من الصرصار إلى مارودار

الخميس 2016/09/01
تخطيط: حسام بلان

قد تبدو القصة مضحكة. والمضحك أرضٌ تسكنها الأحلام، أحلام الخلق والإبداع الجميلة. أحلام تأخذ الوهم وتُرجعه، أوسع وأكبر ممّا كان، تجعله صورا أعيد تركيبها، صُنعت لا بل أُبدعت من جديد.

كنت في التاسعة أو العاشرة من العمر. ولربما كنت في الثامنة، لم أعد أذكر. وكانت غرفة نومنا، أخواي وأنا، تطل على مقبرة البلدة. وكانت الليلة ليلاء والحر يطرد النوم ويمنعه فتبقى أعيننا الصغيرة المستديرة مفتوحة محدّقة. وكانت النافذة قد تُركت مفتوحة طلبا لبرودة منعشة، ولكن عبثا.

فالهواء، تلك الليلة، كان حاراً ثقيلاً مشبعاً بالرطوبة. فاتكأنا بمرافقنا الصغيرة على حافة النافذة وأطلّت رؤوسنا إلى الخارج. وكان الواحد منا كجرو صغير أخرج رأسه من نافذة السيارة ودلق لسانه خارج فمه طمعا في بعض الهواء البارد.

ولكن جلّ ما حصلنا عليه كان حبيبات من العرق تتصبّب على سواعدنا البيضاء الرقيقة وجباهنا الصغيرة.

وكنت قد تركت على أرض الغرفة رسوماً صنعتها في اليوم السابق: أوجهاً ومناظر بالقلم الرصاص وبالأقلام الملونة.

وقبالتنا في البعيد، كانت أضواء مترددة خافتة تشق الظلام الحالك القاسي بعناء. والصمت الذي كان يلفّنا كان شبيها، لعمقه، بالصمت الذي كان سائدا قبل أن يُخلق العالم.

كنت أشعر بالحرارة تتصاعد من جسدي كالبخار وبأنفاسي تشتد وتتسارع وبحبيبات العرق تتساقط بسرعة وكثافة من مسامّي كلها فتحفر في ثنايا ذلك الجسم النحيل أخاديد وتعرجات حارقة.

وفجأة لمحت من طرف عيني شيئاً مخيفا مفزعاً يخرج من العدم ويهجم عليّ مختصراً أهوال الميثولوجيا ورعب الخرافات. فصرخت. زعقة لا توصف. صوت عميق عريض واسع هائل لم أكن أتصور أنه في داخلي، أين منه صراخ المعذبين الذين يُنكَّل بهم في الملاحم والحكايات.

يا إلهي! صرصار! صرصار هائل مخيف، كأنه لفرط بشاعته قد خرج للتو من جهنم، يدب على ذراعي نزولا من الكتف صوب الساعد فاليد، تلك اليد التي كانت تحمل القلم. فإذا بالقلم يطير بسرعة البرق ويرتطم بالسقف فيتحطم شظايا، وإذا بي لشدة مصارعتي الهواء بذراعيّ لأتخلّص من هذا المسخ المخيف، أكاد أسقط من النافذة.

لا أدري كيف، بدون أيّ قصد مني، سقط الصرصار على أحد رسومي المتروكة على أرض الغرفة. وإذا بأخي يدوسه فوق الرسم فيسحقه ويترك على رسمي الملون ذاك لطخة شبيهة بحبر داكن.

تلك كانت بلا شك أولى لوحاتي كرسام مادّوي.

في اليوم التالي، مزقت سائر رسومي شاعراً أني بدأتُ أكره الرسم والألوان. ولعل تلك كانت أيضا بدايات صياد البقايا (مارودار – maraud’Art).

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.