كشاف دائما

الخميس 2016/09/01
لوحة: علي علي

"الوقت طفل يلهو ويلعب الضامة. إنّ السيادة مِلْكٌ له".

هيرقليطس، الشذرة 52.

ربّما خرجتُ من طفولتي، لكن لم تتخلّ طفولتي عنّي.

الليلة أيضا، زارتني نفس الرؤيا. كأنّها عودة في الماضي، في أحد أمكنة طفولتي، في غابة الرمال، حيث خيّمتُ مع الكشافة خلال عطلة الصيف. كان عمري آنذاك إحدى عشرة سنة، لكنّي تعرّفتُ في حلمي على صوتي كما هو اليوم.

كانت السماء حالكة، دون نجوم، وفي حين كانت سحب شديدة السواد بالنسبة إلى الموسم تحجب وجه القمر، كان صوتي يمتزج بصخب عصبة الأطفال التي كنت أنتمي إليها. الغابة التي تحاذي البحر، كانت تدفع إلى عرضه جلب الموج، لكنّها لم تكن تتمكّن من إسكات أهازيجنا. كانت مشاعل منصوبة هنا وهناك تركّز الأضواء على نار المخيم الذي كنّا مجتمعين حوله. وكان أحد الكشافة الرواد يرعى نار المخيم؛ كان عاري الصدر؛ وكانت حركاته الحماسية التي يمكن نعتها بالديونيزية تبعث فينا الرعب والبهجة في الآن نفسه.

رعب أن أكون هنا، حلقة تابعة لسلسلة طويلة، حلقة ضمن أخرى أجهل عنها تقريبا كلّ شيء، مع ذلك الإحساس بالخوف، ذلك الخوف الذي شعرت به في أحشائي كلّما توجه إليّ واحد منهم بالكلام أو صوّب نظراته إليّ؛ بهجة أن أكون هنا بين أمثالي من الصبيان والبنات الذين صاروا بعد أسبوعين من التخييم المشترك أخواتي وإخوتي الحقيقيين، فلقد شكلنا لحمة بفضل هذه التجربة التي لن يكون بعدها أحد منّا نفس الشخص والتي لن يخرج أحد منها على حاله. الرعب والبهجة يمتزجان في هذه الليلة الأخيرة من المخيم الكشفي التي يضاف إليها الاحتفال بالنار المضاهي في قيمته تحية العلم، فالرعب والبهجة هنا الشعوران المتضادان المتمثلان في أننا لن نكون أبدا نفس الأشخاص وفي الآن ذاته أننا صرنا أشخاصا آخرين إلى الأبد.

وبانسجام، كانت قلوبنا تخفق وأيادينا تصفق وأفواهنا تغني «نشيد نار المخيم»، وهو نشيد الوداع الذي يعبّر عن الرعب والبهجة الكامنين فينا:

يا من في المُخيّم هلـمّوا حول هذه النّار

أحـــداثٌ وقُــدماء أسرعُوا في الخُطــى

لمجلس الأبرار

انتظم أيُّــها الحــارسُ وأشعل

نار الفــوارس ولتكُن وقّادا

الخيّــامُ في هُــدُوء والقــومُ اجتمعُــوا

النُّــورُ قــد تهــادى.

لا وجود لاقتطاع ممكن لهذا الماضي الذي أعيش في كل لحظة من هذا الحاضر الذي يتحوّل ذاته إلى ماض. كما لو أنّ كل شيء -الماضي والحاضر- قدره أن يصير مستقبلا. كما لو أن كل كلمة وأغنية ووجه قابلته أو ربما حفظته عن ظهر قلب عليه أن يكون كالزاد، شيء كالنور الذي لا ينفك يشتعل بداخلي، في أحشائي وحتّى في عيوني. مثل نار المخيّم تلك التي في نهاية الأمر أضاءت طفولتي ورمت بشيء من النور في سن مراهقتي التي كانت، حسب رأي أمي، هادئة ومرتّبة. نعم، أمّي تفخر بزجها بي في الملحمة الكشفية. لم يكن أيّ شيء سهلا بالنسبة إلينا: الابن الأوحد في عهدة امرأة مطلقة، لم يكن بإمكاني أن أعيش حياة عادية مع الأفراح والأتراح، الحرية، وربما الطيش الخاص بكل حياة تستحق هذا الاسم. لم يكن بإمكاني أنا وأمّي عدم احترام القوانين، تلك التي تخص المجتمع والأخرى الجزائية. لكلّ منا حدوده أو -على حد قول أمي- أعداؤه. كان أبي عدونا. حياتنا المشتركة بنيت تجاهه وضده.

كانت حتما الأخلاق الكشفية وراء اختيار أمي. كذلك شجّع انتماء بعض أصدقاء العائلة والآخرين من معارفنا في مدينتنا الصغيرة حمام سوسة أمّي على عدم التراجع في خيارها، خاصة أنّ البعض من أولئك الذين كانت تسمّيهم بكل فخر «أولادي»، وهم من الصبيان والبنات الذين تتلمذوا عندها في رياض الأطفال، كانوا سيسهرون عليّ. في كلّ الحالات، هذا الذي حدث والتحقتُ بالركب، لكنّي صرتُ في فترة قياسية عريفا لسداسي أشبال كان يضمّ في الحقيقة اثني عشر فردا. ولقد أطلقتُ على هذا السداسي اسم البنفسج لأنّ اللون الأزرق كان مستعملا. وهكذا إذن تعرفتُ على اثنين من الأعراض البيّنة في الحياة، وهما الحصول على الاعتراف بأيّ ثمن والغيرة.

لازلت أتذكر أغنية أخرى وهي «الأبجدية الكشفية»، والتي كنت منذ ذلك الوقت أحفظها عن ظهر قلب بالفرنسية وكانت هي السبب في إدراكي للعارضين اللذين ذكرتُ، تحديدا تعرفتُ على بعض الوقائع التي مكّنتني من فتح عيني على هذين الحقيقتين. أنا متأكد مثلا من أنّ فشلي في تلقيب سداسيّ بالأزرق وهو لوني المفضل، كان وراء ولادة إرادتي الفوق بشرية المتمثلة في حاجتي الماسّة للبروز والتميّز على قادة السداسيات الآخرين. هل عليّ أن أضيف أنّ النظام شبه العسكري للكشافة كان وراء ذلك، لأننا لم نكن في منافسة أو في تحدّ، بل كنّا حرفيا في حالة حرب. تمكنت إذن بفضل «الأبجدية الكشفية» التي كنت أتفرّد بمعرفتها بالفرنسية من الانتصار في معركتي الأولى:

‏Un jour la troupe campa, a a a

‏La pluie s’mit à tomber, b b b

‏L’orage a tout cassé, c c c

‏Faillit nous inonder, a b c d.

طبعا، لم يكن بيننا جوزيف أو طباخ مختص في طهي «أرنب غارين»، الخ.، لكن أكرّر أن وحدها معرفتي لهذه الأبجدية الكشفية بالفرنسية مكّنتني من انتصاري الأول. الطريقة الطبيعية التي أنشدتُ بها، اللكنة الفرنسية التي كانت تميزني، باختصار البراعة التي أدّيتها بها أثارت إعجاب قادتنا الذين لم يكن بإمكانهم عدم الاعتناء بالـ»حالة» التي اكتشفوا فيّ أو حسب البعض «الظاهرة» التي كنتُ أمثّلُ. في الحقيقة، كان البعض يرى أنّها «بدعة»، أنّ واحدا منهم كان يقرأ ويتكلم بامتياز لغة ذلك البلد العظيم الذي كان يثير إعجابهم ومقتهم في الآن ذاته. لا ننس أنّ هذه الأحداث تزامنت مع حرب الخليج الأولى «عاصفة الصحراء» التي انخرطت فيها فرنسا، وهذا ما لم ينل إعجاب التونسيين شعبا وسياسيين، خاصة منهم الكشافين الذين كانوا يقرون بانتمائهم الفكري والأيديولوجي للقومية العربية عامة ولحزب البعث ولصدام حسين خاصة. كنتُ إذن تلك «البدعة»، إذ كنتُ لا أتنقّلُ إلاّ صحبة كتب ومجلات وكراريس كنت ألتهمها بشغف غير مألوف، وهذا غير مسبوق بالنسبة إلى الجيل الذي أنتمي إليه.

كنت أقرأ على سبيل المثال مجلة «بيف غادجيت» التي كنتُ أستخلص منها مجموعة من المعلومات والكلمات والتجارب الأدبية والعلمية والثقافية التي كان يجهلها كلّ أبناء جيلي. وكنتُ في تلك الفترة أشاهد القناة الفرنسية الوحيدة التي كنّا نستقطبها وهي «القناة الثانية» التي صار اسمها بعد ذلك «فرنسا الثانية». هذان الوسيطان اللذان كانا بالنسبة إليّ متكاملين مكّناني من مقارنة واقعين كانا بالنسبة إلى كلّ الذين كنتُ أعيش معهم واقعيْنِ متضادينِ، فالتضاد بين اللغة الفرنسية المقروءة والمكتوبة التي كنّا نتعلم في المدارس التونسية كلغة ثانية مختلف للغاية عن الفرنسية المكتوبة والمقروءة في فرنسا. هذه لم تكن تلك وتلك ليست هذه.

مواجهة هاتين الحقيقتين كشفت لي اليوم أكثر من الأمس المعضلة التي تمثلها «الفرانكفونية» بما هي «ضاحية» فكرية وثقافية، وهو وضع مفروض علينا بفعل التاريخ. لكنّي رفضت هذه العبودية وربمّا لعبت مجلّة «بيف غادجيت» دورا حاسما في ذلك، إذ أنّي علمت بعد سنوات أنّها كانت من منشورات الحزب الشيوعي الفرنسي، وفي الحقيقة شجعتني هذه المجلّة على التحلّي بمنجد «لاروس للمبتدئين» رغبة منّي في جعل هذين العالمين يتوافقان وربّما يتناغمان، أي عالم الواقع وعالم الأحلام المنشودة. لم تكن الأمور سهلة (وهل هنالك ما هو سهل، خاصّة إذا ما تطلّعنا إلى الأمور عن بعد مسافة ما…)، فصور التلفزيون والرسوم المتحركة والملصقات في مجلّتي المفضّلة وكذلك تلك التي يحتويها منجدي الصغير كانت ولا تزال تفتنني، إلى درجة يمكنني قول إنّ خيالي تأسّس من خلالها وأنّ الرجل الذي صرتُ اليوم نتيجة تلك المرحلة، فعلاقتي بالأسماء والأشياء والأشخاص وحتّى الوطن ولدت من هناك، فابن البلد، ذلك الكشاف الصغير لا يزال بطرق عدّة كشاف دائما.

حتما شرع ذلك الخيال في البروز وحتما كان يحتويني وربّما يضيء عينيّ إلى درجة أن لبنى قائدة الزهرات كانت تتغنّى بهذا الضياء عبر أبيات محمود درويش:

بين ريتا وعيوني.. بندقية

والذي يعرف ريتا، ينحني

ويصلي

لإله في العيون العسلية.

لم يكن بالنسبة إليّ اسم محمود درويش مألوفا، لكنّي كنتُ أحفظ هذا القصيد عن ظهر قلب، خاصة بفضل لحن وأداء مارسيل خليفة له. السياق السياسي كان في الحقيقة سانحا لذلك مع صور انتفاضة الحجارة التي بدأت تصل إلينا واغتيال رأسها المدبر الزعيم خليل الوزير أبي جهاد في سيدي بوسعيد ليلة 16 أفريل 1988. يمكنني أن أقول إنّ كلّ هذه الأحداث أثّرت في طفولتي وهي لا تزال اليوم في قلب اهتماماتي. في الحقيقة، تبدو لي بعض الأشياء مرتبطة بنا وبحياتنا، مثل تلك الأوشام التي تحدّث عنها الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد لوصف أطلال حبيبته خولة، وهي أوشام لا تمحى، لا تموت، وذلك ما عشنا وما عاش أولئك الذين يرغبون في تذكرنا.

ولازلت أتذكر هذه الأنشودة -« Clair matin »- التي طُلبَ منّي إلقاؤها أمام أترابي من كافة الأعمار والسداسيات والطلائع من أشبال وزهرات وفتيان وفتيات وجوالة ودليلات، متجمّعين حول وصلة من الشعر الغنائي الفرنسي:

‏Le matin, tout resplendit tout chante

‏La terre rit, le ciel flamboie

‏Mais pour nous qu’il tonne

‏Pleuve ou vente,

‏De tous temps nous chantons notre joie…

غنّينا جميعا هذا القصيد. احتفى الجميع بهذا القصيد الذي كان حلما وواقعا في نفس الوقت.

حتما، ما عشناه لم يكن دون نور. إن كان ذلك في غابة الرمال أو في مدرسة في نابل أو ليس ببعيد عنّا، هنا، في شاطئ حمام سوسة قرب «الكازمات» أو بداخل مقرّنا في المنشية بحمام سوسة، فقد تعلّمنا أنا ورفاقي الكشّافون كيف نحقّق ذواتنا. أن يكون كلّ واحد منّا، عند الخروج من الطفولة، قد انشغل بمصيره، أو أن تصير ليالي وأيام التّخييم مجرّد ذكريات بعيدة للبعض، ذكريات ماض قصير وبعيد، ماض وطفولة أحيانا عزيزة على القلب وأحيانا أخرى تبعث الكراهية في النفس، فالمهمّ في نهاية الأمر هو عبور الطفولة ذلك الذي لا يمكن لأيّ حياة كانت الاستغناء عنه. عبور الطفولة التي تهزّنا، هي أكثر من كلّ شيء. الطفولة التي تهزُّنا خاصّة وأنّي عشتها بكلّ شغف في وحدة الفريق الجسيمة. كأنّ، نعم كأنّ، لأنّ كلّ واحد من أطفال الكشّافة الموجودين في هذه الصورة (وفي صور أخرى) تمكّن كلّ على طريقته، في ليالي غابة الرمال الحالكة (وفي الكثير من الليالي الأخرى)، من استقاء النّور الضروري لإضاءة طريقنا، حياتنا، مستقبلنا الذي، منذ تلك الليلة (وليال أخرى مماثلة)، كان في حالة سير. كلّ منّا اختار حياته، فهنالك من عانقها وهنالك من لفظها، بيد أنّ الفعلين متشابهان، وهذا ما قام به عدنان، منتحر مجتمعنا، الذي بموته الاختياري لم يقم سوى بالتّبيين، تحديدا بالدفاع والتّبيين عن عمق تلك الليلة الحالكة التي كان غارقا فيها آنذاك.

(آنذاك. فلتوقف هذه الكلمة، على الأقل الآن، زيارة الطفولة هذه، راجيا أن أعثر من جديد على صوت الطفل الذي كنت والذي، بالرغم من استعماله اليوم لكلمات لم تكن بحوزته آنذاك، يحاول عبر عبور الطفولة هذا فتح الطريق القادمة).

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.