في انتظار سردية نسوية عربية

الخميس 2016/09/01
لوحة: ميسا محمد

من الثابت أنّ الانشغال بالكتابة ذات الطابع الفلسفي في الفضاء الغربي قد أصبح تقليدا راسخا، وله من الامتداد التاريخي ما له، بدأ مثلا مع الفليسوفة هيباتا واسبازيا “فيلسوفة الخطابة المالطية”، وصولا إلى الفيلسوفة الفرنسية رفيقة درب جون بول سارتر، سيمون دو يوفوار، ووقوفا عند سيمون فايل وجوليا كريستيفا، ولم تكن الكتابة الفلسفية النسوية بعيدة عن المسعى النضالي للمرأة في الغرب بغية تحقيق منجزات على مستوى الحقوق المدنية، أي أنّ النضال النسوي تقاطع مع الكتابة الفلسفية التي أخذت على عاتقها فتح وغزو الإشكالات الفلسفية، التي ما زالت لحدّ الساعة تتمركز على محور الفالوسونتريزم، حسب التعيير الرشيق لجاك دريدا، وهذا لا يعني أنّ المرأة استسلمت لهذا التقليد الذكوري، وإنّما على العكس من ذلك نهضت من مقعدها واضطلعت بمهمتها التاريخية في الحديث عن نفسها فلسفيا، وبعد أن حققت هذا الإنجاز في الفن والرواية والسينما.

بمجرد العودة إلى الفضاء العربي، الحديث والمعاصر، نجد مفهوم النسوية قد ارتبط بفكرة النضال من أجل الدفع بالرجل إلى الإنصات لصوت الأنثى، ومعرفة حاجياتها النفسية والجسدية والاجتماعية والسياسية، واستمر النضال حتى بدأ الفضاء ينفتح على المرأة ويدرك مع مرور الرياح الغربية أنّ المرأة كائن قائم بذاته. وتحت إكراهات الحداثة الآتية من الشمال، والمقتضيات التي ظهرت إلى الوجود مع هيمنة المشاريع التحديثية العربية، مثل المشروع الناصري والبعثي والبورقيبي، أينعت بعض الأسماء العربية في مجال البحث الفلسفي العربي الأكاديمي، مثل: نوال السعداوي، أميرة حلمي مطر، رجاء بن سلامة، فاطمة المرنيسي، أم الزين بنشيخة المسكيني، أمال قرامي، إقبال الغربي، وخديجة العزيزي.

رغم هذه المنجزات الأكاديمية المهمة والقمينة بإحداث نقلة خطيرة في أفق البحث الأكاديمي، وهي ضرورة من أجل كسب مناطق داخل الفضاء الجامعي، لكنّها تمثّل في نظرنا نصف المسعى، وهي بذلك ملزمة بتجاوز وتخطّي أسوار الجامعة، والانخراط في مسعى الكتابة في صورتها العامة، والتأليف الفلسفي في معناه المخصوص، حيث يمكن أن نجد كاتبات وضعن أقلامهن تحت إمرة الفلسفة، وطفقن يشتغلن بالقضايا التي كانت إلى زمن قريب حكرا على الرجل، واقعا ومخيالا، إذ نلتقي رأسا بأعمال رجاء بن سلامة، فاطمة المرنيسي، أم الزين بنشيخة المسكينى، لكن يمكن تقديم الملاحظات التالية:

لقد انخرطت الدراسات الأكاديمية النسوية بصورة سافرة في الأسئلة التي شغلت الرجل المتفلسف، وهو انخراط غير واعٍ في الكثير من الأحيان، إذ هي التزمت على المدى البعيد في مسعى فكري عالج قضايا ذكورية على مستوى البنية العميقة للفكر العربي، مثل النهضة، المعاصرة، الحداثة، مقاومة الاستعمار، ومقارعة الجهل ومحاربته، لكنّ الأسئلة التي تماهت مع المجال الأنثوي مثل الجسد ومشتقاته المعرفية، لم تكن من مشمولات الدراسات النسوية فبقيت ملتزمة بالخط الذكوري للتفكر الفلسفي.

• لم تنقل هذه الدراسات ترسانتها المفاهيمية إلى مجال الأسئلة ذات الطابع النسوي الخالص التي ترتبط بمفهوم الجسد، حيث كانت هذه الانشغالات تعالج استنادا إلى رؤية ذكورية متعالية، تطرحها من زاوية مركزية الكوجيطو المكسور الذي يتحدث بمفردات وهموم الرجل السيّد المتحكم في آفاق التفكر الاجتماعي. ومنه لم تستطع المرأة أن تتحدث بصوتها المخصوص الحامل لإرث تاريخي مشبع برؤية دونية.

إنّ دونية المرأة في مجتمعنا الذكوري هي جزء لا يتجزأ من نظام ثقافي عام وشامل، بحيث تعتبر المرأة فيه كائنا يخضع لمنظورية متخلّفة تمجّد الكسل، والطاعة العمياء، والتفاهة، والثرثرة، والجهل، والأمية بكلّ صورها، ولا يمكن أن نفهم أنّ الرجل أحسن منها، وفي موقع أفضل سياسيا واجتماعيا، وإنمّا الأمر متعلق بمساحات الحرية القليلة المتوافرة للرجل، وهي فرصة سمحت له بالتواجد في الفضاء الثقافي العام.

ومن صلب هذا التمشي، نستطيع أن نبتعد عن الأحاديث التي سعت جاهدة إلى تكريس ثنائية مزيّفة بين الرجل والمرأة، وهي ثنائية تنضاف إلى الثنائيات الصدامية الأخرى التي غرق فيها الفكر العربي طويلا، وصرف فيها جهدا كبيرا، وخسر فيها معركته الحداثية الكبرى، مثل الحداثة والمعاصرة، الثابت والمتحول، الشرق الغرب، وهي كلّها ثنائيات أرهقت الفكر العربي واستنزفت قواه الحقيقية، وبالتالي فإنّ هذه الرؤية المانوية هي التي جنت على الرجل العربي الذي تناسى تلك العلاقة الأنطولوجية مع المرأة. فبعيدا عن تثمين حقيقي لهذه العلاقة نلج مباشرة حقل الصراع القاتل والعدمي في منتهاه.

-عندما ندشن مرحلة الإدراك بأنّ المهمة هي معركة واحدة، وليست هذه المعركة مقصورة على المرأة فقط، بحسبانها الرقم الضعيف والهشّ في مجتمع هو بدوره يشهد سقوطا مخيفا نحو الهاوية، وانطلاقا من متن هذا الوعي غير الشقي، نتوجه صوب السؤال الحارق الحقيقي وهو: كيف نرتقي بالبحث الفلسفي الذي باشرته المرأة العربية إلى مرتبة الانشغال بالقضايا التي أرّقتها في وضع الصمت المفروض عليها منذ زمن تليد؟ ومن بين الأسئلة التي أضحت مقلقة في زمننا الراهن، أسئلة المساواة، الحرية الفردية، الحقوق السياسية، الفهوم الجديدة للجسد، الحق في صياغة الوجود من منظور المرأة المسؤولة، الانفتاح على الحداثة الاجتماعية، تكريس المعنى الأنثوي في فضاء المدرسة، إعادة النظر في سينما جديدة تكون فيها المرأة قادرة على تشكيل مجتمع يحوز على خطاب يؤمن بالتعدد والتنوع.. وغيرها من المسائل التي هي جديرة بأن تكون فرصة سعيدة لإنشاء وإبداع سردية جديدة خاصة بالمرأة في دول ومجتمعات جنوب الحداثة.

• إن التفكّر النسوي في هذا الزمن الراهن، وبالرغم من الصعوبات التي يواجهها الفكر العربي، خاصة في شقه النسوي، هو عصر فلسفي بامتياز، لأنّه يطرح قضايا ونوازل سكنت هذا الفضاء وتلحّ علينا بمقاربتها والتعايش معها والانخراط في مسارها، مثل أسئلة التغيير، الدولة القادمة، الحقوق المستجدة، المدرسة ذات الفضاء المدني، الجسد وحركية السوق المرعبة، العولمة وفق الصبغة الأميركية، الرؤى البيولوجية، التمرد على النظام الأبوي.

ومن وحي هذا المنظور، نسعى في مقالنا إلى خلخلة الوعي الثنائي الزائف، والذهاب رأساً جهة النبش في أخاديد الرؤية الاجتماعية التي ما زالت متمسكة برؤية متعالية للنزعة الذكورية الواهية، وفي المسائل التي تطرق بابنا بكل إلحاح وحنق على هذا الزمن.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.