المغنية العمياء توقظ شجر الشعر

الخميس 2016/09/01
لوحة: علي علي

كان عمري حينذاك تسع سنوات عندما أخذتني والدتي إلى عرس زواج أقامته عائلة مجاورة لبيتنا في قرية إظريقن المحاذية لنهر الصومام بمحافظة بجاية الأمازيغية. في ذلك العرس رأيت نساء كثيرات من مختلف الأعمار، وذكورا قرويين لابسين البرانس كعادة الأمازيغ القدامى والمحدثين. حينما أقبل الليل وخيّم الظلام أضيئت مصابيح وعبئت بزيت الزيتون ثم تجمعت النساء الأمازيغيات في باحة المنزل الذي أقيم فيه العرس وشرعن في الرقص جماعات ووحدانا في صفوف قسمت هندسيا بشكل جميل. كان إيقاع البندير الذي كانت تقرعه مغنية عمياء برشاقة يستفز الأجساد ويحرك أشرعة الروح.

كانت تلك المغنية الشعبية تدعى «لالاّ مسعذ نثحمي» وكان غناؤها أشبه برفيف أجنحة الطير المهاجرة في الفضاء اللانهائي. كانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها النساء يرقصن بمثل هذه الرهافة ويطلقن خصلات شعرهن في الهواء. وتحت شجرة زيتون ضخمة محاذية لذلك المنزل، والتي كان السكان يسمونها «البركة»، رأيت الرجال يرقصون ويرفعون عصيهم في الهواء أيضا، وأحيانا يلقون بها على الأرض في صفوف متوازية ثم يواصلون الدفع بأجسادهم في كل الجهات بخفة.

فجأة رأينا عساكر فرنسيين قد أقبلوا وبسرعة قاموا بمحاصرة العرس من كل جهة، ومن ثم تقدموا إلى وسط المنزل وبنادقهم مشرعة، وأخذوا يعتقلون من أرادوا اعتقاله من الرجال. في هذا الجوَ الذي شق قلبي بالرعب واصلت «لالاّ مسعذ» الغناء وقرع البندير بوتيرة أعلى من ذي قبل واستمرت النسوة في الرقص بدون توقف.

سمعت والدتي تقول بلكنتها الأمازيغية الريفية لامرأة لم أر وجهها من قبل وهي تردد غناء لالاّ مسعذ «يا نساء قريتنا واصلن وسنغلب هؤلاء العساكر بالغناء والرقص». خلال مدَة من الزمان سمعنا طلقات الرصاص في الجهة التي أخذوا إليها بعض رجال القرية ولم يمض إلا وقت قصير حتى علمنا من طرف نظرائهم الذين أطلق سراحهم أن الجيش الفرنسي قتل عددا من أولئك الرجال وتركوا جثثهم ملقاة على الأرض ثم عادوا من حيث جاؤوا.

في تلك اللحظات سألت والدتي «لماذا قتل الفرنسيون هؤلاء الأبرياء في عز يوم أفراح العرس؟ وهل فعلوا هذا لأنهم يكرهون الرقص والغناء؟ أسئلة كثيرة طرحتها مرارا، ولكن والدتي اكتفت بذرف الدموع وإجابة سريعة دون أن تتوقف عن الغناء مع النساء ومع «لالاّ مسعذ نثحمي». في ذلك الوقت لم أكن أستوعب مغزى إجابة والدتي حين قالت لي «هم يكرهون فرحنا بغنائنا ورقصنا»، ولكن بعد ما كبرت أدركت أن المستعمر كان يعامل الشعر والموسيقى كأحد أسلحة مقاومة الموت، والاحتلال، ومختلف أشكال الاضطهاد، وأدركت أيضا أن المستعمر يريد أن يمحو كل شيء يدعى بالتاريخ والذاكرة بواسطة إراقة الدماء. لقد حفرت هذه الحادثة أخاديد كثيرة في وجداني ولم أستطع أن أنسى كيف حوّل ذلك العرس ورقص القرويات البريئات وغناء «لالاّ مسعذ» إلى مأساة. وبعد سنين طويلة على مرور ذكرى ذلك الحدث الأليم كتبت هذه القصيدة التي تستعيد تلك اللحظات الصعبة ورعبها العنيف:

فرس الجبال تحبَنا.

كانوا الحجارة في الحذاء، وصبرنا.

انفجرت أغاني الناي باكية،

وهبَت رغوة الحزن الشرس.

هذه جراحي، كانت الشمس

امرأة فقدت أصابعها.

أتذكر غضبة القمر،

وسقوط أجفان الطفولة واحتراق الظل والشجر البريء؟

الجرح موسم حقلنا.

الليل سلَمنا.

أتذكر كيف كتَفوا أباك وجرّه العساكر؟

حدق بعيداً،

الليل يعتقل المكان.

الآن يبتدئ الرحيل

من حزننا عاد القتيل

في صمتنا ولد النخيل

من جرحنا بدأ السبيل

يا صيحة الشهداء كوني

قامة الوطن النحيل.

ليس الشهيد ذبول صوت

ليس الشهيد ضمور وقت

رؤياه تختطف الحواس

وتبيد أزمنة النوى.

وجه الشهيد

عشق الرحيل

نحو الجميل

فرمى الوسام،

غنّى على جسد التراب

آنذاك انفتح التجلي فرأى المحال.

في حضرة العشاق يفتح كوّة الأسرار

ويصيح في الحجر الرميم يصير ضرعا

ويصيح في جبل الجراح يصير زرعاً.

لا شك أن بصمات ذلك العرس، وذلك الحدث الدموي الذي عكَره بقيت تؤثر عميقا في مسار حياتي الأدبية. في ذلك العرس كانت «لالاّ مسعذ نثحمي» تصدح بصوتها الشجي فتتسرَب إلى قباب روح طفولتي تضاريس جبال «لالاّ خديجة» وتنفذ إلى عروق شجر الزيتون مياه نهر الصومام. عندما يسمو غناء «لالاّ مسعد نثحمي» وزغاريد الصبيات الجميلات كنّا نحس وكأن الجبال تلبس قفطان تلك الزغاريد، ونرى أرداف الراقصات المترنّحات تشتعل شهوة وتبدو العيون وكأنها تذرف لوعة العشق.

من حين إلى آخر يبرق صوت «لالاّ مسعذ نثحمي» المتهدج وينتشر في السموات ويعانق منحنيات الآفاق فتخطف حواسنا الخمس خصلات النساء السوداء والشقراء التي تتدلى مثل العناقيد لتلمس رحم الأرض ثمَ سرعان ما تدفعها أصابعهنَ الناعمة إلى الأعلى برشاقة فتتوزع بفعل دفع الريح في الفضاء ثمَ تتجمع معا وتشكل قبَة ملوَنة تجلس في راحتها سموات أخرى. في تلك اللحظات تتفتح الشفاه دفعة واحدة وتصدح معا فتلتقي الزغاريد مثل سرب طيور السنونو وحينها يرد الصدى أغنية «لالاّ مسعذ»:

«أيها الخصر البربري لتكن بلادك زهرة المشمش،

ولتسدل حزامك على نبع الغابة الرقراق!».

كانت «الريح» في أغاني «لالاّ مسعذ نثحمي» ومواويلها معادلا للثورة، وكان «الأسد» يرمز إلى الشجاعة، و»الحمام» يكنى به عن الحب العذري الشفاف، وطير الزرزور يحمل دلالات مكتشف القارات والمغامر في أصقاع المعمورة ويرمز أيضا إلى ذلك الرسول الذي يسعى إلى اللقاء بالعمال المغتربين في مهجرهم، وبالمسجونين في زنازينهم المسيَجة بالقيود، وبالمنفيين في منفاهم الذي يفصلهم عن أهلهم وذويهم ويمتد في ظلمات البحار القصية إلى أصقاع كيان وجزر أخرى عبر المحيطات. في أغاني «لالاّ مسعذ نثحمي» يرمز «الغصن المياد» إلى العاشق الذي لا ينحني حتى عندما يشتد به الهيام أو تلسعه حرقة الحبّ وتهبّ عليه عواصف الوجد من كل مكان.

هكذا كانت «لالاّ مسعذ نثحمي» تراثا غنائيا يسير على قدميه ويغني بلسان الطبيعة كلها. إنه على يدي هذه «المغنية» الشعبية الموهوبة تعلمت أن مهمة الشاعر من بين المهام الأخرى هي الإمساك بالعلاقة التي تصل بين الطبيعة والإنسان، وبين الشعر وفكرة التحول في التاريخ. لم تكن الطبيعة التي تكتنز بها أغاني «لالاّ مسعذ» مجرد مناظر غرائبية جامدة وإنما كانت تتكلم وتعاشر القرى الواقفة على التلال والمنحدرات، وصديقا أمينا للإنسان ومصدرا للأمل الذي لا حدود له. أذكر كيف كانت «لالاّ مسعذ نثحمي» تغني والنسيم يمرّر أصابعه الحريرية على الصبايا الجميلات وهنَ يشعلن الفضاء بتباريح الروح والشبق الأخضر، وأغصان الزيتونات الضخمة التي تسمى في اللغة الأمازيغية بـ»ثيزراجين» والتي اشتق منها لقبي «أزراج»، وأتذكر أيضا أن من عادات «لالا مسعذ» أن تنحني برأسها إلى بنديرها ثم تشمخ بصوتها عاليا:

«قمري أنت يا سيَدي المشرق على أعشاب الغابات،

حيث يضيء الحباحب دروب الأسود الصغيرة،

ورفرفة الحجل توقظ الينبوع من سباته القديم».

لقد قادتني هذه التجربة إلى فتح بوابات الثقافة والفنون الشعبية الوطنية على مصراعيها وتحوّلت مع النضج في السن إلى منهل أشرب منه وأستعيد بطريقتي الخاصة كنوزه الغنية في كتاباتي الشعرية، وصرت أفهم أيضا أن لا شاعر خارج تاريخه الشخصي، وتاريخ الثقافة التي تربّى عليها في طفولته، مثلما صححت الفكرة التقليدية التي ترى في الثقافة والفنون الشعبية عنصرا هامشيا في تاريخ الوجدان الوطني. إن انحيازي إلى ربط الشعر بالتاريخ الشخصي لا يعني أن الشعر هو مجرد سيرة ذاتية منفردة ومعزولة وعازلة، بل فإن الشخصي هنا يشمل كل العلاقات التي شكلت وتشكل هوية الإنسان.

بخصوص هذا قرأت الكثير من النظريات التي ثارت على الاتجاه الرومانسي ودعت إلى تجاوز الذاتية التي يفترض أصحابها أنها تحول دون رؤية الشاعر الصحيحة للتاريخ، ولكن أدركت أن مثل هذه الدعوة محفوفة بكثير من المخاطر أيضا وخاصة إذا طبّقناها حرفيا على الشعر العربي. لقد انتبهت أن الشاعر عندنا يصارع على عدة جبهات منها جبهة تأكيد الذات التي تسلبها القبيلة والعشيرة والنظام الأبوي. بناء على ذلك فإبراز الذات غير المغلقة على نفسها نرجسيا والتعامل معها كأنها آخر على حد تعبير الفيلسوف بول ريكور ضرورة يليق أن يدركها الشاعر عندنا.

لا شك أن تاريخ طفولتي طوال ليل الاحتلال الفرنسي مرتبط بما أكتبه من شعر يستعيد جزئيا وبطريقة غير مباشرة وبشكل يعدل من تركيبة ذلك الزخم الذي تكتنز به أغاني «لالاّ مسعذ نثحمي» وكذا الأغاني الشعبية الأخرى المرتبطة بحركة التحرر الوطني وتراجيديا الهجرة الداخلية والخارجية فضلا عن الشعر الأمازيغي الشعبي وخاصة شعر «سي محند» أو «محند».

ولقد أصبح واضحا لي أن تكرار بعض التجارب الشعر النمطية لدى الكثير من الشعراء في مشهد الشعر المكتوب باللغة العربية مغاربيا ومشرقيا هو نسبيا نتاج لعدم استعادة الشعراء لذاكراتهم الشخصية التي تميز هذا عن ذاك. إن المهم في كل هذا هو ليس تسجيل العلاقة مع الثقافة الشعبية كما هي بل الأهم هو إيجاد طريقة خاصة للدخول إلى فضاء الزمان بما هو تاريخ معدل تضاف إليه تجارب الحياة المعاصرة.
مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.