نهاري الأول في المدرسة

الخميس 2016/09/01
لوحة:عمر فهد

نهاري الأوّل بالمدرسة لم يدم أكثر من نصف ساعة، طُردت إثره بغير رجعة.

مدرسة ريفيّة مُشرَعة للرّيح والمطر، للحرّ والقرّ اللذين يسِمان مناخ الجهة كلّها. مدرسة تُعرف باسم محطة أرتال صغيرة على الخط الرّابط بين تونس العاصمة والحدود الجزائرية، «ڤار موتيل» تحاذي في آنٍ السّكّة الحديد والطريق المعبدّة التي تعبرها السيّارات والشّاحنات، كتلك التي كان يعمل عليها أبي، بين موسمي الزرع والحصاد، لكرهه القعود بأرض لا يعرف أهلها غير زراعة الحبوب.

لا أذكر في أيّ شهر من العام الدّراسيّ جاء بي والدي إليها، رفقة أخيه غير الشّقيق، وكان شكّاء بكّاءً منذ صغره، ليسلّمنا معا إلى معلّمة فرنسيّة ناحلة ممتقعة سريعة الانفعال. استقبلتنا بابتسامة وانية وبيدها مسطرة، فزع لرؤيتها عمّي فانخرط في النشيج. وبعد أن ودّعت والدي، أجلستنا جنبا إلى جنب في مقعد بعمق الفصل، ومضت تواصل درسها. ولكن بكاء عمّي أزعجها، فعادت تهدّئ روعه، وإذا بكاؤه يحتدّ ويتحوّل إلى عويل اختلط فيه مخاطه بدموعه، وكلّما عادت لتهدئته، والمسطرة لا تفارق يدها، كان يزيد من صراخه ويرفع يديه أمام وجهه كمن يتّقي خطرا داهما، مردّدا بصوت عال «يا دادة الحنّانة، تَتاتُلْني!» (يا أمّي الحنون، إنها ستأكلني!) وكأنّه أمام غولة غادرت لتوّها خرافات كان الكبار يخيفوننا بها كي تفترسه. وكنت أبكي لبكائه، في صمت، لا أدري هل كان ذلك تضامنا معه، أم لإحساس غامض بأنه يُدرك ما لا أدرك، وهو الذي يكبرني بعامين، أم هي عدوى نقلت لي ذعره فانحدرت على خدّي دموع غلاظ لم أستطع أن أمنعها. وعيل صبرُ المعلّمة فطردتنا معا.

فأمّا عمّي فقد استعاد طمأنينته حينما وجد أبناء العشيرة وقتَ الاستراحة يلهون ويمرحون أو يفيئون إلى ظل شجرة كالبتوس. وأما أنا فقد ألفيت نفسي، ولم أتمم بعد عامي الخامس، مطرودا من مدرسة لم يُتح لي من الوقت ما يلزم حتى لتسجيل اسمي على دفاترها.

في السّاحة، قال لي ابن عمّتي «لا تريد أن تتعلّم، سترى حسابك اليوم»، وجرى يستوقف شاحنة خاله التي تروح وتجيء بين القرى والدساكر ليخبره. لم يفه أبي بكلمة في حضور مساعده. اكتفى بإرجاعنا إلى دوّارنا الذي يبعد عن المدرسة مقدار ميل، وفي عينيه نظرة غامضة، فيها غضب، وفيها مرارة، وقد كشف ابنه البكر، الذي طالما انتظره، عن فشله منذ اليوم الأول، لا بل منذ الدقائق الأولى.

حينما عاد، لم يرطب وجهه وأطرافه بالماء مثلما اعتاد، بل بادر بسحب حزامه الجلد المتين، وانهال عليّ يجلدني جلدا هرعت على إثره أمي تستصرخ والدتها لتقيني ذلك الأب الهائج. جعلت جدتي تحوش عنّي ضرباته بيديها النّاحلتين متحدّية بأسه، وكان صلبا متين الأساس قويّ البنية مديد القامة، وهي تصرخ في وجهه:

- ماذا دهاك؟ هذا متاع ضرب!

ردّ عليها وهو يكزّ أسنانه من الحنق:

- ابن الكلب يرفض أن يتعلّم! يريد أن يصير خمّاسا أو راعي بقر!

وأقبلت عليّ تكفكف دمعي، وأبي لا يهدأ حتى قالت له:

- إن كان هذا كل ما في الأمر، فسآخذه معي، وأتولى تربيته وتعليمه.

وكان أبي في حال من الغضب ملكت عليه تفكيره، فما لبث أن قال، وسبابته مصوّبة كالأمر القاطع الذي لا يرتجى بعده ارتداد:

- خذيه! لا حاجة لي به!

ولم يكن لأمي المسكينة من حول إلا أن تغصّ بدموعها وتَشرق، دونما كلمة، مخافة ذلك الزوج الذي لا يقبل جدلا ولا اعتراضا.

والشمس تميل إلى المغيب، أركبني بغلة، فمضت بي جنوبًا رفقة جدّتي، عبر بساتين تحيط بها طوابي التين الشوكي ومزارع يتموج فيها الزرع البارض، فقطعنا وادي ملاق، وصعدنا هضبة دوّار شارن حيث مسكن جدتي. ونمت ليلتها على هدهدة صوتها الشجيّ، وهي التي تشّنف أهازيجُها الأسماع في أعراسنا. وما كاد النّهار يطلع حتى أطعمتني كسرة خبز وقطعة سكّر وسقتني كوبا من اللبن، ثم قادتني عبر مسالك وعرة إلى كتّاب سي بوجمعة المؤدّب، في دوّار مجاور بأعلى الهضبة.

- هذا ولد بنتي. أمانة في رقبتك.

هناك أظهرت من التفوق ما جعل المؤدب يثني على نباهتي لدى جدّتي، فتنقله بتباهٍ إلى كل من حولها، حتى تناهت إلى مسمع أبي، فأبلغ من يقول لها «احتفظي به. ما دام الله قد فتح صدره على يديك».

في ذلك الكتّاب الضّيق، المبني كأغلب بيوت الجهة وقتها بالطوب المجفّف تحت الشمس، تعلّمت في بضعة أيام حروف الهجاء بحركاتها، وبري قلمي القصب، ومحو لوحتي بالطّفَل، والكتابة عليها بالصّمغ، وبدأت أدوّن ما يمليه عليّ المؤدّب من سور قصار، وأحفظها عن ظهر قلب بسرعة فائقة، بل إني كنت أحفظ السّور التي لم يُملِها عليّ بعد، من خلال الاستماع إلى استظهار مَن هم أكبر مني سنّا إيّاها. وصار أبي يلقاني خلال زياراتنا إلى دوارنا، أنا وجدتي، بوجه باسم، ويغدق على المؤدب بواسع كرمه، ولا سيما منذ أن بدأت أعود إليه باللوحة «مختومة»، كدليل على حفظي ربعًا ثم حزبًا ثم جزءًا من كتاب الله.

وفي إحدى الزيارات، كافأني بمصحف صغير مكتوب بالخط المغربي، وكان يجد متعة في الاستماع إليّ وأنا أقرأ آيات من الذكر الحكيم لا يفهم منها إلا أن ابنه، رغم طراوة عوده، أضحى ممن حازوا في صدروهم نصيبا من «العلم». وصادف أن رزئ بمقتل أخٍ غير شقيق آخر (يكبر الأول بعامين أو ثلاثة)، في حادث مرور، فأقبلت العشيرة من كل صوب لحضور الجنازة. وفي ليلة المأتم، حملني بين ذراعيه القويتين وأجلسني بين رجال غرباء. ليلتَها، والجو بارد، والقمر غارب، ورياح تصفّر في الخلاء بلا انقطاع، ألفيت نفسي جنب شيوخ مقرئين، ببرانيس رثة، وعمائم خَلِقة، ووجوه كالحة، لأرتل معهم ما تيسر من كتاب الله، وكنت ألمح في عيني أبي وعلى قسمات وجهه علامات فرح لا تخفى، إذ رأى ابنه وسط المؤدبين مرتّلا بغير تعثر، تكاد تنسيه حزنه على فقد أخيه.

في تلك الأثناء، ازددت تعلقا بجدتي، ونسيت ما يصلني ببيتنا، الذي كنت أزوره كالضيف. حتى صورة أمي لم تصمد أمام صورة جدتي. لذلك، أحسست بتمزق أفظع من الأول، حينما نُقلت، لأسباب لا أعلمها إلى كتّاب قرب دوارنا. لم يكن الوصول إليه صعبا لوجوده على أرض منبسطة حيث السهول المترامية التي كان المعمّرون الفرنسيون يغنمون خيراتها. وخلافا لكتّاب سي بوجمعة، كان أوسع مساحة وأمسك بنيانا، وأجدّ حصرا. حتى المؤدب القائم عليه، سي الطيّب، أحسن هيئة وأرقّ صوتا، ولكني بقيت أشهرا أعيش على ذكرى كتّابي الأول، أتطلع إلى قدوم جدّتي بنفاد صبر لعلّها تُعيدني إليه، حتى كان يومٌ حضر فيه إلى الكتّاب رجل في مقتبل العمر، يعمل مدرّسًا في إحدى المدن، فلما رأى المستوى الذي بلغته، ولم أنهِ عامي السابع، سأل أبي:

- الولد ذكي. لم لا يتعلّم؟

- هو ذا يتعلّم، ردّ أبي باستغراب.

- لا، لا، قال المدرّس. أقصد التعليم العصري. تعليم المدارس. ذلك مستقبله، أما هنا فلن يتعلم غير حفظ القرآن.

ودلّه إلى إحدى مدارس المدينة، وكان الموسم الدراسي قد بدأ.

وفي صبيحة يوم مشرق، لبست أبهى حلة، وقصدت مع أبي إلى مدرسة بسوق الأربعاء (جندوبة منذ أواسط الستينات) لا يدعوها الناس إلا منسوبة إلى مديرها، «مدرسة سي مصباح». رفيع العود، غائر الخدين، هادئ في حركاته ونبرات صوته، ذكرتني جبته وعمامته بأحد أخوال أمي فارتحت إليه. قال له أبي إن صدري عامر بكلام الله، وشدّد على كوني أقرأ القرآن في المآتم مع المقرئين. وما زلت أذكر علائم الزهوّ التي شملته، وهو يرى سي مصباح يخرج كتب القراءة المخصصة لتلاميذ الصف الأول، ثم كُتبَ الصف الثاني فالصف الثالث، وأنا ألتهم الصفحات تباعا لا أتلعثم ولا أتهجّى، قبل أن يلتفت إلى أبي يسأله هل تعلمتُ الفرنسية. قال أبي كالمعتذر:

- كان في الكتّاب.

وسجّلني سي مصباح في الصفّ الثاني مباشرة، فكافأني أبي بدراجة حمراء صغيرة جاءني بها من بنزرت، حيث لا يزال المعمرون الفرنسيون يقيمون، رغم إعلان الاستقلال. دراجة صرت أقطع عليها المسافة بين دوّارنا والمدرسة جيئة وذهابا كامل فصول العام، وظلت حديث الناس في الجهة سنين.

ولكن بقائي في هذه المدرسة لم يدم هو أيضا، إذ شاءت سياسة النخبة الحاكمة التي جاء بها الاستقلال أن تركز عنايتها على الجهات التي تنتسب إليها، فعمّت البطالة وأهمِلت الفلاحة، ولم تمض سنة أو تزيد حتى باع أبي بيته وأرضه ومواشيه، ورحل إلى العاصمة مع أمي وأخي وأخوات ثلاث، أما أنا فاضطررت للبقاء عند عمّي الأكبر، فعشت القطيعة مرة أخرى، حتى نهاية السنة الدراسية في أواخر يونيو 1958.

في العاصمة، لم يكن وضعنا أحسن حالا، فاضطررت عند اشتداد عودي إلى الرحيل إلى ليبيا لأؤمن عيشة أبويّ وإخوتي وأخواتي، بعد أن تكشفت سياسة «باني تونس الحديثة» ووعوده بـ»فرحة الحياة» عن واقع مرّ ما عاد أهلي يجدون فيه ما يطعمون، ثم هجرت تونس نهائيا عام 1988 بعد وصول «صانع التحول» الذي كمّم الأفواه ورهن مقدرات البلاد للأسرة الحاكمة. وكأن الارتحال قدري.

والآن، بعد أكثر من ربع قرن في الغربة لم أعرف خلاله الاستقرار، أرتدّ إلى نهاري الأول بالمدرسة الذي انطبع في ذاكرتي كوشم لا يمّحي، أستعيد خطيئة البدء، وأتساءل هل كتبت عليّ الارتحال.نسبة إلى معركة انتصر فيها القائد النوميدي يوغرطة على الجيوش الرومانية سنة 109 قبل الميلاد. عرفت فيما بعد أن اسمه الكامل مصباح الإينوبلي (1911-2004) وأنه هو الذي أسس هذه المدرسة عام 1939، وكان منارة في الجهة بوصفه مربيا ونقابيا ومناضلا ضد الاستعمار الفرنسي.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.