ذات يوم في احتفال وطني

الخميس 2016/09/01
لوحة: تانيا الكيالي

ذات يوم خريفي من عام 1971 قالت لي والدتي: سآخذك معي إلى احتفال أسر الشهداء!

لم أفهم ما هو الاحتفال.. وكيف أعرفه وأنا ابن السنوات الأربع الذي لم يرَ إلا السواد والحزن يحيطان به من كل حدب وصوب.. من جدة ثكلى بابنها الشاب الذي هو أبي، وزوجة مفجوعة بزوجها الذي تحب، والتي هي أمي؟!

لم أعلق، فالصمت رفيقي الدائم، ولكني سبحت في أفكاري وأنا أحاول أن أتخيل شكل الاحتفال، سألت ابن خالي ورفيق طفولتي محمود الذي لمحته يلعب ببركة بيتنا الدمشقي عن معنى الاحتفال، فقال من دون تردد إنه الحلوى، لا احتفال من دون حلوى! وأردف: هناك رقص وغناء مثل الذي نراه في التلفزيون. هي إلى غرفتنا واندسست في الفراش محاولاً تخيل شكل الاحتفال، ولم أصحُ على نفسي إلاَّ وصوت أمي يدعوني للاستعداد والتهيؤ للذهاب إلى مدرسة بنات الشهداء في حي المهاجرين.

ركبنا باص الـ»هوب هوب» من موقف المعصرة في كفرسوسة حيث نسكن، وجلست من جهة النافذة إلى جانب والدتي التي مضت في شرود عميق وهي تستمع إلى أغنية «أغدا ألقاك» لأم كلثوم منبعثة من إحدى الإذاعات البعيدة، كان للكلمات أثر على وجه والدتي، فبين الحين والآخر كانت تفتر دمعة تحاول أن تخفيها بمنديلها.

لا شك في أن صوت أم كلثوم قد أهاج في نفسها ذكريات مرتبطة بحبيبها، إذ كانت تقول لي بعد أن كبرت قليلاً إن والدي كان من عشاق الست، وكان ينتظر حفلتها على المذياع كما ينتظر عاشق عشيقته.

لم تقتنع والدتي يوما بأن والدي استشهد في حرب الـ67. كانت مؤمنة إيمانا راسخا بأنه أسير في أحد معتقلات الصهاينة، وأنه سيعود طال الوقت أم قصر.. ولذلك كانت تمضي وقتها بين مكتب الصليب الأحمر الدولي، وبين إدارة التوجيه المعنوي وهي تبحث عن خبر يصدق هواجسها.

وحتى حين أخبرنا أسير محرّر من مخيم جرمانا كان مع والدي أنه رآه وهو يفارق الحياة بعد معاناة شهرين من جراحه الكثيرة في مستشفى صفد، لم تصدق وقالت له عندي إحساس قوي أنه حي وسوف يعود.

يومها روى لنا الأسير المحرر كيف أصابت موقعهم قذيفة دبابة إسرائيلية، وكيف أصيبت قدمه إصابة بالغة، وكيف أصرّ والدي أن يبقى إلى جانبه يقدم له الإسعافات بعد أن غادر الجميع الموقع الحدودي تنفيذاً لأوامر الانسحاب، وكيف سقطت قذيفة ثانية على الموقع أصابت والدي إصابات بالغة، نقلا على إثرها معاً إلى مستشفى صفد، حيث فارق والدي الحياة بعد شهرين، بينما نجا هو واقتيد إلى معتقل عتليت إلى أن خرج بصفقة تبادل في العام 1971.

وصلنا إلى مدرسة بنات الشهداء في حي المهاجرين بعد أن بدلنا الباص ولم تتبدل الأغنية! جلسنا في الصف الأول، إذ كنا من أوائل الواصلين، وما هي إلاَّ دقائق حتى وصل باقي أسر الشهداء وامتلأت الصالة على آخرها، وبدأت أغان وطنية مكرورة تصدح في المكان.

كانت ستارة خمرية اللون تغطي المنصة وحركة غير اعتيادية تجري خلفها، وبعد قليل وصل رجال بلباس عسكري، يتقدمهم رجل مدجج بنياشين ملونة، وعلى محياه ابتسامة كبيرة. وقبل أن يجلس؛ بدأ بمصافحة نساء الشهداء اللواتي وقفن احتراماً. قلت لأمي من هذا؟ قالت إنه وزير الدفاع مصطفى طلاس.

حين وصل طلاس إلينا توقف وبدأ يشد على يد أمي بقوة وهو ينظر إليها نظرات غريبة لم أفهمها.. كانت والدتي يومها شابة طويلة نحيفة ذات عينين خضراوين واسعتين، أكسبها الحزن ولباسها الأسود جمالاً أخاذاً لا يخفى على أحد.

ظل طلاس محتفظاً بيد أمي وقتاً لافتاً، ويبدو أن والدتي استشعرت نظراته الشهوانية وفهمتها، فسحبت يدها بعنف من بين يديه الاثنتين وهي تقول بصوت مسموع: يلعن أبوكم كلاب.

عقدت الدهشة وجه وزير الدفاع الذي دارى الموقف بمصافحة زوجة شهيد أخرى كانت إلى جانبنا، ومضى إلى كرسيه وبدأ الاحتفال..

شعرت بأن أمي تريد أن تغادر. فقلت لها وأنا أبكي: أمي أرجوك أريد أن أرى الاحتفال، أريد أن آكل الحلوى. فقالت سأبقى لأجلك، وليس لأجل هؤلاء السفلة.

لم يطل الوقت حتى أحضروا لي ولباقي الأطفال علب الحلوى الملونة التي كانت أشبه بحلم لم أصدقه.. أخذت بضع قطع والتهمتها دفعة واحدة.. وبدأت أستمتع بنكهاتها المختلفة واللذيذة والتي لم أذق مثلها من قبل.. وبينما كنت سارحاً مع طعم السكاكر ونغمات فرقة الكورال التي كانت تنشد الأغاني الوطنية، استرقت نظرة لوالدتي فألفيتها تحبس دمعة لا تريدني أن أراها. وما هي إلا دقائق حتى أتت مجموعة من عناصر الشرطة العسكرية بقباعاتهم الحمراء، وحملوني إلى منصة التكريم حيث كان وزير الدفاع يستعد لمنحي هدية ويأخذ صورة معي لنشرها في مجلة جيش الشعب.

لم أفهم ما جرى في البداية ولكن حين وصلت إلى المنصّة ورأيت مصطفى طلاس أمامي شعرت بحنق شديد وبدأت أبكي بكاء شديداً وأشتمه بأعلى صوتي: يلعن أبوك.. يلعن أبوك.. يلعن أبوك..

أصيبت الصالة والمنصة بالحرج، فحاول الوزير مداراة حرجه بأن قدّم لي كيس حلوى وخمس ليرات دسّها في جيبي وهو يبتسم كالعادة، ولكني لم أتوقف عن البكاء والشتم، وهنا تدخلت والدتي وأخذتني منهم، وخرجت من قاعة الاحتفال، والأنظار كلّها موجّهة نحونا.

حين خرجنا هدأت أعصابي، وقلت لأمّي: كنت أريد أن أضربه لابن الكلب لكنهم منعوني. ابتسمت أمي من بين الدموع وقال: ولماذا تريد أن تضربه لقد أعطاك سكاكر وخمس ليرات. قلت من دون تردد: رأيته كيف ضايقك. قال: كنت أعرف بأنه قد يضايقني ولذلك أحضرتك معي لكي تدافع عني، وحضنتني وهي تداري دموعها.

ركبا الباص عائدين إلى كفرسوسة، وقد علمت فيما بعد بأن سبب تلبية والدتي للدعوة أصلاً أن مبلغاً من المال سيقدم لكل أسرة شهيد، وأن المبلغ سلم لزوجات الشهداء الحاضرات الحفل مع هدايا أخرى عينية، ولم ألمح في عيني أمي أي ندم أو تحسر على النقود أو الهدايا، رغم حاجتنا الماسة لها.

وحتى عندما حضرت سيارة عسكرية من إدارة التوجيه المعنوي بعد أسابيع، وقد أحضرت حرامات الصوف وظرف المعونة المالية، حين فقدوا الأمل بأن تذهب والدتي لاستلامها، ظلت مترددة حيال المظروف ولم تقترب منه حتى أخذته جدّتي وفتحته وإذا به مئتي ليرة سورية.

لقد علّمتني هذه الحادثة أن لا أثق بالمسؤولين أو السلطة، وأن لا أنتمي لها، إذ ظلت مرتبطة في مخيلتي بالدجل، والمراءاة، والاغتصاب، واستغلال آلام المساكين. ولذلك رفضت طوال حياتي العمل في أيّ وظيفة حكومية، وكنت أشق طريقي بعيدا عن وزارتي الثقافة والإعلام.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.