‭ ‬هو‭ ‬للحظة‭ ‬واحدة‭. ‬فكر‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬يضع‭ ‬فيه‭ ‬النقود،‭ ‬فكر‭ ‬في‭ ‬وضعها‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬جوالات‭ ‬البضاعة‭ ‬التي‭ ‬يجلسون‭ ‬فوقها‭ ‬أو‭ ‬إخفائها‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬أجزاء‭ ‬السيارة،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الصندوق‭ ‬الذي‭ ‬يضع‭ ‬فيه‭ ‬سائق‭ ‬الشاحنة‭ ‬ومساعديه‭ ‬مؤونتهم‭ ‬من‭ ‬الطعام‭.‬

بعد‭ ‬قليل‭ ‬نزل‭ ‬الجاويش‭ ‬عبدالجبار‭ ‬من‭ ‬الشاحنة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أخفى‭ ‬النقود‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬اعتقد‭ ‬أنه‭ ‬سيكون‭ ‬الأكثر‭ ‬أمانا،‭ ‬كان‭ ‬الظلام‭ ‬قد‭ ‬أرخى‭ ‬سدوله‭ ‬وبزغ‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬التلال‭ ‬هلال‭ ‬جميل،‭ ‬حين‭ ‬استأنف‭ ‬الباص‭ ‬رحلته‭. ‬بمجرد‭ ‬بزوغ‭ ‬القمر‭ ‬بدأ‭ ‬الصبي‭ ‬يعزف‭ ‬على‭ ‬طنبوره،‭ ‬ويغني‭ ‬بصوت‭ ‬ملائكي،‭ ‬كأنه‭ ‬استجاب‭ ‬لأمر‭ ‬خفي‭ ‬من‭ ‬القمر‭ ‬بأن‭ ‬يستأنف‭ ‬الغناء‭. ‬تسللت‭ ‬النغمات‭ ‬الى‭ ‬قلب‭ ‬الجاويش‭ ‬عبدالجبار‭ ‬مثل‭ ‬السحر‭ ‬فاستغرق‭ ‬فجأة‭ ‬في‭ ‬النوم‭.‬

مجرد‭ ‬أن‭ ‬مال‭ ‬الهلال‭ ‬إلى‭ ‬النصف‭ ‬الآخر‭ ‬من‭ ‬العالم،‭ ‬وخفت‭ ‬ضوؤه،‭ ‬ومع‭ ‬تعالي‭ ‬غطيط‭ ‬الركاب‭ ‬وتحول‭ ‬نغمات‭ ‬طمبور‭ ‬الفتى‭ ‬النائم‭ ‬إلى‭ ‬صدى‭ ‬أشبه‭ ‬بالهمس،‭ ‬حتى‭ ‬تحرك‭ ‬الصافي‭ ‬للعمل،‭ ‬قام‭ ‬بتفتيش‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬وكل‭ ‬شبر‭ ‬في‭ ‬العربة‭ ‬بحذر‭ ‬وخبرة‭ ‬متناهية،‭ ‬شعر‭ ‬عبدالجبار‭ ‬بشخص‭ ‬يفتش‭ ‬حتى‭ ‬حذائه،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يهتم‭ ‬به‭ ‬وواصل‭ ‬نومه‭. ‬كان‭ ‬المساعدان‭ ‬يجلسان‭ ‬في‭ ‬المقدمة‭ ‬فوق‭ ‬صندوق‭ ‬المؤونة‭ ‬يتسامران‭ ‬ويخلدان‭ ‬لنوم‭ ‬متقطع‭ ‬يقطعه‭ ‬صراخ‭ ‬السائق‭ ‬مناديا‭ ‬لهما‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان،‭ ‬بحث‭ ‬الصافي‭ ‬حولهما‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يجعلهما‭ ‬يشعران‭ ‬بشيء‭. ‬فتش‭ ‬متاع‭ ‬جميع‭ ‬الركاب‭ ‬بدقة‭ ‬وصبر،‭ ‬عثر‭ ‬على‭ ‬أحذية‭ ‬مطاط‭ ‬وأحذية‭ ‬محلية‭ ‬مصنعة‭ ‬من‭ ‬جلود‭ ‬الابقار‭ ‬يحملها‭ ‬الركاب‭ ‬هدايا‭ ‬لأقاربهم،‭ ‬عثر‭ ‬على‭ ‬نقود‭ ‬قليلة‭ ‬لم‭ ‬يلمسها،‭ ‬وساعات‭ ‬أطفال‭ ‬بلاستيكية‭ ‬رخيصة‭ ‬الثمن‭ ‬وملابس‭ ‬داخلية‭ ‬متسخة‭. ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يعثر‭ ‬أبدا‭ ‬على‭ ‬النقود‭ ‬التي‭ ‬يبحث‭ ‬عنها‭.‬

في‭ ‬الصباح‭ ‬حين‭ ‬أشرقت‭ ‬الشمس‭ ‬على‭ ‬العربة‭ ‬المتربة،‭ ‬كان‭ ‬الصافي‭ ‬هو‭ ‬الوحيد‭ ‬المستغرق‭ ‬في‭ ‬النوم‭ ‬بسبب‭ ‬إرهاق‭ ‬سهر‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬النقود،‭ ‬توقفت‭ ‬الشاحنة‭ ‬بعد‭ ‬قليل‭ ‬في‭ ‬وجهتها‭ ‬النهائية،‭ ‬أيقظه‭ ‬الجاويش‭ ‬عبدالجبار‭ ‬ثم‭ ‬أشار‭ ‬لحقيبته‭ ‬وسأله‭ ‬هل‭ ‬هذه‭ ‬حقيبتك؟

قال‭ ‬الصافي‭ ‬الذي‭ ‬بدا‭ ‬مرهقا‭ ‬بسبب‭ ‬السهر‭: ‬نعم‭.‬

أمره‭ ‬عبدالجبار‭: ‬افتحها‭.‬

فتح‭ ‬اللص‭ ‬حقيبته،‭ ‬فمد‭ ‬الجاويش‭ ‬يده‭ ‬وسحب‭ ‬مظروف‭ ‬النقود‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬الملابس‭ ‬المكوية‭ ‬والمرتبة‭ ‬بعناية‭ ‬داخل‭ ‬الحقيبة،‭ ‬وقال‭: ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬مكانا‭ ‬اكثر‭ ‬أمانا‭ ‬لحفظ‭ ‬النقود‭ ‬من‭ ‬حقيبتك‭ ‬هذه‭!‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.