‬السياسة‭ ‬والإسلاموفوبيا

الاثنين 2016/08/01
لوحة: سعاد مردم بيك

مازال‭ ‬العالم‭ ‬مصدوماً‭ ‬من‭ ‬القرار‭ ‬البريطاني‭ ‬بالانسحاب‭ ‬من‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي،‭ ‬ومازالت‭ ‬الأوساط‭ ‬الدولية‭ ‬بكافة‭ ‬مندرجاتها‭ ‬ومستوياتها‭ ‬تراقب‭ ‬عن‭ ‬كثب‭ ‬وبقلق‭ ‬عميق‭ ‬يقارب‭ ‬الرعب‭ ‬مآلات‭ ‬وطبيعة‭ ‬الإرهاصات‭ ‬التي‭ ‬ستترتب‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬القرار‭ ‬واستطالات‭ ‬مفاعيلها‭ ‬على‭ ‬المشهد‭ ‬العالمي‭ ‬برمته‭. ‬حدث‭ ‬تاريخي‭ ‬بلا‭ ‬شك،‭ ‬لكنه‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬مفاجئاً‭ ‬كثيراً‭ ‬ولا‭ ‬معاكساً‭ ‬بشكل‭ ‬صارخ‭ ‬لتوقعات‭ ‬الباحثين‭ ‬والمحللين‭ ‬العلميين‭ ‬والأكاديميين‭ ‬حول‭ ‬العالم‭. ‬نعم،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أحد‭ ‬ربما‭ ‬يتوقع‭ ‬أو‭ ‬‮«‬يتنبأ”‭ ‬‭(‬إن‭ ‬استخدمنا‭ ‬هذا‭ ‬التعبير،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬التنبّؤ‭ ‬ليس‭ ‬بالفعل‭ ‬العلمي‭)‬‭ ‬أن‭ ‬يصوّت‭ ‬الشعب‭ ‬البريطاني‭ ‬لصالح‭ ‬قرار‭ ‬الخروج‭ ‬بل‭ ‬أن‭ ‬يميل‭ ‬بأغلبيته‭ ‬لصالح‭ ‬قرار‭ ‬البقاء‭.‬

ولكن، عدم‭ ‬توقُّع‭ ‬هذا‭ ‬المآل‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬المعطيات‭ ‬والحقائق‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬البريطانية‭ ‬وفي‭ ‬السياق‭ ‬المجتمعي‭ ‬للدولة‭ ‬المذكورة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تقترح‭ ‬أن‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الاحتمال‭ ‬قائم‭ ‬وفعلي‭ ‬وغير‭ ‬وهمي‭. ‬هناك‭ ‬معطيات‭ ‬وأسباب‭ ‬معينة‭ ‬دفعت‭ ‬الساحة‭ ‬العامة‭ ‬البريطانية‭ ‬للنحو‭ ‬باتجاه‭ ‬هذا‭ ‬القرار‭. ‬أحد‭ ‬تلك‭ ‬الأسباب‭ ‬سياسي‭-‬تراثي‭ ‬بطبيعته،‭ ‬وأحدها‭ ‬الآخر‭ ‬سوسيولوجي‭-‬سيكولوجي‭ ‬بطبيعته‭. ‬سأحاول‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الورقة‭ ‬الموجزة‭ ‬أن‭ ‬أسلّط‭ ‬نزراً‭ ‬يسيراً‭ ‬من‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬المعطيات‭ ‬والتحليلات‭ ‬المفسِّرة‭ ‬والمستطردة‭ ‬حول‭ ‬هذين‭ ‬السببين‭ ‬المذكورين‭ ‬هنا‭.‬

لنبدأ‭ ‬أولاً‭ ‬بالمعطى‭ ‬السياسي‭-‬التراثي،‭ ‬والمقصود‭ ‬به‭ ‬هنا‭ ‬عامل‭ ‬الإرث‭ ‬الفكري‭ ‬المتعلق‭ ‬بفهم‭ ‬الذات‭ ‬التاريخي‭ ‬الذي‭ ‬يعقل‭ ‬به‭ ‬البريطانيون‭ ‬أنفسهم‭ ‬وكيف‭ ‬تم‭ ‬توظيفه‭ ‬في‭ ‬لعبة‭ ‬سياسية‭ ‬صرفة‭ ‬هدفها‭ ‬الأول‭ ‬والأخير‭ ‬الاستيلاء‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬والإمساك‭ ‬بعصا‭ ‬القرار‭ ‬في‭ ‬البلد‭. ‬عشت‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬لخمسة‭ ‬أعوام،‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬عام‭ ‬2000‭ ‬وعام‭ ‬2005،‭ ‬حيث‭ ‬حصلت‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬شهادة‭ ‬الدكتوراه‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬اللاهوتية‭ ‬المسيحية‭ ‬من‭ ‬كلية‭ ‬الملك‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬لندن‭. ‬عشت‭ ‬تلك‭ ‬السنوات‭ ‬الخمس‭ ‬الرائعة‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬المجتمع‭ ‬البريطاني‭ ‬اللندني‭ ‬القح‭ ‬وبين‭ ‬أهله‭ ‬المحليين‭ ‬ولم‭ ‬أختلط‭ ‬بالعرب‭ ‬الكثر‭ ‬جداً،‭ ‬الذين‭ ‬يملأون‭ ‬المدينة‭ ‬ويميلون‭ ‬لتكوين‭ ‬أشباه‭-‬كانتونات‭ ‬سكانية‭ ‬واقتصادية‭ ‬وبشرية‭ ‬لهم‭ ‬فيها‭ ‬بحرية‭ ‬وبأمان‭ ‬ومنذ‭ ‬عقود‭ ‬عديدة‭ ‬جداً‭ ‬مضت‭.‬

تجنبت‭ ‬متعمداً‭ ‬العيش‭ ‬بين‭ ‬العرب‭ ‬والمهاجرين‭ ‬وبحثت‭ ‬عن‭ ‬سكنٍ‭ ‬وفضاء‭ ‬مجتمعي‭ ‬محلي‭ ‬لندني‭ ‬وبريطاني‭ ‬أصيل،‭ ‬لأنني‭ ‬أردت‭ ‬أن‭ ‬أعرف‭ ‬المجتمع‭ ‬البريطاني‭ ‬من‭ ‬داخله‭ ‬وأن‭ ‬أندمج‭ ‬فيه‭ ‬قدر‭ ‬استطاعتي‭ ‬وأفهمه‭ ‬وأتحسسه‭ ‬من‭ ‬قلب‭ ‬فضاء‭ ‬عيش‭ ‬صانعيه‭. ‬تجربتي‭ ‬وخبرتي‭ ‬المتواضعة‭ ‬هذه‭ ‬‭(‬والتي‭ ‬لا‭ ‬يجب‭ ‬تشويهها‭ ‬باعتبارها‭ ‬مقياسا‭ ‬أو‭ ‬حكما‭ ‬معمما‭ ‬جمعيا‭ ‬جامدا‭ ‬يتم‭ ‬إسقاطه‭ ‬من‭ ‬الأعلى‭ ‬على‭ ‬المجتمع‭ ‬البريطاني‭)‬‭ ‬تجعلني‭ ‬لا‭ ‬أستغرب‭ ‬‭(‬وإن‭ ‬كنت‭ ‬أتأسف‭ ‬بحق‭)‬‭ ‬من‭ ‬قرار‭ ‬الخروج‭ ‬الذي‭ ‬صوّت‭ ‬له‭ ‬البريطانيون‭ ‬للانسحاب‭ ‬من‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭.‬

لا‭ ‬يمكن‭ ‬لمن‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬ظهراني‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬العظيم‭ ‬وبين‭ ‬أهله‭ ‬الراقين‭ ‬والمحبين‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬‭(‬مازال‭ ‬البريطانيون‭ ‬الذين‭ ‬تعرفت‭ ‬عليهم‭ ‬أثناء‭ ‬عيشي‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬أعز‭ ‬الأصدقاء‭)‬‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يتلمس‭ ‬بقايا‭ ‬وآثار‭ ‬سيكولوجية‭ ‬ورؤية‭ ‬للذات‭ ‬وللعالم‭ ‬تبدو‭ ‬لقارئ‭ ‬تاريخ‭ ‬المملكة‭ ‬البريطانية‭ ‬المطلع‭ ‬وكأنها‭ ‬أحد‭ ‬نتائج‭ ‬عصر‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الهائلة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تغيب‭ ‬عنها‭ ‬الشمس‭ ‬والتي‭ ‬أسسها‭ ‬البريطانيون‭ ‬وحكموا‭ ‬بها‭ ‬العالم‭ ‬لقرون‭. ‬هذه‭ ‬السيكولوجية‭ ‬الإرثية‭ ‬المتعالية‭ ‬والمتفوقة‭ ‬عن‭ ‬ذاك‭ ‬الماضي‭ ‬العظيم‭ ‬لم‭ ‬تمّحي‭ ‬كما‭ ‬بدا‭ ‬لي،‭ ‬ومازال،‭ ‬من‭ ‬بنية‭ ‬العقل‭ ‬الإنكليزي‭ ‬تحديداً‭ ‬‭(‬الإنكليز‭ ‬كجزء‭ ‬من‭ ‬الشعوب‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬تنضوي‭ ‬تحت‭ ‬علم‭ ‬المملكة‭ ‬المتحدة‭)‬‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الجزيرة‭ ‬الضخمة‭.‬

من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬يمتزج‭ ‬هذا‭ ‬النفس‭ ‬الاستعلائي‭ ‬في‭ ‬السيكولوجيا‭ ‬البريطانية،‭ ‬كما‭ ‬يستطيع‭ ‬لقارئ‭ ‬تاريخ‭ ‬بريطانيا‭ ‬أن‭ ‬يلاحظ،‭ ‬بإرث‭ ‬شعبي‭ ‬مقترن‭ ‬أيضاً‭ ‬بحقيقة‭ ‬أن‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬بريطانيا‭ ‬اقترن‭ ‬بعصر‭ ‬القرصنة‭ ‬والصراع‭ ‬على‭ ‬الهيمنة‭ ‬على‭ ‬الملاحة‭ ‬على‭ ‬الكوكب‭. ‬بريطانيا‭ ‬ليست‭ ‬فقط‭ ‬ذات‭ ‬تاريخ‭ ‬إمبراطوري،‭ ‬هي‭ ‬ذات‭ ‬تاريخ‭ ‬قرصاني‭ ‬كذلك‭. ‬اعتاد‭ ‬أحد‭ ‬أصدقائي‭ ‬الإنكليز‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬لي‭ ‬‮«‬نجيب،‭ ‬بريطانيا‭ ‬جزيرة‭ ‬قراصنة”‭. ‬معه‭ ‬حق‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬برأيي،‭ ‬فسيكولوجيا‭ ‬القرصان‭ ‬تقول‭ ‬‮«‬الحرية‭ ‬والتفرد‭ ‬في‭ ‬القرار‭ ‬والقوة‭ ‬الذاتية‭ ‬هي‭ ‬عماد‭ ‬الوجود،‭ ‬إما‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬موجودا‭ ‬بفضل‭ ‬قوتك‭ ‬وقدرتك‭ ‬الذاتية‭ ‬المحضة،‭ ‬أو‭ ‬أنت‭ ‬ميت‭ ‬أو‭ ‬مسجون‭ ‬أو‭ ‬ملاحق‭ ‬ومضطهد‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الجميع‭. ‬لا‭ ‬صديق‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬هناك‭ ‬إمّا‭ ‬عدوّ‭ ‬أقوى‭ ‬منك‭ ‬تهابه‭ ‬وتهرب‭ ‬منه‭ ‬دوماً،‭ ‬أو‭ ‬عدوّ‭ ‬يهابك‭ ‬ويهرب‭ ‬منك‭ ‬دوماً”‭. ‬هذا‭ ‬المنطق‭ ‬يجعل‭ ‬شرائح‭ ‬من‭ ‬الإنكليز،‭ ‬بتلك‭ ‬الذهنية،‭ ‬يعتقدون‭ ‬أن‭ ‬العالم‭ ‬برمّته‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يشعر‭ ‬دوماً‭ ‬بأنه‭ ‬يحتاج‭ ‬لبريطانيا‭ ‬ويحيى‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬إرثها‭ ‬وإنجازاتها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬عليه،‭ ‬وإلا‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬سيضعهم‭ ‬هم‭ ‬في‭ ‬خانة‭ ‬الاتكال‭ ‬عليه‭ ‬والسعي‭ ‬دوماً‭ ‬لتجنب‭ ‬تهديده‭ ‬لوجودهم‭.‬

كثير‭ ‬من‭ ‬الانكليز‭ ‬مازالوا‭ ‬يؤمنون،‭ ‬كما‭ ‬عبّروا‭ ‬أمامي‭ ‬في‭ ‬مناسبات‭ ‬عدة،‭ ‬بأن‭ ‬على‭ ‬بريطانيا‭ ‬أن‭ ‬تري‭ ‬العالم‭ ‬دوماً‭ ‬أنه‭ ‬يحتاج‭ ‬لها‭ ‬وأنهم‭ ‬لا‭ ‬يعتقدون‭ ‬أبداً‭ ‬أنهم‭ ‬بحاجة‭ ‬لأيّ‭ ‬أحد‭. ‬منطق‭ ‬قرصاني‭ ‬بامتياز‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬مازالت‭ ‬ذكرى‭ ‬الهيمنة‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬‭(‬لنتذكر‭ ‬أن‭ ‬الفضل‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الهيمنة‭ ‬يعود‭ ‬للسيطرة‭ ‬على‭ ‬الملاحة‭ ‬أي‭ ‬القرصنة‭)‬‭ ‬ماثلة‭ ‬في‭ ‬عقول‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬البريطانيين‭ ‬المتقدمين‭ ‬في‭ ‬العمر،‭ ‬والذين‭ ‬صوتوا‭ ‬بغالبيتهم‭ ‬العظمى،‭ ‬كما‭ ‬تقول‭ ‬لنا‭ ‬نتائج‭ ‬الاستفتاء،‭ ‬لصالح‭ ‬الاستقلال‭ ‬عن‭ ‬أوروبا‭ ‬والخروج‭ ‬من‭ ‬الاتحاد‭.‬

هذا‭ ‬الجانب‭ ‬التراثي‭ ‬لمسألة‭ ‬القرار‭ ‬ترافقت‭ ‬مع‭ ‬توظيف‭ ‬ذكي‭ ‬وماكر‭ ‬لتلك‭ ‬السيكولوجيا‭ ‬ولمنطق‭ ‬الوجود‭ ‬أو‭ ‬اللاوجود‭ ‬قرصاني‭ ‬الملامح‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬سعي‭ ‬قويّ‭ ‬لتغيير‭ ‬معادلات‭ ‬السلطة‭ ‬والقرار‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭. ‬نجم‭ ‬هذه‭ ‬اللعبة‭ ‬السلطوية‭ ‬بامتياز‭ ‬هو‭ ‬سياسي‭ ‬شغر‭ ‬لفترة‭ ‬منصب‭ ‬محافظ‭ ‬لندن‭ ‬وينتمي‭ ‬لحزب‭ ‬المحافظين‭ ‬وهو‭ ‬بوريس‭ ‬جونسون‭. ‬هناك‭ ‬شعور‭ ‬عام‭ ‬بين‭ ‬البريطانيين‭ ‬الذين‭ ‬أعرفهم‭ ‬بأن‭ ‬أفضل‭ ‬توصيف‭ ‬لشخص‭ ‬مثل‭ ‬بوريس‭ ‬جونسون‭ ‬هو‭ ‬‮«‬دونالد‭ ‬ترامب‭ ‬بريطانيا”‭. ‬المقصود‭ ‬بهذا‭ ‬التعبير‭ ‬أنه‭ ‬يُنظر‭ ‬إليه‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬شخص‭ ‬لا‭ ‬يتمتع‭ ‬بالذكاء‭ ‬الفكري‭ ‬السياسي‭ ‬بل‭ ‬بالحمق‭ ‬والعنجهية‭ ‬والاعتباط،‭ ‬شخص‭ ‬شعوبوي‭ ‬متعطش‭ ‬للسلطة،‭ ‬متمحور‭ ‬حول‭ ‬أناه‭ ‬الفردية‭ ‬العليا،‭ ‬يلهث‭ ‬بشكل‭ ‬محموم‭ ‬وعبثي‭ ‬وراء‭ ‬تحقيق‭ ‬أجندته‭ ‬الخاصة‭ ‬والفردية‭ ‬ويحلم،‭ ‬وبأيّ‭ ‬وسيلة‭ ‬ممكنة‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬مكلفة‭ ‬للآخرين،‭ ‬بتبوّؤ‭ ‬منصب‭ ‬رئيس‭ ‬حكومة‭ ‬البلاد‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬جونسون‭ ‬يوماً،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬متابعوه‭ ‬البريطانيون‭ ‬الذين‭ ‬أعرفهم،‭ ‬من‭ ‬الراديكاليين‭ ‬اليمينيين‭ ‬الصريحين‭ ‬الذين‭ ‬يعبّرون‭ ‬عن‭ ‬كراهية‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬غير‭ ‬بريطاني‭ ‬أو‭ ‬يقولون‭ ‬دوماً‭ ‬بأن‭ ‬بريطانيا‭ ‬العظمى‭ ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬أحدا‭ ‬ولا‭ ‬تنتمي‭ ‬ولا‭ ‬بأيّ‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬الأشكال‭ ‬لأيّ‭ ‬كيان‭ ‬حضاري‭ ‬وثقافي‭ ‬آخر‭. ‬وهو‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬يسوّقون‭ ‬للعنف‭ ‬ضد‭ ‬من‭ ‬يؤمن‭ ‬بانتماء‭ ‬بريطانيا‭ ‬للفضاء‭ ‬الحضاري‭ ‬والثقافي‭ ‬الأوروبيين،‭ ‬مثل‭ ‬المواطن‭ ‬الذي‭ ‬قتل‭ ‬النائبة‭ ‬البريطانية‭ ‬الداعية‭ ‬لذلك‭ ‬مؤخراً‭. ‬المعروف‭ ‬عن‭ ‬جونسون‭ ‬أنه‭ ‬براغماتي‭ ‬ويلعب‭ ‬لعبة‭ ‬السلطة‭ ‬بكل‭ ‬قذارتها‭ ‬وأنه‭ ‬مستعد‭ ‬للقيام‭ ‬بأيّ‭ ‬شيء‭ ‬لمصلحة‭ ‬الحصول‭ ‬عليها‭. ‬لهذا‭ ‬لم‭ ‬يشهد‭ ‬الشارع‭ ‬البريطاني‭ ‬من‭ ‬جونسون‭ ‬خطابات‭ ‬عنفية‭ ‬ضد‭ ‬أوروبا‭ ‬والعلاقة‭ ‬معها‭ ‬بعد‭ ‬انتصار‭ ‬صوت‭ ‬الداعين‭ ‬للانسحاب‭ ‬من‭ ‬الاتحاد‭. ‬لا‭ ‬بل‭ ‬يقال‭ ‬إنه‭ ‬هو‭ ‬شخصياً‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يتوقّع‭ ‬نجاح‭ ‬الصوت‭ ‬الرافض‭ ‬للبقاء‭ ‬في‭ ‬الاتحاد‭. ‬وهو‭ ‬مؤخراً،‭ ‬وبسبب‭ ‬المظاهرات‭ ‬العارمة‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬الإنكليزي‭ ‬ضدّ‭ ‬القرار،‭ ‬قرر‭ ‬عدم‭ ‬خوض‭ ‬انتخابات‭ ‬رئاسة‭ ‬الحكومة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬رأى‭ ‬سخط‭ ‬الشارع‭ ‬العام‭ ‬عليه‭ ‬وغضبه‭ ‬منه‭.‬

بعد‭ ‬أن‭ ‬حقق‭ ‬الخطاب‭ ‬التراثي‭ ‬القرصاني‭-‬الإمبراطوري‭ ‬هدفه‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬جونسون‭ ‬سيرميه‭ ‬خلفه‭. ‬كل‭ ‬المعطيات‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬بوريس‭ ‬جونسون‭ ‬لعب‭ ‬على‭ ‬السيكولوجيا‭ ‬البريطانية‭ ‬الموروثة‭ ‬بذكاء‭ ‬كي‭ ‬يقلب‭ ‬معادلة‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬البلد‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬الوصول‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬إلى‭ ‬المنزل‭ ‬رقم‭ ‬11‭ ‬الكائن‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬داونينغ‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬العاصمة‭ ‬البريطانية‭.‬

أودّ‭ ‬فقط‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬الرأي‭ ‬الذي‭ ‬سمعت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬البريطانيين‭ ‬يدلون‭ ‬به‭ ‬عبر‭ ‬الإنترنت‭ ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬تصويتهم‭ ‬للخروج‭ ‬من‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭. ‬أثار‭ ‬انتباهي‭ ‬أن‭ ‬هؤلاء‭ ‬المصوّتين‭ ‬قالوا‭ ‬إنهم‭ ‬لا‭ ‬يريدون‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬بلدهم‭ ‬أسيرة‭ ‬لتهديد‭ ‬المسلمين‭ ‬اللاجئين

هذا‭ ‬الجانب‭ ‬السياسي‭-‬التراثي‭ ‬هو‭ ‬أحد‭ ‬العوامل‭ ‬الأساس‭ ‬في‭ ‬نتائج‭ ‬الاستفتاء‭ ‬الشعبي‭ ‬العام‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭. ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬ليس‭ ‬بالعامل‭ ‬الأوحد‭ ‬في‭ ‬الواقع‭. ‬هناك‭ ‬عامل‭ ‬آخر‭ ‬لا‭ ‬يقلّ‭ ‬أهمية‭ ‬ولا‭ ‬تأثيرا‭ ‬في‭ ‬السياق‭ ‬البريطاني‭. ‬هذا‭ ‬العامل‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬أسميه‭ ‬بالعامل‭ ‬السوسيولوجي‭-‬السيكولوجي،‭ ‬وأعني‭ ‬بهذا‭ ‬عامل‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬موجة‭ ‬اللجوء‭ ‬العارمة‭ ‬التي‭ ‬ضربت‭ ‬أوروبا‭ ‬مؤخراً،‭ ‬والتي‭ ‬تقترن‭ ‬في‭ ‬العقل‭ ‬الشعبي‭ ‬البريطاني‭ ‬‭(‬والأوروبي‭ ‬عموماً‭)‬‭ ‬بالإسلاموفوبيا‭. ‬فالكل‭ ‬يعلم‭ ‬بأن‭ ‬أوروبا‭ ‬وبريطانيا‭ ‬معها‭ ‬تواجهان‭ ‬ظاهرة‭ ‬شعبية‭ ‬متمثلة‭ ‬بالرهاب‭ ‬الحقيقي‭ ‬والعميق‭ ‬من‭ ‬الإسلام‭ ‬ووجوده‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الجزء‭ ‬من‭ ‬العالم،‭ ‬والذي‭ ‬جاء‭ ‬تاريخياً‭ ‬إلى‭ ‬أوروبا‭ ‬مع‭ ‬موجات‭ ‬الهجرات‭ ‬المتعددة،‭ ‬ومؤخراً‭ ‬موجات‭ ‬اللجوء‭ ‬العارمة،‭ ‬التي‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬البلاد‭ ‬من‭ ‬كافة‭ ‬أصقاع‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي،‭ ‬وبشكل‭ ‬خاص‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي‭ ‬العربي‭. ‬ما‭ ‬يعنيني‭ ‬شخصياً‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى‭ ‬هو‭ ‬الفوبيا‭ ‬المنتشرة‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬البريطاني‭ ‬‭(‬والأوروبي‭ ‬عموماً،‭ ‬كما‭ ‬لاحظت‭ ‬أثناء‭ ‬سنوات‭ ‬عيشي‭ ‬وعملي‭ ‬في‭ ‬ألمانيا‭)‬‭ ‬تجاه‭ ‬الحضور‭ ‬الإسلامي‭ ‬المهاجر‭ ‬أو‭ ‬اللاجئ‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭. ‬وفي‭ ‬السطور‭ ‬اللاحقة‭ ‬سأتأمل‭ ‬قليلاً‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الجوانب‭ ‬المعرفية‭ ‬المتعلقة‭ ‬بواقعية‭ ‬وإرهاصات‭ ‬الفوبيا‭ ‬المذكورة،‭ ‬محاولاً‭ ‬أن‭ ‬أقدم‭ ‬تقييما‭ ‬نقدياً‭ ‬موجزاً‭ ‬لها‭.‬

تمتلئ‭ ‬المكتبة‭ ‬العلمية‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬الدراسات‭ ‬والمؤلفات‭ ‬التي‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬مسألة‭ ‬الإسلاموفوبيا‭. ‬لست‭ ‬بصدد‭ ‬تقديم‭ ‬دراسة‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬هنا‭ ‬‭(‬فعلت‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬أخرى‭)‬‭. ‬أودّ‭ ‬فقط‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬الرأي‭ ‬الذي‭ ‬سمعت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬البريطانيين‭ ‬يدلون‭ ‬به‭ ‬عبر‭ ‬الإنترنت‭ ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬تصويتهم‭ ‬للخروج‭ ‬من‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭. ‬أثار‭ ‬انتباهي‭ ‬أن‭ ‬هؤلاء‭ ‬المصوّتين‭ ‬قالوا‭ ‬إنهم‭ ‬لا‭ ‬يريدون‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬بلدهم‭ ‬أسيرة‭ ‬لتهديد‭ ‬المسلمين‭ ‬اللاجئين‭ ‬الآتين‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي‭ ‬العربي‭-‬المشرقي‭ ‬‭(‬كثير‭ ‬منهم‭ ‬سمّى‭ ‬سوريا‭ ‬بالإسم‭)‬،‭ ‬والذين‭ ‬برأي‭ ‬هؤلاء‭ ‬البريطانيين‭ ‬يمثلون‭ ‬مصدر‭ ‬إرهاب‭ ‬وعنف‭ ‬وشرّ‭ ‬سيصيب‭ ‬المجتمع‭ ‬البريطاني‭ ‬لأنّ‭ ‬الفكر‭ ‬الديني‭ ‬الذي‭ ‬يحملونه‭ ‬هو‭ ‬فكر‭ ‬راديكالي‭ ‬عنفي‭ ‬دموي‭ ‬يكره‭ ‬الغرب‭ ‬والحضارة‭ ‬الغربية‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬ليس‭ ‬بمسلم‭.‬

قاد‭ ‬هذا‭ ‬الافتراض‭ ‬والتصور‭ ‬المسبق‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬‮«‬إسلام”‭ ‬اللاّجئين‭ ‬والمهاجرين‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي‭ ‬العربي‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬البريطانيين،‭ ‬لا‭ ‬بل‭ ‬والبريطانيين‭ ‬المجنّسين‭ ‬من‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬ينحدرون‭ ‬من‭ ‬نفس‭ ‬الجزء‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي‭ ‬العربي،‭ ‬إلى‭ ‬التصويت‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬لا”‭ ‬للبقاء‭ ‬في‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬ودعم‭ ‬خيار‭ ‬الانعزال‭ ‬لغرض‭ ‬حماية‭ ‬الذات‭ ‬وإبعادها‭ ‬قدر‭ ‬الإمكان‭ ‬عن‭ ‬احتمالات‭ ‬العنف‭ ‬والإرهاب‭ ‬التي،‭ ‬برأي‭ ‬هؤلاء‭ ‬البريطانيين،‭ ‬ستأتي‭ ‬إليهم‭ ‬عبر‭ ‬شاطئهم‭ ‬الشرقي‭.‬

علينا‭ ‬أن‭ ‬نلاحظ‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬الفوبيا‭ ‬البريطانية‭ ‬من‭ ‬الإسلام‭ ‬لم‭ ‬تستيقظ‭ ‬لتدعو‭ ‬لخروج‭ ‬بريطانيا‭ ‬من‭ ‬الفضاء‭ ‬الأوروبي‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬السابقة‭ ‬وهي‭ ‬لم‭ ‬تجد‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬صداً‭ ‬شعبياً‭ ‬مؤيداً‭ ‬لها‭ ‬كما‭ ‬شهدت‭ ‬اليوم‭ ‬بالذات‭. ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬نشهد‭ ‬تصاعد‭ ‬صوت‭ ‬بريطاني‭ ‬شعبي‭ ‬عارم‭ ‬يدعو‭ ‬لعزل‭ ‬بريطانيا‭ ‬وقطع‭ ‬كل‭ ‬سبل‭ ‬وصول‭ ‬تهديد‭ ‬إسلاموي‭ ‬للمملكة‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬الماضية،‭ ‬حين‭ ‬كانت‭ ‬بريطانيا‭ ‬تستقبل‭ ‬العشرات،‭ ‬بل‭ ‬الآلاف،‭ ‬من‭ ‬المهاجرين‭ ‬المسلمين‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬بينهم‭ ‬حتى‭ ‬قادة‭ ‬ودعاة‭ ‬إسلامويون‭ ‬راديكاليون‭ ‬بالعقيدة‭ ‬والفكر‭ ‬بشكل‭ ‬معلن،‭ ‬وكانت‭ ‬تمنحهم‭ ‬اللجوء‭ ‬والجنسية؟‭ ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬فوبيا‭ ‬الشارع‭ ‬البريطاني‭ ‬وقتها‭ ‬مؤثرة‭ ‬وعالية‭ ‬الصوت‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬الآن؟‭ ‬أحد‭ ‬الأسباب‭ ‬برأيي‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬موجة‭ ‬اللجوء‭ ‬العارمة‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬منذ‭ ‬حوالي‭ ‬السنة،‭ ‬حين‭ ‬نزح‭ ‬عشرات‭ ‬آلاف‭ ‬من‭ ‬السوريين‭ ‬والعراقيين‭ ‬‭(‬المسلمين‭ ‬بغالبيتهم‭)‬‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬المئات‭ ‬من‭ ‬المسلمين‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬لبنان‭ ‬ومصر‭ ‬وشمال‭ ‬أفريقيا،‭ ‬باسم‭ ‬النزوح‭ ‬السوري‭ ‬الكبير‭ ‬وبذريعته،‭ ‬إلى‭ ‬الأراضي‭ ‬الأوروبية‭. ‬يجب‭ ‬قراءة‭ ‬تنامي‭ ‬الإسلاموفوبيا‭ ‬البريطانية‭ ‬شعبياً‭ ‬‭(‬أو‭ ‬شارعياً‭)‬‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬موجة‭ ‬النزوح‭ ‬المذكورة‭. ‬المنطق‭ ‬الذي‭ ‬أوقد‭ ‬تلك‭ ‬الإسلاموفوبيا‭ ‬في‭ ‬السيكولوجيا‭ ‬والسوسيولوجيا‭ ‬البريطانية،‭ ‬والذي‭ ‬قاد‭ ‬إلى‭ ‬قرار‭ ‬عزل‭ ‬بريطانيا‭ ‬بهدف‭ ‬حمايتها‭ ‬عن‭ ‬باقي‭ ‬أوروبا،‭ ‬هو‭ ‬المنطق‭ ‬القائل‭ ‬بأن‭ ‬هؤلاء‭ ‬النازحين‭ ‬المسلمين‭ ‬السوريين‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬العرب‭ ‬هم‭ ‬بطبيعتهم‭ ‬مسلمون‭ ‬راديكاليون‭ ‬عنفيون‭ ‬ميالون‭ ‬لتبني‭ ‬ردود‭ ‬أفعال‭ ‬إرهابية‭ ‬وصدامية‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬ليس‭ ‬بمسلم‭.‬

بكلمات‭ ‬أخرى،‭ ‬يفترض‭ ‬المخيال‭ ‬البريطاني‭ ‬المذكور‭ ‬بأن‭ ‬‮«‬الإسلام”‭ ‬الذي‭ ‬سيصل‭ ‬مع‭ ‬هؤلاء‭ ‬النازحين‭ ‬إلى‭ ‬أوروبا‭ ‬وبريطانيا‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إلا إسلام‭ ‬داعشي‮ ‬وأنَّ‭ ‬كل‭ ‬هؤلاء‭ ‬المسلمين‭ ‬لن‭ ‬يندمجوا‭ ‬ولن‭ ‬يصبحوا‭ ‬يوماً‭ ‬جزءا‭ ‬حقيقيا‭ ‬من‭ ‬الفضاء‭ ‬البريطاني‭ ‬الثقافي‭-‬التراثي‭ ‬لأنهم‭ ‬لا‭ ‬يتخيلون‭ ‬أنفسهم‭ ‬يعيشون‭ ‬سوى‭ ‬في‭ ‬‮«‬دولة‭ ‬دينية‭ ‬إسلاموية‭ ‬صرفة”‭ ‬وهم،‭ ‬بالتّالي،‭ ‬مجرّد‭ ‬أدوات‭ ‬وخزان‭ ‬بشريين‭ ‬ترسلهم‭ ‬الدولة‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬الشام‭ ‬والعراق‭ ‬إلى‭ ‬بريطانيا‭ ‬للشروع‭ ‬في‭ ‬تأسيس‭ ‬الدولة‭ ‬المزعومة‭ ‬هناك‭.‬

لو‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬التصور‭ ‬التخيّلي‭ ‬حقيقياً‭ ‬وواقعياً،‭ ‬ولو‭ ‬كنت‭ ‬أنا‭ ‬بريطانياً،‭ ‬لكنت‭ ‬سأصوت‭ ‬ربما‭ ‬لصالح‭ ‬خروج‭ ‬بريطانيا‭ ‬من‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬ولكنت‭ ‬ربما‭ ‬سأعتقد‭ ‬أن‭ ‬عزل‭ ‬بريطانيا‭ ‬عن‭ ‬الشاطئ‭ ‬الأوروبي‭ ‬المجاور‭ ‬هو‭ ‬أحد‭ ‬طرق‭ ‬وقاية‭ ‬البلد‭ ‬من‭ ‬شر‭ ‬حقيقي‭ ‬ومخيف‭ ‬سيصل‭ ‬إليها‭ ‬مع‭ ‬الوافدين‭ ‬الجدد‭ ‬للعالم‭ ‬الأوروبي‭. ‬وربما‭ ‬يمكننا‭ ‬القول‭ ‬بأنَّ‭ ‬المهاجرين‭ ‬المسلمين‭ ‬والعرب‭ ‬منهم‭ ‬الذين‭ ‬صاروا‭ ‬مسبقاً‭ ‬مواطنين‭ ‬بريطانيين‭ ‬اقتنعوا‭ ‬بتلك‭ ‬الحقيقة‭ ‬‭(‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬تصوّرات‭ ‬مسبقة‭ ‬الصنع‭ ‬يحملونها‭ ‬عن‭ ‬أرضهم‭ ‬الأم‭ ‬ويعتقدون‭ ‬أنها‭ ‬تمثل‭ ‬الحقيقة‭ ‬الفعلية‭ ‬لواقع‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأرض‭)‬‭ ‬وصوّتوا‭ ‬مع‭ ‬خيار‭ ‬الانسحاب‭ ‬بناء‭ ‬عليها‭.‬

أقول‭ ‬إن‭ ‬تصويتي‭ ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬سيكون‭ ‬نفس‭ ‬التصويت‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الافتراض‭ ‬الذي‭ ‬ذكرته‭ ‬في‭ ‬الأعلى‭ ‬هو‭ ‬الواقع‭ ‬والحقيقة‭ ‬المعرِّفة‭ ‬لماهية‭ ‬الإسلام‭ ‬الذي‭ ‬يحمله‭ ‬هؤلاء‭ ‬النازحون‭ ‬السوريون‭ ‬والعرب‭ ‬معهم‭ ‬ويحضرونه‭ ‬في‭ ‬لجوئهم‭ ‬إلى‭ ‬أوروبا‭. ‬ولكن،‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التصور‭ ‬لماهية‭ ‬‮«‬الإسلام”‭ ‬الذي‭ ‬يحمله‭ ‬النازحون‭ ‬واللاجئون‭ ‬معهم‭ ‬إلى‭ ‬أوروبا‭ ‬هو‭ ‬تصور‭ ‬غير‭ ‬دقيق‭ ‬وغير‭ ‬واقعي‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭. ‬في‭ ‬السطور‭ ‬القليلة‭ ‬الباقية‭ ‬من‭ ‬الورقة،‭ ‬سأبين‭ ‬وجهة‭ ‬نظري‭ ‬حول‭ ‬هذه‭ ‬المسألة‭.‬

‬الخطأ‭ ‬العلمي‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬شيء‭ ‬جامد‭ ‬اسمه‭ ‬‮«‬الإسلام”‭ ‬أو‭ ‬‮«‬المسيحية”‭ ‬أو‭ ‬‮«‬اليهودية”‭ ‬أو‭ ‬أو‮…‬‭ ‬هناك‭ ‬إسلامات‭ ‬متعددة‭ ‬ومتنوعة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬بتعدد‭ ‬وتنوع‭ ‬المسلمين‭ ‬المنتمين‭ ‬للإسلام‭ ‬والمجسّدين‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بوجودهم‭ ‬وكينونتهم

أعتقد‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الخطأ‭ ‬العلمي‭ ‬والتفسيري‭ ‬الحقيقي‭ ‬أن‭ ‬نفترض‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬يمكنه‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬أيّ‭ ‬ظاهرة‭ ‬دينية‭ ‬بعينها‭ ‬وكأنها‭ ‬كيان‭ ‬موضوعي‭ ‬جامد‭ ‬ككتلة‭ ‬مسمطة‭ ‬واحدة‭ ‬محددة‭ ‬وأحادية‭ ‬يمكن‭ ‬تعريفها‭ ‬بهوية‭ ‬وماهية‭ ‬مطلقة‭ ‬وشمولية،‭ ‬أو‭ ‬أننا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نأخذ‭ ‬هذا‭ ‬التعريف‭ ‬ونسقطه‭ ‬بشكل‭ ‬أوتوماتيكي‭ ‬فوقي‭ ‬على‭ ‬أتباع‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬الدينية‭ ‬بصرف‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬تعددهم‭ ‬السياقي‭ ‬والتاريخي‭ ‬والثقافي‭ ‬والسوسيولوجي‭ ‬والأنثربولوجي‭.‬

بكلمات‭ ‬أخرى،‭ ‬من‭ ‬الخطأ‭ ‬العلمي‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬شيء‭ ‬جامد‭ ‬اسمه‭ ‬‮«‬الإسلام”‭ ‬أو‭ ‬‮«‬المسيحية”‭ ‬أو‭ ‬‮«‬اليهودية”‭ ‬أو‭ ‬أو‮…‬‭ ‬هناك‭ ‬إسلامات‭ ‬متعددة‭ ‬ومتنوعة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬بتعدد‭ ‬وتنوع‭ ‬المسلمين‭ ‬المنتمين‭ ‬للإسلام‭ ‬والمجسّدين‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بوجودهم‭ ‬وكينونتهم‭. ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬هذا،‭ ‬نستطيع‭ ‬بشكل‭ ‬موضوعي‭ ‬وتحليلي‭ ‬موثوق‭ ‬وصحيح‭ ‬أن‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬‮«‬إسلام‭ ‬غربي”‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬‮«‬إسلام‭ ‬أوروبي”‭ ‬و”إسلام‭ ‬أميركي”‭ ‬بقدر‭ ‬حديثنا‭ ‬عن‭ ‬‮«‬إسلام‭ ‬عربي”‭ ‬و”إسلام‭ ‬آسيوي”‭ ‬و”إسلام‭ ‬أفريقي”‭. ‬وطبعاً‭ ‬يمكن‭ ‬للمرء‭ ‬أن‭ ‬يمضي‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬تقصّي‭ ‬جوانب‭ ‬السياقية‭ ‬والتنوع‭ ‬للحديث‭ ‬عن‭ ‬‮«‬إسلام‭ ‬فرنسي”‭ ‬و”إسلام‭ ‬ألماني”‭ ‬و”إسلام‭ ‬بريطاني”‭ ‬وسواها،‭ ‬مثلما‭ ‬نستطيع‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬‮«‬إسلام‭ ‬سوري”‭ ‬و”إسلام‭ ‬عراقي”‭ ‬و”إسلام‭ ‬مصري”‭ ‬و”إسلام‭ ‬خليجي”‮…‬‭ ‬الخ‭.‬

ما‭ ‬أريد‭ ‬الإشارة‭ ‬إليه‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬أنَّ‭ ‬الساحة‭ ‬العامة‭ ‬الشعبية‭ ‬الأوروبية‭ ‬مازالت‭ ‬‭(‬تأثراً‭ ‬بمخيال‭ ‬معرفي‭ ‬استشراقي‭ ‬يقسّم‭ ‬العالم‭ ‬إلى‭ ‬غرب‭ ‬مسيحي‭ ‬وشرق‭ ‬مسلم‭ ‬ويخترع‭ ‬حواجز‭ ‬صلدة‭ ‬بين‭ ‬التراثات‭ ‬الدينية‭ ‬واستطالاتها‭ ‬الحضارية‭ ‬وكأن‭ ‬كلا‭ ‬منها‭ ‬نشأ‭ ‬وتداعى‭ ‬وفق‭ ‬سيرورات‭ ‬منفصلة‭ ‬ومنغلقة‭ ‬على‭ ‬ذاتها‭)‬‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬‮«‬إسلام‭ ‬عربي”،‭ ‬‮«‬إسلام‭ ‬آسيوي”،‭ ‬‮«‬إسلام‭ ‬أفريقي”،‭ ‬أو‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬‮«‬المسلمون في‮ ‬أوروبا”‭ ‬أو‭ ‬‮«‬المسلمون في‮ ‬أميركا”‭ ‬أو‭ ‬‮«‬المسلمون في‮ ‬بريطانيا،‭ ‬”‭ ‬ولكنها‭ ‬لا‭ ‬تتحدث‭ ‬عن،‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تعترف‭ ‬بوجود،‭ ‬‮«‬إسلام‭ ‬أوروبي”‮ ‬و”إسلام‭ ‬أميركي”‮ ‬و”إسلام‭ ‬بريطاني”‭.‬

أنا‭ ‬لا‭ ‬أتحدث‭ ‬فقط‭ ‬عن‭ ‬المواطنين‭ ‬الأوروبيين‭ ‬أو‭ ‬الأميركيين‭ ‬أو‭ ‬البريطانيين‭ ‬الذين‭ ‬يعتنقون‭ ‬الإسلام‭ ‬كدين،‭ ‬أنا‭ ‬أتحدث‭ ‬هنا‭ ‬عن‭ ‬فكر‭ ‬وفهم‭ ‬إسلاميين‭ ‬للذات‭ ‬وللعالم‭ ‬‭(‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بالألمانية‭ ‬‭(‬Weltanschauung‭)‬‭ ‬وبالإنكليزية‭ ‬‭(‬worldview‭))‬‭ ‬نشآ‭ ‬ونميا‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬العالم‭ ‬الأوروبي‭ ‬والبريطاني‭ ‬والأميركي‭. ‬أتحدث‭ ‬عن‭ ‬‮«‬إسلام”‭ ‬بنى‭ ‬ماهيته‭ ‬الفكرية‭ ‬واللاهوتية‭ ‬والوجودية‭ ‬وصفاته‭ ‬الروحانية‭ ‬والدوغمائية‭ ‬والسلوكية‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬العالم‭ ‬‮«‬غير‭ ‬الإسلامي”،‭ ‬بل‭ ‬و”غير‭ ‬العربي”‭. ‬أتحدث‭ ‬عن‭ ‬‮«‬إسلام‭ ‬أوروبي”‭ ‬مثلما‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬‮«‬مسيحية‭ ‬أوروبية”‭ ‬أو‭ ‬‮«‬مسيحية‭ ‬أميركية”‭ ‬أو‭ ‬‮«‬مسيحية‭ ‬بريطانية”‭.‬

هناك‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬اليوم‭ ‬إسلامات‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بالإرث‭ ‬العربي‭ ‬ولا‭ ‬بالمخيال‭ ‬الفكري‭ ‬والمعرفي‭ ‬والكينوني‭ ‬الوجودي‭ ‬العربي‭ ‬أو‭ ‬الآسيوي‭ ‬أو‭ ‬الأفريقي،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬ذاك‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬تقصي‭ ‬آثاره‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬الإسلامية‭ ‬تاريخياً‭ ‬ومجتمعياً‭ ‬ودولتياً‭ ‬وتراثاً‭. ‬تلك‭ ‬الإسلامات‭ ‬هي‭ ‬إسلامات‭ ‬نشأت‭ ‬وتكونت‭ ‬وتتواجد‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬الأوروبي‭ ‬والأميركي‭ ‬والبريطاني‭ ‬وينتمي‭ ‬لها‭ ‬أبناء‭ ‬الجيل‭ ‬الثاني‭ ‬والثالث‭ ‬والرابع‭ ‬والحالي‭ ‬للمسلمين‭ ‬عموماً،‭ ‬والمسلمين‭ ‬العرب‭ ‬خصوصاً،‭ ‬الذين‭ ‬ولدوا‭ ‬وتربّوا‭ ‬في‭ ‬مجتمعات‭ ‬المهجر‭ ‬ولا‭ ‬ينتمون،‭ ‬وبل‭ ‬وربما‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬حقاً،‭ ‬ما‭ ‬معنى‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أيّ‭ ‬شيء‭ ‬سوى‭ ‬‮«‬مسلم‭ ‬أوروبي”‭ ‬أو‭ ‬‮«‬مسلم‭ ‬بريطاني”‭ ‬أو‭ ‬‮«‬مسلم‭ ‬أميركي”‭.‬

ينتمي‭ ‬لنفس‭ ‬الإسلام‭ ‬أيضاً‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الجيل‭ ‬المعاصر‭ ‬الذي‭ ‬يعود‭ ‬في‭ ‬أصوله‭ ‬الإثنية‭ ‬والعرقية‭ ‬والأسرية‭ ‬والجغرافية‭ ‬والحضارية‭ ‬لأوروبا‭ ‬وأميركا‭ ‬وبريطانيا‭ ‬المحلية‭ ‬لغير‭ ‬المهاجرين‭. ‬المشكلة‭ ‬أنَّ‭ ‬الغرب‭ ‬الأوروبي‭ ‬والبريطاني‭ ‬مازالا‭ ‬حتى‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭ ‬غير‭ ‬مستعدين‭ ‬للإقرار‭ ‬بوجود‭ ‬شيء‭ ‬اسمه‭ ‬‮«‬إسلام‭ ‬بريطاني”‭ ‬أو‭ ‬‮«‬إسلام‭ ‬أوروبي”‭. ‬بل‭ ‬يريدون‭ ‬فقط‭ ‬أن‭ ‬يعترفوا‭ ‬ببريطانية‭ ‬هؤلاء‭ ‬المسلمين‭ ‬وأوروبيتهم‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الجنسية‭ ‬والمواطنة‭ ‬والحقوق‭ ‬المدنية‭ ‬والدستورية‭ ‬فقط‭. ‬ولكن،‭ ‬أوروبا‭ ‬وبريطانيا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تدركا‭ ‬أنهما‭ ‬باتتا‭ ‬في‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬ماهيتهما‭ ‬‮«‬مسلمتين”‭ ‬أيضاً‭ ‬‭(‬لنتذكر‭ ‬أن‭ ‬الجزء‭ ‬الشرقي‭ ‬من‭ ‬أوروبا‭ ‬كان‭ ‬ولقرون‭ ‬عديدة‭ ‬‮«‬مسلماً”‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬أوجه‭ ‬ماهيته‭)‬‭.‬


لوحة: سعاد مردم بيك

لماذا‭ ‬أشير‭ ‬إلى‭ ‬حقيقة‭ ‬وجود‭ ‬هكذا‭ ‬إسلام‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬وبريطانيا؟‭ ‬لأنني‭ ‬أودّ‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬حقيقة‭ ‬يحلو‭ ‬للعديد‭ ‬من‭ ‬المراقبين‭ ‬التعامي‭ ‬عنها‭ ‬حين‭ ‬ينظرون‭ ‬لظاهرة‭ ‬العنف‭ ‬والإرهاب‭ ‬المقترنين‭ ‬بالإسلاموية‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬أنَّ‭ ‬الإسلام‭ ‬المتمثل‭ ‬بداعش،‭ ‬الذي‭ ‬يرتعب‭ ‬منه‭ ‬البريطانيون‭ ‬ويريدون‭ ‬منع‭ ‬اللاجئين‭ ‬من‭ ‬دخول‭ ‬بلدهم‭ ‬لتجنبه،‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬ليس‭ ‬‮«‬إسلاما‭ ‬سوريا”‭ ‬أو”إسلاما‭ ‬عربيا”‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬‮«‬إسلاما‭ ‬شرق‭ ‬أوسطي”‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬والماهية‭ ‬التي‭ ‬تُعرِّف‭ ‬أتباعه‭. ‬كل‭ ‬المعطيات‭ ‬التي‭ ‬لدينا‭ ‬تقول‭ ‬إنَّ‭ ‬الغالبية‭ ‬العظمى‭ ‬والساحقة‭ ‬من‭ ‬أفراد‭ ‬داعش‭ ‬ليسوا‭ ‬من‭ ‬السوريين‭ ‬وأنَّ‭ ‬القسم‭ ‬الأكبر‭ ‬منهم‭ ‬هم‭ ‬مسلمون‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬أوروبا‭ ‬ومن‭ ‬أميركا‭ ‬وبريطانيا‭ ‬‭(‬ناهيك‭ ‬عن‭ ‬أفراد‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬أخرى‭)‬‭. ‬أي‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يمثله‭ ‬هؤلاء‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬وصفه‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬‮«‬إسلام‭ ‬أوروبي”‭ ‬أو‭ ‬‮«‬إسلام‭ ‬بريطاني”‭ ‬أو‭ ‬‮«‬إسلام‭ ‬أميركي”‭.‬

من‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يخاف‭ ‬من‭ ‬هكذا‭ ‬إسلام‭ ‬هم‭ ‬السوريون‭ ‬والعرب‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬فأوروبا‭ ‬وأميركا‭ ‬وبريطانيا‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬أرسلت‭ ‬مثل‭ ‬هكذا‭ ‬مسلمين‭ ‬من‭ ‬أبنائها‭ ‬ليدمروا‭ ‬سوريا‭ ‬والمشرق‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬إسلام‭ ‬أوروبي”‭ ‬و”إسلام‭ ‬بريطاني”‭ ‬لم‭ ‬يخلقه‭ ‬السوريون‭ ‬والعرب‭ ‬اللاجئون‭ ‬بل‭ ‬هم‭ ‬الضحايا‭ ‬الأول‭ ‬له‭ ‬وهو‭ ‬سبب‭ ‬نزوحهم‭ ‬ولجوئهم‭ ‬في‭ ‬الدرجة‭ ‬الأولى،‭ ‬لأنَّ‭ ‬السوريين‭ ‬المسلمين‭ ‬يخافون‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الإسلام‭ ‬الأوروبي‭-‬البريطاني‭ ‬الذي‭ ‬يحمله‭ ‬لهم‭ ‬أتباع‭ ‬داعش‭ ‬الغربيون‭ ‬معهم‭ ‬إلى‭ ‬أرضهم‭ ‬الأمّ،‭ ‬ولأنه‭ ‬لا‭ ‬يشبه‭ ‬إسلامهم‭ ‬أبداً‭ ‬قامت‭ ‬داعش‭ ‬وأمثالها‭ ‬بذبح‭ ‬عشرات‭ ‬الألوف‭ ‬من‭ ‬المسلمين‭ ‬العرب‭ ‬السنة‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬والعراق‭ ‬ومناطق‭ ‬أخرى‭ ‬فقط‭ ‬لأنَّ‭ ‬داعش‭ ‬وأمثاله‭ ‬لا‭ ‬يعتبرون‭ ‬هؤلاء‭ ‬‮«‬مسلمين”‭ ‬في‭ ‬الواقع‭. ‬الإسلام‭ ‬السوري‭ ‬لا‭ ‬يشبه‭ ‬أبداً‭ ‬إسلام‭ ‬داعش‭ ‬ولا‭ ‬يتماهى‭ ‬معه‭ ‬ولا‭ ‬يؤمن‭ ‬به‭. ‬تقول‭ ‬لي‭ ‬سنوات‭ ‬عيشي‭ ‬وعملي‭ ‬العديدة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الأكاديمي‭ ‬والجامعي‭ ‬الغربي‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬وأميركا‭ ‬أن‭ ‬راديكاليين‭ ‬مسلمين‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬الإسلامي‭ ‬أمثال‭ ‬ابن‭ ‬تيمية‭ ‬وابن‭ ‬قيم‭ ‬الجوزية‭ ‬والفكر‭ ‬السلفي‭ ‬والوهابي‭ ‬مقرؤون‭ ‬ومدروسون‭ ‬ويحظون‭ ‬باهتمام‭ ‬المسلمين‭ ‬الأوروبيين‭ ‬والغربيين‭ ‬والبريطانيين‭ ‬أكثر‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬اهتمام‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يحظوا‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬أوساط‭ ‬المسلمين‭ ‬السوريين‭ ‬أو‭ ‬العرب‭ ‬‭(‬عدا‭ ‬الخليج‭ ‬ربما‭)‬‭. ‬وتقول‭ ‬لي‭ ‬علاقتي‭ ‬بمسلمين‭ ‬كثر‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬بأنَّ‭ ‬إسلامهم‭ ‬أكثر‭ ‬راديكالية‭ ‬وأصولية‭ ‬بما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالسلوك‭ ‬والقيم‭ ‬الأخلاقية‭ ‬والنظرة‭ ‬لغير‭ ‬المسلمين‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يقاس‭ ‬مقارنة‭ ‬بنفس‭ ‬الأمور‭ ‬في‭ ‬إسلام‭ ‬السوريين‭ ‬أو‭ ‬المشرقيين‭ ‬العرب‭.‬

ما‭ ‬أودّ‭ ‬الخلوص‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التحليل‭ ‬المختصر‭ ‬في‭ ‬الأعلى‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬قرار‭ ‬الشعب‭ ‬البريطاني‭ ‬بالانسحاب‭ ‬من‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬بغرض‭ ‬حماية‭ ‬بريطانيا‭ ‬من‭ ‬إسلام‭ ‬اللاجئين‭ ‬والنازحين‭ ‬السوريين‭ ‬العربي،‭ ‬الذي‭ ‬يعتقد‭ ‬هذا‭ ‬الجزء‭ ‬من‭ ‬الشعب‭ ‬البريطاني‭ ‬بأنه‭ ‬داعشي،‭ ‬هو‭ ‬قرار‭ ‬مبنيّ‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬خاطئ‭ ‬لطبيعة‭ ‬الإسلام‭ ‬الذي‭ ‬يحمله‭ ‬هؤلاء‭ ‬النازحون،‭ ‬وعلى‭ ‬إنكار‭ ‬لوجود‭ ‬‮«‬إسلام‭ ‬أوروبي”‭ ‬و”إسلام‭ ‬بريطاني”‭ ‬أصوليين‭ ‬وراديكاليين،‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء‭.‬

إن‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬طرف‭ ‬ما‭ ‬أن‭ ‬يخاف‭ ‬الإسلام‭ ‬الداعشي‭ ‬فهو‭ ‬الطرف‭ ‬الذي‭ ‬عانى‭ ‬وتعرّض‭ ‬للقتل‭ ‬والموت،‭ ‬ومازال،‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬أولئك‭ ‬المجاهدين‭ ‬الأوروبيين‭ ‬والبريطانيين‭ ‬والأميركيين‭ ‬الذين‭ ‬يحملون‭ ‬معهم‭ ‬إلى‭ ‬أرض‭ ‬الجهاد‭ ‬السورية‭ ‬‮«‬إسلاماً”‭ ‬نشأ‭ ‬وترعرع‭ ‬وتكوَّن‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬وبريطانيا‭. ‬إن‭ ‬أراد‭ ‬البريطانيون‭ ‬حماية‭ ‬أنفسهم‭ ‬من‭ ‬إسلام‭ ‬داعش،‭ ‬عليهم‭ ‬أن‭ ‬يتعاملوا‭ ‬مع‭ ‬إسلام‭ ‬نشأ‭ ‬وترعرع‭ ‬وكوَّن‭ ‬هويته‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬بريطانيا‭ ‬ذاتها‭. ‬عليهم‭ ‬أن‭ ‬يتعاملوا‭ ‬مع‭ ‬‮«‬الإسلام‭ ‬البريطاني”‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬تتحمل‭ ‬لا‭ ‬أوروبا‭ ‬ولا‭ ‬السوريون‭ ‬ولا‭ ‬أيّ‭ ‬مهاجر‭ ‬مسلم‭ ‬يدخل‭ ‬اليوم‭ ‬للبلد‭ ‬مسؤولية‭ ‬وجوده‭ ‬أصلاً‭ ‬وترعرعه‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬البريطاني‭ ‬قبل‭ ‬بدء‭ ‬موجة‭ ‬النزوح‭ ‬الكبرى‭ ‬وقبل‭ ‬حتى‭ ‬ظهور‭ ‬داعش‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬المشرقية‭ ‬والعالمية‭.‬

في‭ ‬الختام،‭ ‬يدفع‭ ‬العالم‭ ‬اليوم‭ ‬برمّته،‭ ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬العالم‭ ‬الغربي،‭ ‬الثمن‭ ‬الباهظ‭ ‬لنوع‭ ‬أو‭ ‬تمظهر‭ ‬من‭ ‬تمظهرات‭ ‬الإسلام‭ ‬التي‭ ‬نشأت‭ ‬وترعرعت‭ ‬وشكّلت‭ ‬ماهيتها‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬الحيز‭ ‬الجغرافي‭ ‬العربي‭ ‬أو‭ ‬الإسلامي‭ ‬التقليديين،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬أوروبا‭ ‬وبريطانيا‭ ‬وأميركا‭. ‬الإسلام‭ ‬الغربي‭ ‬الأوروبي‭-‬البريطاني‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬إسلام‭ ‬إرهابي‭ ‬راديكالي‭ ‬أو‭ ‬سلفي‭-‬وهابي‭ ‬على‭ ‬شاكلة‭ ‬داعش‭ ‬وأمثاله،‭ ‬وليس‭ ‬الإسلام‭ ‬العربي‭ ‬السوري‭ ‬أو‭ ‬المشرقي‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى‭.‬

هل‭ ‬سيعترف‭ ‬العالم‭ ‬الغربي‭ ‬يوماً‭ ‬بأنه‭ ‬بات‭ ‬يحمل‭ ‬في‭ ‬بنيته‭ ‬إسلاماً‭ ‬جديداً‭ ‬قائما‭ ‬بذاته‭ ‬وأنه‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬مجرد‭ ‬بلدان‭ ‬مهجر‭ ‬لمسلمين‭ ‬جاؤوا‭ ‬بإسلامهم‭ ‬من‭ ‬خارجه؟‭ ‬وإن‭ ‬اعترف‭ ‬الغرب‭ ‬يوماً‭ ‬بهذا‭ ‬العنصر‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬بات‭ ‬مكوناً‭ ‬لبنيته،‭ ‬كيف‭ ‬سيتعامل‭ ‬مع‭ ‬الإسلام‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬ظاهرة‭ ‬أوروبية‭ ‬وأميركية‭ ‬وبريطانية‭ ‬أيضاً؟‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬التساؤل‭ ‬المحوري‭ ‬الذي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يواجهه‭ ‬العالم‭ ‬ويجيب‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.