حدث‭ ‬مرة

الاثنين 2016/08/01
لوحة: سمان خوام

عندما‭ ‬رفعَ‭ ‬سَحَّاب‭ ‬البنطال‭ ‬إلى‭ ‬أعلى‭ ‬مداه،‭ ‬وأرتجه،‭ ‬كان‭ ‬العرق‭ ‬البارد‭ ‬يتصبَّب‭ ‬من‭ ‬كلّ‭ ‬مسام‭ ‬في‭ ‬جسدي‭.‬

لحظتها‭.. ‬أخذتْ‭ ‬روحي‭ ‬تنبض‭ ‬كطائر‭ ‬يلفظ‭ ‬آخر‭ ‬شهقات‭ ‬روحه‭ ‬المتعبة،‭ ‬وبدأ‭ ‬يستسلم‭ ‬لخدر‭ ‬الموت‭ ‬في‭ ‬قبضة‭ ‬صبيّ‭ ‬أرعن،‭ ‬أرهقه‭ ‬بالمطاردة‭ ‬حتى‭ ‬قبض‭ ‬عليه،‭ ‬دون‭ ‬نقّيفة،‭ ‬ولا‭ ‬مقلاع‭.‬

بصقَ‭ ‬في‭ ‬باطن‭ ‬كفّه،‭ ‬ثم‭ ‬هوى‭ ‬على‭ ‬عصفوري‭ ‬بقبضته،‭ ‬لفَّ‭ ‬أصابعه‭ ‬حوله،‭ ‬وأخذ‭ ‬يعصره،‭ ‬كأنّما‭ ‬يعتصر‭ ‬اللذة‭ ‬كي‭ ‬تتسرَّب‭ ‬في‭ ‬بدنه،‭ ‬ممزوجة‭ ‬برعشة،‭ ‬لم‭ ‬أدرِ‭ ‬ساعتها‭ ‬أهي‭ ‬رعشة‭ ‬الحياة،‭ ‬أم‭ ‬الموت‭!‬

تلفتُّ‭ ‬حولي،‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬لأتأكّد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يرى‭ ‬فعلته‭.‬

•‭ ‬ممّ‭ ‬أنت‭ ‬خائف؟

هتف‭ ‬صوت‭ ‬قادم‭ ‬من‭ ‬عمق‭ ‬آلاف‭ ‬سنوات‭ ‬القهر‭ ‬والفجيعة‭:‬

•‭ ‬م‭ ‬م؟

‭*‬‭ ‬هل‭ ‬بقي‭ ‬لك‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬الخوف؟

•‭ ‬نعم‭.. ‬الخوف‭ ‬ممّا‭ ‬هو‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الخوف‭!‬

‭*‬‭ ‬وهل‭ ‬هناك‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الخوف؟

•‭ ‬نعم‭.. ‬ما‭ ‬نحن‭ ‬فيه‭.‬

كنا‭ ‬قد‭ ‬انتهينا‭ ‬منذ‭ ‬ساعتين‭ ‬من‭ ‬البحث‭ ‬عنه‭.. ‬وجدناه‭ ‬أخيراً‭ ‬في‭ ‬غابة‭ ‬من‭ ‬الرخام‭.‬

قال‭:‬

•‭ ‬هذا‭ ‬هو‭..‬

قلتُ‭:‬

•‭ ‬هيا‭ ‬نبدأ‭ ‬إذن‭..‬

فبدأ‭ ‬هو‮…‬

كانا‭ ‬وحيدين‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصمت‭.. ‬هو‭ ‬يتعرّى‭ ‬أمام‭ ‬عراء‭ ‬الرخام،‭ ‬والآخر‭ ‬عارياً‭ ‬أمامي،‭ ‬تحت‭ ‬الرخام‭. ‬فمن‭ ‬المؤكد‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يأخذ‭ ‬معه‭ ‬بزّة‭ ‬الفوتيك‭ ‬الكورية،‭ ‬التي‭ ‬اعتاد‭ ‬أن‭ ‬يلبسها‭ ‬كلّما‭ ‬أتى‭ ‬للمخيم‭.‬

لم‭ ‬يأخذ‭ ‬بزّته‭ ‬معه،‭ ‬كما‭ ‬يليق‭ ‬بالشهداء‭.. ‬فما‭ ‬خرزته‭ ‬الرصاصات،‭ ‬ولا‭ ‬تشظّى‭ ‬على‭ ‬يدي‭ ‬صاروخ،‭ ‬ولا‭ ‬تغبَّرت‭ ‬تلك‭ ‬البزّة‭..‬

كانا‭ ‬متقابلين‭ ‬تماماً،‭ ‬إلا‭ ‬أنّ‭ ‬الآخر،‭ ‬للمرّة‭ ‬الأولى‭ ‬صار‭ ‬تحت،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬دائماً‭ ‬كان‭ ‬فوق‭.. ‬وللمرّة‭ ‬هذه‭ ‬فقط‭ ‬كان‭ ‬صامتاً،‭ ‬أخرسَ،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬اعتاد‭ ‬أن‭ ‬يملأ‭ ‬الدنيا‭ ‬صياحاً،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تسكته‭ ‬سكتة‭ ‬تافهة‭ ‬اعترت‭ ‬منابر‭ ‬شرايينه‭ ‬التي‭ ‬طالما‭ ‬ضخَّت‭ ‬كذباً،‭ ‬وشعارات‭ ‬التحرير‭..‬

وحيدان،‭ ‬متقابلان،‭ ‬كانا‭.. ‬وقد‭ ‬انكفأ‭ ‬المخيّم‭ ‬خلف‭ ‬أسوار‭ ‬المقبرة،‭ ‬تتكئ‭ ‬بيوته‭ ‬على‭ ‬بعضها‭ ‬البعض‭ ‬بتعب‭ ‬من‭ ‬أرهقه‭ ‬الانتظار‭ ‬ستين‭ ‬عاماً،‭ ‬على‭ ‬مفارق‭ ‬الطّرق،‭ ‬ومحطات‭ ‬السكك‭ ‬الحديدية،‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬الخانات‭ ‬الأثرية،‭ ‬والثكنات‭ ‬التي‭ ‬هجرها‭ ‬الجنود،‭ ‬وعواء‭ ‬الطائرات‭ ‬وهي‭ ‬تنزلق‭ ‬بضجيجها‭ ‬الصاخب‭ ‬على‭ ‬مدارج‭ ‬المطارات‭.‬

قبل‭ ‬ساعتين‭ ‬فقط،‭ ‬طوينا‭ ‬الزواريب،‭ ‬وأتينا‭.‬

كان‭ ‬المخيّم‭ ‬حينها‭ ‬لملم‭ ‬الناس‭ ‬جميعاً؛‭ ‬سحبهم‭ ‬من‭ ‬الجلسات‭ ‬على‭ ‬المصاطب‭ ‬أمام‭ ‬البيوت،‭ ‬وشدّ‭ ‬الأطفال‭ ‬من‭ ‬آذانهم‭ ‬إلى‭ ‬أحضان‭ ‬أمهاتهم‭ ‬اللواتي‭ ‬انتهين‭ ‬من‭ ‬الطبخ،‭ ‬ولمَّ‭ ‬الغسيل،‭ ‬وتأهّبن‭ ‬لمساء‭ ‬آخر،‭ ‬بينما‭ ‬صوت‭ ‬المغنية‭ ‬يردد‭ ‬من‭ ‬الإذاعة‭:‬

‮«‬غاب‭ ‬نهار‭ ‬آخر‭.. ‬غربتنا‭ ‬زادت‭ ‬نهار‭.. ‬واقتربت‭ ‬عودتنا‭ ‬نهار‮»‬‭.‬

تمتم‭:‬

•‭ ‬أيُّ‭ ‬عودة‭ ‬أيها‭ ‬المغنية؟

فردَّت‭ ‬عليه‭ ‬الأصوات‭..‬

‮«‬إلى‭ ‬عرب‭ ‬النجدة‮…‬‭ ‬عدّة‭ ‬الثورة‮»‬

‮«‬رسائل‭ ‬العرب‭ ‬إلى‭ ‬ذويهم‮»‬

‮«‬أنا‭ ‬من‭ ‬قطاع‭ ‬غزة‮»‬‭..‬

وفيروز‭ ‬تفرد‭ ‬مخمل‭ ‬صوتها‭ ‬الحزين‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬المخيم،‭ ‬ومساءاته‭ ‬الكئيبة‭:‬

‮«‬وطني‭ ‬يا‭ ‬جبل‭ ‬الغيم‭ ‬الأزرق‭.. ‬يا‭ ‬قمر‭ ‬الندى‭ ‬والزنبق‮»‬

مساء‭ ‬المخيم‭ ‬يهبط‭ ‬رويداً‭ ‬رويداً‭..‬

•‭ ‬هل‭ ‬تستطيع‭ ‬فعلها؟

‭*‬‭ ‬نعم‭.. ‬اليوم‭..‬

كل‭ ‬يوم‭.. ‬تماماً‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬المساء‭.. ‬كان‭ ‬جنون‭ ‬الخوف‭ ‬يلفُّني‭.. ‬جالساً‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬المصطبة‭ ‬الإسمنتية‭ ‬أمام‭ ‬خزان‭ ‬الماء‭ ‬العالي،‭ ‬أجلس‭ ‬مفكّراً،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يرتقي‭ ‬الرجل‭ ‬سطح‭ ‬الجامع‭ ‬منادياً‭ ‬لصلاة‭ ‬المغرب‭.. ‬أسأل‭ ‬الطفل‭ ‬الصغير‭ ‬الذي‭ ‬كنته‭:‬

•‭ ‬أين‭ ‬الله؟

فيجيبني‭:‬

•‭ ‬لعله‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬هذه‭ ‬الدرب‭ ‬البعيدة‭..‬

يومها‭.. ‬في‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭.. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ذاك‭ ‬الطفل،‭ ‬الذي‭ ‬كنتُه،‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الطريق‭ ‬تذهب‭ ‬من‭ ‬مخيم‭ ‬دنون،‭ ‬إلى‭ ‬كناكر،‭ ‬وتمرّ‭ ‬في‭ ‬الجولان،‭ ‬تتلوّى‭ ‬بين‭ ‬القرى‭ ‬والهضاب،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين‭..‬

وفلسطين‭ ‬ذاتها،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬سوى‭ ‬وجعٍ‭ ‬لا‭ ‬أفهمه‮…‬‭ ‬ليس‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬شعري‭ ‬الأجعد،‭ ‬الشتيمة‭ ‬الدائمة‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬وكالة‭ ‬الغوث،‭ ‬التي‭ ‬حملت‭ ‬اسم‭ ‬قريتنا‭ ‬ذاتها‭..‬

•‭ ‬نحن‭ ‬من‭ ‬الخالصة‭!‬

من‭ ‬تراه‭ ‬قال‭ ‬ذلك‭ ‬أمامي،‭ ‬أول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬حياتي؟

أنا‭ ‬أعصر‭ ‬كل‭ ‬نبرة‭ ‬من‭ ‬الذاكرة،‭ ‬لأعرف‭.. ‬وهو‭ ‬يعصر‭ ‬العصفور‭ ‬الصغير‭ ‬المندسَّ‭ ‬بين‭ ‬أصابعه‭..‬

قال‭:‬

‭ ‬•‭ ‬سنفعلها‭ ‬اليوم‭.‬

فقلت‭:‬

‭ ‬•‭ ‬هيا‭.‬

وذهبنا‭..‬

كان‭ ‬خيط‭ ‬من‭ ‬السائل‭ ‬الحارّ‭ ‬ينسكب‭ ‬على‭ ‬سفوح‭ ‬الرخام‭. ‬يشخب،‭ ‬فيصدر‭ ‬هسيساً‭ ‬عالياً‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬الصمت‭ ‬الذي‭ ‬يرين‭ ‬على‭ ‬الأرجاء‮…‬‭ ‬للحظة‭ ‬خلتُ‭ ‬أن‭ ‬المخيم‭ ‬كلَّه‭ ‬سيسمع‭ ‬هذا‭ ‬الصوت،‭ ‬فيهبّ‭ ‬الراكنون‭ ‬من‭ ‬بيوتهم‭ ‬الواطئة،‭ ‬يخترقون‭ ‬زواريبهم‭ ‬الضيقة،‭ ‬وأحوالهم‭ ‬الأكثر‭ ‬ضيقاً،‭ ‬ويأتون‭ ‬إلينا‭ ‬بفؤوسهم‭ ‬ومناجلهم‭ ‬ومذاريهم‭..‬

‭ ‬•‭ ‬أيُّ‭ ‬فؤوس‭ ‬ومناجل‭ ‬ومذار‭.. ‬أيها‭ ‬الأحمق‭.. ‬لقد‭ ‬ضاعت‭ ‬منهم‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬ضاعت‭ ‬البلاد‭.. ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬طووا‭ ‬طريق‭ ‬اللجوء‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬هنا‭..‬

‭ ‬•‭ ‬حسناً‭ ‬سيأتون‭ ‬شاهرين‭ ‬بطاقاتهم‭.. ‬بطاقة‭ ‬الإعاشة‭.. ‬بطاقة‭ ‬المطعم‭.. ‬بطاقة‭ ‬المستوصف‭.. ‬والهويّات‭ ‬التنظيمية‭ ‬الملّونة‭ ‬التي‭ ‬أبدعت‭ ‬الفصائل‭ ‬في‭ ‬استصدارها‭ ‬لنفسها،‭ ‬وتوزيعها‭ ‬على‭ ‬المسترزقين‭ ‬الفارغين،‭ ‬أو‭ ‬المتفرّغين‭.. ‬كل‭ ‬البطاقات‭ ‬والهويات،‭ ‬سيشهرونها،‭ ‬إلا‭ ‬الهوية‭ ‬الفلسطينية‭..‬

ربما،‭ ‬سيلتفُّ‭ ‬ناس‭ ‬المخيم‭ ‬حولنا،‭ ‬ويصرخون‭:‬

‭ ‬•‭ ‬ماذا‭ ‬تفعلان؟

سيطيّر‭ ‬الصبي‭ ‬الأرعن‭ ‬العصفور‭ ‬من‭ ‬قبضته،‭ ‬ويتركه‭ ‬يندسّ‭ ‬في‭ ‬عشّه،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬ينزّ‭ ‬آخر‭ ‬قطراته‮…‬‭ ‬وتقف‭ ‬أنت‭ ‬تهزّ‭ ‬ساقيك‭ ‬تتباعدان،‭ ‬كأنهما‭ ‬تفرّان‭ ‬من‭ ‬بلل‭ ‬السائل‭ ‬الحارّ‭ ‬في‭ ‬بنطالك‭..‬

‭ ‬•‭ ‬عليه‭.. ‬لا‭ ‬عليك‭.. ‬أهذا‭ ‬ما‭ ‬أردتَ؟‭.. ‬فلماذا‭ ‬تنزُّ‭ ‬عرقاً‭ ‬بارداً؟‭.. ‬ألم‭ ‬ترد‭ ‬ذلك؟‭.. ‬فلماذا‭ ‬تخاف؟‭.. ‬وممّ؟

‭*‬‭ ‬أخاف‭.. ‬أخاف‭ ‬أن‭ ‬ينهض‭ ‬الموتى‭ ‬من‭ ‬أجداثهم‭ ‬زاعقين،‭ ‬لأننا‭ ‬نعكّر‭ ‬صفو‭ ‬هدوئهم‭ ‬الأبدي‭..‬

‭ ‬•‭ ‬ولكن‭.. ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬ينهضوا‭ ‬يوم‭ ‬اندسّ‭ ‬هذا‭ ‬بينهم؟

‭*‬‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭.. ‬ولكنهم‭.. ‬هل‭ ‬تظنّ‭ ‬أنهم‭ ‬عرفوا‭ ‬بوصوله؟

•‭ ‬ومتى‭ ‬كان‭ ‬هذا،‭ ‬أيها‭ ‬الأبله،‭ ‬يحضر‭ ‬في‭ ‬أيّ‭ ‬مكان‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يثير‭ ‬قرفه؟‭.. ‬الطبل‭ ‬والزمر‭ ‬والمرافقة‭ ‬المدجَّجون‭ ‬بدفع‭ ‬الناس‭ ‬ذات‭ ‬اليمين‭ ‬وذات‭ ‬اليسار‭.. ‬الاستعراض‭ ‬العسكري‭ ‬كجندي‭ ‬عاد‭ ‬من‭ ‬الحرب‭ ‬منتصراً‭..‬

‭*‬‭ ‬قُلْ‭.. ‬كقائد‭.. ‬أيها‭ ‬الأحمق‭..‬

‭ ‬•‭ ‬نعم‭.. ‬كقائد‭ ‬لم‭ ‬تزده‭ ‬الهزائم‭ ‬إلا‭ ‬نعيماً‭ ‬فوق‭ ‬نعيم‭..‬

‭*‬‭ ‬دعك‭ ‬من‭ ‬هذا‭.. ‬فما‭ ‬هي‭ ‬إلا‭ ‬هذيانات‭ ‬لاجئ‭..‬

‭ ‬•‭ ‬لاجئ‭!.. ‬أرأيت؟‭.. ‬بعد‭ ‬مئة‭ ‬ألف‭ ‬شهيد‭.. ‬أنا‭ ‬لاجئ‭!.. ‬رغم‭ ‬خمسين‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬الثورة‭.. ‬ما‭ ‬زلت‭ ‬لاجئاً‭.. ‬كنتُ‭ ‬كلما‭ ‬سقطتُ‭ ‬شهيداً،‭ ‬يحتفل‭ ‬هو‭ ‬بدمي،‭ ‬ويقول‭: ‬اقتربنا‭.. ‬لم‭ ‬أعرف‭ ‬أنه‭ ‬يقترب،‭ ‬ونحن‭ ‬نبتعد‭.. ‬خمسون‭ ‬عاماً‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يحول‭ ‬ولا‭ ‬يزول،‭ ‬وكنتُ‭ ‬أنا‭ ‬أسقط‭ ‬شهيداً‭ ‬في‭ ‬ثوب‭ ‬قتيل،‭ ‬وأتهدَّم‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬جدار،‭ ‬وأهوي‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬سقف‭.. ‬أنخلع‭ ‬مع‭ ‬جذر‭ ‬كل‭ ‬شجرة‭.. ‬كنتُ‭ ‬أتعثر‭ ‬بأشلائي،‭ ‬وأسقط‭.. ‬وهو‭ ‬يعلو‭!.. ‬كنتُ‭ ‬أزدادُ‭ ‬شهداء‭ ‬وجرحى‭ ‬ومعتقلين،‭ ‬وأهوي‭.. ‬وهو‭ ‬يعلو‭.. ‬باعني‭ ‬بدمي،‭ ‬واشترى‭.. ‬وما‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬بيعه‭ ‬منّي،‭ ‬سرقه‭.. ‬أنا‭ ‬ما‭ ‬زلتُ‭ ‬لاجئاً‭ ‬أغطسُ‭ ‬في‭ ‬قاع‭ ‬المخيم،‭ ‬في‭ ‬ذلّه‭ ‬وفقره،‭ ‬قهره‭ ‬ودماره‭.. ‬وهو‭ ‬يعلو‭.. ‬اللعنة‭ ‬حتى‭ ‬تحت‭ ‬هذا‭ ‬الرخام‭ ‬يعلو‭.. ‬فأيَّ‭ ‬جدوى‭.. ‬أيُّ‭ ‬جدوى؟‭..‬

‭ ‬•‭ ‬افعلها‭ ‬مثلي‭ ‬إذن‭.. ‬خلّصنا‭..‬

‭*‬‭ ‬الدنيا‭ ‬كلها‭ ‬لا‭ ‬تكفي،‭ ‬لو‭ ‬فعلتها‮…‬

‭ ‬•‭ ‬اصمت‭ ‬إذن‭.. ‬ودعني‭ ‬أفعلها‭.. ‬طالما‭ ‬أنت‭ ‬غير‭ ‬قادر‭ ‬مثلي‭ ‬على‭ ‬ذلك‭..‬

عندما‭ ‬رفع‭ ‬سحاب‭ ‬البنطال‭ ‬إلى‭ ‬أعلى‭ ‬مداه،‭ ‬وأرتجه،‭ ‬كان‭ ‬العرق‭ ‬البارد‭ ‬يتصبَّب‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬مسام‭ ‬في‭ ‬جسدي‭..‬

نظرتُ‭ ‬إليه،‭ ‬خلل‭ ‬الظلمة‭ ‬الغاطسان‭ ‬فيها‭ ‬كلانا،‭ ‬فرأيته‭ ‬مثلي‭ ‬تماماً‭.. ‬له‭ ‬قامتي،‭ ‬وكتفاي‭ ‬المنهدمان،‭ ‬وصوتي،‭ ‬ووقفتي‭.. ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬الظلام‭ ‬كان‭ ‬حينها‭ ‬يخفي‭ ‬فيه‭ ‬ملامحي‭ ‬ذاتها،‭ ‬الوجه‭ ‬والعينين‭ ‬والشفتين‭ ‬واليدين،‭ ‬وبقايا‭ ‬الشعر‭ ‬الأجعد،‭ ‬وعصفوري‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬معصوراً‭ ‬في‭ ‬قبضته‭..‬

فقط‭.. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬له‭ ‬ارتجافي‭ ‬وخوفي‭ ‬وتلعثمي‭..‬

لعله‭ ‬كان‭ ‬أنا‭..‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.